الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

ولعل من أفضل النماذج لذلك ما جرى لبني إسرائيل وميلهم إلى عبادة العجل وترك التوحيد.

وهو ما أثبته القرآن الكريم (١) والتاريخ للأجيال القادمة.

وعلى هذا الأساس فلا داعي للعجب إذا ما تسرّبت خرافة التثليث إلى الديانة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إن تقادم الزمن قد رسخ فكرة التثليث وعمقها في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتّى أكبر مصلح مسيحي «مارتن لوثر» ـ الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسّس المذهب البروتستانتي ـ التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

القرآن الكريم ونظرية التثليث

يرى القرآن الكريم أنّ نظرية التثليث مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيح عليه‌السلام ما كان يدعو إلّا لله الواحد الأحد ، إذ يقول سبحانه :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ...). (٢)

يعتبر القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة ـ تقليداً للأديان

__________________

(١). طه : ٨٥ ـ ٩٩.

(٢). المائدة : ٧٢.

١٢١

السابقة ـ في العقائد المسيحية حيث قال سبحانه :

(... وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). (١)

لقد أثبتت تحقيقات المحقّقين المتأخّرين صحّة الرؤية القرآنية بوضوح لا لبس فيه ، حيث دلّت على أنّه قد أُدخلت ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إصلاحات على الدين البراهماتي ممّا أدّى إلى ظهور الديانة الهندوسية ، وقد تجلّى الربّ الأزلي الأبدي وتجسد ـ لدى البراهمة ـ في ثلاث مظاهر وآلهة هي :

١. براهما (الخالق).

٢. فيشنو (الواقي).

٣. سيفا (الهادم).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدّس في المتحف الهندي في صورة ثلاث جماجم متلاصقة ، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية بالنحو التالي :

«براهما» : هو الموجد في بدء الخلق وهو دائماً الخالق اللاهوتي ويسمّى بالأب.

«فيشنو» : هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

«سيفا» : هو المفني الهادم والمعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

__________________

(١). التوبة : ٣٠.

١٢٢

لقد أثبت مؤلف كتاب «العقائد الوثنية في الديانة النصرانية» في دراسته الشاملة لهذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعجُّ بها الديانة النصرانية أنّ هذا الثالوث المقدّس كان في الديانة البراهماتية وغيرها من الديانات الخرافية قبل ميلاد السيد المسيح عليه‌السلام بمئات السنين. وقد استدلّ لإثبات هذا الأمر بكتب قيّمة وتصاوير حيّة توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حيّاً ومؤيّداً قوياً لنظرية القرآن الكريم.

كما أنّ الكاتب غوستاف لوبون كتب في هذا الصدد قائلاً : لقد واصلت المسيحية تطوّرها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات الشرقية خاصة المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من «نروپي تر» و «ژنون» و «نرو» (١). (٢)

__________________

(١). قصة الحضارة.

(٢). منشور جاويد : ٢ / ١٩٨ ـ ٢٠١.

١٢٣

٢٨

البلايا والشرور في عالم الخلق

سؤال : هل من الممكن نسبة الظلم والأفعال القبيحة والشرور إلى ساحة القدس الإلهي أم لا؟ وكيف يمكن توجيه ذلك؟

الجواب : إنّ للأعمال القبيحة وغير اللائقة جنبتين ، وبعبارة أُخرى : انّه يمكن دراستها من خلال طريقين :

١. الجانب الوجودي ، الإثباتي.

٢. الجانب العدمي ، السلبي.

إذا نظرنا إلى أي فعلٍ قبيح نجد أنّه لا يكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الوجودي ، ويكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الثاني ، أي الجانب العدمي.

مثلاً اللقاء الجنسي الذي يتم بين الرجل والمرأة بصورة غير مشروعة وغير قانونية ، فإنّ مثل هذا اللقاء غير المشروع لا يختلف عن اللقاء المشروع في الجوانب الوجودية ، فكلاهما سواء من حيث إنّ العملين نتيجة الغريزة الجنسية.

