لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

والسبب في أمرهم عليهم‌السلام شيعتهم بكتمان علومهم هو أنهم كانوا يخشون أن تُذاع أخبارهم ، فتصل إلى خلفاء الجور فيتضررون عليهم‌السلام منهم ، أو تقع عند ضعاف العقول الذين لا يفهمونها على وجهها ، فيصير ذلك سبباً لضلالتهم ومزيد تحيّرهم (١).

ومع تأكد النهي عن الإذاعة إلا أن بعض الشيعة كانوا يفشون كل ما يسمعونه من الأئمة عليهم‌السلام ، إما لعدم معرفتهم بضرورة كتمانه ، أو لجهلهم بما يترتب على الإفشاء من الضرر ، أو لسهولة استدراجهم والتغرير بهم لإفشائه ، أو لضعفهم وتمكّن المخالفين من إجبارهم على البوح به ، أو لغير ذلك من الأسباب.

* * *

قال الكاتب : وقالت فاطمة الصغرى عليها‌السلام في خطبة لها في أهل الكوفة : (يا أهل الكوفة ، يا أهل الغدر والمكر والخيلاء ، إِنّا أهل البيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءَنا حسنا .. فكفرتمونا ، وكذبتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً .. كما قتلتم جدَّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت.

تباً لكم ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فَكأَنْ قد حَلَّ بكم ... ويذيق بعضكم بأس (٢) ما تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين. تَبّاً لكم يا أهل الكوفة ، كم قرأت (٣) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلكم ، ثمّ غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب ، وجدي ، وبنيه وعِتْرَتِهِ الطيبين.

فرد عليها أحد أهل الكوفة مُفْتَخِراً ، فقال :

__________________

(١) مرآة العقول ٩ / ٢٨٦.

(٢) في الاحتجاج : بأس بعض ، ثمّ تخلدون.

(٣) في كتاب الاحتجاج ٢ / ٢٧ : (كم تراث لرسول الله قبلكم ، وذحوله لديكم ، ثمّ غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام جدي ، وبنيه عِتْرَة النبي الطيبين الأخيار). فانظر ما أصاب الكلمة من التحريف والغلط ، مضافاً إلى التحريف المتعمد السابق على هذه العبارة ، فراجع.

٨١

نحن قتلنا علياً وبني

علي بسيوف هندية ورِماح

وسبينا نساءَهم سبي ترك. ونطحناهم فأي نطاح

الاحتجاج ٢ / ٢٨.

وقالت زينب بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليها لأهل الكوفة تقريعاً لهم : (أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل .. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، هل فيكم إلا الصلف والعُجب والشنف والكذب .. أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فقد ابليتم بعارها .. وأنى تُرْخِصون (١) قَتْلَ سليلِ خاتمِ النبوة ..) الاحتجاج ٢ / ٢٩ ـ ٣٠.

وأقول : لقد ذكرنا أن أهل الكوفة لم يكونوا من الشيعة في ذلك الوقت ، وأن قتلة الحسين عليه‌السلام ليس فيهم شيعي واحد معروف بتشيّعه ، فلا حاجة للإعادة ، وزينب الكبرى وفاطمة الصغرى سلام الله عليهما إنما ذمَّتا أهل الكوفة في ذلك الوقت ، ولم تذمَّا الشيعة كما هو واضح من كلامهما.

* * *

قال الكاتب : نستفيد من هذه النصوص وقد ـ أعرضنا عن كثير غيرها ـ ما يأتي :

١ ـ مَلَل وضَجَر أمير المؤمنين وذريته من شيعتهم أهل الكوفة لغدرهم ومكرهم وتخاذلهم.

٢ ـ تخاذل أهل الكوفة وغدرهم تَسَبَّبَ في سَفْكِ دماء أهل البيت واستباحة حُرُماتهم.

وأقول : لقد قلنا مكرَّراً : إن أهل الكوفة لم يكونوا في ذلك الوقت شيعة ، وإنما

__________________

(١) في الاحتجاج : (ترحضون) أي تغسلون.

٨٢

هم شيعة آل أبي سفيان وأعداء أهل البيت عليهم‌السلام وكل ما صدر منهم يدل على ما قلناه ، ولا مدخلية للشيعة في شيء من ذلك ، فراجع ما كتبناه آنفاً.

* * *

قال الكاتب : ٣ ـ أن أهل البيت عليهم‌السلام يُحَمِّلُون شيعَتَهم مسئولية مقتلِ الحسين رضي الله عنه ومَن معه ، وقد اعترف أحدهم بردِّهِ على فاطمة الصغرى بأَنهم هم الذين قتلوا علياً وبنيه ، وَسَبَوا نِساءَهم كما قدَّمنَالك.

وأقول : لا تجد في أقوال أهل البيت عليه‌السلام أنهم يحمِّلون شيعتهم مسئولية قتل الحسين عليه‌السلام ، ولا تجد في أقوال الحسين عليه‌السلام أنه وصف القوم المجتمعين على قتله في كربلاء بأنهم شيعته ، بل وصفهم بأنهم شيعة آل أبي سفيان كما أوضحنا ذلك فيما تقدّم ، فراجعه.

