لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

قال الكاتب : وأن أهل السنة ناصبوا أهل البيت العداء ، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب ، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد عليه‌السلام.

وأقول : النواصب هم الذين تجاهروا ببغض أهل البيت عليهم‌السلام وعداوتهم ، دون من أبغضوهم من غير تجاهر ومعاداة.

وهم عندنا كفار أنجاس ، لا حرمة لهم ولا كرامة.

لكن الكلام في أن أهل السنة قاطبة هل هم نواصب أم لا؟

والقول المختصر في هذه المسألة هو أن كل من تجاهر بعداوة أهل البيت عليهم‌السلام بثلبهم وسبِّهم وإيذائهم وحربهم وقتلهم وجحد مناقبهم ، وإزاحتهم عن مناصبهم ونحو ذلك ، فهو ناصبي كائناً من كان ، وسواءً أكان صحابياً أم كان تابعياً ، أم كان من علماء أهل السنة أم من عوامّهم.

وأما الحكم على أهل السنة قاطبة بأنهم نواصب فلا نقول به ، والمشهور على خلافه ، لأن ما جرى على أهل البيت عليهم‌السلام من الظلم والجور لم يشترك فيه كل الماضين من أهل السنة والمعاصرين.

بل إنّا نعلم علماً قطعياً أن كثيراً من أهل السنة يحبّون أهل البيت عليهم‌السلام ويودُّونهم ، فكيف يصح الحكم على من يحبّهم بأنه ناصبي؟!

وأما تشخيص نصب شخص منهم أو من غيرهم فيحتاج إلى دراسة أحواله وسبر أقواله الدالة بالقطع واليقين على نصبه ، لا بمجرد الأوهام والخيالات والظنون ، فمن ثبت نصبه حكمنا به ، وإلا فلا يجوز لأحد أن يتَّهم مسلماً بهذا الذنب العظيم من غير بيِّنة شرعية صحيحة.

* * *

قال الكاتب : ولكن كتبنا المعتبرة عندنا تبين لنا الحقيقة ، إذ تذكر لنا تَذَمُّرَ أهل

٦١

البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم ، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت ، وتذكر لنا مَن الذي سفك دماء أهل البيت عليهم‌السلام ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم.

وأقول : تذمُّر بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من بعض شيعتهم أو غيرهم لا يعني نصباً ، ولا يدل على عداوة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذمَّر من بعض صحابته في وقائع مختلفة ، وغضب من أفعال بعضهم ، ولم يخرجهم ذلك عن دينهم ، أو يجعلنا نحكم عليهم بنصب أو نفاق.

وأما من تسبب في مقتل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام واستباحة دمائهم فهم أعداؤهم ، لا شيعتهم ومحبّوهم ، كما سيتضح ذلك من خلال كلامنا الآتي إن شاء الله تعالى.

* * *

قال الكاتب : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (لو مَيَّزْتُ شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة ، ولو امتحنتُهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تَمَحَّصْتُهم لما خلص من الألف واحد) (الكافي / الروضة ٨ / ٣٣٨).

وأقول : إن مدعي الاجتهاد والفقاهة ظن أن أبا الحسن عليه‌السلام الذي رُوي عنه هذا الحديث ، هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مع أنه من البديهيات عند طلبة العلم أن أبا الحسن الوارد في الروايات يُراد به الإمام الكاظم سلام الله عليه ، فمرحباً بهذا المجتهد الذي نال درجة الاجتهاد بتفوق!!

هذا مع أن هذا الحديث ضعيف السند جداً ، فإن من جملة رواته محمد بن سليمان ، وهو محمد بن سليمان البصري الديلمي ، وهو ضعيف جداً.

قال المحقق السيد الخوئي في (معجم رجال الحديث) : ولا شك في انصراف

٦٢

محمد بن سليمان إلى البصري الديلمي ، فإنه المعروف المشهور (١).

قال النجاشي : محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي ، ضعيف جداً ، لا يُعوَّل عليه في شيء (٢).

وقال في ترجمة أبيه : سليمان بن عبد الله الديلمي أبو محمد ... وقيل : كان غالياً كذَّاباً ، وكذلك ابنه محمد ، لا يُعمل بما انفردا به من الرواية (٣).

