الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

الناس إلى جادة التوحيد ، وبالطبع انّ مثل هذه المهمة الشاقة والعسيرة تحتاج إلى معرفة تامة واطّلاع واسع لكي يتسنّى للنبي أن يقوم بالمهمة الخطيرة الموكلة إليه على أحسن وجه.

ولا يمكن أن نتصوّر أنّ الله سبحانه وتعالى يكلّف طائفة من الناس ويرسلهم للقيام بمهمة خاصة وتحقيق هدف معين وفي نفس الوقت لا يزودهم بالوسائل والإمكانات الضرورية التي يحتاجون إليها لتحقيق وإنجاز ما يراد منهم.

ومن الممكن معرفة ولمس حقيقة علم الأنبياء من خلال مراجعة الآيات الكثيرة التي تحدّثت عن علومهم عليهم‌السلام نذكر نماذج منها :

١. ما ورد في حقّ داود عليه‌السلام :

(... وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ...). (١)

٢. وقال سبحانه في حقّ يوسف عليه‌السلام :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ...). (٢)

٣. وأمّا لوط فقد وصفه سبحانه بقوله :

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ...). (٣)

٤. وقال سبحانه واصفاً موسى عليه‌السلام :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ...). (٤)

__________________

(١). البقرة : ٢٥١.

(٢). يوسف : ٢٢.

(٣). الأنبياء : ٧٤.

(٤). القصص : ١٤.

١٨١

والنكتة الجديرة بالانتباه في هذه الآيات المذكورة أنّها بعد أن تشير إلى إعطاء مقام «الحكم» أو «الملك» تردفهما بصفة العلم والمعرفة مشعرة بأنّ لازم النبوّة العلم بالتشريع والتقنين وإجراء الأحكام الإلهية. (١)

ب : المعرفة بملاكات التشريع

المعرفة بالتشريع كالسكّة ذات وجهين تشكّل الأحكام الوجه الأوّل منها والملاكات تشكل الوجه الآخر ، وبما أنّ الفعل الإلهي منزّه عن العبث فلا شكّ أنّ التشريعات الإلهية التي هي بذاتها أحد أفعال الله سبحانه لا تخلو عن الملاك (المصالح والمفاسد) والأنبياء يعلمون بتلك الملاكات.

وإنّنا وإن لم نعثر على دليل قرآني يصرح بذلك ، ولكن بالتمعّن في بعض الآيات والروايات يمكننا إدراك حقيقة معرفة الأنبياء بملاكات الأحكام واطّلاعهم عليها.

لقد أشار القرآن إلى ملاكات بعض الأحكام ، ويمكن الاستفادة من هذه الآيات أنّ الله سبحانه قد أطلع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تلك الملاكات ، وبما أنّ هذه الخاصيّة «الاطّلاع على الملاكات» لم تكن من مختصّات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك يمكن القول : إنّ بقية الأنبياء مطّلعون على ملاكات الأحكام أيضاً.

إنّ القرآن الكريم يشير إلى ملاك تحريم الخمر والميسر في قوله تعالى :

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي

__________________

(١). بالإضافة إلى الوصف المذكور يمكن القول بخصوص الآيات التي تتعلّق بيوسف ولوط وموسى أنّ المقصود من «الحكم» هو نفس التعاليم الحكيمة التي منحت لهم من قبل الله سبحانه ، يقول سبحانه في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذلك ممّا أوحى إليك ربّك من الحكمة» (الإسراء : ٣٩).

١٨٢

الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (١)

ويقول سبحانه مشيراً إلى ملاك تشريع الصلاة :

(... وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ...). (٢)

ج : العلم بمنطق الطير

لا ريب أنّ العلم بلغة الطير من الكمالات التي وهبها الله لداود وسليمان عليهما‌السلام ، وقد جاء ذلك في الآيات ١٥ و ١٦ من سورة النمل وأنّ تحليل هاتين الآيتين يقودنا إلى الاطّلاع على العلم الواسع الذي اتّصف به هذان النبيّان وكذلك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض الأنبياء الآخرين ، يقول سبحانه :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

ويقول سبحانه أيضاً :

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). (٤)

فإنّ جملة : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تحكي عن شمولية وسعةٍ خاصة ، وهي

__________________

(١). المائدة : ٩١.

