الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

ومخالفة العصمة.

ونحن إذا راجعنا الآيات المتعلّقة بالنهي عن الأكل من الشجرة المذكورة نجد هناك قرائن تدلّ وبوضوح على أنّ الخطاب ينطلق من موقع النصيحة والإرشاد لا من موقع المولوية والسلطة ، وهذه القرائن هي :

١. ما ورد في سورة طه من قوله تعالى :

(... يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى). (١)

فهذه الآيات تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي ، وتصرّح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً ، لصيانة آدم عليه‌السلام عمّا يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة ، ونحن إذا لاحظنا هذه الآيات ـ الآيات الثلاثة ـ نجدها تحلُّ محل جملة (... وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) * الواردة في سورتي البقرة والأعراف.

وبالالتفات إلى وحدة الهدف في الآيتين يتّضح أنّ المقصود من الظلم العمل الذي في غير محله ووضع الشيء في غير موضعه لا بمعنى مخالفة القانون وتخطّي الأوامر وتعدّي الحدود ، إذاً مفاد الآية الواردة في سورة البقرة يتّضح من خلال الآيات الثلاثة الواردة في سورة طه حيث إنّها تحكي لنا وبوضوح أنّ لحن الخطاب الإلهي فيها هو لحن الناصح المشفق لا النهي المولوي ، وهل يوجد لحنٌ أكثر شفقة من قوله :

الف : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ).

__________________

(١). طه : ١١٧ ـ ١١٩.

(٢). البقرة : ٣٥ ؛ الأعراف : ١٩.

٢٤١

ب : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ).

ج : (فَتَشْقى).

فهذه الجملة تحكي لنا انّ عاقبة ونتيجة مخالفة هذا النهي هي الخروج من الجنة والانتقال إلى دار الدنيا التي هي دار عناء وشقاء ومحنة وبلاء ، وقد تتّضح القضية بصورة أجلى إذا ما قارنّا بين نعيم الجنة والمشاق والمتاعب الموجودة في دار الدنيا كالجوع والعطش والعرى وغير ذلك.

وعلى هذا الأساس وبالالتفات إلى تلك الجمل لا بدّ من القول : إنّ المقصود في قوله تعالى :

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) هو النصح والشفقة ، وانّ المقصود من الظلم في قوله : «ظالمين» هو ارتكاب الفعل الذي لا تكون نتيجته إلّا المشقة والعناء.

٢. القرينة الثانية التي تدلّ على كون الأمر الموجه إلى آدم عليه‌السلام إرشاداً ونصيحة لا نهياً مولوياً هي قول الشيطان نفسه الذي ينقله الله سبحانه :

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١). وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح ، وكأنّ الشيطان قد اقتبس هذه النصيحة من كلامه سبحانه ثمّ أطّر وزيّن خديعته بتلك الصورة من النصح والشفقة.

٣. حينما أكل آدم وحواء من تلك الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، في هذه الحالة العصيبة والموقف الحرج ناداهما الله سبحانه بقوله :

__________________

(١). الأعراف : ٢١.

٢٤٢

(أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ). (١)

وهذا الخطاب يكشف انّ النهي الذي كان موجهاً إليهما ينطوي على تلك العاقبة التي ينبغي لهما التحرز منها وعدم الوقوع فيها ، ولكنّهما حينما ارتكبا الفعل وظهرت لهما نتيجة ذلك العمل جاء النداء الناصح والمشفق من قبله سبحانه مذكراً لهما بالنصيحة التي قد أولاهما إيّاها ، فقال سبحانه : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ ...).

٤. إنّ القرآن الكريم حينما يذكر لنا مصير آدم وحواء وخروجهما من الجنة يصف ذلك بقوله :

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ ...). (٢)

من مجموع هذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصة آدم عليه‌السلام يتّضح جليّاً انّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً ، وكان الهدف إبقاء آدم عليه‌السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب. أمّا محاولة اعتبار ذلك النهي ، نهياً مولوياً تنزيهياً (كراهتي) فلا تنسجم مع التأكيدات الواردة في الآية.