وقال الشيخ في رجاله : له كتاب ، يُرمى بالغلو (٤).

وقال العلامة في رجاله : ضعيف جداً لا يعوَّل عليه في شيء (٥).

ومن رواة هذا الحديث أيضاً : إبراهيم بن عبد الله الصوفي ، وهو رجل مجهول ، لم يُترجَم في كتب الرجال.

ومن جملة رواته أيضاً : موسى بن بكر الواسطي ، وهو لم يوثَّق في كتب الرجال ، بل قال الشيخ الطوسي قدس‌سره في رجاله : موسى بن بكر الواسطي ، أصله كوفي ، واقفي (٦).

هذا من ناحية السند ، وأما من ناحية متن الحديث ومعناه فنقول :

لقد كان كثير من المسلمين في زمان الأئمة عليهم‌السلام يدَّعون أنهم من شيعة علي عليه‌السلام خاصة أو أهل البيت عليهم‌السلام عامَّة (٧) ، ولكنهم لم يكونوا كذلك ، لأن شيعتهم هم

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٦ / ١٣٤.

(٢) رجال النجاشي ٢ / ٢٦٩.

(٣) نفس المصدر ١ / ٤١٢.

(٤) رجال الطوسي ، ص ٣٤٣.

(٥) رجال العلامة ، ص ٢٥٥.

(٦) رجال الطوسي ، ص ٣٤٣.

(٧) لقد استمر هذا الادِّعاء حتى إلى ما بعد عصورهم ، فلا تعدم من يزعم أن أهل السنة أو المعتزلة أو غيرهم ، هم شيعة علي عليه‌السلام كما سيأتي نقله عن ابن حجر الهيتمي وابن أبي الحديد المعتزلي.

٦٣

أتباعهم بالقول والفعل ، لا بالادِّعاء فقط.

وعليه فالمراد بالحديث هو أني (لو ميَّزتُ) أي لو أردت أن أَفْصِل (شيعتي) أي الذين يزعمون أنهم من شيعتنا وأتباعنا ـ وهم ليسوا كذلك ـ عن غيرهم ممن شايعنا حقيقة ، (لما وجدتُهم إلا واصفة) أي لما وجدتُ هؤلاء شيعة لنا ، بل وجدتهم واصفين أنفسهم بمشايعتنا ومُدَّعين لها ، مع أنهم ليسوا كذلك ، لأنهم لا يعتقدون بإمامتنا ، ولا يقتدون بنا ، لا في أقوالنا ولا في أفعالنا.

(ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين) أي لو أني امتحنتُ هؤلاء الذين يزعمون أنهم لنا شيعة ، بأن ذكرتُ لهم مذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل ، لما وجدتهم إلا مُنكِرين علينا مذهبنا ، وتاركين ادّعاء التشيع لنا ، وراجعين عن القول بموالاتنا ومحبَّتنا.

(ولو تمحَّصتُهم لما خلص من الألف واحد) ، أي لو أني محَّصتُ هؤلاء بالامتحان ، وأمرتُهم ببذل المال من أجلنا ، والتضحية بالنفس في سبيلنا لما خلص منهم أحد ، لأنهم يدَّعون التشيع لنا من دون أن يكونوا لنا شيعة حقيقة.

ويدل على ما قلناه من معنى الحديث قوله عليه‌السلام بعد ذلك : (ولو غربلتُهم غربلة لم يبقَ منهم إلا ما كان لي ، إنهم طالما اتّكوا على الأرائك ، فقالوا : «نحن شيعة علي» ، إنما شيعة علي من صدق قولَه فعلُه).

أي لو أني اختبرتهم لوجدتهم يتَّبعون غيرنا ويوالون أعداءنا ، ولم يبق مِن هؤلاء الذين يدَّعون التشيع لنا إلا شيعتنا الذين يوالوننا ويأخذون بقولنا ويقتدون بنا ، وأما المدَّعون الذين يوالون غيرنا فهؤلاء ليسوا من شيعتنا ، لأن شيعة علي عليه‌السلام هم الذين شايعوا عليّا وأهل بيته عليهم‌السلام بالقول والفعل ، لا بالقول دون الفعل.