غايته أنّ التفاوت بين هذين اللقاءين هو أنّ الأوّل غير مأذون به من قبل

١٢٤

الله والسلطة التشريعية ، في حين أنّ العمل الثاني مأذون به من قبل الله وانّه موافق لرأي السلطة التشريعية المتمثلة فيه سبحانه. وعلى هذا فإنّ عامل القبح في «الزنا» هو صفة اللامشروعية التي هي أمرٌ عدمي وسلبي مائة بالمائة ، والذي تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودي للشيء وليس الجانب العدمي السلبي ، لأنّ الأُمور العدمية والجوانب السلبية أحقر من أن تتعلّق بها القدرة الإلهية ، بل يستحيل تعلّق عملية الخلق بها.

وإنّك بالإمعان في هذا المثال بإمكانك أن تتناول بالتحليل بقية الأفعال القبيحة كالظلم والخداع والخيانة والجناية ، فالظلم مثلاً إنّما يكون قبيحاً ، لأنّه يؤدي إلى ضياع حقّ المظلوم ، ويؤدي إلى توقّف نمو المجتمع وتقدمه ، ثمّ إنّ نفس التساؤل السابق يطرح نفسه في مسألة البلايا والشرور كالزلزلة والسيول وأمثال ذلك ، ولتوضيح تلك التساؤلات والاستفهامات لا بدّ من تحليل تلك الظواهر.

تحليل ظاهرة البلايا والشرور (١)

لو تناولنا بالتحليل أي ظاهرة من الظواهر التي تتصف بالشر لتبيّن لنا أنّ تلك الصفة ناشئة من كون الشيء مصحوباً بالعدم.

فالمرض ـ على سبيل المثال ـ إنّما يكون شراً غير مرغوب فيه ، لأنّ المريض حال مرضه يكون فاقداً للصحّة والعافية ، وهكذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم فإنّما يُعدّ العمى والصمم شراً لفقدان وصفي السمع والبصر وعدمهما

__________________

(١). لمزيد الاطّلاع والتعمّق في البحث حول البلايا والشرور وعدم انسجامها ـ ظاهراً ـ مع الحكمة والعدل الإلهي يراجع كتاب الإلهيات : ١ / ٢٧٣ ـ ٢٨٦ لآية الله الشيخ جعفر السبحاني.

١٢٥

ليس غير ، وذلك لأنّ الإنسان المفكّر والمتحلي بالفضائل يرى أنّ نعمتي السمع والبصر من أهم الأُمور الأساسية لكماله ، والنقطة الجديرة بالذكر أنّ صفتي العمى والصمم ليس لهما واقعية حقيقية في العين أو الأُذن ، فما العمى أو الصمم ـ في الواقع ـ سوى حالة الفقدان والعدمية.

ومن ملاحظة هذه النقطة ومقارنة كلّ الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذكور يتبين لنا أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذي لا يحتاج إلى موجد وفاعل ، بل هو عين ذلك الفقدان ، فكلّ البلايا والشرور والقبائح إنّما تكون شروراً وأُموراً غير مرغوب فيها ، لكونها فاقدة لنوع من الوجود أو مستلزمة لنوع من العدم.

وعلى هذا الأساس فإنّ الحيوانات المفترسة والضارة إنّما تكون شراً ، لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودية ، لأنّ هذه الموجودات ـ الحيوانات المفترسة والمضرة والآفات ـ توجب الموت وفقدان الحياة أو فقدان عضو من الأعضاء أو قوة من القوى ، أو تتسبّب في منع نمو القابليات والاستعدادات ، فلو كانت هذه الشرور كالزلازل والآفات الحيوانية والنباتية لا تنطوي على مثل هذه النتائج لما عدّت من الشرور ولما كانت أُموراً قبيحة غير مطلوبة.

وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر والحرمان إنّما تكون شروراً لكونها ترافق أنواعاً من العدم ، فالعلم كمال وواقعية يفقدها الجاهل ، والحياة حقيقة وكمال يفقدها الميت ، والفقير هو من يفتقد المال الذي يوفر له سبل العيش.