(٢). العنكبوت : ٤٥.

(٣). النمل : ١٥.

(٤). النمل : ١٦.

١٨٣

أنّ هذين النبيّين يتوفران على كلّ كمال ولا يفقدان أي كمال ، إلّا إذا اقتضت المصلحة ، عدم وجود ذلك الكمال عندهما كما كان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاجزاً عن نظم الشعر ، كما في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...). (١)

وعاجزاً عن القراءة والكتابة قبل البعثة كما في قوله :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ...) (٢)

وما ذلك إلّا لمصلحة عليا وأهمّ اقتضت أن لا يمنح الله سبحانه نبيّه ذلك الكمال ، لأنّه لو كان قادراً على نظم الشعر لكان ذلك ذريعة للكافرين لاتّهام القرآن بأنّه نتاج القدرة الفنية والأدبية للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك لو كان الرسول الأكرم يعرف القراءة والكتابة لاتّهمه مخالفوه بأنّ ما جاء به من القرآن الكريم إنّما هو اقتباس ونقل من كتب القدماء من علماء اليهود والنصارى.

وليتجلّى الحق ناصعاً نسف القرآن الكريم تلك الاتّهامات الواهية التي لا أساس لها من الصحة وبيّن زيفها من خلال ما ذكرناه من الآيتين.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى شمولية وسعة علم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعبير خاص وطريقة متميزة حيث قال سبحانه :

(... وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (٣)

ولا ريب أنّ ورود جملة : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) عقيب الإشارة إلى علم النبي وحكمته المفاضة عليه من الله ، يدلّ على عظمة علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكفي في

__________________

(١). يس : ٦٩.

(٢). العنكبوت : ٤٨.

(٣). النساء : ١١٣.

١٨٤

ذلك فخراً وسمواً أنّ الله سبحانه يصفه بأنّه عظيم ، وحسبك هذا التعبير الإلهي ، في الوقت الذي نرى أنّ القرآن الكريم نفسه يصف علم المجموعة البشرية وعلم بني الإنسان قاطبة بأنّه قليل ، حيث يقول سبحانه :

(... وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). (١)

د. الاطّلاع على الغيب

إنّ قسماً من علم الأنبياء هو اطّلاعهم على الأسرار الخفية والتي تقع وراء الستار أو ما يعبّر عنه ب «علم الغيب» ، ولقد وردت في هذا المجال آيات كثيرة نذكر نماذج منها :

١. تنبّؤ النبي نوح بكيفية مستقبل النسل القادم

لقد بذل شيخ الأنبياء عليه‌السلام جهوداً حثيثة ولبث في قومه فترةً طويلة جداً لهدايتهم وإرشادهم ولكنّه عليه‌السلام بعد تلك الجهود يأس من إيمانهم فدعا ربّه بإهلاكهم وإبادتهم فقال :

(... رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً). (٢)

فلقد تنبّأ عليه‌السلام بقضيّتين وأشار إليهما ، وهما :

ألف. انّ الكافرين لا يؤمنون في المستقبل وأنّهم سيضلّون العباد ويميلون بهم عن الصراط المستقيم.

__________________

(١). الإسراء : ٨٥.

(٢). نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

١٨٥

ب. أنّ ذرية هؤلاء الكافرين جميعهم من الفجرة الكفّارين.

٢. معرفة يعقوب عليه‌السلام الكاملة بمستقبل ابنه يوسف عليه‌السلام

لمّا قصّ يوسف رؤياه على أبيه يعقوب وأنّه قد رأى في المنام أنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر قد سجدوا له ، فسّر يعقوب رؤيا ولده يوسف مخبراً عن حقيقة مستورة من خلال تلكم الرؤيا حيث قال :

(... يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (١)

ومن الملاحظ هنا أنّ يعقوب عليه‌السلام قد أشار إلى مجموعة من الأُمور الغيبية وأخبر عنها بصورة جازمة وقطعية.