كما أنّ هناك محاولة أُخرى لإثبات انّ هذه المخالفة لا يمكن أن تُعدَّ معصية ، وذلك بالتوجيه التالي : انّ جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدّل بالتوبة إذا قُبِلت ، ولم يتبدّل في موردهما فإنّهما تابا وقُبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ، ولو لا انّ التكليف إرشادي لاستلزم قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب. (٣)

__________________

(١). الأعراف : ٢٢.

(٢). البقرة : ٣٦.

(٣). الميزان : ١ / ١٣١ ، مؤسسة إسماعيليان.

٢٤٣

ويرد على هذه النظرية انّ التوبة ترفع المؤاخذة فقط ، ولا أثر لها في رفع الأثر الوضعي للفعل ، وممّا لا ريب فيه انّ الخروج من الجنة كان أثراً وضعياً للفعل لا المؤاخذة الإلهية حتّى يرتفع بالتوبة.

العصمة وزلّة آدم عليه‌السلام

لقد ورد في سورة البقرة بيان كيفية عمل آدم وحواء بقوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) وحينئذٍ يمكن أن يطرح التساؤل التالي : كيف يمكن أن تنسجم العصمة مع الزلّة؟

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل بأنّه لا يمكن حصر الزلل بمخالفة النهي المولوي فقط ، بل مخالفة النصح والإرشاد يقع في إطار الزلل أيضاً ، فكما يزلّ مخالف النهي المولوي كذلك يزلُّ مخالف النهي الإرشادي.

العصمة وقول آدم عليه‌السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١)

إنّ هذه الجملة التي صدرت من آدم وحواء لمّا ندما على فعلهما كانت من الجمل التي تمسّك بها المخالفون للقول بعصمة الأنبياء حيث قالوا : كيف يكون معصوماً والحال أنّه يعترف باقتراف الظلم وأنّه ظالم لنفسه؟

والجواب عن هذه الشبهة هو : انّ مصطلح «الظلم» في اللغة العربية ليس إلّا بمعنى تجاوز الحدّ ووضع الشيء في غير موضعه. (٢)

ولا ريب انّ العمل الذي صدر من آدم عليه‌السلام ـ وبأي تفسير فسّرناه ـ يُعدُّ

__________________

(١). الأعراف : ٢٣.

(٢). لسان العرب ، مادة «ظلم».

٢٤٤

تجاوزاً عن الحدّ ووضعاً للشيء في غير موضعه ، ولكنّ هذا لا يمكن أن يُعدَّ انتهاكاً وتجاوزاً للقانون الإلهي وانّ آدم عليه‌السلام قد دخل وبسبب فعله هذا في زمرة المذنبين والعاصين ، من ذلك البيان يمكن التوصل إلى المراد من جملة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواردة في سورة البقرة الآية ٣٥.

نعم انّ الظلم في الاصطلاح المعاصر يطلق على من تجاوز وانتهك القانون الإلهي وتعدّى الحدود الإلهية أو سحق حقوق الآخرين. وانّ الآيات التي وردت في ذم الظلم والظالمين ناظرة إلى هذا النوع خاصة ، وإن كان الظلم في لغة العرب لا ينحصر في هذا النوع ، فقد ورد في مدح عديّ بن حاتم الطائي المعروف بكرمه وسخائه الشعر التالي :

بأبه اقتدى عديّ في الكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم

والمقصود من هذا البيت انّ خلق عديّ كان خلقاً كاملاً ومطلوباً وكان من قبيل وضع الشيء في محله.

ثمّ إنّ هذا الأمر يتّضح جليّاً إذا علمنا انّ مسألة الظلم الواردة في قصة آدم قد أضيف فيها الظلم إلى نفسه عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ ظلم النفس في القرآن الكريم ورد مقابلاً لعمل السوء قال سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً). (١)

العصمة وقوله «عصى» و «غوى» و «تاب»

ربّما يتمسّك بعض المنخدعين بالمعنى المتبادر اليوم من هذه الألفاظ ويتصوّر أنّ آدمعليه‌السلام قد ارتكب ما يخالف العصمة. والحال انّ هذه الألفاظ

__________________

(١). النساء : ١١٠.