وما قاله الكوفي للسيدة فاطمة الصغرى عليها‌السلام غير مستغرب ، لأن الكوفيين هم الذين باشروا قتل الحسين عليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته ، إلا أنهم لم يكونوا من الشيعة كما قلنا ، والكاتب لم يأت بدليل واحد يدل على أن أهل الكوفة في ذلك الوقت كانوا شيعة ، أو أن الذين باشروا قتل الحسين عليه‌السلام كانوا يتشيَّعون لأهل البيت عليهم‌السلام ، كما أنه لم يأت بدليل واحد من أقوال أهل البيت عليهم‌السلام يدل على أنهم حمّلوا شيعتهم مسئولية قتل الحسين عليه‌السلام ، وكل كلامه لا يعدو كونه دعاوى مجردة لم يقم عليها دليل ، بل قام الدليل على خلافها.

* * *

قال الكاتب : ٤ ـ أن أهل البيت عليهم‌السلام دعوا إلى [كذا] شيعتهم ووصفوهم بأنهم طواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ، ونَبَذَةُ الكتاب ، ثمّ زادوا على تلك بقولهم : ألا لعنة الله على الظالمين.

٨٣

وأقول : الذين وصفهم الحسين عليه‌السلام بأنهم (طواغيت هذه الأمة ، وبقية الأحزاب ، ونَبَذَةُ الكتاب) هم المجتمعون على قتله عليه‌السلام ، الذين وصفهم بأنهم شيعة آل أبي سفيان ، ولم يكونوا من شيعته ومواليه ومحبّيه ، فراجع كلماته عليه‌السلام لتتحقّق من صحّة ما قلناه.

* * *

قال الكاتب : ولهذا جاءوا إلى أبي عبد الله رضي الله عنه ، فقالوا له : إنَّا قد نَبَزْنا [كذا] نَبْزاً أَثْقَلَ ظُهورَنا ، وماتت له أفئدَتُنا ، واستحلت له الوُلاةُ دماءَنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الرافضة؟ قالوا : نعم ، فقال : لا والله ما هم سمّوكم .. ولكن الله سمّاكم به) الكافي ٥ / ٣٤.

فبين أبو عبد الله أن الله سماهم (الرافضة) وليس أهل السنة.

وأقول : هذا الحديث ضعيف السند ، فإن من جملة رواته سهل بن زياد ، وهو ضعيف على المشهور المنصور عند العلماء.

قال النجاشي في رجاله : سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي ، كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب ، وأخرجه من قم إلى الري ، وكان يسكنها ... (١).

وقال الشيخ الطوسي : سهل بن زياد الآدمي الرازي ، يكنى أبا سعيد ، ضعيف (٢).

وقال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث : وقال النجاشي والشيخ في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى : واستثنى ابن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى

__________________

(١) رجال النجاشي ١ / ٤١٧.

(٢) الفهرست للطوسي ، ص ١٤٢.

٨٤

في جملة ما استثناه روايته عن سهل بن زياد الآدمي ، وتبعه على ذلك الصدوق وابن نوح ، فلم يعتمدوا على رواية محمد بن أحمد بن يحيى عن سهل بن زياد. وقال ابن الغضائري : سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي : كان ضعيفاً جداً ، فاسد الرواية والمذهب ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري أخرجه من قم ، وأظهر البراءة منه ، ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه ، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل (١).

وقال : وكيف كان فسهل بن زياد الآدمي ضعيف جزماً أو أنه لم تثبت وثاقته (٢).

ومن جملة رواة هذا الخبر محمد بن سليمان ، وهو محمد بن سليمان البصري الديلمي ، وقد مرَّ تضعيفه في ص ٥١ ، فراجعه.

ومن جملة الرواة سليمان بن عبد الله الديلمي ، وهو والد الراوي السابق ، وقد مرَّ أيضاً تضعيفه ، ونقلنا لك قول النجاشي في ترجمته : كان غالياً كذاباً ، وكذلك ابنه محمد ، لا يُعمل بما انفردا به من الرواية.

هذا حال الرواية من ناحية سندها ، وأما من ناحية متنها فهي واردة في مدح الشيعة لا في ذمِّهم ، ولا بأس أن أنقل لك الرواية كاملة كما رواها الكليني قدس‌سره في كتابه (الكافي) ، وإليك نَصّها :

قال الكليني : عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه أبو بصير وقد خَفِرَه النفَس (٣) ، فلما أخذ مجلسه قال له أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا محمد ما هذا النفَس العالي؟ فقال : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، كبر سني ، ودق عظمي ، واقترب أجلي ، مع أنني لستُ أدري

__________________

(١) معجم رجال الحديث ٨ / ٣٣٩.

(٢) المصدر السابق ٨ / ٣٤٠.

(٣) أي أن علو نفسه جعله يستحيي من الإمام عليه‌السلام وممن معه من أصحابه.