وخلاصة القول : إنّه لا يوجد في هذا العالم إلّا نوع واحد من الموجودات وهو ما يكون خيراً وجميلاً وحسناً ، وأمّا الشرور فهي من نوع العدم ، والعدم

١٢٦

ليس مخلوقاً ، بل هو من باب ـ عدم الخلق ـ وليس من باب ـ خلق العدم ـ.

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يقال أنّ للعالم خالقين : أحدهما خالق الخير ، والآخر خالق الشر ؛ وإذا أردنا أن نقرب الفكرة بمثال حسّي نقول : إنّ مثل الوجود والعدم كمثل الشمس والظل فعند ما نقيم تحت الشمس شاخصاً يحدث على الأرض ظل بسبب ذلك الشاخص الذي منع من وصول النور ، وما الظل في الحقيقة إلّا عدم النور ، لأنّ الظل هو الظلمة ، والظلمة ليست إلّا «عدم» النور ، فلا يصحّ أن نتساءل هنا : ما هي حقيقة الظل؟ إذ ليست للظل واقعية خارجية وحقيقة عينية تقابل حقيقة النور وجوهره إنّما الظل هو عدم النور ، ومعنى هذا أنّه ليس للظل أو الظلمة منبع ينبعان منه ومنشأ ينشئان منه ، هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب الله توجيهات أُخرى نذكرها فيما يأتي.

تحليل آخر لظاهرة الشرور

إنّ هنا تحليلاً آخر لظاهرة الشرور ينطلق من أنّ الشرور هل هي أُمور حقيقية أو أُمور نسبية؟

بتحليل سريع وتحقيق عاجل يمكن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبية لا حقيقية ، وأنّه لا يوجد شيء يُعدُّ بذاته شراً وأنّ صفة الشر ليست جزءاً من ذوات وحقائق الأشياء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شيء من الأشياء عند ما يقاس إلى شيء آخر ، فسمّ الحية والعقرب وافتراس الذئب لا تكون شراً بالنسبة إلى الحيّة والعقرب والذئب ، بل هي إحدى وسائل كمالها الموجب لبقائها واستمرار حياتها ووجودها ، نعم إنّما هي شر إذا ما قيست إلى الإنسان وتضرر البشر بها ، فالمطر الغزير مثلاً لا يكون شراً في حدّ ذاته ، بل عند ما

١٢٧

يقاس بشيء آخر يتصف حينئذٍ بهذا الوصف.

فلو نزل المطر الغزير في فصل مناسب فأحيا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وأينعت الأثمار يكون خيراً حينئذٍ ، ولكن يكون شراً من جهة كونه موجباً لانهدام الأكواخ وجرف بعض المحاصيل في الصحارى والبراري.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى حينما خلق العقرب لم يخلق شيئين ويفعل أمرين :

أحدهما خلق ذات العقرب ، والآخر خلق شرها ، بل فعل الله سبحانه شيئاً واحداً ، وهو أنّه تعالى منح هذا الموجود لباس الوجود ، وإنّما الإنسان هو الذي يصف العقرب بالشريّة والقبح عند ما يقيسه إلى شيء آخر. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٢٧١ ـ ٢٧٨.

١٢٨

٢٩

نسبة الحسنة والسيئة إلى الله

سؤال : إذا كانت نسبة الحسنة والسيئة (الخير والشر) إلى الله كما في الآية ٧٨ من سورة النساء ، فكيف تفسّر الآيات التي تنسب الحسنات إلى الله والسيئات إلى الإنسان نفسه ، كالآية ٧٩ ، من نفس السورة؟

الجواب : إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال ما أثبتناه سابقاً من نسبية الشرور والبلايا ، لأنّ كلّ أنواع الشرور والبلايا حتى الأفاعي والعقارب إذا نظرنا إليها من الزاوية الوجودية ، أي من كونها ظاهرة اكتسبت وجودها من الله سبحانه ، فانّها حينئذٍ تكون جميلة وحسنة. وإنّما تتّصف هذه الموجودات بالسوء إذا كانت هناك نسبة بينها وبين حياة الإنسان وكانت غير ملائمة لحياته ، فحينئذٍ نقول : إنّ الأفعى والعقرب بلاء وشرّ لحياة الإنسان.

