الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

والصناعات وتوسعت المعارف وتطوّرت وتقدّمت ... ، وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت عوناً ومشجعاً لهم ، على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها وإزاحة الستار عن الحقائق المجهولة ، وتحمّل كلّ الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر والشائك.

٢. غريزة حب الخير : وهي منشأ ظهور الأخلاق ، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية.

وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل ، والحقّ ، والسلام.

وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ، ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.

٣. غريزة حب الجمال

وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً ، وسبب ظهور الأعمال الفنّية في شتّى مجالات الحياة.

٤. غريزة التديّن

وتعني أنّ كلّ فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري ، وبحكم غريزته إلى (الله) ويميل إلى التديّن ، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوّة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٥٠ ـ ٥٣.

٢١

٣

الاسم الأعظم

سؤال : من الأسماء التي شاع بين الناس استعمالها «الاسم الأعظم» ، هل يمكن أن تعطينا صورة عن ذلك المصطلح وما ذا يراد منه؟

الجواب : لقد أشارت الأحاديث الإسلامية إلى أنّ من بين أسماء الله تعالى الاسم الأعظم إذا دُعي به استجيب الدعاء ، ولقد وقع البحث في حقيقته ، هل هو من قبيل الألفاظ ، أو هو حقيقة أُخرى؟ ولقد بحث العلّامة الطباطبائي الموضوع بصورة مفصّلة في تفسير الميزان ، نأتي بخلاصته :

لقد شاع بين الناس أنّه اسم لفظي من أسماء الله سبحانه ، إذا دُعي به استجيب ، ولكنّهم عند ما استعرضوا أسماء الله تعالى لم يعثروا على هذا الاسم من بينها ، لذلك اعتقدوا أنّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا لو عثرنا عليه أخضعنا لإرادتنا كلّ شيء.

والجدير بالذكر انّ في بعض الروايات الواردة إشعار ما بذلك ، كما ورد أنّ «بسم الله الرّحمن الرّحيم» أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها ، وما ورد أنّه في آية الكرسي ، وأوّل سورة آل عمران ، وما ورد أنّ حروفه متفرقة في سورة الحمد يعرفها الإمام ، وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

٢٢

وما ورد أنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم الله الأعظم فأحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان عليه‌السلام في أقلّ من طرفة عين ، وما ورد أنّ اسم الله الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم الله بين أنبيائه ٧٢ منها واستأثر بواحد منها عنده في علم الغيب.

ولكن البحوث العلمية تردُّ تلك النظرية فأنّ البحث الحقيقي في العلّة والمعلول وخواصها يدفع ذلك كلّه ، فأنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوته وضعفه والمسانخة بين المؤثر والمتأثر ، والاسم اللفظي إذا اعتبرنا من جهة خصوص لفظه كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيات العرضية (مقولة الكيف المسموع) ، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنية ، وعلى كلّ حال من المستحيل أن يكون صوت أوجدناه من طريق الحنجرة ، أو صورة خيالية نصوّرها في ذهننا تمتلك تلك القوة والقدرة بحيث يقهر بوجوده وجود كلّ شيء ويتصرّف فيه ، في الوقت الذي يكون هو ـ الاسم الأعظم ـ في نفسه معلولاً لإرادة وذهن الإنسان.

وعلى هذا الأساس الأسماء الإلهية واسمه الأعظم خاصة وإن كانت مؤثرة في عالم الخلق ، لكنّها أنّما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة عليها ، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان ، وبالطبع لا بدّ من القول أنّ المؤثر والفاعل الموجد لكلّ شيء هو الله سبحانه بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب ، لا تأثير اللفظ أو صورة مفهومه في الذهن.

من جهة أُخرى أنّ الله سبحانه وعد إجابة دعوة من دعاه ، كما في قوله : (... أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ...). (١)

__________________

(١). البقرة : ١٨٦.