٨٥

ما أرد عليه من أمر آخرتي. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا محمد وإنك لتقول هذا؟! قال : جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟! فقال : يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ، ويستحيي من الكهول؟ قال : قلت : جعلت فداك فكيف يكرم الشباب ويستحيي من الكهول؟ فقال : يكرم الله الشباب أن يعذِّبهم ، ويستحيي من الكهول أن يحاسبهم. قال : قلت : جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال : فقال : لا والله إلا لكم خاصة دون العالم. قال : قلت : جعلت فداك فإنا قد نُبِزْنا نبزاً (١) انكسرت له ظهورنا ، وماتت له أفئدتنا ، واستحلتْ له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم. قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الرافضة؟ قال : قلت : نعم. قال : لا والله ما هم سمَّوكم ، ولكن الله سمَّاكم به ، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم ، فلحقوا بموسى عليه‌السلام لما استبان لهم هداه ، فسُمُّوا في عسكر موسى الرافضة ، لأنهم رفضوا فرعون ، وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة ، وأشدَّهم حبّاً لموسى وهارون وذريتهما عليهما‌السلام ، فأوحى الله عزوجل إلى موسى عليه‌السلام : أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة ، فإني قد سمَّيتهم به ونحلتهم إياه. فأثبت موسى عليه‌السلام الاسم لهم ، ثمّ ذخر الله عزوجل لكم هذا الاسم حتى نحلكموه ، يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر ، افترق الناس كل فرقة ، وتشعبوا كل شعبة ، فانشعبتم مع أهل بيت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذهبتم حيث ذهبوا ، واخترتم من اختار الله لكم ، وأردتم من أراد الله ، فأبشروا ثمّ أبشروا ، فأنتم والله المرحومون المتقبَّل من محسنكم ، والمتجاوَز عن مسيئكم ، من لم يأت الله عزوجل بما أنتم عليه يوم القيامة لم يتقبل منه حسنة ، ولم يتجاوز له عن سيئة ، يا أبا محمد فهل سررتُك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد إن لله عزوجل ملائكة يُسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يُسقِط الريح الورق في أوان سقوطه ، وذلك قوله عزوجل (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ...

__________________

(١) أي لقَّبونا بلقب أوقعنا في الضرر.

٨٦

وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. قال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢) ، إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا ، وإنكم لم تبدِّلوا بنا غيرنا ، ولو لم تفعلوا لعيَّركم الله كما عيَّرهم حيث يقول جل ذكره (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (٣) ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤) ، والله ما أراد بهذا غيركم ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٥) ، والله ما أراد بهذا غيركم ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد لقد ذكرنا الله عزوجل وشيعتنا وعدونا في آية من كتابه ، فقال عزوجل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٦) ، فنحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا هم أولو الألباب ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد والله ما استثنى الله عزوجل بأحد من أوصياء الأنبياء ولا أتباعهم ما خلا أمير المؤمنين عليه‌السلام وشيعته ، فقال في كتابه وقوله الحق (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) (٧) ، يعني بذلك عليّا عليه‌السلام وشيعته ، يا أبا

__________________

(١) سورة غافر ، الآية ٧.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.

(٣) سورة الأعراف ، الآية ١٠٢.

(٤) سورة الحجر ، الآية ٤٧.

(٥) سورة الزخرف ، الآية ٦٧.

(٦) سورة الزمر ، الآية ٩.

(٧) سورة الدخان ، الآيتان ٤١ ، ٤٢.

٨٧

محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. قال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله تعالى في كتابه إذ يقول (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١) ، والله ما أراد بهذا غيركم ، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني ، فقال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٢) * ، والله ما أراد بهذا إلا الأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم ، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٣) ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية النبيون ، ونحن في هذا الموضع الصدِّيقون والشهداء ، وأنتم الصالحون ، فتسمّوا بالصلاح كما سمَّاكم الله عزوجل ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. قال : يا أبا محمد لقد ذكركم الله إذ حكى عن عدوِّكم في النار بقوله (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٤) ، والله ما عنى ولا أراد بهذا غيركم ، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس ، وأنتم والله في الجنة تُحبرون ، وفي النار تُطلبون. يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. قال : يا أبا محمد ما من آية نزلت تقود إلى الجنة ولا تذكر أهلها بخير إلا وهي فينا وفي شيعتنا ، وما من آية نزلت تذكر أهلها بِشَر ولا تسوق إلى النار إلا وهي في عدوِّنا ومَن خالفنا ، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال : قلت : جعلت فداك زدني. فقال : يا أبا محمد ليس على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا ، وسائر الناس من ذلك براء ، يا أبا محمد فهل سررتك؟ وفي رواية أخرى فقال : حسبي (٥).

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٥٣.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٤٢.

(٣) سورة النساء ، الآية ٦٧.

(٤) سورة ص ، الآيتان ٦٢ ، ٦٣.

(٥) الكافي ٨ / ٢٨.