٢٤٥

جميعها وبالالتفات إلى معناها اللغوي وأصلها لا المعنى المتبادر منها اليوم ـ لا تدلّ على المعصية أبداً ، وذلك بالبيان التالي :

١. أمّا لفظة «عصى» فأنّ معنى العصيان في لغة العرب هو خلاف الطاعة ، قال ابن منظور : العصيان خلاف الطاعة ، العاصي الفصيل إذا لم يتبع أُمّه. (١)

وهذا يدلّ على أنّه ليس كلّ مخالفة تُعدُّ في الاصطلاح ذنباً ، لأنّ الإنسان الذي لا يسمع كلام الناصح المشفق يقال في حقّه أنّه خالف كلامه ، ولكن لا تُعدّ تلك المخالفة ذنباً في المصطلح.

٢. وأمّا لفظة «غوى» فالجواب عنها انّ الغيّ يستعمل في لغة العرب بمعنى الخيبة ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

أي ومن حُرم من الخير ولم يلقه ، لا يحمده الناس ويلومونه. ونحن إذا فسّرنا الغي بأيّ معنى من هذه المعاني فلا يستلزم ذلك الذنب والمعصية الشرعية ، فلنفرض انّ «غوى» مأخوذة من «غيّ» بمعنى الضلالة مقابل «الرشد» كما ورد في قوله تعالى : (... قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ...) (٢).

لكن ليس كلّ ضلال معصية ، فإنّ من ضلّ في طريق الكسب أو في طريق التعلّم أو تشكيل الأُسرة ولم يلتفت إلى كلام ناصحيه يصدق عليه أنّه غوى : أي ظلّ ، لأنّه لم يصل إلى النتيجة المطلوبة والمتوخّاة من عمله ، ولكنّ ذلك لا يلازم المعصية.

__________________

(١). لسان العرب : ١٠ / ١٦٧.

(٢). البقرة : ٢٥٦.

٢٤٦

ثمّ إنّ كلّ من يطالع قصة آدم عليه‌السلام مطالعة دقيقة ويمعن النظر فيها ويرى العنوان الذي من أجله خُلق آدم وهو عنوان «الخليفة في الأرض» ، وكيف علّمه الله سبحانه وتعالى الأسماء واعتبره معلِّماً للملائكة في هذا الخصوص ، وكيف أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود له ، وطرده سبحانه للشيطان بسبب عصيانه لهذا التكريم ، ثمّ كيف أسكنه الله سبحانه في محيط تتوفر فيه كلّ النعم الإلهية وهو الجنة وتحذيره من كيد الشيطان ومصائده وانّه عدوٌّ له ولذريته ، فلا يشك حينئذٍ بأنّه عليه‌السلام قد خسر الكثير من خلال خديعة الشيطان له ولزوجته.

٣. ثمّ إنّ توبة آدم عليه‌السلام وقعت هي الأُخرى وسيلة بيد المخالفين للعصمة ، لأنّهم يرون أنّ التوبة نتيجة ارتكاب الذنب ، وارتكاب الذنب لا ينسجم مع القول بالعصمة ، والحال أنّ التوبة أعمّ من صدور الذنب ، فقد يرتكب الإنسان عملاً لا يليق بشأنه ولا ينسجم مع مقامه ثمّ يندم على ذلك ويتوب منه ، ولا ريب أنّ مقام ومنصب آدم عليه‌السلام يستوجب ـ مع كلّ هذه المقدّمات ـ أن لا ينسى العهد الإلهي ، ولكنّه فعلاً قد ارتكب عملاً لا يليق بشأنه ـ وإن لم يكن ذلك العمل في ذاته حراماً ـ فمن اللائق به الندم والتوبة من ذلك ، وقد ورد في الحديث :

«إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كَانَ يَتُوبُ إِلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ». (١)

العصمة وطلب المغفرة

من الأُمور التي تمسّك بها المخالفون للعصمة في قصة آدم عليه‌السلام ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى :

__________________

(١). سفينة البحار : ٦ / ٦٦١ ـ ٦٦٢ ، الطبعة الجديدة.