فإذا كانت الآية الأُولى تنسب كلّ أنواع النصر والهزيمة إلى الله وتنسب هطول الأمطار والسيول كذلك إلى الله سبحانه ، فمن جهة كون الآية تركّز على أنّ كلّ ظاهرة باعتبارها وجوداً فإنّها تكتسب وبصورة قهرية حظّاً من الحسن والجمال من جانب الله سبحانه ، ولذلك لا يمكن في هذا الظرف أن توصف بكونها ظاهرة سيئة ـ وإذا كان القرآن الكريم قد وصفها في الآية الأُولى بكونها

١٢٩

سيّئة ، فما ذلك إلّا لكون القرآن يتكلّم بلغة المخاطبين ـ وذلك لأنّه ما دام لم توجد مقايسة ونسبة بين تلك الظاهرة وبين الإنسان فلا يصحّ وصفها بالسوء ، بل تكون وجوداً حسناً وجميلاً ، ولذلك نسبت الآية الأُولى الجميع إلى الله سبحانه.

نعم تتّصف بالسوء إذا كان هناك نسبة بينها وبين حياة الإنسان فقدرة العدو مثلاً سيّئة ومضرة بالقياس إلى الطرف الآخر ، والمطر مضر وشرّ بالقياس إلى تخريب المنازل ، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكن أن توصف هذه الظواهر بالشرّ والسوء وفي هذه الصورة بالذات يقول الناس : «لقد نزل البلاء».

في مثل تلك الصورة تنسب السيّئة إلى الإنسان نفسه ويقال :

(وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) لما ذا؟ لأنّ في مثل تلك الظروف لا يمكن تجاهل تأثير أعمال الإنسان السيّئة وماضيه وتاريخه المظلم وتقاعسه في أداء واجباته ، وذلك لأنّ جميع مظاهر الانهزام والانكسار والبلايا معلولات لتقصير وتقاعس الإنسان ، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي.

فإنّ الشاب المدمن على الخمر ـ مثلاً ـ يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن ، والأُمّة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب ، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل ، إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لا بدّ أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي ، ولهذا قال الله تعالى في الآية الثانية : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ...).

١٣٠

لقد كان الأنبياء عليهم‌السلام يذمون من يتطير بهم ويتشاءم من وجودهم : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ...). (١)

وهم بذلك يُشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين وهو أمرٌ ناشئ منهم ونابعٌ من أعمالهم أنفسهم.

وإذا ما وجدنا في آية أُخرى من القرآن الكريم قوله سبحانه : (... أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (٢)

فلا شك أنّ المقصود في هذه الآية أنّ الله سبحانه عظيم وكبير في علمه ومعرفته بحيث لا يخفى عليه شيء من مصيركم وما تؤول إليه حياتكم.

إنّ النكتة الجديرة بالاهتمام هي : إنّ الآية الأُولى تصرح بأنّ مصير الإنسان ومستقبله مرهون به (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ، وذلك لأنّ أعمال الإنسان وأفعاله هي التي تصنع مصير الإنسان.

أمّا إذا كان الحديث عن علم الله وإحاطته بمستقبل وبمصير الإنسان نجد الآية الأُخرى تتحدث بلحن آخر وبطريقة مختلفة عن الأُولى حيث تعتبر أنّ علم الله محيط بمصير الإنسان ومستقبله ، قال تعالى : (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ).

إنّ القرآن الكريم يعتبر ـ وفي آيات أُخرى ـ حالات الإنسان وأعماله السابقة علّة لوقوعه في المحن والتقلّبات قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). (٣)

__________________

(١). يس : ١٩.

(٢). الأعراف : ١٣١.