٨٨

فهذه الرواية كما يلاحظ القارئ كلها مسوقة لمدح الشيعة ، ولبيان أن لفظ (الرافضة) لفظ شريف ادَّخره الله لأهل الحق ، وأن المراد به الذين رفضوا الباطل واتّبعوا الحق.

لكن الكاتب بتر النص ليوهم القرَّاء أن الرواية كانت مسوقة لذم الشيعة لا لمدحهم ، وهذا دليل واضح يدل على أن الكاتب ليس أميناً في نقله ، ولا صادقاً مع نفسه ، ولا مصيباً في دعواه.

* * *

قال الكاتب : لقد قرأت هذه النصوص مراراً ، وفكرتُ فيها كثيراً ، ونقلتها في ملف خاص ، وسهرت الليالي ذوات العدد أُمْعِنُ النظر فيها ـ وفي غيرها الذي بلغ أضعاف أضعاف ما نقلته لك ـ فلم أنتبه لنفسي إلا وأنا أقول بصوت مرتفع : كان الله في عونكم يا أهل البيت على ما لقيتم من شيعتكم.

وأقول : لو كان هذا الكاتب فقيهاً كما يزعم وباحثاً عن الحقيقة كما يدَّعي لاحتج بالأحاديث الصحيحة دون الضعاف والمراسيل ، ولنقل لنا رواية واحدة صحيحة على الأقل تدل على مزاعمه ، لا أن يتخبَّط في الروايات ، فيخبط خبط عشواء ، وينقل ما وقع تحت نظره من غير تمييز بين الصحيح والضعيف ، والحجة وغير الحجة.

فالعجب من مُدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف لا يميِّز بين الغث والسمين ، فيتشبَّث بالأحاديث التي تشكِّكه في معتقده ـ حسب زعمه ـ مع أنها روايات ضعاف ، ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة الكثيرة الواردة في مدح الشيعة وبيان فضلهم ، وهي تبلغ العشرات بل المئات ، ولا سيما أن الأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام في فضلهم قد رواها الخاص والعام ، وهي أشهر من أن تُذكر ، وأظهر من أن تُنْكَر ، حتى ادَّعى بعض أهل السنة أنهم هم الشيعة الممدوحون في

٨٩

الروايات ، كما ادّعى ذلك بعض المعتزلة.

فقال ابن حجر الهيتمي في كتابه (الصواعق المحرقة) : وشيعته [يعني عليّا عليه‌السلام] هم أهل السنّة الذين أحبّوه كما أمر الله ورسوله ، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة ، لأن المحبة الخارجة عن الشرع ، الحائدة عن سنن الهدي هي العداوة الكبرى ، فلذا كانت سبباً لهلاكهم (١).

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : لم تكن لفظة (الشيعة) تُعرف في ذلك العصر إلا لمن قال بتفضيله ـ يعني الإمام عليّا عليه‌السلام ـ ... فكان القائلون بالتفضيل هم المسمَّون الشيعة. وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم ، ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم : نحن الشيعة حقاً. فهذا القول هو أقرب إلى السلامة ، وأشبه بالحق من القولين المقتسمين طرفي الإفراط والتفريط (٢).

فإذا بلغ فضل الشيعة إلى هذا الحد ، فلا أدري ما هو الوجه الذي جعل الكاتب يحتج بالمراسيل التي لا دلالة فيها ، ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة التي فيها كل الدلالة على فضل الشيعة ونجاتهم؟!

* * *

قال الكاتب : نحن نعلم جميعاً ما لاقاه أنبياء الله ورسله عليهم‌السلام من أذى أقوامهم ، وما لاقاه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكني عجبت من اثنين من موسى عليه‌السلام ، وصبره على بني إسرائيل ، إذ نلاحظ أن القرآن الكريم تحدث عن موسى عليه‌السلام أكثر من غيره ، وبَيَّنَ صبره على كثرة أذى بني إسرائيل ومراوغاتهم وحبائلهم ودسائسهم.

وأعجب من أهل البيت سلام الله عليهم على كثرة ما لقوه من أذى من أهل

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، ص ١٨٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٥٢٢.

٩٠

الكوفة وعلى عظيم صبرهم على أهل الكوفة مركز الشيعة ، على خيانتهم لهم ، وغدرهم بهم ، وقتلهم لهم ، وسلبهم أموالهم ، وصبر أهل البيت على هذا كله ، ومع هذا نُلْقِي باللائمة على أهل السنة ، ونُحَمِّلُهُمُ المسئولية!

وأقول : لقد أوضحنا فيما مرَّ أن أهل الكوفة لم يكونوا من الشيعة ، وإنما كانوا من متسنِّني ذلك العصر ، فلا حاجة للإعادة.

ولئن أطال الكاتب في نقل النصوص الدالة على عظيم جرم أهل الكوفة مع الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، إلا أنه لم يذكر لقارئه شيئاً مما فعله أهل الكوفة بالأئمة الآخرين عليهم‌السلام أجمعين ، فلا ندري ما هو وجه اتهامهم بالإساءة إلى كل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام؟!

والعجيب أن الكاتب نسي أو تناسى ما صنعه الأمويون من العداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، مع أن كل ما وقع من أهل الكوفة إنما كان بأمر الأمويين وزبانيتهم.