٢٤٧

(... وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). (١)

لا ريب أنّنا إذا نظرنا إلى عظمة المقام الإلهي ونظرنا إلى العمل الصادر من الأولياء نجد أنّ مثل هذه التعابير طبيعية جداً ولكنّها في نفس الوقت من المستحيل أن تكون دليلاً على ارتكاب الذنب والمعصية ، انّ الأولياء والصالحين العظام حينما يصدر منهم ترك الأولى نجدهم يستعظمون ذلك ويلجئون إلى الله بالتضرع والدعاء وكأنّهم قد ارتكبوا ذنباً كبيراً.

نعم انّ ترك الأولى من الإنسان العارف ـ بالنسبة إلى معرفته ـ يُعدُّ ذنباً عرفانياً وإن لم يكن ذنباً شرعياً. ومن هذا المنطلق فاللائق بشأن آدم عليه‌السلام في مقابل كلّ هذا اللطف العظيم أن يظهر الندم والتوبة ويطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى والتصميم على أن لا يصغي لكلام غير الله سبحانه. (٢)

__________________

(١). الأعراف : ٢٣.

(٢). منشور جاويد : ١١ / ٨٥ ـ ٩٢.

٢٤٨

٤٤

المعجزة أو الطرق العامّة لإثبات النبوة

سؤال : ما هي حقيقة المعجزة ، وما هي الخصائص التي ينبغي أن تتوفر فيها؟

الجواب : لقد ذكر المتكلّمون العديد من التعاريف المختلفة للمعجزة ولكنّ التعريف الجامع الذي يمكن ذكره في تعريفها هو : المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالدعوة والتحدي مع عدم المعارضة ومطابقته للدعوة. (١)

فقد جاء في هذا التعريف للمعجزة عدد من القيود نشير إليها بصورة إجمالية.

١. خرق العادة : انّ المعجزة مع كونها ظاهرة خارجية تطلب لنفسها علّة خاصة ، ولكنّها أبداً لا تسير حسب المنهج والطرق الاعتيادية للعلاقة بين العلّة والمعلول السائدة بين القوانين المتعارفة ، بل تكون على خلاف تلك القوانين المتعارفة ، فعلى سبيل المثال الحيّة الصغيرة تتحوّل وعلى أثر مرور الزمان إلى أفعى ، أو أنّ المريض بسبب المعالجة والمراقبة الدائمة وتناول الدواء يبرأ من المرض

__________________

(١). كشف المراد : ٢١٨ ؛ وشرح تجريد القوشجي : ٦٤٥.

٢٤٩

ويستعيد صحته ، وأنّ المياه الجوفية تستنبط من الأرض من خلال حفر القنوات والآبار العميقة أو غير العميقة ، ولكن إذا حدثت تلك النتائج بدون توفر العلل الاعتيادية فلا مناص أنّها تُعدّ حينئذٍ أُموراً خارقة للعادة ، كتحول العصا وبلحظة واحدة إلى حيّة تسعى ، أو استعادة المريض صحته بمجرد أن يمسح عليه الولي بكفه ، أو أن ينبع الماء بمجرد ضرب الأرض بالعصا ، ولا شكّ أنّ هذه الأُمور تكون معاجز خارقة للعادة.

وبالطبع انّه من الممكن أن يكون عمل ما خارقاً لعادة في زمان ويكون اعتيادياً في زمان آخر ، فعلى سبيل المثال انّ معالجة المصابين بمرض السل وغيره من الأمراض المستعصية لم تكن في السابق من الأُمور الاعتيادية ولكن الآن ومع تطور تكنولوجيا الطب أصبحت وإلى حدٍّ ما ذات جنبة اعتيادية ، وكذلك كان الطيران والتحليق في السماء من الأُمور الخارقة للعادة ولكنّه أصبح الآن من الأُمور المتعارفة والاعتيادية ، نعم أصبحت أُموراً عادية ولكن ليست خارقة للعادة ، وذلك لأنّها تعتمد العلل والأسباب الطبيعية المعروفة وتستمد العون منها والحال أنّ المعجزة دائماً تكون «خارقة للعادة» سواء كان ذلك في الماضي أو في الحال ، وذلك لأنّ صاحبها يعتمد العلل والأسباب الخفية.