ألف. كيد ومكر إخوة يوسف.

ب. إنّ الله سيهب ليوسف علم تأويل الأحاديث وتفسير الرؤيا.

ج. إنّ الله سبحانه سيهب ليوسف النبوة.

٣. المسيح عليه‌السلام والتنبّؤ بالغيب

لقد أشار القرآن الكريم إلى نوعين من الإخبارات الغيبية التي كان يتحلّى بها السيد المسيح :

__________________

(١). يوسف : ٥ ـ ٦.

١٨٦

ألف. الإخبار عمّا يدّخر الناس في بيوتهم.

قال تعالى مشيراً إلى هذه الخاصية :

(... وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ...). (١)

ب : التبشير بنبوّة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد بشّر السيد المسيح أُمّته بقدوم نبي يأتي من بعده اسمه أحمد ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى تلك النبوءة بقوله سبحانه :

(... وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ...). (٢)

٤. إنباء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغيب

لقد أشار القرآن الكريم إلى الإخبارات الغيبية للنبي الأكرم في موارد متعدّدة نكتفي بذكر نموذج منها. إنّ النبي الأكرم أسرّ إلى إحدى زوجاته حديثاً وأمرها بإخفائه لكنّها أخبرت غيرها به فأفشت السرّ ، وأطلع الله نبيّه على ما جرى من إفشاء سرّه ، فعرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجته التي أفشت السرّ ببعض ما ذكرت وأفشت ، وأعرض عن البعض الآخر فلم يخبرها بجميع ما أخبرت به ، فسألته عن مصدر علمه وأنّه كيف اطّلع على إخبارها وإفشائها سرّه؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نبّأني العليم الخبير بسرائر الصدور ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الواقعة بقوله سبحانه :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ

__________________

(١). آل عمران : ٤٩.

(٢). الصف : ٦.

١٨٧

عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). (١)

إنّ الموارد المذكورة تمثّل بعض النماذج لاطّلاع الأنبياء على الأُمور الغيبية التي أشار القرآن الكريم إليها ، وهناك نماذج أُخرى ذكرها القرآن الكريم أعرضنا عن ذكرها روماً للاختصار. (٢)

__________________

(١). التحريم : ٣.

(٢). على سبيل المثال يقول سبحانه في حقّ نبي الله صالح عليه‌السلام وإخبار قومه بوقوع الهلاك عليهم بعد ثلاثة أيام «تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعدٌ غير مكذوب» (هود : ٦٥).

١٨٨

٣٥

رسالة شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام

سؤال : من الواضح أنّ رسالة النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت رسالة عالمية ، فهل كانت رسالة النبي نوح عالمية أيضاً ، أو كانت تقتصر على أقوامه وتنحصر في المناطق الجغرافية التي بُعث فيها؟

الجواب : إنّ شريعة نوح عليه‌السلام كانت خاصة بقومه الذين كان يعيش بين ظهرانيهم والشاهد على ذلك قوله سبحانه :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...). (١)

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(... أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ...). (٢)

حيث يستظهر من هاتين الآيتين اختصاص رسالته ومحدوديتها في قومه فقط.

أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلّب وجود مدنية وتطور في وسائل الاتّصال ليتمكّن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء

__________________

(١). نوح : ١.

(٢). هود : ٣٦.

١٨٩

العالم ، وذلك لم يكن الحدّ الأدنى منه متوفراً في زمن نوح عليه‌السلام.