٢٣

ولكن ليس مقصود الآية أيّ دعاءٍ كان ، حتّى الدعاء الذي لم ينقطع عن الأسباب الطبيعية ولم يتوجّه إلى الله بالكامل ، بل الاستجابة تتوقّف على الدعاء والطلب الحقيقي ، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره ، فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربه لحاجة من حوائجه ، فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته ، فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له ، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم ، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم انقاد لحقيقته كلّ شيء واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق ، ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم هو أن يفتح له طريقة الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ويرتبط بواقع ذلك الاسم.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن نُفسّر ما جاء بالروايات وأن نطلق على الأسماء اللفظية والصور الذهنية اسم الاسم (١). (٢)

__________________

(١). تفسير الميزان : ٨ / ٣٥٤ ـ ٣٥٦.

(٢). منشور جاويد : ٢ / ٧٩ ـ ٨١.

٢٤

٤

القرب الإلهي

سؤال : إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الله تعالى منزّه عن المكان ، كيف توجّهون لنا الفكرة القائلة أنّ الطاعة تبعث إلى التقرب من الله تعالى؟ وما المقصود من هذا القرب؟

الجواب : أبداً لا يمكن القول إنّ المقصود من القرب هو القرب المكاني ، لأنّ الله تعالى ليس بجسم ولا جسماني ومنزّه عن المكان بنحو يقترب منه العبد مكانياً ، ولكنّه سبحانه وتعالى في نفس الوقت أقرب إلينا من حبل الوريد. (١)

كذلك لا يمكن أن يكون الهدف من هذا القرب هو القرب المقامي أو الاجتماعي ، كما يقال مثلاً ، وكيل الوزارة أقرب إلى الوزير من كلّ أحد وأنّه مقرّب لديه. بل أنّ هذا التقرّب نوع «قرب معنوي» ، وأنّ إطلاق لفظ «قرب» نوع من المجاز ، ولوجود الاشتراك والتشابه بين هذا القرب والقرب المكاني ، استعملت لفظة القرب في هذا المعنى.

__________________

(١). اقتباس من قوله تعالى : «نحن أقرب إليه من حبل الوريد» (ق : ١٦).

٢٥

إنّ التقرّب من الله ليس قرباً مكانياً ولا اجتماعياً ولا مجازياً ، بل هو قرب واقعي وحقيقي يحصل عليه العباد في ظل إطاعة الله وعبادته والإخلاص في العمل ، ويرتقون في سلّم التكامل ، ويقتربون من الله بحيث تقل الفاصلة بينهم وبين الله سبحانه.

من الممكن أن يطرح السؤال التالي : إذا كان الله تعالى منزّهاً عن المكان وانّ القرب منه ليس قرباً اجتماعياً ولا مكانيّاً ، إذاً ما المقصود من «القرب الإلهي» وعروج العبد وقربه منه؟

وجواب عن السؤال : هو أنّ إله العالم كمال مطلق وغير محدود ، والسائرين في طريق العبودية في ظل الكمالات التي يكسبونها من هذا الطريق يحصلون على كمالات غير متوفّرة لدى غيرهم ، ولذا يقتربون من الله تعالى.

ففي عالم الخلق كلّ إنسان يقترب من الله بنسبة كماله ، ولكن كلّما اشتدّ كمال الإنسان ازداد قربه من الذات الإلهية التي هي الكمال المطلق واللامحدود.

ومن المسلّم أنّ الملائكة وفي ظل الكمال الذي يملكونه أقرب إلى الله تعالى من كثير من الموجودات ، ومن هذه الجهة بعضهم «حاكم ومطاع» ، وبعضهم الآخر «مطيع» و «مأمور».

ثمّ إنّ مرتبة الإنسان من الناحية الوجودية أعلى من الجمادات والنباتات والحيوانات وأقرب إلى الله تعالى ، والمعيار في القرب والبعد ، هو ذلك الكمال الوجودي الذي يقرّبه من مركز الكمال المطلق.