ومنه يتضح أن كلام الإمام عليه‌السلام ـ لو صحَّ الحديث ـ ليس ناظراً للشيعة الذين يعتقدون بإمامتهم ويوالونهم حقيقة ، وإنما أراد عليه‌السلام أن ينفي تشيع أهل الخلاف

٦٤

المدَّعين أنهم من شيعتهم عليهم‌السلام.

ولو سلمنا أن المراد بالحديث هو ذَمّ الشيعة فإن الذم المتوجِّه إليهم إنما هو بسبب عدم اقتدائهم بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام في سلوكهم وأفعالهم من الاستقامة والصلاح والتقوى والورع ، ولا يراد أنهم كانوا منحرفين عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قولاً واعتقاداً.

وحال هذا الكلام حال من يقول : إن المسلمين اليوم لا يطبقون الإسلام ، ولا يعملون بالقرآن ، ولو امتحنتهم لوجدتهم كلهم مسلمين بالاسم فقط ، ولما خلص من الألف واحد.

وهو كلام يُراد به ذمّ المسلمين من جهة سلوكهم وأعمالهم ، لا من حيث اعتقادهم وأحكامهم ، ولا يراد به أنهم مبطلون وغيرهم محق.

* * *

قال الكاتب : وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا أشباه الرجال ولا رجال ، حُلوم الأطفال ، وعقول رَبَّات الحِجال ، لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة حزتُ والله ندماً ، وأعتبت صدماً (١) ... قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجَرَّعْتُموني نغب التهام (٢) أنفاسنا ، وأفسدتم عَلَيّ رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب ، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع) نهج البلاغة ٧٠ ، ٧١.

وقال لهم مُوَبِّخا : مُنِيتُ بكم بثلاث ، واثنتين :

__________________

(١) في نهج البلاغة ، ص ٥٨ خطبة رقم ٢٧ : (ولم أعرفكم معرفة والله جرَّتْ نَدَماً ، وأعقبتْ سدماً). أي أعقبت همّا مع أسف أو غيظ.

(٢) في نهج البلاغة : (نُغَب التهمام أنفاسا). أي جُرَع الهَم.

٦٥

(صُمٌّ ذَوو أسماع ، وبُكْمٌ ذَوو كلام ، وعُمْي ذوو أبصار ، لا أحرارَ وصِدْقَ (١) عند اللقاء ، ولا إِخوانَ ثقَةٍ عند البلاء .. قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلِها) نهج البلاغة ص ١٤٢.

قال لهم ذلك بسبب تَخَاذُلِهِم وغَدرِهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، وله فيهم كلام كثير.

وأقول : هذه الكلمات وأمثالها إنما صدرت من أمير المؤمنين عليه‌السلام في مقام ذم من كان معه في الكوفة ، وهم الناس الذين كان يحارب بهم معاوية ، وهم أخلاط مختلفة من المسلمين ، وأكثرهم من سواد الناس ، لا من ذوي السابقة والمكانة في الإسلام.

ولم يكن عليه‌السلام يخاطب خصوص شيعته وأتباعه ، ليتوجَّه الذم إليهم كما أراد الكاتب أن يصوِّر لقارئه أن من كان مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في حروبه الثلاثة إنما هم شيعته.

ولو سلَّمنا بما قاله الكاتب فإن أهل السنة حينئذ أولى بالذم من الشيعة ، وذلك لأنّا إذا فرضنا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يخاطب خصوص شيعته في الكوفة ، وكان يذمّهم على تقاعسهم في قتال معاوية ، فلنا أن نسأل :

إذا لم يكن أهل السنة مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في قتال معاوية ، فأين كانوا حينئذ؟

وحالهم لا يخلو من ثلاثة أمور :

إما أن يكونوا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في الكوفة ، فيكون الذم شاملاً لهم كما شمل غيرهم.

وإما أن يكونوا مع معاوية وفئته الباغية ، وحال هؤلاء أسوأ من حال أصحابه الذين ذمَّهم.

__________________

(١) في نهج البلاغة : لا أحرارَ صِدْقٍ.