فإن قلت : إنّ ذلك التطوّر المدني وتطور وسائل الاتّصال لم تكن متوفرة في مكة المكرمة التي بعث فيها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك نحن نؤمن بعالمية رسالته؟

قلنا : إنّ ذلك صحيح ، ولكن هناك نكتة لا بدّ من الالتفات إليها وهي انّ مكة والمدينة تقعان في مفترق طرق التجارة بين الشام واليمن ، وكانت ولسنين طويلة قبل بعثة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجد بين الشرق والغرب حركة اتّصال وتبادل تجاري وكان لذلك كلّه وسائطه المناسبة لتلك البرهة من الزمن ، وقد استفاد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك الإمكانات لإيصال صوت رسالته إلى العالم ، ولكن في عصر نوح يختلف الأمر حيث لم تكن مدنية ولم تكن تلك الإمكانات متوفرة كي يبعث برسالة عالمية ، إلّا إذا قلنا : إنّه لم يوجد على وجه الأرض في تلك الفترة من البشر إلّا تلك الأقوام التي كان يعيش نوح عليه‌السلام بين ظهرانيهم ، وحينئذٍ ستكون رسالة نوح عليه‌السلام عالمية أيضاً لانحصار العالم في قومه.

ولكنّ ذلك مجرد فرضية ذهنية ولا يمكن القطع بأنّ العالم المعاصر لنوح عليه‌السلام كان منحصراً بالقوم الذين بُعِثَ فيهم.

هل أنّ عالمية الطوفان دليل على عالمية رسالته؟

إنّ الطوفان الذي حصل في زمن نوح عليه‌السلام كان عالمياً حيث شمل جميع الناس ، والشاهد على عمومية الطوفان دعاء نوح حيث طلب من ربّه أن لا يبقي على الأرض أحداً من الكافرين (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١).

__________________

(١). نوح : ٢٦.

١٩٠

هذا من جهة ، ومن جهة ثانية نحن نعلم أنّ إبادة الكافرين من دون إلقاء الحجة عليهم على خلاف السنّة الإلهية. (١)

ومن المعلوم أنّ كلمة الأرض في قوله تعالى : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ...) لها معنى واسع يشمل جميع العالم ، والشاهد الآخر أنّ الله تعالى قد أوصى نوحاً أن يحمل في السفينة من كلّ نوع اثنين قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (٢) ، وما ذلك إلّا للحفاظ على النسل الحيواني من الانقراض ، فلو لم يكن الطوفان عالمياً فما هي الحاجة إلى حمل تلك الحيوانات في السفينة؟

ولكن يمكن القول : إنّ المقصود من الأرض في الآية المباركة هو المحيط الذي كان يعيش فيه نوح مع قومه ، وهذا الاستعمال متعارف وغير بعيد ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وأمّا بالنسبة إلى حمل الحيوانات في السفينة يمكن أن يكون الغرض منه حفظ نسلها في ذلك المحيط لا في جميع أرجاء المعمورة ، وذلك لأنّ انتقال الحيوانات من نقطة إلى نقطة أُخرى يحتاج إلى مدّة طويلة.

ويمكن أن نستظهر من مجموع الآيات أنّ شريعة نوح عليه‌السلام كانت تتعلّق بمنطقة واسعة كان يعيش فيها نوح والقوم الذين بعث فيهم ، وأنّ الطوفان قد عمّ تلك المنطقة الواسعة.

والجدير بالذكر أنّه قد ذهب بعض المفسّرين إلى عالمية الطوفان بغضّ النظر عن عالمية رسالة نوح عليه‌السلام ويستدلّون على ذلك ببقايا الحيوانات التي عثر عليها في قمم الجبال حيث يذهبون إلى أنّه لو لا طوفان نوح ما كان هناك سبب لوجود تلك الحيوانات على هذه القمم الشاهقة. (٣)

__________________

(١). (وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حتّى يَبْعَثَ في أُمّها رَسولاً) (القصص : ٥٩).

(٢). هود : ٤٠.

(٣). منشور جاويد : ١١ / ١٥٠ ـ ١٥٢.

