الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

سبحانه.

إنّ الإنسان المعصوم وبسبب معرفته القصوى بمعدن الكمال المطلق وجماله وجلاله يجد في نفسه انجذاباً نحو الحقّ وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، وهذا الكمال المطلق يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبة ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه ، ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه وقبيحاً في نظره أشدّ القبح وعندئذٍ يصبح هذا الإنسان مصوناً عن المخالفة بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بقوله :

«ما عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نارِكَ وَلا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبادَةِ». (١)

وعلى هذا الأساس سواء قلنا : إنّ العصمة معلولة للكمال النفساني والروحي للمعصوم ، أو إنّها نتيجة العلم القطعي الذي لا يغلب ، أو إنّها استشعار المعصوم بعظمة الرب ، فعلى كلّ حال تكون العصمة غير خارجة عن ذات الإنسان الكامل ، بل هي قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه ، ولكن هناك بعض الروايات تصرّح بأنّ العصمة نتيجة لأمر خارجي يطلق عليه «روح القدس» يعصم الأولياء من ارتكاب الخطأ ، وهذا ما سنبحثه في مكان آخر.

__________________

(١). عوالي اللآلي : ١ / ٤٠٤.

٢٢١

٣٩

الجذور التاريخية لظهور نظرية العصمة

سؤال : لكي نفهم أصالة أي مفهوم من المفاهيم الإسلامية لا بدّ من تسليط الضوء على جذور ذلك المفهوم وبيان نشأته ، ومن تلك المفاهيم ، مفهوم العصمة ، لذلك يرجى تسليط الضوء على بيان الجذور التاريخية لهذا المفهوم.

الجواب : لقد وردت لفظة العصمة في القرآن الكريم بجميع مشتقاتها المختلفة ثلاث عشرة مرّة ، كلّها ترجع إلى معنى واحد وهو الإمساك والمنع.

يقول ابن فارس : «عصم أصل واحد صحيح يدلّ على إمساك ومنع وملازمة والمعنى في ذلك كلّه معنى واحد». (١)

والقرآن الكريم استعمل ذلك المفهوم بنفس معناه اللغوي ، فعلى سبيل المثال حينما يدعو الله سبحانه الناس إلى الإيمان يأمرهم بالاعتصام بحبل الله ويستعمل كلمة «العصمة» فيقول سبحانه :

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...). (٢)

__________________

(١). المقاييس : ٤ / ٣٣١.

(٢). آل عمران : ١٠٣.

٢٢٢

وحينما ينقل لنا موقف النبي يوسف عليه‌السلام وامتناعه عن الاستجابة والامتثال لدعوة امرأة العزيز ومراودتها إيّاه يقول تعالى :

(... وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ...). (١)

ومن الملاحظ انّه قد استعملت لفظة العصمة في الآية الأُولى في الإمساك والتحفّظ ، وفي الثانية في المنع والامتناع ، والكلّ يرجع إلى معنى واحد.

وأحياناً يطلق لفظ العصمة على الشيء الذي يمتلك خاصية الوقاية ويمنع الإنسان من الوقوع في ما يكره ، ومن هذا المنطلق ، أُطلق هذا المصطلح على قمم الجبال ، يقول الشيخ المفيد قدس‌سره : إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره ، وليس هو جنساً من أجناس الفعل ، ومنه قولهم : اعتصم فلان بالجبل ، إذا امتنع به ، ومنه سمّيت العصم ، وهي وعول الجبال لامتناعها بها. (٢)

ومن هذه الجهة أطلق العرب على الحبل الذي يشدّ به الرحل أو الحمل لفظ «العصام» ، لأنّه وبواسطة هذا الحبل يحفظ من السقوط والتبعثر. وعلى كلّ تقدير المقصود من هذا اللفظ في بحثنا هو صيانة عباد الله الصالحين من الخطأ والعصيان ، بل الصيانة في الفكر والعزم ، فالمعصوم المطلق من لا يخطأ في حياته ولا يعصي الله في عمره ولا يريد العصيان ولا يفكّر به.