وإضافة إلى الكمالات المتوفرة لدى الإنسان ـ بحكم الضرورة ـ يستطيع الإنسان من خلال سلوك طريق العبودية وإقامة الفرائض الدينية أن يحصل على

٢٦

الكثير من تلك الكمالات ، فالإنسان من خلال طي هذا الطريق يرتقي في درجات السمو والرفعة والتكامل ويقترب من الله ويسمو عن المرتبة الحيوانية ، بل يرتقي إلى درجة فوق درجة الملائكة. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

٢٧

٥

الله كمال مطلق

سؤال : حينما يقال إنّ الله هو الكمال المطلق واللامتناهي ، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي : ما المراد من الكمال هنا؟

الجواب : عند ما نطلق صفة الكمال على الله سبحانه ونقول : إنّ الله كمال مطلق وغير متناه ، نقصد بذلك نفس الصفات الجمالية لله سبحانه ، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة.

وحينما ينطلق الإنسان ليطوي طريق الطاعة الزاهر فإنّه ـ وبلا شك ـ يخطو في درجات الكمال ليرتقي سلّمه ويمسّك بناصيته ، ومعنى ذلك أنّ مثل هذا الإنسان يكتسب كمالاً وجودياً وعلماً وقدرة أكثر ، وإرادة نافذة وحياة خالدة ، بحيث يمكن القول حينها إنّه قد ارتقى إلى درجة أعلى من درجة الملائكة وانّه حصل على كمال أكثر ممّا كان لديه.

لقد سعى الإنسان دائماً للتمكن من الهيمنة على العالم ، وسعى أيضاً للقيام بأعمال يعجز عنها الإنسان العادي ، فقد سعى المرتاضون ومن خلال الرياضة النفسية المحرمة والمؤلمة للنفس لتقوية النفس والروح والحصول على قدرات عالية.

٢٨

ولكن الطريق الصحيح الذي تُنال به السعادة الدنيوية والأُخروية هو طريق التذلّل والخضوع في مقابل ساحة القدس الإلهي ، ومن خلال طيّ طريق العبودية لله سبحانه وكسب المقامات والقدرات الروحية والنفسية ثمّ السيطرة على النفس والعالم.

ولقد أشار الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ضمن حديث ـ إلى المقامات العالية لسالكي طريق الحق والسائرين في طريق العبودية والطاعة ومنزلتهم لدى الله سبحانه في الحديث القدسي المعروف :

«ما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لِيتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتّى أُحِبَّهُ ، فَإِذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسانَهُ الَّذي يَنْطِقُ بِه ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها ، إِنْ دَعاني أَجَبْتُهُ ، وَإِنْ سَأَلَني أعْطَيْتُهُ». (١)

إنّ الإمعان في هذا الحديث القدسي يكشف لنا وبوضوح عظمة الكمال الإنساني الذي يكتسب في ظلّ القيام بالفرائض والإتيان بالنوافل بحيث تصل القدرات البشرية إلى حدٍّ تستطيع معه ـ وبالاستعانة بالقدرة الإلهية ـ أن تتلقّى الذبذبات الصوتية التي تعجز عن إدراكها القدرات والإمكانات العادية والطبيعية ، ويرى الصور والأشباح التي تعجز عن رؤيتها كذلك ، وبالنتيجة تتحقّق كلّ رغباته وأغراضه.

ولا شكّ أنّ المقصود من قوله : «كنت سمعه ... وبصره» هو أنّ ذلك الإنسان وفي شعاع القدرة الإلهية يكون بصره أنفذ ، وسمعه أشدّ ، وقدرته أوسع. (٢)

__________________

(١). أُصول الكافي : ٢ / ٣٥٢ ، طبعة دار الكتب الإسلامية.

(٢). منشور جاويد : ٥ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٢٩

٦

الله ، وجود غير متناه

سؤال : كيف تفسّرون لنا فكرة أنّ وجود الله غير متناه؟

الجواب : إنّ محدودية الموجود ملازمة للتلبّس بالعدم.