٦٦

وإما أن يكونوا قد اعتزلوا عليّا عليه‌السلام ومعاوية ، وحينئذ فهم أولى بالذم ممن خاضوا معه حروبه الثلاثة وأبلوا فيها بلاءً حسناً ، إلا أنهم بسبب كثرة الحروب وطول المدة اعتراهم الملالة والسأم والضعف الذي جعل أمير المؤمنين عليه‌السلام يذمّهم ويوبِّخهم.

والحاصل أن أهل السنة إن كانوا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام أو مع معاوية أو كانوا معتزلين ، فالذم شامل لهم على كل حال ، وأحسن القوم حالاً هم الذين كانوا معه عليه‌السلام في حروبه ، وإن كانوا مقصِّرين في نصرته.

* * *

قال الكاتب : وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته : (اللهم إن مَتَّعْتَهم إلى حين فَفَرِّقْهم فِرَقاً ، واجعلهم طرائق قدَداً ، ولا تُرْضِ الوُلاةَ عنهم أبداً ، فإنهم دَعَوْنا لِينصرونا ، ثمّ عَدَوا علينا فقتلونا) الإرشاد للمفيد ص ٢٤١.

وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم ، فكان مما قال : (لكنكم استسرعتم (١) إلى بيعتنا كطيرة الدباء ، وتهافَتُّم كتَهَافُت الفرش (٢) ، ثمّ نقضتموها ، سفَهاً (٣) وبُعداً وسُحقاً لطواغيت هذه الأمة ، وبقية الأحزاب ، وَنَبَذةِ الكتاب ، ثمّ أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا ، وتقتلوننا ، ألا لعنة الله على الظالمين) (٤) الاحتجاج ٢ / ٢٤.

وهذه النصوص تبين لنا مَن هم قَتَلَةُ الحُسين الحقيقيون ، إنهم شيعته أهل الكوفة ، أيْ : أجدادُنا ، فلما ذا نُحَمِّلُ أهل السنة مسئولية مقتل الحسين رضي الله عنه؟!

__________________

(١) في المصدر : أسرعتم.

(٢) في المصدر : الفراش.

(٣) في المصدر : سفهاً وضلة ، فبعداً.

(٤) لقد حرَّف الكاتب النص ، فأدرج فيه قوله : (ثمّ أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا). وقوله : (ألا لعنة الله على الظالمين) جاء في النص بعد عدة أسطر.

٦٧

وأقول : كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام المذكورة إنما قالها لأولئك القوم المجتمعين على قتله في كربلاء ، وهم أخلاط من الناس استنفرهم عبيد الله بن زياد لقتل الحسين عليه‌السلام ، ولم يكونوا من الشيعة ، بل ليس فيهم شيعي واحد معروف ، فكيف يصح أن يقال : إن قتلة الحسين كانوا من الشيعة؟

ويمكن إيضاح هذه المسألة بعدة أمور :

أولاً : أن القول بأن الشيعة قتلوا الحسين عليه‌السلام فيه تناقض واضح ، وذلك لأن شيعة الرجل هم أنصاره وأتباعه ومحبّوه ، وأما قتلته فليسوا كذلك ، فكيف تجتمع فيهم المحبة والنصرة له مع حربه وقتله؟!

ولو سلَّمنا جدلاً بأن قتلة الحسين كانوا من الشيعة ، فإنهم لما اجتمعوا لقتاله فقد انسلخوا عن تشيعهم ، فصاروا من غيرهم ، ثمّ قتلوه.

وثانياً : أن الذين خرجوا لقتال الحسين عليه‌السلام كانوا من أهل الكوفة ، والكوفة في ذلك الوقت لم يكن يسكنها شيعي معروف بتشيعه ، فإن معاوية لما ولَّى زياد بن أبيه على الكوفة تعقَّب الشيعة وكان بهم عارفاً ، فقتلهم وهدم دورهم وحبسهم حتى لم يبق بالكوفة رجل واحد معروف بأنه من شيعة علي عليه‌السلام.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة : (أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته). فقامت الخطباء في كل كُورة وعلى كل منبر يلعنون عليّا ويبرءون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة علي عليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سُميّة ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كل حَجَر ومَدَر وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسَمَل العيون وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم

٦٨

عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم (١).