فهل يرى الكاتب أن من جملة الشيعة : معاوية ، وعمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، والمغيرة بن شعبة ، وبسر بن أرطأة ، وطلحة ، والزبير ومن كان معهم في حروبهم لعلي عليه‌السلام؟!

وهل يرى أن من جملة الشيعة : يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وغيرهم ممن شرك معهم في قتل الحسين عليه‌السلام؟!

إن جرائم بني أمية مع أهل البيت عليهم‌السلام لا ينكرها إلا من أعمى الله قلبه ، وطمس على بصيرته ، وخذله ومَسَخَه.

قال القرطبي : وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] وإبرارهم وتوقيرهم ومحبَّتهم وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في التخلّف عنها. هذا مع ما عُلِم من خصوصيّتهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأنهم جزء منه ، فإنهم أصوله التي نشأ عنها ، وفروعه التي نشَئوا عنه ، كما قال : (فاطمة بضعة مني) ، ومع

٩١

ذلك فقابل بنو أميَّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبَوا نساءهم ، وأسَرُوا صغارهم ، وخربوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبَّهم ولعنهم ، فخالفوا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيَّته ، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيَّته ، فوا خجلهم إذا وقفوا بين يديه ، ويا فضيحتهم يوم يُعرضون عليه (١).

ويكفي القارئ أن يجيل بنظره فيما صنعه علماء أهل السنة من إقصاء أهل البيت عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها ، وجحد فضائلهم ، وإنكار مآثرهم ، حتى قدَّموا عليهم الطلقاء والمنافقين وغير ذوي السابقة ممن عُنُوا بجمع فضائلهم وتدوينها وتصحيحها وبثّها والعناية بها ، حتى كأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاهم بهم دون أهل بيته ، وأمرهم بمودتهم دون الأئمة من عترته.

قال ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الاختلاف في اللفظ) : وتحامى كثير من المحدِّثين أن يحدّثوا بفضائله كرم الله وجهه ، أو يظهروا له ما يجب ، وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح ، وجعلوا ابنه الحسين عليه‌السلام خارجيّاً شاقّا لعصا المسلمين حلال الدم ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من خرج على أمَّتي وهم جميع فاقتلوه كائناً من كان). وسوَّوا بينه في الفضل وبين أهل الشورى ، لأن عمر لو تبين له فضله لقدَّمه عليهم ، ولم يجعل الأمر شورى بينهم ، وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله ، حتى تحامى كثير من المحدِّثين أن يتحدَّثوا بها ، وعُنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص ومعاوية ، كأنهم لا يريدونهما بذلك ، وإنما يريدونه. فإن قال قائل : (أخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سبطيه الحسن والحسين ، وأصحاب الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين) طَرَّتْ حسائك الصدور. وإن ذكر ذاكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من كنت مولاه فعلي مولاه) و (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وأشباه هذا ، التمسوا لتلك الأحاديث المخارج لينتقصوه ويبخسوه حقَّه ، بغضاً منهم للرافضة وإلزاماً لعلي عليه‌السلام بسببهم ما لا

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ١٤.

٩٢

يلزمه (١).

قلت : وهذه الأمور كلها قد أخبر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وقوعها ، فقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك ، ونعيم بن حماد في كتاب (الفتن) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً ، وإن أشد قومنا لنا بُغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (٢).

فانظر أيها القارئ العزيز هل ابتلي أهل البيت عليهم‌السلام بشيعتهم ومحبِّيهم الذين اتبعوهم وفضَّلوهم على غيرهم ، أو بأعدائهم ومبغضيهم الذين سفكوا دماءهم وجحدوا مآثرهم؟

* * *

هل طعن الشيعة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته؟

قال الكاتب : وعند ما نقرأ في كتبنا المعتبرة نجد فيها عجباً عُجاباً ، قد لا يُصَدِّقُ أَحدنا إذا قلنا : إِن كتبنا معاشر الشيعة ـ تطعنُ بأهل البيت عليهم‌السلام ، وتطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك البيان :

عن أمير المؤمنين رضي الله عنه أن غفيراً ـ حمارَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال له : بأبي أنت وأُمي ـ يا رسول الله ـ إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه : (أنه كان مع نوح في السفينة ، فقام إليه نوح فمسح على كفله ، ثمّ قال : يخرج من صلب هذا الحمار حمارٌ يركبه سيدُ النبيين وخاتمهم ، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار) أصول الكافي ١ / ٢٣٧.

__________________

(١) الاختلاف في اللفظ ، ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٥٣٤ ، طبعة حيدرآباد ٤ / ٤٨٧. الفتن لنعيم بن حماد ، ص ٨٣.

٩٣

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند بالإرسال ، مع أن من جملة رواتها سهل بن زياد الآدمي ، وقد مرَّ بيان حاله.

قال المجلسي في مرآة العقول : ضعيف وآخره مرسل (١).