لنفترض كتاباً طبع بحجم خاص ، ثمّ لننظر إلى كلّ طرف من أطرافه الأربعة ، فإنّا نرى أنّه ينتهي ـ ولا شكّ ـ إلى حدّ معيّن ينتهي إليه وجود الكتاب ، وحدوده وحجمه ، ولا شيء وراء ذلك.

ولنفترض سلسلة جبال الهملايا أو سلسلة جبال زاكروس فهي مع عظمتها محدودة أيضاً ، ولذلك لا نجد بعد انتهاء كلّ من السلسلتين أيَّ أثر لهما ، وذلك دالّ على أنّ كلاً من السلسلتين محدودتان بحدود معيّنة.

من هذا البيان نستنتج أنّ «محدودية» أيّة حادثة من حيث «الزمان» ، أو محدودية أيّ جسم من حيث «المكان» هي أن يكون وجوده مشوباً بالعدم ، وأنّ المحدودية والتلبّس بالعدم متلازمان.

ولذلك فإنّ جميع الظواهر والأجسام المحدودة «زماناً ومكاناً» مزيجة بالعدم ، ويصحّ لذلك أن نقول في حقّها بأنّ الحادثة الفلانية لم تتحقّق في

٣٠

الزمان الفلاني ، أو أنّ الجسم الفلاني لا يوجد في المكان الفلاني.

على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذات «الله» محدودة ، لأنّ لازم المحدودية هو الامتزاج بالعدم ، والشيء الموجود الممزوج بالعدم ، موجود باطل لا يليق بالمقام الربوبي الذي يجب كونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة ، كما هو منطق القرآن الكريم والعقل حول «الله» سبحانه حيث ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ...). (١)

ويمكننا أن نستدلّ لإثبات «لا محدودية» الذات الإلهية بدليل آخر ، هو :

«انتفاء عوامل المحدودية في ذاته» لأنّ للمحدودية موجبات وأسباباً ، منها : «الزمان والمكان» ، فهما من أسباب محدودية الظواهر والأجسام.

فالحادثة التي تقع في برهة خاصة من الزمان فبما انّ وجودها مزيج بالزمان ، فمن الطبيعي أن لا تكون هذه الظاهرة في الأزمنة الأُخرى.

كما أنّ الجسم الذي يشغل حيّزاً ومكاناً معيناً من الطبيعي أن لا يكون في مكان وحيز آخر ، وهذا هو معنى (المحدودية).

في هذه الصورة لا بدّ أن يكون وجود «الله» المنزّه عن «الزمان» و «المكان» منزّهاً من هذه القيود المحددة.

وحيث لا يمكن تصوّر «الزمان والمكان» في شأنه تعالى ، لزم وصفه سبحانه باللامحدودية من جانب الزمان والمكان. (٢)

__________________

(١). الحج : ٦٢.

(٢). منشور جاويد : ٢ / ١٩١ ـ ١٩٢.

٣١

٧

الصفات الجمالية والجلالية

سؤال : ما المقصود من صفات الله الجمالية والجلالية؟

الجواب : من التقسيمات الرائجة في صفات الله تعالى هو تقسيمها إلى قسمين :

الصفات الجمالية ، والجلالية : فإذا كانت الصفة تحكي عن كمالٍ في مرحلة الذات ومثبتة لجمال في الموصوف ، ومشيرة إلى واقعية في ذاته سمّيت : «ثبوتية ذاتية» أو «جمالية» ، مثل العالم والقادر والحيّ ؛ وإذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه سمّيت : «سلبية أو جلالية».

فصفات الجمال علامة الكمال والجمال ، وصفات الجلال علامة تنزّهه سبحانه عن النقص.

ولعلّ هذين الاصطلاحين أُخذا من الآية المباركة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١)

والمشهور أنّ الصفات الجمالية ثمانية ، وهي : العلم ،

__________________

(١). الرحمن : ٧٨.