إلى أن قال : ثمّ كتب إلى عمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحب عليّا وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة أخرى : (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكِّلوا به ، واهدموا داره). فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه في العراق ، ولا سيما الكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إليه سرَّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه.

إلى أن قال : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه‌السلام ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض (٢).

وأخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : كان زياد يتتبع شيعة علي رضي الله عنه فيقتلهم ، فبلغ ذلك الحسن بن علي رضي الله عنه فقال : اللهم تفرَّد بموته ، فإن القتل كفارة (٣).

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء :

قال أبو الشعثاء : كان زياد أفتك من الحجاج لمن يخالف هواه.

وقال : قال الحسن البصري : بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبَّع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم ، فدعا عليه. وقيل : إنه جمع أهل الكوفة ليعرضهم على البراءة من أبي الحسن ، فأصابه حينئذ طاعون في سنة ثلاث وخمسين (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥ ، الطبعة المحققة ١١ / ٤٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٥. وبمعناه في كتاب سليم بن قيس ، ص ٣١٨. ونقله عنه الطبرسي في الاحتجاج ٢ / ١٧. والمجلسي في بحار الأنوار ٤٤ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٣) المعجم الكبير للطبراني ٣ / ٦٨. مجمع الزوائد ٦ / ٢٦٦ قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٩٦.

٦٩

وقال ابن الأثير في الكامل : وكان زياد أول من شدد أمر السلطان ، وأكّد الملك لمعاوية ، وجرَّد سيفه ، وأخذ بالظنة ، وعاقب على الشبهة ، وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً (١).

وقال ابن حجر في لسان الميزان : وكان زياد قوي المعرفة ، جيد السياسة ، وافر العقل ، وكان من شيعة علي ، وولَّاه إمرة القدس ، فلما استلحقه معاوية صار أشد الناس على آل علي وشيعته ، وهو الذي سعى في قتل حجر بن عدي ومن معه (٢).

من كل ذلك يتضح أن الكوفة لم يبق بها شيعي معروف خرج لقتال الحسين عليه‌السلام ، فكيف يصح ادِّعاء الكاتب بأن الشيعة هم الذين قتلوا الحسين عليه‌السلام؟

ولا يمكن أن يتوهم منصف أن من كتب للحسين عليه‌السلام هم شيعته ، لأن من كتب للحسين لم يكونوا معروفين بتشيع ، كشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، وعمرو ابن الحجاج وغيرهم.

ثالثاً : أن الذين قتلوا الحسين عليه‌السلام رجال معروفون ، وليس فيهم شخص واحد معروف بتشيعه لأهل البيت عليهم‌السلام.

منهم : عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، وحرملة بن كاهل ، وغيرهم. وكل هؤلاء لا يُعرفون بتشيع ولا بموالاةٍ لعلي عليه‌السلام.

رابعاً : أن الحسين عليه‌السلام قد وصفهم في يوم عاشوراء بأنهم شيعة آل أبي سفيان ، فقال عليه‌السلام : ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٤٥٠.

(٢) لسان الميزان ٢ / ٤٩٥.

(٣) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٣٨. بحار الأنوار ٤٥ / ٥١. اللهوف في قتلى الطفوف ، ص ٤٥.

٧٠

ولم نرَ بعد التتبع في كل كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء وخُطَبه في القوم واحتجاجاته عليهم أنه وصفهم بأنهم كانوا من شيعته أو من الموالين له ولأبيه.

كما أنّا لم نرَ في كلمات غيره عليه‌السلام من وصفهم بهذا الوصف. وهذا دليل واضح على أن هؤلاء القوم لم يكونوا من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يكونوا من مواليهم.

خامساً : أن القوم كانوا شديدي العداوة للحسين عليه‌السلام ، إذ منعوا عنه الماء وعن أهل بيته ، وقتلوه سلام الله عليه وكل أصحابه وأهل بيته ، وقطعوا رءوسهم ، وداسوا أجسامهم بخيولهم ، وسبوا نساءهم ، ونهبوا ما على النساء من حلي ... وغير ذلك.

قال ابن الأثير في الكامل : ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه مَن ينتدب إلى الحسين فيُوطئه فرسه ، فانتدب عشرة ، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي ، وهو الذي سلب قميص الحسين ، فبرص بعدُ ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره (١).