(٣). الشورى : ٣٠.

١٣١

وفي آية أُخرى يقول سبحانه : (... إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...). (١)

وكذلك الآية ٥٣ من سورة الأنفال تتضمن معنى قريباً من هذا المعنى. (٢)

__________________

(١). الرعد : ١١.

(٢). منشور جاويد : ٢ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

١٣٢

٣٠

فلسفة الابتلاء والاختبار

سؤال : من الواضح أنّ الاختبار إنّما يجري لغرض تحصيل العلم وكشف الحقائق المجهولة ، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار انّ الله عالم بسرّ الإنسان وعلانيته ، ومطّلع على ماضيه ومستقبله ، فحينئذٍ يطرح التساؤل التالي :

ما الحاجة إذاً إلى هذا الامتحان وذلك الاختبار وما هي فلسفته؟

الجواب : انّ الاختبار والامتحان الإلهي يمثّل سنّة عامة لا تختص بفرد دون فرد أو جماعة دون أُخرى ، بل يخضع لها الجميع حسب إمكاناتهم وقابلياتهم ، فكلّ يتعرض لذلك الامتحان الإلهي ويدخل في بوتقة ذلك الاختبار ، ولقد صرّح القرآن الكريم بشمولية الاختبار وعمومية الامتحان الإلهي بقوله سبحانه :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). (١)

__________________

(١). البقرة : ٢١٤.

١٣٣

وبالطبع أنّ جملة (مَتى نَصْرُ اللهِ) ليست من قبيل الاستفهام الاعتراضي ، بل هي نوع دعاء وطلب للمدد والعون الإلهي.

ولكن المسألة المهمة هنا هي معرفة الهدف من الامتحان والاختبار وفلسفة ذلك. لا شكّ أنّ للابتلاء الإلهي أهدافاً وغايات متعدّدة ، فمن هذه الأهداف تفجير القدرات والطاقات الإنسانية الكامنة ، وكذلك من خلال هذا الطريق يتسنّى للأفراد الاقتراب من الكمال المطلوب ، فإذا لم يتعرّض الإنسان للاختبار والامتحان والابتلاء تبقى كمالاته وقدراته كالكنز الدفين في أعماق التربة لا يعلم منها شيء.

إنّ بيان وتوضيح هذه الفكرة ـ التي مفادها أنّ الامتحان والاختبار بالنسبة إلى المجتمعات البشرية يعدّ عامل تكامل وسلّماً للرقي والسمو الإنساني ـ يحتاج إلى ذكر عدّة نقاط ، هي :

١. تنمية الطاقات والاستعدادات الكامنة

إنّ الإنسان وبسبب عدم البلوغ العلمي والنضج الفكري يضطر لرفع أي إبهام يواجهه وأي معضلة تعتريه ، إلى أن يطرق ويلج باب الاختبار ، وبالطبع أنّ مثل هذا التصوّر يستحيل على الله سبحانه وتعالى العالم بما كان وسيكون ، ولا يعتريه النقص أو الجهل بحال من الأحوال ، ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون للاختبار والامتحان الإلهي غاية وهدف يمكن أن نطلق عليها اسم تفجير الطاقات وتفعيل القوى والاستعدادات الكامنة وإخراجها إلى حيّز الفعلية أو تربية وتنمية تلك الاستعدادات ، وذلك لأنّ الطاقات البشرية حالها حال جميع الأُمور الأُخرى لا يمكن أن تنتقل من مرحلة القوة إلى الفعل من دون الاستعانة بوسائل وأسباب خاصة ، والوسيلة التي تستطيع أن تظهر كلّ تلك اللياقات إلى

١٣٤

حيّز الفعلية هي عملية الاختبار والامتحان.

فالكلّ منّا يعلم أنّ الفلزات إنّما تظهر استعداداتها ولياقاتها وقدرتها على الدوام والاستمرار حينما توضع في أفران الاختبار وتسلط عليها نيران الامتحان.