٣٢

القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، التكلّم ، الغنى ، والصدق. (١)

وأمّا الصفات السلبية فقد حصروها في سبع ، وهي : أنّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وأنّه غير مرئي ، ولا متحيز ، ولا حال في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

ومفاد سلب هذه الصفات عنه تعالى أنّ الله أسمى وأجلّ من أن يوصف بتلك الصفات.

إرجاع جميع الصفات إلى صفة واحدة

يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى صفة ثبوتية واحدة ، والصفات السلبية إلى أمر واحد ، مثلاً في مورد الأُولى يمكن القول أنّ كلّ وصف يُعدّ كمالاً فالله متّصف به ، فإذا قلنا : إنّ الله عالم وقادر وحي ، فإنّنا نطلقها عليه من حيث إنّ هذه الأسماء تُعد كمالاً للوجود المطلق.

وهكذا الكلام في الصفات السلبية حيث يمكن القول ، كلّ أمر يعتبر نقصاً وعيباً فهو منزّه عنه سبحانه.

وعلى هذا الأساس يكون الله سبحانه متّصفاً بوصف ثبوتي واحد ، هو «الكمال المطلق» ؛ ومتّصف بوصفٍ سلبي واحد ، وهو سلب كلّ أنواع النقص.

إنّ حصر الصفات الثبوتية والسلبية ليس له معيار علمي واضح ، وانّ ما ذكر من الصفات تُعد مصاديق بارزة في جانب الصفات الثبوتية أو السلبية ،

__________________

(١). بعض هذه الصفات مثل الصدق والتكلّم من صفات الفعل وليس من الصفات الثبوتية الذاتية ، ولكن باعتبار أنّ المتكلّمين ذكروا هذه الصفات ضمن الصفات الثبوتية نحن أيضاً نقتفي أثرهم في ذلك. كما أنّ صفة الغنى مرادفة لوجوب الوجود.

٣٣

ويؤيّد ما ذكرنا إنّ الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدد الذي ذكر في القسمين المذكورين.

نظرية القول بتعدّد الصفات

إذا كان لا بدّ من القول بتعدّد الصفات يجب القول أنّ الصفات الثبوتية لا تتجاوز أربع صفات ، هي : العلم ، والقدرة ، والحياة ، والاختيار. وأمّا باقي الصفات مثل السمع والبصر فإنّها ترجع إلى العلم ، وأمّا الكلام والصدق فهما من صفات الفعل ؛ وأمّا الغنى فإنّه رمز وجوب الوجود الذي هو منبع جميع الصفات.

وهكذا القول في الصفات السلبية حيث يمكن حصرها في عدم كونه جسماً ، ولا جسمانياً ، ولا عرضاً ، ولا متحيّزاً ؛ وأمّا باقي الصفات السلبية فقد ذكرت لغرض نقد معتقدات بعض الفرق ، مثل نفي الحلول والاتّحاد الذي قالت به المسيحية ، حيث اعتقدوا أنّ الله متّحد مع المسيح ، أو الرّد على بعض عقائد الصوفية الذين اعتقدوا بأنّ الله قد حلّ في القطب وغيره. كذلك نفي صفة «المحل» ناظرة لردّ عقيدة الكرامية حيث ذهبوا إلى أنّ الذات الإلهية محلاً للحوادث ، وكذلك نفي الرؤية ناظرة إلى عقيدة أهل الحديث والأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّ الله تعالى يُرى يوم القيامة ، ومن العجيب هنا أنّ الأشاعرة اعتبروا الرؤية من الصفات الثبوتية وأنّ «العدلية» اعتبروها من الصفات السلبية. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٧١ ـ ٧٣.

٣٤

٨

صفات الذات وصفات الفعل

سؤال : ما هي صفات الذات وصفات الفعل لله سبحانه؟

الجواب : من التقسيمات الرائجة هي تقسيم صفاته سبحانه إلى : صفات الذات ، وصفات الفعل. فالعلم والقدرة والحياة من صفات الذات ، والخلق والرزق والمغفرة من صفات الفعل.