وقال : وسُلِب الحسين ما كان عليه ، فأخذ سراويله بحر بن كعب ، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته ، وهي من خزّ ، فكان يُسمَّى بعدُ (قيس قطيفة) ، وأخذ نعليه الأسود الأودي ، وأخذ سيفه رجل من دارم ، ومال الناس على الورس والحلل فانتهبوها ، ونهبوا ثقله وما على النساء ، حتى إن كانت المرأة لتنزع الثوب من ظهرها فيؤخذ منها (٢).

وقال ابن كثير في البداية والنهاية فيما رواه عن أبي مخنف :

وقال : وأخذ سنان وغيره سلبه ، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله ، وما في خبائه حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.

وقال : وجاء عمر بن سعد فقال : ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد ، ولا يقتل

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٤ / ٨٠.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٧٩.

٧١

هذا الغلام أحد ، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليردّه عليهم. قال : فوالله ما ردَّ أحد شيئاً (١).

وكل هذه الأفعال لا يمكن صدورها إلا من حاقد شديد العداوة ، فكيف يُتعقَّل صدورها من شيعي مُحِب؟!

سادساً : أن بعض قتَلَة الحسين قالوا له عليه‌السلام : إنما نقاتلك بغضاً لأبيك (٢).

ولا يمكن تصوّر تشيع هؤلاء مع تحقق بغضهم للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام!

وقال بعضهم : يا حسين ، يا كذاب ابن الكذاب (٣).

وقال آخر : يا حسين أبشر بالنار (٤).

وقال ثالث للحسين عليه‌السلام وأصحابه : إنها ـ يعني الصلاة ـ لا تُقْبَل منكم (٥).

وقالوا غير هذه من العبارات الدالة على ما في سرائرهم من الحقد والبغض لأمير المؤمنين وللحسين عليهما‌السلام خاصة ولأهل البيت عليهم‌السلام عامة.

سابعاً : أن المتأمِّرين وأصحاب القرار لم يكونوا من الشيعة ، وهم يزيد بن معاوية ، وعبيد الله بن زياد ، وعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، وقيس بن الأشعث بن قيس ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وعبد الله بن زهير الأزدي ، وعروة بن قيس الأحمسي ، وشبث بن ربعي اليربوعي ، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، والحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر.

وكذا كل من باشر قتل الحسين أو قتل واحداً من أهل بيته وأصحابه ، كسنان بن

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٩٠.

(٢) ينابيع المودة ، ص ٣٤٦.

(٣) الكامل لابن الأثير ٤ / ٦٧.

(٤) الكامل لابن الأثير ٤ / ٦٦. البداية والنهاية ٨ / ١٨٣.

(٥) البداية والنهاية ٨ / ١٨٥.

٧٢

أنس النخعي ، وحرملة الكاهلي ، ومنقذ بن مرة العبدي ، وأبي الحتوف الجعفي ، ومالك بن نسر الكندي ، وعبد الرحمن الجعفي ، والقشعم بن نذير الجعفي ، وبحر بن كعب بن تيم الله ، وزرعة بن شريك التميمي ، وصالح بن وهب المري ، وخولي بن يزيد الأصبحي ، وحصين بن تميم وغيرهم.

بل لا تجد رجلاً شارك في قتل الحسين عليه‌السلام معروفاً بأنه من الشيعة ، فراجع ما حدث في كربلاء يوم عاشوراء ليتبين لك صحة ما قلناه.

ثامناً : أن يزيد بن معاوية حمل (ابن مرجانة) عبيد الله بن زياد مسئولية قتل الحسين عليه‌السلام دون غيره من الناس.

فقد أخرج ابن كثير في البداية والنهاية ، والذهبي في سير أعلام النبلاء وغيرهما يونس بن حبيب قال : لما قتل عبيدُ الله الحسينَ وأهله بعث برءوسهم إلى يزيد ، فسُرَّ بقتلهم أولاً ، ثمّ لم يلبث حتى ندم على قتلهم ، فكان يقول : وما عليَّ لو احتملتُ الأذى ، وأنزلتُ الحسين معي ، وحكَّمته فيما يريد ، وإن كان عليَّ في ذلك وهن ، حفظاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورعاية لحقه ، لعن الله ابن مرجانة ـ يعني عبيد الله ـ فإنه أحرجه واضطره ، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل ، أو يأتيني فيضع يده في يدي ، أو يلحق بثغر من الثغور ، فأبى ذلك عليه وقتله ، فأبغضني بقتله المسلمون ، وزرع لي في قلوبهم العداوة (١).