١٩١

٣٦

الولاية التكوينية للأولياء الإلهيّين

سؤال : لا ريب أنّ الولاية التكوينية من شئون الموجود الذي له هيمنة وسيطرة على الخلق والمحيط به ، والمجرد من صفات المادة والماديات ، وهذا لا يصدق إلّا على الله سبحانه، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي نفسه : كيف يا ترى نفسّر الولاية التكوينية لأولياء الله سبحانه؟

الجواب : انّ عالم الخلق ، عالم الأسباب والمسبّبات ولقد تعلّقت الإرادة الإلهية الحكيمة بذلك ، وهو أنّ ما من ظاهرة أو حادثة إلّا ولها علّة خاصة تصدر عنها ، وفي نفس الوقت ينتهي جميع نظام العلل والمعاليل إلى الله سبحانه وتستمد قدرتها منه ، فهو سبحانه الذي يخلق السبب ويمنحه القدرة والطاقة ويُهيّئه لإيجاد معلوله الخاص وفي الحقيقة أنّ المؤثّر الواقعي في تمام العالم كلّه وجود واحد هو الله سبحانه وتستمد منه كلّ العلل والأسباب قدرتها وإليه تنتهي.

إنّ حقيقة التوحيد هو أن نعتقد أنّه لا مؤثر بالاستقلال إلّا الله وحده ولا يمكن أن نتصوّر وجود موجود يكون مقابلاً للقدرة الربوبية ، بحيث يستطيع التأثير في إيجاد معلوله بصورة مستقلة أو يستطيع التصرّف في عالم الخلق بنحو

١٩٢

تكون إرادته مستقلة عن الإرادة الإلهية ، وهذا الاعتقاد هو ما يصطلح عليه في علم الكلام بالتوحيد الأفعالي ، وقد بحث ذلك بصورة مفصلة وشاملة عند التعرض لبحث مراتب التوحيد.

فإذا سلّمنا بهذا الأصل يكون الاعتقاد بالولاية التكوينية لأولياء الله ليس منزّهاً عن الشرك فقط ، بل هو عين التوحيد ، وذلك لأنّنا حينما نعتقد بأيّ حركة تصدر من الإنسان ، سواء كانت من الأُمور العادية كالمشي والكلام ، أو كانت من الأُمور الغير العادية كمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء أنّها صدرت منه على نحو الاستقلال وبدون الاتّكاء على القدرة والحول الإلهي ، فلا ريب أنّ مثل هذا التصوّر يكون شركاً.

ولكن إذا اعتقدنا بأنّ العبد مهما كان مقامه ومرتبته لا يمكن أن يستقل في فعله وعمله عن القدرة والإرادة الإلهية ، فلا ريب أنّنا حينئذٍ لم نتجاوز جادة التوحيد ولم ننحرف عن الصراط المستقيم.

فليس ملاك التوحيد والشرك بأن تنسب الأفعال العادية والأُمور الطبيعية إلى العباد ونعتقد انّهم يقومون بها بصورة مستقلة ، وأمّا الأُمور العظيمة والكبيرة الخارجة عن النظام الطبيعي فننسبها إلى الله بصورة مباشرة ، لأنّنا حينئذٍ ومن أجل الفرار من الشرك نقع في الشرك الذي نفرّ منه ، بل انّ ملاك التوحيد في الفاعلية هو الاعتقاد بأنّ الإنسان وفي جميع حركاته وسكناته وأفعاله غير مستقل عن الله سبحانه وعن القدرة الإلهية ، وانّ الإرادة والمشيئة الإلهية فوق إرادة الجميع ولا تفاوت حينئذٍ بين ما يصدر من الإنسان من عمل ، سواء كان عادياً أو كان خارقاً للعادة.

وبعبارة أُخرى : لا بدّ أن نوزن جميع المواقف والأفعال لمخلوقات العالم

١٩٣

بالنسبة إلى المقام الربوبي بحيث لا يستطيع موجود ـ سواء كان ماديّاً أو مجرّداً ـ أن يقوم وبدون الإذن والقدرة الإلهية بإنجاز أي عمل كان ، وانّ كلّ فعل وتأثير بدءاً بتشعشع الشمس ومروراً بنور القمر ونزولاً إلى مشي الإنسان وكلامه وصعوداً إلى إحياء الموتى وشفاء المرضى من قبل المسيح عليه‌السلام و ... ، كلّ ذلك يكون في ظل القدرة الإلهية من دون تمييز بين الفاعل العاقل والغير العاقل وبين الأفعال العادية والغير العادية وانّ جميع أفعال الإنسان تكون معلولة له بمعنى ، وبمعنى آخر تكون معلولة لله سبحانه.