وهذا التقسيم وإن كان صحيحاً وواقعاً محكماً في محله ، ولكن المهم هو أن نعطي تعريفاً جامعاً للقسمين معاً ، إذ من الممكن تعريف الاثنين بالتعريف التالي :

كلّما كان تصوّر الذات كافياً لاتّصافها بالوصف ، وفي حمل الوصف على الذات لا نحتاج إلّا تصور الذات يطلق على هذه الصفة ، صفة الذات ، وفي المقابل إذا كان فرض الذات وحدها غير كاف في الاتّصاف ، بل يحتاج إلى ضم فعل من أفعاله سبحانه ، فحينئذٍ نطلق على هذه الصفة ، صفة الفعل ، مثل الخالق والرازق ، لأنّ وصف الله سبحانه بهاتين الصفتين يحتاج إلى تصوّر شيء غير الذات الإلهية ، وذلك لأنّه ما لم تتم عملية الخلق والرزق لا يمكن وصف الله سبحانه ب «الخالق» و «الرازق» فعلاً.

٣٥

وعلى هذا الأساس كلّما كانت الذات الإلهية تستحق الوصف في إطار فعله سبحانه ، فإنّ هذه الصفة يطلق عليها صفة الفعل.

وهناك طريق آخر لتمييز صفات الذات عن الفعل ، وهو أنّ كلّما يجري على الذات على نسق واحد (الإثبات دائماً) فهو من صفات الذات. مثل العلم والقدرة حيث يمكن القول فقط أنّ الله سبحانه عالم وقادر ، ويستحيل أن نصفه بالجهل والعجز ، وأمّا ما يجري على الذات على الوجهين بالسلب تارة وبالإيجاب أُخرى ، فهو من صفات الأفعال. مثلاً نقول الله محيي الموتى يوم القيامة وغير محييهم قبل يوم القيامة ، وأنّه خالق زيد اليوم وليس بخالقه أمس.

وهذا الطريق ، قبله الشيخ الكليني في «الكافي» (١) ، والمفيد في «تصحيح الاعتقاد» (٢) ، وقد يكون في بعض الروايات إشارة إلى هذا الملاك (٣). (٤)

__________________

(١). الكافي : ١ / ١١١.

(٢). تصحيح الاعتقاد : ١٨٥.

(٣). توحيد الصدوق ، باب صفات الذات وصفات الفعل ، الحديث ١.

(٤). منشور جاويد : ٢ / ٧٣ ـ ٧٤.

٣٦

٩

الصفات النفسية والإضافية

سؤال : ما المقصود من صفات الله النفسية والإضافية؟

الجواب : يمكن تقسيم الصفات الثبوتية إلى قسمين : صفات حقيقية ، وصفات ذاتية.

والمراد من الأُولى ما تتّصف به الذات من دون أن يلاحظ فيها الانتساب إلى الخارج ولا الإضافة إليه ، كالحياة ، وهذه يطلق عليها الصفة الحقيقية.

ويقابلها الصفات الإضافية ، وهي ما كان لها إضافة إلى الخارج عن الذات ، كالعلم بالمعلوم والقدرة على المقدور ، فهذه يطلق عليها وصف الإضافية.

وعلى هذا الأساس تكون الصفات الانتزاعية غير الصفات الإضافية ، لأنّ الصفات الانتزاعية ، هي الصفات التي ينتزعها الذهن من الواقع ، مثل الخالقية والرازقية ، فإنّها منتزعة من حقيقة الفعل الإلهي ؛ في الوقت الذي نرى أنّ الصفات الإضافية مخفية في نفس المفهوم المنتسب إليه ، إذاً في هذا التقسيم جعلت الصفات الإضافية في مقابل الصفات الحقيقية ، وعلى هذا الأساس يكون التقسيم للصفات ثلاثياً : ١. الصفات الحقيقية ، ٢. الصفات الإضافية ،

٣٧

٣. الصفات الانتزاعية.