والعجيب من مدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف يحتج بالروايات الضعاف التي لا يميِّزها عن غيرها مع أن الإرسال فيها واضح جلي.

* * *

قال الكاتب : هذه الرواية تفيدنا بما يأتي :

١ ـ الحمار يتكلم!

٢ ـ الحمار يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله فداك أبي وأمي! مع أن المسلمين هم الذين يفدون رسول الله صلوات الله عليه بآبائهم وأمهاتهم لا الحمير.

٣ ـ الحمار يقول : (حدثني أبي عن جدي إلى جده الرابع) مع أن بين نوح ومحمد أُلُوفاً من السنين ، بينما يقول الحمار ان جده الرابع كان مع نوح في السفينة.

وأقول : بعد معرفة ضعف الرواية فالكلام فيها فضول ، ولكن يمكن أن نقول مع ذلك : إنه لا مانع من أن يتكلم الحمار بنحو الإعجاز ، كما تكلم الهدهد لسليمان ، وهذا لا محذور فيه.

وأما قوله : (فداك أبي وأمي) ، فهي من العبارات التي يراد بها الإجلال والتكريم ، سواء أكانت صادرة من إنسان أم من حيوان بنحو الإعجاز ، فلا محذور فيها لو صدرت من بهيمة.

قال ابن الأثير في كتابه النهاية بعد أن ساق قول من خاطب الله سبحانه بعبارة الفداء : إطلاق هذا اللفظ مع الله تعالى محمول على المجاز والاستعارة ، لأنه إنما يُفدَّى

__________________

(١) مرآة العقول ٣ / ٤٨.

٩٤

من المكاره من تلحقه ، فيكون المراد بالفداء التعظيم والإكبار ، لأن الإنسان لا يُفدِّي إلا من يُعَظِّمه ، فيبذل نفسه له (١).

وأما كون الحمار يحدِّث بذلك عن جده الرابع مع أن بين نوح ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آلاف السنين ، فلا محذور فيه إن كان بنحو الإعجاز ، فكما طالت أعمار كثير من البشر ، فما المانع في إطالة أعمار بعض البهائم؟

ثمّ إن ما يشبه هذا الحديث موجود في كتب أهل السنة ، فقد ذكر ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) في معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يلي :

عن أبي منظور قال : لما فتح الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال ، وأربعة أزواج خفاف ، وعشر أواق ذهب وفضة ، وحمار أسود ومكتل ، قال : فكلَّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمار فكلَّمه الحمار ، فقال له : ما اسمك؟ قال : يزيد بن شهاب ، أخرج الله من نسل جدي ستين حماراً ، كلهم لم يركبهم إلا نبي ، لم يبق من نسل جدي غيري ، ولا من الأنبياء غيرك ، وقد كنتُ أتوقعك أن تركبني ، قد كنت قبلك لرجل يهودي ، وكنت أعثر به عمداً ، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سمَّيتك يعفور ، يا يعفور. قال : لبيك. قال : تشتهي الإناث؟ قال : لا. فكان النبي يركبه لحاجته ، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل ، فيأتي الباب فيقرعه برأسه ، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى بئر كان لأبي الهيثم بن النبهان ، فتردَّى فيها فصارت قبره ، جزعاً منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وهذا الحديث فيه ملاحظات كثيرة لا نرى أهمية في بيانها.

وأحاديث تكلم البهائم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب أهل السنة كثيرة ، واستيفاؤها يستلزم الإطالة ، ولكن لا بأس بنقل بعضها للقارئ العزيز :

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ٣ / ٤٢٢.

(٢) البداية والنهاية ٦ / ١٥٨. شمائل الرسول ، ص ٣٥٤. الخصائص الكبرى ٢ / ٦٤.

٩٥

منها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في دلائل النبوة ، عن مسند أحمد بن حنبل ، بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : عدا الذئب على شاة فأخذها ، فطلبه الراعي فانتزعها منه ، فأقعى الذئب على ذنبه فقال : ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟ فقال : يا عجبي ذئب يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال : فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة ، فزواها إلى زاوية من زواياها ، ثمّ أتى رسول الله فأخبره ، فأمر رسول الله فنودي : (الصلاة جامعة). ثمّ خرج فقال للراعي : أخبرْهم. فأخبرَهم ، فقال رسول الله : صدق والذي نفس محمد بيده ، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده (١).

قال ابن كثير في البداية والنهاية : وهذا إسناد على شرط الصحيح وقد صحَّحه البيهقي (٢).

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

ومنها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما بسندهما عن يعلى بن مرة ، عن أبيه ـ في حديث طويل قال ـ : ثمّ أتاه [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] بعير فقام بين يديه ، فرأى عينيه تدمعان ، فبعث إلى أصحابه ، فقال : ما لبعيركم هذا يشكوكم؟ فقالوا : كنا نعمل عليه ، فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غداً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون معها (٣).

__________________

(١) صحيح ابن حبان ١٤ / ٤١٨. مسند أحمد ٣ / ٨٣. المستدرك ٤ / ٥١٤ ، ط حيدرآباد ٤ / ٤٦٨. دلائل النبوة للبيهقي ٦ / ٤١ وصحَّحه. سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٢٤١ ح ١٢٢ وقال : هذا سند صحيح ، رجاله ثقات.