وبعبارة أُخرى : انّ الأُمور الغير الاعتيادية من الممكن أن تتحول وبالتدريج إلى حالات اعتيادية ، كمعالجة السل وبعض الأمراض المستعصية حيث كان يوصف الطبيب المعالج لها بأنّه يقوم بعمل غير اعتيادي. ولكن العمل الصادر عن طريق المعجزة دائماً يكون غير اعتيادياً حتّى مع تطور العلم واكتشاف خفايا وجزئيات الأُمور ، فإنّ علم الطب مهما تطور فانّه ستبقى عملية شفاء المرضى من خلال مسح السيد المسيح عليه‌السلام من الأُمور الخارقة للعادة ، أي

٢٥٠

أنّها كانت ولا تزال خارقة للعادة ، والنكتة في ذلك كلّه أنّ الأُمور غير العادية سابقاً والعادية فعلاً كلاهما ينبعان من معين العلل الطبيعية ، ولكن مع تطور العلم واكتشاف طرق حديثة ووسائل متطوّرة تخرج تلك الأُمور وبالتدريج من حالتها الغير الاعتيادية ، ولكن الأمر في المعجزة يختلف عن ذلك تماماً ، لأنّها دائماً تنطلق من علل غير طبيعية ، وانّ هذه العلل لا يمكن أن تكون اعتيادية ، وعلى هذا الأساس تكون المعجزة دائماً أمراً غير اعتيادي.

٢. دعوى النبوة : من القيود التي ذكرت للمعجزة هي دعوى النبوة ، بمعنى انّ من يأتي بأمرٍ خارقٍ للعادة إنّما يطلق على فعله هذا اسم المعجزة فيما إذا اقترن عمله بادّعاء أنّه صاحب منصب إلهي من جانب الله سبحانه ، وفي غير هذه الحالة يطلق على عمله ذلك عنوان «الكرامة».

إنّ الصالحين والعظماء من الأولياء قد تجري على أيديهم بعض الأفعال التي لا تنسجم مع العلل والأسباب الطبيعية العادية ولكن في نفس الوقت انّهم ليسوا بأنبياء إلهيّين ولا عملهم يُعدّ من نوع المعجزة ، فهذا القرآن الكريم يحدّثنا عن السيدة مريم عليها‌السلام بقوله :

(... كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (١)

ويوجد بين الأُمم السابقة والأُمّة الإسلامية الكثير من الأولياء الذين ـ ومن خلال طيّ طريق تهذيب النفس والسير والسلوك ـ استطاعوا التصرف والهيمنة على عالم التكوين فضلاً عن إخضاع بدنهم لإرادتهم واختيارهم.

__________________

(١). آل عمران : ٣٧.

٢٥١

٣. التحدي : انّ الشرط الثالث للمعجزة هو أن يدعو صاحبها العالم إلى مقابلته ومنازلته لإبطال معجزته إن استطاعوا ، فإذا ما تجرد العمل الخارق للعادة عن تلك الدعوة لا يُعدّ معجزة.

ومن الطبيعي انّ ادّعاء المنصب والإتيان بعمل خارق للعادة يكون ملازماً للتحدي ، وذلك لأنّه إذا ادّعى فرد ما منصباً إلهياً وقام لإثبات صدق دعواه بعملٍ خارق للعادة ، فهذا يعني انّه يقول للناس : أيّها الناس إنّ الله هو الذي وهبني منصب النبوة وانّي رسول من قِبَله بهذه الشريعة ، وإن كنتم تشكّون في ذلك وتعتبرون ما جئت به نتاج ذهني الخاص وفكري فهلمّوا وأتوا به إن استطعتم.

٤. عدم المعارضة : إنّ الأمر الخارق للعادة إنّما يكون دليلاً على صحّة قول المدّعي إذا كان مقترناً بالإضافة إلى القيود السابقة بعدم قدرة الناس على معارضته وعجزهم عن مقابلته والإتيان بما جاء به أو إبطاله حتّى إذا اجتمع كلّ العلماء والمتخصّصين في العالم ، ففي مثل هذه الحالة يطلق على عمله أنّه معجزة وإلّا ـ إن استطاعوا المعارضة ـ يكون عمله فعلاً عاديّاً.