* * *

قال الكاتب : ولهذا قال السيد محسن الأمين :

بايَعَ الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ، غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه) أعيان الشيعة / القسم الأول ص ٣٤.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٧. البداية والنهاية ٨ / ٢٣٥. الكامل في التاريخ ٤ / ٨٧.

٧٣

وأقول : لقد قلنا فيما تقدَّم : إن زياد بن أبيه تتبَّع شيعة علي عليه‌السلام تحت كل حجر ومدر ، حتى لم يبقَ بالكوفة رجل معروف بأنه من الشيعة.

فكيف يمكن مع ذلك أن يقال : إن الذين بايعوا الحسين عليه‌السلام ثمّ خرجوا لقتاله كانوا من الشيعة؟!

وأما بيعتهم للإمام الحسين عليه‌السلام فهي لا تدل على أنهم كانوا من شيعته ، لأنه من الواضحات أن مبايعة رجل لا تعني التشيع له ، وإلا لزم أن يقال : (إن كل الصحابة والتابعين الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام قد تشيَّعوا له) ، وهذا أمر لا يسلِّم به القوم!!

* * *

قال الكاتب : وقال الحسن عليه‌السلام : (أرى والله معاوية خيراً (١) لي من هؤلاء ، يزعمون أنهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي ، وأخذوا مالي ، والله لأَنْ آخذ من معاوية ما أحقن به من دمي ، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني ، فيضيع أهل بيتي ، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً ، والله لأَن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير) الاحتجاج ٢ / ١٥.

وأقول : أما من ناحية السند فهذه الرواية ضعيفة ، لأنها مرسلة ، فلا يصح الاحتجاج بها.

وأما من ناحية الدلالة فغير خفي على من نظر فيها أن الإمام الحسن عليه‌السلام كان يذم رجالاً مخصوصين ، ذكر عليه‌السلام أوصافهم في الرواية ، وأخبر أنهم يزعمون أنهم من شيعته ، ولكنهم أرادوا قتله ، وانتهبوا ثقله ، وأخذوا ماله ، ولو قاتل عليه‌السلام معاوية لأخذوه ولأسلموه إليه.

__________________

(١) الصحيح كما في الاحتجاج ٢ / ١٠ : خير (بالرفع لا بالنصب).

٧٤

وكان عليه‌السلام يشير إلى رجالٍ كانوا يكاتبون معاوية في السِّر ويُظهرون له النصرة في العلانية ، مع أنهم لم يكونوا من شيعته ولا من مواليه.

فالذم مخصوص بهؤلاء دون غيرهم من الشيعة الذين كانوا مع الإمام عليه‌السلام في مشاهده ومواقفه.

وبعبارة أوضح : أن الإمام عليه‌السلام ذمَّ رجالاً زعموا أنهم شيعة وليسوا كذلك ، ولم يذم شيعته وأتباعه.

ولهذا ورد في تتمة الخبر قول زيد بن وهب الجهني ـ راوي الحديث ـ : قلت : تترك يا ابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع؟

فقال عليه‌السلام : (وما أصنع يا أخا جهينة؟ إني والله أعلم بأمر قد أدَّى به إليَّ ثقاته ...).

وأخبر عليه‌السلام بأن الأمر سيؤول إلى معاوية ، وأنه سيُميت الحق والسنن ، ويحيي الباطل والبِدَع ، ويُذَل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال في أنصاره دُوَلا ، ويتَّخذ عباد الله خِوَلا ... الخ.

وهذا يدل بوضوح على أن مورد الذم أفراد مخصوصين لا عموم الشيعة.

هذا مع أن الكاتب قد بتر آخر الكلام الصادر من الإمام الحسن عليه‌السلام ، المشتمل على ذم معاوية ، فإنه عليه‌السلام قال : أوْ يمنّ عليَّ ، فيكون سُبَّة على بني هاشم [إلى] آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منا والميت.