الجذور التاريخية لنظرية العصمة

لا ريب انّ علماء اليهود ليسوا هم الذين ابتدعوا فكرة العصمة ، وذلك

__________________

(١). يوسف : ٣٢.

(٢). أوائل المقالات : ١٣٤ ، باب القول في العصمة ما هي.

٢٢٣

لأنّهم قد نسبوا إلى أنبيائهم الكثير من المعاصي حتّى أنّ العهد القديم يذكر من ذنوب الأنبياء ـ عندهم ـ ما يصل بعضها إلى حدّ الكبائر!

كما أنّ علماء النصارى وإن كانوا ينزّهون السيد المسيح من كلّ عيب وشين ولكنّ تنزيههم هذا لا ينطلق من رؤيتهم للمسيح على أساس كونه بشراً أُرسل لتعليم الناس وإنقاذهم ، بل ينطلقون في ذلك التنزيه من فكرة مفادها انّ المسيح هو «الإله المتجسد» أو هو ثالث ثلاثة ، وعند ذلك لا يمكن أن يكون المسيحيون مبدعين لهذه المسألة في الأبحاث الكلامية ، لأنّ موضوعها الإنسان المرسل وهم يرون أنّ السيد المسيح فوق العنصر البشري.

ثمّ إنّ بعض المستشرقين قد أدلى بدلوه في هذا الصدد وحاول الخوض لتفسير منشأ العصمة ، منهم : «المستشرق رونالدسن» في كتابه «عقيدة الشيعة» حيث اعتبر انّ الفكرة وليدة العقل والذهنية الشيعية ، فقال : إنّ فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام مدينة في أصلها ، وأهميتها التي بلغتها بعدئذٍ إلى تطور «علم الكلام» عند الشيعة ، وأنّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمتهم ويعلّل «رونالدسن» ذلك بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الأئمّة ـ وأحقيّتهم ـ تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة. (١)

وهذا الرأي يذهب إليه المستشرق اليهودي «جُلد تسيهر» صاحب كتاب «العقيدة والشريعة».

إنّ نظرة تحليلية إلى تاريخ ذلك المفهوم والمصادر الإسلامية «الكتاب والسنّة» تبيّن لنا وهن هذا التحليل وركاكته وأنّه لا يبتني على أُسس علمية

__________________

(١). عقيدة الشيعة : ٣٢٨ ؛ العقيدة والشريعة : ١٨٠.

٢٢٤

رصينة ، بل هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها ذهنية هؤلاء الرجال الذين ابتعدوا عن التحقيق العلمي ولجئوا إلى الوهم والخيال عداءً منهم للإسلام والمسلمين بصورة عامة وللشيعة وأئمّتهم بصورة خاصة.

ولكي تنكشف الحقيقة ويتّضح الأمر جليّاً لا بدّ من دراسة المسألة في إطار المصادر الإسلامية الأصيلة.

القرآن الكريم ومسألة العصمة

إنّ العصمة التي هي بمعنى المصونية عن الخطأ والنسيان ـ وبغض النظر عن مصاديقها ـ قد وردت في الذكر الحكيم كثيراً ، فقد جاء وصف بعض الملائكة هكذا : (... عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (١)

ولا يوجد أوضح وأدل على المطلوب من قوله سبحانه : (... لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، ولقد كان الصدر الأوّل من المسلمين ومن خلال تلاوة هذه الآية المباركة ـ ليلاً ونهاراً ـ يدركون وبلا أدنى ريب أنّ الملائكة معصومون ويعتبرون ذلك من الأُمور المسلّمة عندهم.

وإذا كانت هذه الآية قد أثبتت العصمة للملائكة فإنّ هناك آيات أُخرى تصف القرآن الكريم بأنّه مصون عن الخطأ والاشتباه حيث يقول سبحانه :

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ...). (٢)

ويقول جلّ اسمه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ

__________________

(١). التحريم : ٦.