وبهذا يكون وصف الحياة حقيقياً ، ووصف العلم إضافياً ، ووصف الخالقية انتزاعياً. هذا هو التقسيم ، ولكن المعروف بين المحقّقين شيء آخر ، وهو تقسيم صفات الله تقسيماً ثنائياً :

الصفات الحقيقية ، والصفات الإضافية ؛ وذلك لأنّهم قسّموا الصفات الحقيقية إلى نحوين : إمّا أن تكون خالية من كلّ أنواع الإضافة لغير الذات مثل الحياة ، وإمّا أن تكون الصفة في عين كونها حقيقة لها إضافة لغير الذات ، مثل العلم بالموجودات ، والخلق ؛ ويطلق على القسم الأوّل اسم (الحقيقي والنفسي المحض) ، وعلى القسم الثاني (الحقيقي والنفسي ذا الإضافة) ، في مقابل هذا النوع من الصفات هناك صفات ليس لها منشأ إلّا الانتزاع وليس لها واقعية في الخارج وراء ذلك الانتزاع ، ويطلق على هذه الصفات وصف الصفات الإضافية والانتزاعية ، وطبقاً لهذا الاصطلاح يكون مصطلح (الإضافة) نفس مصطلح (الانتزاع) ، ويكون التقسيم ثنائياً : حقيقي إضافي ، أو حقيقي انتزاعي. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٧٤ ـ ٧٥.

٣٨

١٠

السميع والبصير

سؤال : من المسلّم انّ الله تعالى منزّه عن الجسم والجسمانية ، فإذا أخذنا ذلك بنظر الاعتبار كيف يمكن لنا توجيه وصفه سبحانه وتعالى لنفسه بالسميع والبصير؟

الجواب : لقد ورد وصف البصير في القرآن الكريم إحدى وخمسين مرّة ، حيث وصف سبحانه وتعالى نفسه بالبصير في (٤٣) منها ، وورد وصف السميع (٤٧) مرّة وصف سبحانه نفسه فيها جميعاً باستثناء مورد واحد ، وهذا المورد المستثنى عبارة عن قوله تعالى : (... فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). (١)

إنّ السمع والبصر من أكبر وأنفع وسائل المعرفة ، ومن بين الحواس الخمسة الظاهرية تكون هاتان الحاسّتان من أهمّ وسائل وسبل ارتباط الإنسان بالعالم الخارجي ، ولذلك يتمتعان بقيمة أعلى.

ومن هنا أُطلقت هاتان الصفتان على الله سبحانه دون الصفات الأُخرى ، مثل «الشامّة» و «الذائقة» و «اللامسة» ، والحال أنّ ملاك إطلاق صفتي البصير

__________________

(١). الإنسان : ٢.

٣٩

والسميع موجود في باقي أسماء الحواس ، وإذا كان ملاك كونه سبحانه سميعاً وبصيراً حضور المبصرات والمسموعات عنده ، فإنّ نفس هذا المعنى موجود في «المشمومات» و «المذوقات» و «الملموسات» ، ولكنّ العلّة والسبب في هذا التمايز هو أنّ السمع والبصر يتمتعان بشرف وقيمة أعلى أوجبت إطلاق هذه الصفات عليه سبحانه ، وسيأتي توضيح ذلك في آخر البحث إن شاء الله تعالى.

معنى كونه سبحانه سميعاً بصيراً

يطلق لفظ البصير على الله سبحانه بملاكين :

١. حضور المبصرات عنده سبحانه ، في الوقت الذي يكون مقترناً بالسميع ، كما يقول سبحانه : (... إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً). (١)

٢. علمه سبحانه بجزئيات وخواص الأشياء في الوقت الذي يكون مقترناً بحرف «الباء» ، كما يقول سبحانه : (... وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). (٢)

ويقول سبحانه : (... وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً). (٣)

ويقول أيضاً : (... ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). (٤)

إنّ متعلّق البصر في هذه الآيات مختلف ، فتارة يكون «جميع الأشياء» ،

__________________

(١). النساء : ٥٨.

(٢). الإسراء : ١٧.

(٣). الفتح : ٢٤.

(٤). الملك : ١٩.

٤٠