إنّ إحدى وسائل الامتحان والاختبار الإلهي هي تلك المصاعب التي تواجه الإنسان والتقتير في الرزق وفي مستلزمات الحياة الضرورية ، ولذلك نرى الإنسان يتساءل منذ اللحظات الأُولى لوعيه للحياة ولبدء عمله وحركته على وجه البسيطة ما الهدف من كلّ هذه المصاعب وهذا التقتير في الرزق ، وبتعبير القرآن الكريم لما ذا هذه (الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ)؟

ولكن بمجرد أن يمعن الإنسان التفكير وينظر بدقة إلى المثال الذي سقناه سابقاً (المعادن في كير الحداد) يدرك جيداً أنّ تلك المصاعب التي يتعرض لها وتواجهه في الحياة هي التي تبني شخصيته وتفجّر طاقاته الكامنة وتحدّد له استقامته وثباته في مسيره ، كمثل الشجرة التي تنمو في قلب الصحراء وفوق الرمال القاحلة وأمام الرياح الملتهبة فإنّه وبلا أدنى شكّ أنّ مثل هذه الشجرة ستقاوم كلّ تقلّبات الأحوال وتصمد أمام تقلّبات الظروف مهما اشتدت وصعبت أي أنّها تمتلك حينئذٍ صفة خاصة هي صفة المقاومة والثبات ، وهذا بخلاف الشجرة التي تنمو في ظلّ ظروف ناعمة وفي جوّ طبيعي وأرض نديّة وتربة طيّبة فإنّها وبلا شكّ لا تمتلك القدرة على مواجهة تقلّبات الحياة من الجفاف أو الحرارة أو العواصف ، أو ما شاكل ذلك ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا وإنّ الشجرة البرية (١) أصلب عوداً ، والرواتع الخضرة (٢) أرق جلوداً ،

__________________

(١). التي تنبت في البرّ الذي لا ماء فيه.

(٢). الأشجار والأعشاب الغضة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.

١٣٥

والنابتات العذية (١) أقوى وقوداً وأبطأ خموداً». (٢)

إنّ الإنسان الذي يخضع للاختبار ويبتلى بأشدّ المصائب ، يتعلم كيف يشق طريق الحياة ويطوي جادتها بنحو تسهل لديه مصاعب الحياة وتهون عليه شدائدها وتصبح أمراً طبيعياً حيث إنّه يعمل فكره وعقله ويستفيد من طاقاته ويفجر كمالاته المودعة فيه ويفعّلها لتخليص نفسه ونجاتها.

وبالطبع لا يمكن أن ندّعي أنّ الامتحان والاختبار مثمر ومفيد لجميع الأفراد ، وأنّ الجميع يخرجون من بوتقة الاختبار ويجتازون مراحله بنجاح وموفقية ، بل الذي ندّعيه هو أنّه في حالة توفر الأرضية المناسبة يكون الامتحان سبباً لارتقاء الإنسان في سلّم الكمال وبروز الخصائص النفسية الكامنة في أعماقه ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف في قوله تعالى :

(... وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). (٣)

إنّ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يشير إلى أنّ هدف الله تعالى من الاختبار ليس هو تشخيص الواقعيات ، بل الهدف والغاية هو التربية وتفجير وإظهار الطاقات والكفاءات الكامنة في مركز وجود الإنسان ، ولقد أطلق العرب في لغتهم لفظة «التمحيص» على ذلك المعنى ، ومن يراجع كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام وحكمه يجده قد أشار إلى ضرورة ولابدّية الاختبار وفلسفته ، وانّه لا ينبغي أن يطلب الإنسان من ربّه عدم الامتحان والابتلاء ، بل

__________________

(١). الزرع الذي لا يسقيه إلّا ماء المطر.

(٢). نهج البلاغة ، ص ٤١٨ ، قسم الرسائل برقم ٤٥ من كتاب له إلى عثمان بن حنيف تحقيق صبحي الصالح.

(٣). آل عمران : ١٥٤.