(٢). فصلت : ٤٢.

٢٢٥

الْمُؤْمِنِينَ ...). (١)

فهذه الأوصاف ونظائرها تنص على مصونية القرآن من كلّ خطأ وضلال وأنّه يتصدر المرتبة العليا من العصمة والنزاهة ، وبالالتفات إلى هذه الآيات التي تتحدث عن عصمة الملائكة وعصمة القرآن الكريم ، لا بدّ من الإذعان أنّ مفهوم العصمة هو من المفاهيم القرآنية التي طرحها القرآن الكريم وألفت نظر المسلمين إليها لا أنّها استعيرت من خارج العالم الإسلامي ، أو أنّها من إبداعات الشيعة لأغراض مذهبية. (٢)

__________________

(١). الإسراء : ٩.

(٢). منشور جاويد : ٥ / ٤ ـ ٦.

٢٢٦

٤٠

العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي

سؤال : هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي بحيث يتسنّى لكلّ إنسان الحصول عليها والتحلّي بها؟

الجواب : لا شكّ انّ «العدالة» وقسماً من مراتب التقوى من الأُمور الاكتسابية التي يتسنّى لكلّ إنسان سويّ نزيه ومتحرّر من قيود شهوات النفس الأمّارة بالسوء الحصول عليها والتحلّي بها ، ولكنّ البحث في مجالٍ آخر ، وهو :

إنّ العصمة سواء فُسِّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله ، هل هي موهبة إلهية لعباده المخلصين أم هي أمرٌ يحصل عليه الإنسان من خلال الاكتساب؟

الظاهر من كلمات المتكلّمين انّ العصمة موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضّل بها على من يشاء من عباده بعد توفر الأرضية الصالحة والقابلية المصحّحة لإفاضتها عليهم ، وأنّها غير قابلة للتحصيل والكسب أبداً.

وبعبارة أُخرى : انّ العصمة لطف إلهي يتفضّل به الله ـ وتحت بعض

٢٢٧

الشروط ـ على عباده المعصومين ، ولمزيد الاطّلاع نأتي ببعض النصوص لعلماء الإسلام في هذا المجال :

يقول أُستاذ الكلام الشيعي ورائده الشيخ المفيد :

«العصمةُ لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمنع من وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما». (١)

ويقول أيضاً في كتاب «تصحيح الاعتقاد» : والعصمة من الله تعالى لحججه التوفيق واللطف والاعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى ، والعصمة تفضّل من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته ، والاعتصام فعل المعتصم ، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ، ولا ملجئة له إليه ، بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى انّه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصية له ، وليس كلّ الخلق يُعلم هذا من حاله ، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والأخيار. (٢)

وليس الشيخ المفيد هو الوحيد الذي يذهب إلى كون العصمة «موهبة إلهية» بل ذهب إلى ذلك تلميذه الجليل السيد المرتضى حيث اعتبر انّ العصمة لطف إلهي ، وقال :

«العصمة هي لطف الله الذي يفعلُه تعالى فيختار العبدُ عنده الامتناع عن فعل القبيح». (٣)

كما صرّح المحقّقان العلّامة الحلّي والفاضل المقداد بكون العصمة موهبة

__________________

(١). النكت الاعتقادية : ٤٥ ـ ٤٦ ، ط بغداد.

(٢). تصحيح الاعتقاد المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد : ٤ / ١٢٨.

(٣). أمالي المرتضى : ٢ / ٣٤٧.

٢٢٨

إلهية.