فلقد كانت وإلى زمن قريب عملية زراعة الأعضاء ، كقرنية العين أو القلب تُعدّ من الأُمور فوق الاعتيادية ، ولكن لم تمض فترة إلّا ووجدنا الكثير من الناس قد دخلوا هذا المضمار وخرجوا منه منتصرين ، ولذلك لا يطلق على هذا العمل عنوان المعجزة.

ثمّ إنّ هذا القيد من القيود المهمّة للمعجزة ، ولقد أشارت إليه آيات الذكر الحكيم تارة بصورة خاصة ، وأُخرى على وجه العموم.

ففي قصة موسى عليه‌السلام وفي ميدان الصراع بين الحقّ والباطل والمعجزة

٢٥٢

والسحر خاطب موسى عليه‌السلام فرعون وملأه بقوله :

(... قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى). (١)

وبما أنّ مفهوم كلام موسى عليه‌السلام انّ الآخرين عاجزون عن مواجهته وإبطال معجزته ، لذلك نجد فرعون يقول في جواب كلام موسى :

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً). (٢)

وكذلك نرى القرآن الكريم يذكر بأنّ المشيئة الإلهية الحكيمة والقدرة القاهرة له سبحانه اقتضت أن يكون النصر حليف الأنبياء والرسل دائماً على مخالفيهم ، يقول سبحانه :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ). (٣)

ويقول أيضاً : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (٤)

٥. مطابقة العمل للدعوى

فيما إذا توفرت الشروط الأربعة يبقى هناك شرط آخر ، وهو مطابقة العمل للدعوى ، كما في إناطة قريش إيمانها بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشق القمر ، وتسبيح الحصى وغير ذلك ، فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اقترحوا عليه بإذن الله سبحانه ، أمّا إذا كان عمل مدّعي

__________________

(١). طه : ٤٧.

(٢). طه : ٥٨.

(٣). غافر : ٥١.

(٤). المجادلة : ٢١.

٢٥٣

النبوة مخالفاً ومكذّباً لمدعاه ، فحينئذٍ لا يكون دليلاً على صدقه فقط بل سيكون دليلاً على كذبه وفضيحته وانّه قد افترى على الله كذباً ، وقد أخزاه الله تعالى ، فلو ادّعى أنّ الدليل على صدقه أنّه يشفي المرضى بمجرد المسح على جسدهم ، ولكنّه بعد أن يقوم بالعمل يموت المريض أو تسوء حالته الصحية ، فلا شكّ أنّه كاذب في دعواه حينئذٍ ، وهذا ما حدّثنا به التاريخ عن مسيلمة الكذّاب حيث ينقل ابن الأثير في الكامل الحكاية التالية :

أتته امرأة فقالت : إنّ نخلنا لسحيق ، وإنّ آبارنا لجُرُزٌ (مجدبة) فادعُ الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل هزمان ... ففعل مسيلمة ذلك فغار ماء الآبار ويبس النخل.

وقال له نهار : أمرّ يدك على أولاد بني حنيفة مثل محمد ، ففعل وأمرّ يده على رءوسهم وحنّكهم فقرع كلُّ صبيّ مسح رأسه ، ولثغ كلّ صبيّ حنّكه (١). (٢)

__________________

(١). الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٦٢ ، باب ذكر مسيلمة وأهل اليمامة ضمن أحداث السنة الحادية عشرة للهجرة.

(٢). منشور جاويد : ١٠ / ٢٨٠ ـ ٢٨٧.

٢٥٤

٤٥

الفرق بين المعجزة والسحر

سؤال : هناك بعض الأفعال تشترك مع المعجزة في كونها خارقة للعادة ظاهراً يطلق عليها اسم السحر ، هنا يطرح السؤال التالي : كيف وما هي الطريقة التي يجب اعتمادها للتمييز بين الفعلين المعجزة والسحر؟

الجواب : للتمييز بين هذين الفعلين الخارقين للعادة هناك العديد من الأساليب والطرق التي بمجموعها تكون عاملاً مساعداً في حلّ هذه العقدة وحصول الاطمئنان في النفس.