١٣٦

الذي ينبغي هو أن يطلب منه تعالى أن لا يبتليه بأمر يعجز عن القيام به أو يفشل فيه ، ثمّ يوضح لنا عليه‌السلام الهدف من الاختبار وهو إظهار وإبراز الصفات والخصال الحسنة أو السيئة التي تمنح الإنسان شخصيته حيث يقول عليه‌السلام : «لا يقولن أحدكم : «اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة» ، لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن ، فانّ الله سبحانه وتعالى يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، ومعنى ذلك إنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب ، لأنّ بعضهم يُحب الذكور ويكره الإناث ، وبعضهم يحب تثمير المال ، ويكره انثلام الحال». (١)

ولك أن تقول : إنّ الابتلاء الإلهي دوره كدور صاحب البستان ، فإنّ الفلاح عند ما يضع البذرة ـ ذات الاستعداد والقدرة ـ تحت التراب ، فإنّ تلك البذرة ومن خلال الاستفادة من الإمكانات والمواهب الطبيعية تأخذ طريقها إلى النمو والرشد وانّها في طيّها لهذا الطريق الشائك تقابل كمّاً هائلاً من المشاكل والصعوبات التي تعترض طريقها من الأعاصير الشديدة والبرودة القاتلة والحرارة المحرقة ، ولذلك ينبغي عليها أن تقاوم كلّ تلك الصعوبات وتجتاز كلّ تلك العقبات ، لكي تبرز استعداداتها وتفجر قدراتها الكامنة فيها فتتحول إلى غصن جميل وثمرة يانعة شهية ولذيذة. فإذا لم تتعرض تلك البذرة إلى كلّ تلك الشدائد ولم تمر في بوتقة الاختبار فمن المستحيل أن تبرز كمالها وتظهر استعداداتها الكامنة فيها.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٩٣.

١٣٧

٢. الابتلاء معيار الثواب والعقاب

لا شكّ أنّ مجرّد وجود الصفات والخصال الحسنة أو السيئة في النفس الإنسانية لا يُعد معياراً للثواب أو العقاب ، فإنّه ما لم تظهر تلك الصفات يستحيل معاقبة الإنسان بِصِرْف وجود تلك الصفة فيه أو إثابته كذلك ، وانّ تلك الصفات الكامنة لا يمكن أن تظهر ما لم تخضع لبوتقة الاختبار والابتلاء والتمحيص ، وهذا هدف آخر من الأهداف المتوخّاة من الابتلاء ، ولقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى تلك الحقيقة بقوله : «وإن كان سبحانَهُ أعلمُ بِهِم مِنْ أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثّواب والعقاب». (١)

٣. تمييز الصالحين من الطالحين

إنّ الهدف الثالث من أهداف الابتلاء والاختبار الإلهي هو تمييز الصالح من الطالح ، وذلك لأنّه في المجتمع الإسلامي الكلّ يدّعي لنفسه السبق ويرى نفسه في عداد الثوار وزمرة المجاهدين والمؤمنين ، ويدافع عن نفسه ويرى لها تلك الحسنة وهذه الصفة الحميدة ، في الوقت الذي يوجد فيهم المنافقون والمؤمنون والصالحون والطالحون بل فيهم من يكيد للإسلام ويتربّص به الدوائر. ومنهم من يدافع عنه بكلّ ما أُوتي من قوة ، فإنّ من الطبيعي في مثل تلك الأجواء والظروف تكون الطريقة المثلى والأُسلوب الأفضل للتمييز بين الأصناف الصالحة والطالحة والمؤمن والمنافق هو أن يتعرض الجميع للابتلاء والامتحان الإلهي. وإلّا يكون الجميع في مرتبة واحدة وصف واحد ولا يمكن

__________________

(١). المصدر نفسه.

١٣٨

تمييز بعضهم عن البعض الآخر إذا عاش الجميع في رخاء ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك المعنى بقوله :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...). (١)

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢). (٣)

__________________

(١). آل عمران : ١٧٩.

(٢). الأنفال : ٣٧.

(٣). منشور جاويد : ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٩.

١٣٩
١٤٠