وهذه الحقيقة لا تؤيدها وتثبتها البراهين الفلسفية فقط ، بل أنّ الروايات المتواترة عن أهل بيت النبوة والرسالة قد أثبتتها ، وقد عبّرت عن ذلك ب «بل أمرٌ بين الأمرين» وذلك لأنّ طائفة من المسلمين نسبت الأفعال الصادرة من العباد إلى الله سبحانه بصورة مستقيمة وانّ العباد ليسوا إلّا آلة لا غير ، وهذه الطائفة يصطلح عليها العلماء بالمجبرة ؛ وفي مقابل هذه الطائفة هناك طائفة أُخرى يصطلح عليها اسم «المفوّضة» تعتقد أنّ الإنسان مستقل في أفعاله وما يصدر عنه ولا يحتاج إلى القدرة الإلهية ، ويعتقدون أنّ الإنسان محتاج إلى الله سبحانه في وجوده فقط لا في فعله.

ولكنّ الأئمّة المعصومين واستلهاماً من القرآن الكريم وعلوم النبي الأكرم قد ردّوا على تلك الطائفتين وفنّدوا كلتا النظريتين بقولهم :

«لا جَبْرَ وَلا تَفويضَ بَلْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ». (١)

إنّ قدرة عيسى عليه‌السلام على الإحياء والإشفاء يمكن أن ننسبها إلى الله ونقول : «الله هو الذي أحيا» ، ذلك لأنّ قدرة المسيح عليه‌السلام تنبع من قدرة الله بحيث

__________________

(١). بحار الأنوار : ٥ / ٧١.

١٩٤

لو سلب الله سبحانه منه تلك القدرة يستحيل عليه حينئذٍ إشفاء المرضى وإحياء الموتى.

وفي نفس الوقت يمكن نسبة تلك الأفعال إلى المسيح عليه‌السلام ونقول : «إنّ المسيح أحيا الموتى ، وذلك لأنّه قد أعمل قدرته ـ التي منحه الله سبحانه إيّاها ـ بتمام حريته وإرادته في تلك الموارد».

ثمّ إنّنا نرى أنّ القرآن الكريم ينسب قبض الأرواح إلى الله سبحانه ويعتبره فعلاً له سبحانه حيث يقول سبحانه :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...). (١)

وفي آية أُخرى ينسب ذلك إلى ملك الموت ويقول :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...). (٢)

والنكتة في هاتين النسبتين ، إنّ ملك الموت مأمورٌ إلهي وجندي غيبي لله سبحانه يقدر على قبض الأرواح من خلال القدرة التي استمدها من الله سبحانه.

وكذلك الكلام في القدرة العجيبة والمحيّرة للسيد المسيح عليه‌السلام فإنّه يمتلك نفس الحالة والموقع التي يمتلكها ملك الموت فكلاهما مأمور من قبله سبحانه يتحرك في ظلّ قدرته وسلطانه للقيام بما يوكل إليه من مهام. وعلى هذا الأساس يكون الاعتقاد بكون الولاية التكوينية شركاً بالله ، اعتقاد لا أساس له من الصحة ويكشف عن عدم الدقّة في نسبة علل العالم إلى الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١). الزمر : ٤٢.

(٢). السجدة : ١١.

١٩٥

الولاية التكوينية وموضوع البشرية

قد يتصوّر أنّ القيام بالأعمال الخارقة للعادة والتصرف في عالم الخلق لا ينسجم مع مقام البشرية بحيث إنّ القدرة البشرية لا يمكن لها القيام إلّا بالأعمال والأفعال العادية والطبيعية ولا يمكن أن تتخطّى بحال من الأحوال تلك المنزلة وذلك المقام المرسوم لها أبداً.