١. انّ عمل المرتاضين والسحرة إنّما هو نتيجة مباشرة للتعليم والتمرين ، فهؤلاء وفي ظلّ التعليم والتمارين المستمرة يصلون إلى القدرة على القيام بتلك الأفعال ، حيث إنّ السحر والشعبذة لها أُصولها الخاصة وطرقها المعروفة القابلة للتعلّم والإدراك بحيث إذا لم يطو الساحر تلك الدورة التعليمية فإنّه لا يختلف حينئذٍ مع أي إنسان آخر ، والحال انّ الأنبياء ومن خلال دراسة تاريخ حياتهم لم يخضعوا لأي سابقة تدريسية ولم يتعلّموا على يد أحد من الناس ، بل أنّ جميع أعمالهم إبداعية وغير مسبوقة بمقدّمات خاصة وهذا ما يشهد به تاريخ حياتهم كما قلنا.

٢٥٥

فهذا النبي موسى بن عمران عليه‌السلام نال مقام النبوة وبعث رسولاً وزوّد بالمعجزة الإلهية «العصا». (١) في طريق عودته من مدين إلى مصر ، ومن الواضح أنّه لم يكن يفكّر ولم يتصوّر تلك الأُمور.

والسيد المسيح قد جاء بالمعجزات العجيبة والمحيّرة للعقول كإحياء الموتى وشفاء المرضى «الأكمه» و «الأبرص» وغيرهم (٢) من دون أن يدخل أي جامعة طبية ولم يحضر عند أي أُستاذ ، ومن دون أن يمارس أي تمرين أو تجربة.

٢. بما أنّ عمل المرتاضين والسحرة هو نتيجة التعليم والدراسة ، لذلك نرى أنّما يقومون به يقبل المعارضة والمواجهة ، وذلك لأنّه بإمكان بقية الأفراد النابهين وأصحاب الامتيازات الخاصة أن يتعلّموا تلك الطرق التي تعلّمها المرتاضون والسحرة ويواجهونهم من خلال نفس الطريق.

٣. انّ السحرة والمرتاضين لا يتحدّون الآخرين ولا يطلبون المواجهة فيما يقومون به ، وذلك لأنّهم يعلمون جيداً انّ عملهم نتيجة التعليم والتعلّم والتمرين ، وأنّ هذا الطريق مفتوح أمام جميع الناس الراغبين في سلوك ذلك الطريق ، وأمّا ما يقوم به الأنبياء فانّه مقترن ومنذ اللحظات الأُولى بالتحدي وطلب المواجهة وتعجيز الآخرين لإثبات أحقّيّتهم فيما يدعونه ، فهذا القرآن الكريم يتحدّى الجميع في الإتيان بمثل تلك المعجزة الخالدة حيث يقول سبحانه:

__________________

(١). أُنظر القصص : ٣١.

(٢). انظر آل عمران : ٢٩.

٢٥٦

(... لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (١)

وكذلك فَعَلَ النبي موسى بن عمران عليه‌السلام حينما حقّر عمل السحرة بقوله :

(... ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ...). (٢)

ولذلك نرى أنّ أوّل من آمن بموسى ـ بعد إبطال سحرهم ـ هم السحرة أنفسهم ، وذلك لأنّهم علموا علماً يقينياً بأنّ ما جاء به موسى خارج عن إطار السحر وفنونه ، وأنّه ينبع من قدرة عليا وذلك لعلمهم بفنّ السحر وطرقه ، وعلموا أنّ العلّة في هزيمتهم أمام موسى هو اعتمادهم على القدرة المحدودة للإنسان ، والحال أنّ الأنبياء يتّكئون على القدرة اللامحدودة لله سبحانه ويستمدون العون منها.

٤. بما أنّ عمل المرتاضين والسحرة معلول للتعليم والتمرين فانّه يقع في إطار خاص غير قابل للتنوع ، فعلى سبيل المثال يقوم المرتاض وعلى أثر الرياضة التي يمارسها بتعطيل حركة القطار مثلاً ، ولكنّه يعجز عن القيام بعملٍ آخر خارج عن حدود تلك الرياضة التي مارسها ، والحال انّ معاجز الأنبياء متنوّعة ومتعدّدة ، وذلك لأنّها مطابقة لمقتضيات الزمان وتابعة للطلبات المختلفة للناس ، ولذلك نقرأ في خصوص عصا موسى انّها تحوّلت إلى ثعبانٍ مبين. (٣)

وبضرب موسى الحجر بنفس هذه العصا انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً (٤) وبضربه البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). (٥)

__________________

(١). الإسراء : ٨٨.