فقد ذكر العلّامة الحلّي ذلك في «كشف المراد» وقال : «العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون معه داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية ثمّ فسّر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة». (١)

كما أنّ العلّامة المقداد السيوري قال في كتابه القيّم : «اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية» :

العصمة لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية ، لانتفاء داعيه ووجود صارفه مع قدرته عليه ، ثمّ نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية. (٢)

ثمّ إنّه نقل عن بعض العلماء قولهم : إنّ المعصوم خلقه الله جبلة صافية وطينة نقية ومزاجاً قابلا ، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي ، وجعل له ألطافاً زائدة ، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات ، والالتفات إلى ملكوت السماوات ، والإعراض عن عالم الجهات ، فتصير النفس الأمّارة مأسورة مقهورة في حيّز النفس العاقلة. (٣)

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة موهبة إلهية لعباده المخلصين ، وانّ هذا ممّا اتّفق عليه القائلون بالعصمة حيث الكلّ فسّرها بالموهبة الإلهيّة ، وهذا هو الرأي المختار عندنا أيضاً ، وأمّا ما ذهب إليه الأشاعرة من كون العصمة سلب القدرة على ارتكاب الذنب فإنّه كلام لا أساس له من الصحة.

__________________

(١). كشف المراد : ٢٢٨ ، ط صيدا.

(٢). اللوامع الالهية : ١٦٩.

(٣). اللوامع الإلهية : ١٦٩.

٢٢٩

ثمّ إنّ أُستاذنا العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله قد فسّر العصمة بأنّها : العلم الذي لا يغلب الذي يمنحه الله للمعصوم. (١)

إضافة إلى ذلك أنّ هناك بعض الآيات القرآنية التي تؤيد ـ وبنحو ما ـ كون العصمة موهبة إلهية.

فقد جاء في سورة (ص) بعد ذكر «إبراهيم» و «إسحاق» و «يعقوب» وصفهم بقوله تعالى :

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ). (٢)

كما ورد في القرآن أيضاً وصف أنبياء بني إسرائيل بقوله :

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ). (٣)

ويقول تعالى في حق أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٤)

ومن المسلّم به أنّ إزالة أي نوع من أنواع الرجس والذنب لا يمكن أن يتحقّق إلّا في ظلّ منح العصمة لأصحابها.

ولا ينحصر الأمر في الآيات المذكورة ، بل توجد آيات أُخرى في هذا المجال لا تخفى على من له علم بالقرآن الكريم جميعها تشهد ـ وبصورة ما ـ على كون العصمة موهبة إلهية ، وخاصة آية التطهير التي ذكرناها والتي تعتبر انّ

__________________

(١). الميزان : ٥ / ٨١.

(٢). ص : ٤٧.

(٣). الدخان : ٣٢.

(٤). الأحزاب : ٣٣.

٢٣٠

متعلّق الإرادة الإلهية هو إزالة الرجس والذنب عنهم ، ولا ريب انّ المقصود من هذه الإرادة هي الإرادة التكوينية لا التشريعية ، لأنّ الإرادة التشريعية حقٌّ لجميع الأفراد حيث أراد سبحانه من الجميع سلوك طريق الطاعة والعبودية لله سبحانه والتخلّص عن الرجس من خلال هذا الطريق المهيع. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ٢٠ ـ ٢٤.

٢٣١

٤١

العصمة المفاضة وكونها فخراً لأصحابها

سؤال : إذا كانت العصمة أمراً مفاضاً وموهبة من الله منحها للمعصومين فحينئذٍ ما هو وجه افتخار المعصومين وفضلهم على غيرهم من الناس؟

الجواب : لا ريب انّ العصمة موهبة إلهية ، وفخر لصاحبها ، وهي لطف منه تعالى ، ولكن هذا اللطف لا يمكن أن يفاض على جميع الأفراد ، بل أنّه يفاض بعد تحقّق الأرضية الصالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة الإلهية إليه.