وعلى هذا الأساس نرى أنّه لمّا طلب مشركو قريش من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم ببعض الأفعال الإعجازية أجابهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

(... سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). (١)

والإجابة عن هذا المدّعى وبصورة إجمالية : لقد أُثيرت هذه الشبهة خلال القرنين الأخيرين اللّذين ازدادت فيهما حركة المستشرقين لدراسة الإسلام ووصلت إلى أوجها ، فمن بين الشبه التي طرحوها تلك الشبهة حيث قالوا : إنّ نبي الإسلام فاقد لكلّ معجزة وكرامة ، وقد تمسّكوا بالآية المذكورة لإثبات مدّعاهم.!! (٢)

إنّ الاستدلال بالآية المذكورة على نفي الولاية التكوينية بالإضافة إلى كونه

__________________

(١). الإسراء : ٩٣.

(٢). لقد جمع مؤلف كتاب «مشكاة صدق» الذي هو أحد علماء المسيحيين في بيت المقدس أكثر تلك الآيات في كتابه المذكور ، وقد ترجم ذلك الكتاب إلى اللغة الفارسية وطبع في مدينة لاهور ، وقد قام أخيراً أحد أذناب الاستعمار بجمع القسم الأعظم من تلك الآيات في كتابه الموسوم ب «رسالت بيست وسه ساله» أي رسالة الثلاث والعشرين عاماً ، وقد كتبت في نقد هذا الكتاب كتاباً تحت عنوان «راز بزرگ رسالت» أي «سرّ الرسالة العظيم» بيّنتُ فيه المراد من الآيات المذكورة ، وتوضيح هدفها بصورة جلية.

١٩٦

ميلاً مسيحياً ، يحكي عن عدم إدراك وفهم لتلك الآيات التي عرّف الرسول فيها حقيقة نفسه وأحال فيها صدور المعجزات على الإرادة والمشيئة الإلهية.

ولقد بحثنا وبصورة شاملة مفاد تلك الآيات في كتابنا «رسالت جهانى پيامبران» أي رسالة الأنبياء العالمية ، ولذلك لا نرى ضرورة لتكرار ما ذكرناه هناك ولكن يمكن الإشارة إلى ذلك بصورة إجمالية.

إنّهم طلبوا من النبي القيام بسبع معجزات بعضها من الأُمور المستحيلة والممتنعة عقلاً. مثل الإتيان بالله كما ورد في الآية : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ) وبعضها الآخر ممّا لا ينسجم مع هدف الرسالة ويكون مغايراً تغايراً كاملاً لهدف الرسالة ومنافياً له ، مثل إسقاط السماء على الأرض والتي لا شكّ سيؤدي إلى هلاك الجميع كما ورد في قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ...). (١)

ولا ريب أنّ ذلك ينافي هدف الرسالة الذي هو هداية الناس وقيادتهم إلى الصراط المستقيم ، والبعض الآخر وإن كان في حدّ نفسه ممكناً ولا يتنافى مع هدف الرسالة ولكنّه على فرض الإتيان به لا يكون دليلاً على صدق الرسول وعلى ارتباطه بعالم الوحي ، وذلك كطلبهم منه أن تكون له جنة و ... حيث قالوا : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ...).

ومن الواضح انّ الثراء والتمكّن المادي لا يكون دليلاً على نبوة الإنسان وإلّا لكان الرأسماليون كلّهم أنبياء إلهيّين.

__________________

(١). لقد ورد طلبهم من الرسول بالصورة التالية : «وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتّى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنت إلّا بشراً رسولاً» (الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣).

١٩٧

ولقد ردّ القرآن الكريم على ذلك الطلب بجملتين هما :

١. (سُبْحانَ رَبِّي) أي تنزّه ربّي ، فقد ردّ سبحانه في هذه الجملة على طلب الرؤيا والمشاهدة الذي طلبوه من النبي ، وكذلك ردّ على طلبهم ما ينافي هدف الرسالة من إسقاط السماء على رءوسهم ، وردّ أيضاً على طلبهم بعض الأُمور التي تكون من قبيل الأُمور اللغوية التي لا تجدي نفعاً في هداية الناس وإرشادهم ، ولذلك طلب سبحانه من نبيه أن ينزّهه عن كلّ واحد من تلك الأُمور المذكورة.