(٢) البداية والنهاية ٦ / ١٥٠. شمائل الرسول ، ص ٣٣٩.

(٣) المستدرك ٢ / ٦٧٤. دلائل النبوة ٦ / ٢١.

٩٦

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة.

ومنها : ما أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى عن الطبراني في الأوسط والصغير ، وابن عدي ، والحاكم في المعجزات ، والبيهقي وأبي نعيم ، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبّا ، فقال : واللات والعزى لا آمنتُ بك حتى يؤمن بك هذا الضب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مَن أنا يا ضب؟ فقال الضب بلسان عربي مبين يفهمه القوم جميعاً : لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين. قال : من تعبد؟ فقال : الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه. قال : فمن أنا؟ قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح مَن صدَّقك ، وقد خاب مَن كذّبك. فأسلم الأعرابي (١).

إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، فراجع ما كتبه البيهقي في دلائل النبوة ، وابن كثير في البداية والنهاية وشمائل الرسول ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، والسيوطي في الخصائص الكبرى وغيرهم ، فستجد روايات كثيرة في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع البعير ، والظبية ، والضب ، والذئاب ، والوحش ، والحُمَّرة التي فُجعت ببيضها وفرخيها وغيرها (٢).

ونحن لا نستبعد وقوع مثل هذه الأمور على نحو الإعجاز ، ولكن نتعجب ممن يتغافل عن كل هذه الأحاديث ، ويعيب الشيعة بحديث ضعيف سنداً ومتناً.

والعجيب أن الكاتب ذكر هذا الحديث للتدليل على أن الشيعة يعيبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبهم ، وأقصى ما في الحديث أن الحمار قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فداك أبي وأمي). وقد أوضحنا فيما مرَّ عدم دلالته على ذلك.

__________________

(١) الخصائص الكبرى ٢ / ٦٥. مجمع الزوائد ٨ / ٢٩٣. المعجم الصغير ٢ / ٦٤. شمائل الرسول ، ص ٣٥١.

(٢) دلائل النبوة ٦ / ١٨ ـ ٤٤. شمائل الرسول ، ص ٣٢١ ـ ٣٥٥. البداية والنهاية ٦ / ١٤١ ـ ١٥٩. مجمع الزوائد ٩ / ٣ ـ ١١ ، ٨ / ٢٩١ ـ ٢٩٤. الخصائص الكبرى ٢ / ٥٦ ـ ٦٥.

٩٧

وتعامى عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي امتلأت بها كتب أهل السنة والتي اشتملت على عيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمزه ونسبة ما لا يليق به إليه.

منها : ما دلَّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدَّم لغيره طعاماً ذُبح على الأنصاب : فقد أخرج البخاري عن سالم أنه سمع عبد الله يحدِّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَح ، وذاك قبل أن يُنَزَّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي ، فقدَّم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سُفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، وقال : إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه (١).

ومنها : ما دلَّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هَمَّ بالصلاة جُنُباً : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أنه قال : أُقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياماً ، فخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جُنُب ، فقال لنا : مكانَكم. ثمّ رجع فاغتسل ، ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبَّر فصلّينا معه (٢).

وأخرج أبو داود والبيهقي في سننهما ، وابن حبان في صحيحه ، وأحمد في مسنده وغيرهم عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل في صلاة الفجر ، فأومأ بيده أنْ مكانَكم. ثمّ جاء ورأسه يقطر ، فصلّى بهم (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ١١٨ ، ط محققة ٤ / ١٧٧٠. مسند أحمد ٢ / ٦٨ ، ٨٩ ، ١٢٧. السنن الكبرى للبيهقي ٩ / ٢٤٩. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٥٥. المعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٢٩٨. الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ / ٣٨٠.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٧٤ ، ١٥٥ ، ط محققة ١ / ١٠٧ ، ٢٠٥. صحيح مسلم ١ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣. صحيح ابن خزيمة ٣ / ٦٢. صحيح ابن حبان ٦ / ٧. سنن أبي داود ١ / ٦١. صحيح سنن أبي داود ١ / ٤٦. سنن النسائي ٢ / ٨١ ، ٨٩ ، ط محققة ٢ / ٤١٦ ، ٤٢٣. صحيح سنن النسائي ١ / ١٧١ ، ١٧٥. السنن الكبرى للبيهقي ٢ / ٣٩٨. مسند أحمد ٢ / ٥١٨. مسند أبي عوانة ١ / ٣٧٠ ، ٣٧١.

(٣) سنن أبي داود ١ / ٦٠. صحيح سنن أبي داود ١ / ٤٥. صحيح ابن حبان ٦ / ٥. مسند أحمد ٥ / ٤٥. السنن الصغرى للبيهقي ١ / ١٧٨. السنن الكبرى له ٢ / ٣٩٧.