ولا شكّ أنّ قسماً من تلك القابليات خارج عن اختيار الإنسان ، وقسماً آخر يقع في إطار إرادته واختياره ، فعلى سبيل المثال : الكمالات والقابليات الروحية التي تكون عاملاً مساعداً في إفاضة العصمة وتوفر الأرضية اللازمة لذلك الفيض ، هي من قبيل الأُمور الوراثية التي تنتقل من الآباء والأجداد إلى الأبناء ، ولقد أثبت «علم الأحياء» بما لا شكّ فيه تلك الحقيقة ، سواء كانت تلك الصفات والروحيات صالحة أو طالحة ، كالشجاعة والجبن وغير ذلك ، ومن هذا المنطلق نجد أنّ الأنبياء ـ وكما يرسم لنا ذلك تاريخ حياتهم ـ كانوا

٢٣٢

يتولّدون في البيوتات الصالحة والعريقة بالفضائل والكمالات وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية السامية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي حتّى يتولّد وهو يحمل روحاً طيبة وقابليات كبيرة واستعدادات واسعة تكوّن الأرضية المناسبة لإفاضة المواهب الإلهية عليه.

ثمّ إنّ العامل الوراثي ليس هو العامل الوحيد لانتقال الكمالات الروحية وتكوّن القابليات والاستعدادات المقوّمة للشخصية ، بل هناك عامل آخر لتكوّنها وهو عامل التربية. وعلى هذا الأساس تكون الكمالات والفضائل المتوفرة في بيئتهم ومحيطهم تنتقل إليهم من طريق التربية.

ففي ظلِّ هذين العاملين : «الوراثة ، والتربية» ـ وهما بلا شك خارجان عن الاختيار ـ تنشأ سلسلة من الكمالات الروحية والقابليات الأخلاقية ، وتتوفر الأرضية اللازمة لإفاضة «العصمة» من الله سبحانه على الأنبياء والأئمّة.

وليس هذان العاملان هما السبب الوحيد لإفاضة العصمة ، بل هناك عوامل أُخرى لاكتساب الأرضية الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الإنسان وهي :

١. المجاهدات الفردية والاجتماعية للأنبياء ، فعلى سبيل المثال إبراهيم ويوسف وموسى (١) والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، فلقد كانوا يجاهدون النفس الأمّارة أشدّ الجهاد ويمارسون تهذيب أنفسهم ، بل ومجتمعهم لتوفير اللياقات والقابليات وإعداد الأرضية اللازمة والنفوس المستعدة لتلقّي هذا الفيض بنحو

__________________

(١). لقد ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى قسم من مجاهدات هؤلاء الأنبياء العظام الثلاثة ، وكذلك في تاريخ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة توجد دلائل واضحة وشفافة تُعدّ الأرضية اللازمة لمثل تلك الإفاضات.

٢٣٣

إذا أُفيض عليهم ذلك فإنّهم سيستفيدون من هذا اللطف لتهذيب الفرد والمجتمع.

صحيح انّنا لن نطّلع على جميع جزئيات تاريخ الأنبياء ، ولكنّ في نفس الوقت تكون مثل تلك القابليات والاستعدادات عاملاً مؤثراً في إفاضة اللطف الإلهي عليهم.

٢. علم الله سبحانه ووقوفه على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم ، وعلمه أنّهم ذوات مقدّسة لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة ولسعوا وبشكل يبعث على الإعجاب والدهشة في الإصلاح الفردي والاجتماعي.

فهذه العوامل التي يكون بعضها واقعاً في إطار الاختيار وبعضها الآخر خارجاً عن اختيارهم توجد القابليات والأرضية المناسبة والصالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك المقام السامي ، ولا شكّ حينئذٍ تكون العصمة مفخرة للنبي باعتبار أنّه باختياره وبجهاده قد وفّر قسماً من تلك الأسباب الدخيلة في الإفاضة.

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي : لا ريب أنّ إفاضة العصمة في المراحل الأُولى لأولياء الله ، وهي مرحلة العصمة في دور الطفولة خارجة عن إطار بعض تلك الشرائط كالمجاهدات قبل البعثة ، بل انّ تلك الشروط مؤثرة في المراحل العليا من العصمة.