(٢). يونس : ٨١.

(٣). الأعراف : ١٠٧.

(٤). البقرة : ٦٠.

(٥). الشعراء : ٦٣.

٢٥٧

كذلك يحدّثنا القرآن عن معجزة أُخرى لموسى عليه‌السلام حيث يقول سبحانه : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ). (١)

كذلك يحدّثنا في سورة الإسراء عن المعاجز التسع لموسى عليه‌السلام حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ). (٢)

كما أنّ السيد المسيح عليه‌السلام وفي المرحلة الأُولى لمواجهته لبني إسرائيل جاء بعدد من المعاجز المتنوّعة :

١. خلق الطير من الطين بإذنه سبحانه :

(... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ...).

٢. شفاء المرضى : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ...).

٣. إحياء الموتى بإذن الله : (... وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ...).

٤. وأُخبركم بما تدّخرون في بيوتكم : (... وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ...). (٣)

ولا ريب أنّ العلّة في محدودية عمل السحرة والمرتاضين وتنوّع وشمولية عمل الأنبياء هو اتّكاء الطائفة الأُولى على القدرات البشرية المحدودة واتّكاء الطائفة الثانية على القدرة الإلهية اللامتناهية.

٥. التمايز بين هدف الأنبياء وهدف السحرة ، فإنّ الأنبياء عليهم‌السلام إنّما يقومون بتلك الأفعال الخارقة للعادة من أجل تحقيق هدف سامٍ ، وهو تغيير المجتمع

__________________

(١). النمل : ١٢.

(٢). الإسراء : ١٠١.

(٣). آل عمران : ٤٩.

٢٥٨

ونقله من الضلال إلى الهداية ومن الشرك والجحود إلى التوحيد وإلى الإيمان بالمعاد وإرساء أُسس المجتمع على قواعد أخلاقية سامية ، والحال انّ هدف المرتاضين والسحرة هدف مادي بحت حيث يلهثون وراء المادة وطلب المقام والمنصب والجاه.

٦. كما أنّ الأنبياء يمتازون عن السحرة والمرتاضين في الهدف ـ كما قلنا كذلك يمتازون من جهة الروح والأخلاق والملكات النفسانية ، فالأنبياء وأصحاب الكرامات أُناس عظماء وأتقياء ، ولا توجد أي نقطة سوداء في تاريخ حياتهم أبداً ، والحال انّ حياة السحرة والمرتاضين على خلاف ذلك تماماً. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١٠ / ٣١١ ـ ٣١٥.

٢٥٩

٤٦

علّة المعجزة

سؤال : من الأُصول المسلّمة ، أصل العلّية والمعلولية وأنّ كلّ موجود ممكن لا يمكن أن يصدر بدون علّة ، وهذا من القوانين العقلية القطعية الشاملة والتي لا تقبل التخصيص أبداً ، وحينئذٍ يطرح السؤال التالي : هل المعجزة ظاهرة حدثت بلا علّة أو لا؟

وعلى القول الثاني فما هي تلك العلّة؟

الجواب : لا شكّ انّ المعجزة ظاهرة تحتاج إلى علّة وانّها لا تعتبر نقضاً لقانون العلّيّة أبداً وإن كانت خارجة عن نطاق العلل والأسباب الطبيعية المعروفة ، وإنّما لها علّتها الخاصة ، ولكنّ عدم وجود العلّة الطبيعية لا يستلزم عدم وجود العلّة مطلقاً.

نعم انّ الذين يذهبون إلى أنّ الوجود يساوي المادة وانّ العلل منحصرة بالعلل الطبيعية المعروفة ، هؤلاء فقط يرون أنّ المعاجز والتصديق بها يعني نقض القانون العقلي ونقض قانون العلّية والمعلولية ، ومن المعلوم أنّ هذا الكلام مبني على حكم مسبق في حصر العلل بالعلل المادية فقط ، فإذا ما وجدت ظاهرة من دون تلك العلل الطبيعية فانّهم يعتبرون التصديق بها نقضاً

٢٦٠