٩٨

وفي مسند أحمد بسنده عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استفتح الصلاة فكبَّر ، ثمّ أومأ إليهم أنْ مكانكم. ثمّ دخل فخرج ورأسه يقطر ، فصلى بهم ، فلما قضى الصلاة قال : إنما أنا بشر ، وإني كنت جنباً (١).

ومنها : ما دل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغضب ويسب ويلعن بغير حق : فقد أخرج مسلم وغيره عن عائشة ، قالت : دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان فكلّماه بشيء لا أدري ما هو ، فأغضباه فلعنهما وسبَّهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله مَن أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان. قال : وما ذاك؟ قالت : قلت : لعنتَهما وسببتَهما. قال : أوَما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت : اللهم إنما أنا بَشَر ، فأي المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعله له زكاة وأجراً (٢).

وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إنما أنا بشَر ، فأيما رجل من المسلمين سببتُه أو لعنتُه أو جلدتُه فاجعلها له زكاة ورحمة (٣).

ومنها : ما دلَّ على أن النبي يبول قائماً : فقد أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة ، قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سباطة قوم فبال قائماً ، ثمّ دعا بماء ، فجئته بماء فتوضأ (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٤١.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ٢٠٠٧. مسند إسحاق بن راهويه ٣ / ٨١٩. السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٦١. المصنف لابن أبي شيبة ٦ / ٧٢.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ٢٠٠٧. المصنف لابن أبي شيبة ٦ / ٧٢. وراجع صحيح البخاري ٨ / ٩٦ ، ط محققة ٤ / ١٩٩٩. كتاب الدعوات ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٦٤ ، ٣ / ١٧٧ ، ط محققة ١ / ٩٣ ، ٢ / ٧٤٢. صحيح مسلم ١ / ٢٢٨. صحيح ابن خزيمة ١ / ٣٥. صحيح ابن حبان ٤ / ٢٧٢ ـ ٢٧٩. سنن النسائي ١ / ٣٠. صحيح سنن النسائي ١ / ٧ ، ٨. سنن ابن ماجة ١ / ١١١ ، ١١٢. صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٥٦. سنن الترمذي ١ / ١٩. سنن أبي داود ١ / ٦. صحيح سنن أبي داود ١ / ٨. سنن الدارمي ١ / ١٨١. مسند أحمد ٥ / ٣٨٢ ، ٣٩٤ ، ٤٠٢. المصنف لعبد الرزاق ١ / ١٥٢. المصنف لابن أبي شيبة ١ / ١١٥. شرح السنة للبغوي ١ / ٣٨٦ وقال : هذا حديث متفق على صحَّته. مسند الحميدي ١ / ٢١٠. السنن الكبرى للبيهقي ١ / ١٠٠ ـ ١٠١ ، ٢٧٠ ، ٢٧٤. المستدرك للحاكم ١ / ١٨٢ ، ١٨٥ ط جديدة ١ / ٢٩٠ ، ٢٩٥. السنن الكبرى للنسائي ١ / ٦٧ ، ٦٨. المعجم الكبير ١٧ / ١٧٩ ، ٢٠ / ٤٠٥ ، ٤٠٦ وغيرها كثير.

٩٩

ومنها : ما دلَّ على أن النبي أظهر عورته أمام الناس : فقد أخرج البخاري ومسلم ـ واللفظ له ـ وغيرهما عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمُّه : يا ابن أخي ، لو حللتَ إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة. قال : فحلَّه فجعله على منكبه ، فسقط مغشياً عليه ، قال : فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً (١).

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد وابن حبان وأبو عوانة وغيرهم بأسانيدهم عن جابر بن عبد الله أنه قال : لما بُنِيت الكعبة ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعباس ينقلان حجارة ، فقال عباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل ، فخَرَّ إلى الأرض ، وطمحتْ عيناه إلى السماء ، ثمّ قام فقال : إزاري إزاري. فشدَّ عليه إزاره (٢).

ومنها : ما دلَّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع الغناء : فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة : أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في أيام منى ، تدفِّفان وتضربان والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مُتَغَشٍّ بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وجهه فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد. وتلك الأيام أيام منى (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٥١ ، ط محققة ١ / ١٣٦. صحيح مسلم ١ / ٢٦٨. مسند أحمد ٣ / ٣١٠ ، ٣٣٣. مسند أبي عوانة ١ / ٢٣٧. السنن الكبرى للبيهقي ٢ / ٢٢٧. مسند أبي يعلى ٢ / ٣٤٦. حلية الأولياء ٣ / ٣٤٩. شعب الإيمان ٦ / ١٥١.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١١٧١. صحيح مسلم ١ / ٢٦٨. صحيح ابن حبان ٤ / ٤٨١ ، ٥١ / ٥٢٧. مسند أحمد ٣ / ٢٩٥ ، ٣٨٠. مسند أبي عوانة ١ / ٢٣٧. المصنف لعبد الرزاق ١ / ٢٢٠.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ٢٠ ، كتاب العيدين ، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين ، وراجع أيضاً

١٠٠