٢. جملة : (... هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) فإنّها على خلاف اعتقاد المستدل ، لأنّ النبي الأكرم لم يُشر إلى عجزه ولم يعرّف نفسه بأنّه عاجز ، بل أنّ جملة (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) تشير إلى معنى آخر ، وهو أنّ مقام النبي مقام المأمور والمطيع للأمر الإلهي لا غير ، وانّه ينفذ إرادة الله سبحانه كلّما شاء الله ذلك ، وأمّا الأعمال والأفعال فإنّها بيد الله سبحانه وليس باستطاعة النبي التسليم مقابل كلّ ما يطلب منه من دون انتظار الإذن الإلهي.

وبعبارة أُخرى : انّ الآية في مقام الجواب ـ بعد تنزيه الله ـ قد ركّزت على كلمتي «بشر» و «رسول» والهدف من ذلك أنّ الرسول الأكرم أراد أن يبيّن لهم خطأ تفكيرهم وعدم صحّة طلبهم ، وذلك بالبيان التالي :

إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كشف لهم أنّ طلبهم منه تلك الأُمور الخارقة للعادة لا يخرج عن حالتين :

إمّا أنّهم يطلبون منه ذلك باعتبار كونه بشراً مثلهم ، وقد ردّ عليهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ـ وبلا ريب ـ طلبهم هذا باطل ، لأنّ تلك الأُمور التي أرادوها تحتاج إلى قدرة إلهية تستطيع القيام بها ، ولا شكّ أنّ قدرة الإنسان العادي مهما كان مقامه لا يمكن

١٩٨

أن تصل إلى درجة القدرة الإلهية ، وذلك الإنسان يعجز عن الإتيان بتلك الأُمور الخارجة عن قدرته.

وأمّا إذا كان طلبهم منه تلك الأُمور باعتبار كونه نبياً ورسولاً ، فكذلك طلبهم باطل وغير صحيح ، وذلك لأنّ النبي لا يعدو عن كونه مأموراً فما يأمر به الله يمتثله وما ينهى عنه ينتهي عنه ويتركه وليس للنبي الحرية والإرادة المطلقة والاختيار الكامل والمستقل أمام الإرادة الإلهية بحيث يفعل ما يشاء متى يشاء ، بل إرادته تابعة لإرادة الله سبحانه.

والخلاصة : أنّ الإتيان بالمعجزة لا يقع تحت اختيار وإرادة الرسول بحيث متى ما شاء هو أو طلب الناس منه الإتيان بالمعجزة يأتي بها بلا فصل ، بل النبي في الواقع ينطلق ويتحرك في ظلّ الإرادة الإلهية وتبعاً لها ولا يخرج عنها أبداً كما لا يمكن للناس أن تحدد للنبي تكليفه في الفعل أو الترك ، بل تكليفه نابع من الأمر الإلهي فقط. ولا فرق في ذلك بين النبي الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين سائر الأنبياء ، ويمكننا الاستدلال على هذا الأمر بآيتين من الذكر الحكيم هما قوله سبحانه :

(... وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...). (١)

وقوله عزّ شأنه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ). (٢)

ولا ريب أنّ الإرادة الإلهية الحكيمة والإذن بالإتيان بالمعجزة غير متوفرين دائماً مهما كانت الشروط ، بل للمعجزة شروطها الخاصة بحيث متى ما توفّرت تلك الشروط يأتي الإذن الإلهي. من هذا المنطلق نرى أنّ الآيات النافية لطلب المعجزة

__________________

(١). الرعد : ٢٨.

(٢). غافر : ٧٨.

١٩٩

ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الإذن الإلهي ـ وبسبب عدم توفر الشروط ـ غير متحقّق فعلاً ، وهذا الأمر يختلف اختلافاً تامّاً مع ادّعاء انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت بمعجزة غير القرآن الكريم ، وهذا ما يصطلح عليه علمياً : انّ نفي الأخص لا يدلّ على نفي الأعم. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ١٩٦ ـ ٢٠١.

٢٠٠