وعلى هذا الأساس يمكن التعرف على أهمية العامل الرابع (علم الله ووقوفه ...) من خلال بعض الزيارات والأدعية ، فقد ورد في زيارة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) :

٢٣٤

«يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ وَكُنتِ لِمَا امْتَحَنَكِ بِهِ صابِرَةً».

وقد ورد في دعاء الندبة :

«أَوليائِكَ الَّذينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ ... بَعْدَ أَنْ شَرَطْت عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّة ... فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ٢٤ ـ ٢٦.

٢٣٥

٤٢

العصمة والاختيار

سؤال : هل العصمة تعني أنّ المعصوم عاجز عن ارتكاب الذنوب؟ وإذا كان الأمر كذلك وانّه قد سُلِبت منه القدرة على ارتكاب الذنب فممّا لا ريب فيه لا يكون ترك الذنب حينئذٍ فخراً له. كيف تجيبون عن هذا الإشكال؟

الجواب : إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تتّضح من خلال البحوث السابقة ، لأنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان ، سواء فسّرناها بأنّها الدرجة القصوى من التقوى ، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أو أنّها نتيجة الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه ، فعلى كلّ تقدير يكون الإنسان المعصوم مختاراً في فعله قادراً على الفعل والترك.

وإذا ما أردنا أن نقرب الفكرة بمثال حسّي نقول : صحيح أنّه لا يوجد إنسان عاقل واقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة الجلد يقدم على مسكها ، كما أنّ الطبيب لا يتناول سؤر المصابين بالأمراض السارية كالجذام والسل وغير ذلك ، لعلمهما بعواقب ذلك ، ولكنّ في الوقت نفسه يرى كلّ واحد منهما أنّه قادر على ذلك الفعل بحيث لو قرّر في يوم ما التخلّص من

٢٣٦

حياته يقوم بارتكاب ذلك الفعل ولا يعجز عنه ، وهذا يعني أنّهما يرجّحان الترك على الفعل ، لعلمهما بالعواقب الوخيمة للفعل ولا يقدمان عليه طيلة حياتهم ، ولكنّ ترك الفعل شيء وعدم القدرة على ارتكابه شيء آخر كما هو واضح.

وبعبارة أُخرى يمكن القول : إنّ صدور مثل هذه الأفعال من الإنسان العاقل والراغب في سلامته يُعدّ من قبيل المحال العادي لا المحال العقلي ، ولا ريب أنّ الفرق بين الاستحالتين واضح جداً ، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح ، بخلاف المحال العقلي فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي ، فعلى سبيل المثال صدور القبيح منه سبحانه أمر ممكن بالذات بمعنى أنّه داخل في إطار قدرته ، فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار جهنم والعاصي في نعيم الجنة ، غير أنّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ، فإنّ مقتضى الحكمة إثابة المطيع لا تعذيبه.

وعلى هذا الأساس لا يعتبر «عدم القيام بالفعل» دليلاً على عدم القدرة عليه ، فالفرد المعصوم وبسبب التقوى العالية والعلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي وبسبب استشعاره بعظمة الخالق يتجنّب اقتراف الذنوب واكتسابها وإن كان قادراً على ذلك.

الرؤية القرآنية

يمكننا ومن خلال الآيات المباركة التالية أن نطّلع على نظرية القرآن الكريم في هذا المجال ، فقد قال سبحانه :

٢٣٧

(... وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (١)

فلو كان الإنسان المعصوم غير قادر على ارتكاب الذنب ، فما معنى قوله : (... وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)؟

إذ فرض كون المعصومين لا يقدرون على ارتكاب الذنب الذي هو أعم من الشرك وغيره يجعل الآية أجنبية عنها ، كما أنّه ورد في آية البلاغ قوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...) (٢)

فالآية تدلّ بوضوح لا ريب فيه أنّ النبي قادر على العصيان ، وأنّه بالرغم من وجود صفة العصمة قادر على ترك الرسالة وعدم تبليغ ما أنزل إليه من ربّه.

__________________

(١). الأنعام : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢). المائدة : ٦٧.

٢٣٨

٤٣

عصمة آدم عليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

سؤال : إذا قلنا : إنّ الأنبياء عليهم‌السلام معصومون ، فكيف يا ترى التوفيق بين هذه النظرية وبين ارتكاب النبي آدم عليه‌السلام ، النهي الصادر إليه في خصوص الأكل من الشجرة؟

الجواب : من خلال مراجعة مجموع الآيات التي تتعلّق بقصة آدم عليه‌السلام يتّضح انّ آدم قد خالف الأمر الإلهي الموجّه إليه في خصوص الأكل من تلك الشجرة المنهي عنها ، وقد عُبِّر عن تلك الواقعة بتعابير مختلفة من قبيل : (... ذاقَا الشَّجَرَةَ ...) (١) ، (... فَأَكَلا مِنْها ...) (٢) و (... عَصى آدَمُ رَبَّهُ ...) ، (٣) وهذا أقوى ما تمسّك به المخالفون لعصمة الأنبياء. ويمكن توضيح نظريتهم بالشكل التالي : إنّ آدم عليه‌السلام قد خالف النهي الموجه إليه في قوله تعالى : (... وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ...) (٤) ، ولا ريب أنّ مخالفة النهي المؤكد موجبة للذنب ، ولا يمكن أن ينسجم ارتكاب الذنب مع القول بالعصمة.

__________________

(١). الأعراف : ٢٢.

(٢). طه : ١٢١.

(٣). طه : ١٢١.

(٤). الأعراف : ١٩.

٢٣٩

إنّ الإجابة عن هذا الإشكال تتّضح من خلال دراسة نوع النهي الإلهي ، لأنّ نهيه سبحانه كأمره ينقسم إلى نوعين هما :

١. الأمر والنهي الصادران من موقع المولوية والسلطة ، انّ الآمر تارة ينطلق من موضع مولويته وسلطته في إصدار أوامره ونواهيه ، وفي تلك الحالة تكون الأوامر والنواهي مولوية ، وحينئذٍ فإذا كانت تلك النواهي بصورة مؤكدة يطلق على ذلك النهي المولوي التحريمي ، وإن لم تكن مؤكدة فيطلق عليها اسم النواهي المولوية التنزيهية (الكراهة).

والقسم الأعظم من الأوامر والنواهي الإلهية تقع تحت هذه المقولة ، وانّ مخالفة النهي المولوي التحريمي تستوجب العقاب الإلهي ، ولكنّ مخالفة النهي المولوي التنزيهي لا تستوجب العقاب الإلهي ولكنّها تكون سبباً لتكدّر الروح والنفس الإنسانية.

٢. الأمر والنهي من موقع النصح والإرشاد ، فالآمر هنا يأمر وينهى انطلاقاً من موضع النصح والهداية والعظة والتذكير باللوازم الطبيعية للعمل المنهي عنه ، أي يتّخذ لنفسه موقف الناصح المشفق لا الآمر المتسلّط ، ففي مثل هذه الحالة تكتسب الأوامر والنواهي صفة الإرشادية ، ولا تكون نتيجتها إلّا تلك اللوازم الطبيعية للفعل ولا تستتبع أيّ عقاب أو جزاء.

إذا عرفنا ذلك فلندرس النهي الموجه إلى آدم عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا) فهل هو من النواهي المولوية أو الإرشادية؟ فإذا كان النهي مولوياً فلا شكّ أنّ مخالفة آدم عليه‌السلام تكون على خلاف العصمة وتكون موجبة لارتكاب الذنب ، وأمّا إذا كان النهي من قبيل النهي الإرشادي فحينئذٍ لا تكون نتيجة المخالفة إلّا حصول اللازم الطبيعي للعمل ولا يكون لها أثر آخر يوجب ارتكاب الذنب

٢٤٠