فانظر رحمك الله كيف أن الكاتب منعتْه أمويَّته من كتابة هذا الذم لمعاوية ، وإن كان نقلاً من كلام الإمام الحسن عليه‌السلام!! وهذا له نظائر كثيرة في هذا الكتاب ، سيأتي التنبيه على بعضها.

* * *

٧٥

قال الكاتب : وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة : (هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخَدَعْتُموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ، ثمّ قاتلتموه وخَذَلْتموه؟ بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول لكم : قاتلتُم عِتْرَتي ، وانتهكتُم حُرْمَتي ، فلستم من أمتي) الاحتجاج ٢ / ٣٢.

وقال أيضاً عنهم : (إن هؤلاء يبكون علينا ، فَمَنْ قَتَلَنا غيرُهم؟) الاحتجاج ٢ / ٢٩.

وأقول : هذه الرواية مع ضعف سندها هي واردة في ذم أهل الكوفة في ذلك الوقت ، ونحن قد أثبتنا فيما تقدَّم أن أهل الكوفة لم يكونوا يومئذ من الشيعة ، وأنه لم يبقَ بالكوفة في زمن معاوية شيعي معروف ، وأثبتنا أن كل الذين خرجوا لقتال الحسين عليه‌السلام ليس فيهم شيعي واحد معروف بتشيعه ، فراجع ما قلناه لئلا نعيده مرة ثانية.

هذا مع أن الرواية التي نقلها الكاتب واضحة الدلالة على أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام إنما ذمَّ أولئك الذي كاتبوا الحسين عليه‌السلام ثمّ حاربوه ، مثل شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ومن كان على نهجهما ، وهؤلاء وغيرهم لم يكونوا من الشيعة كما مرَّ بيانه.

* * *

قال الكاتب : وقال الباقر رضي الله عنه : (لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شُكاكاً ، والربع الآخر أحمق) رجال الكشي ص ٧٩.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها سلام بن سعيد الجمحي ، وهو مجهول الحال ، لم يوثَّق في كتب الرجال.

قال المامقاني في تنقيح المقال : سلام بن سعيد الجمحي قد وقع في طريق الكشي في الخبر المتقدم في ترجمة أسلم القواس المكي ، روى عنه فيه عاصم بن حميد ، وروى

٧٦

هو عن أسلم مولى محمد بن الحنفية ، وهو مهمل في كتب الرجال ، لم أقف فيه بمدح ولا قدح (١).

ومن جملة الرواة أسلم مولى محمد بن الحنفية ، وهو أيضاً مجهول الحال ، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فالرواية لا تصح ، ولا يجوز الاحتجاج بها.

وأما بالنظر إلى متنها فنقول : إن كلمة (لو) حرف امتناع لامتناع ، وهو يدل على امتناع شيء لامتناع غيره ، ففي الخبر امتنع أن يكون ثلاثة أرباع الشيعة شُكَّاكاً والربع الباقي حمقى ، لامتناع كون كل الناس لهم عليهم‌السلام شيعة.

وبهذا لا يكون في الحديث أي إشكال على الشيعة والحمد لله ، ولا يدل الحديث على أي ذم في البين.

ولهذا لا نرى من يقول بتعدد الآلهة ، وبفساد السماوات والأرض ، مستدلاً بقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢) ، وذلك لأن (لو) حرف امتناع لامتناع ، وهو يدل على امتناع فساد السماوات والأرض لامتناع تعدد الآلهة.

ولعل السبب في أن الناس لو كانوا كلهم شيعة لكان ثلاثة أرباعهم شُكَّاكاً وربعهم الباقي حمقى ، هو أن الناس لو كانوا كلهم شيعة لكانوا يتلقون عقائدهم تقليداً ، ولا يجدون في الناس من يخالفهم ويدعوهم لإثبات ما هم عليه ، فيؤول أمرهم في نهاية الأمر إلى عروض الشك عليهم في ما هم فيه من الحق. بخلاف ما إذا تعدَّدت المذاهب ، فإن صاحب الحق يتيقن بحقه إذا رأى أن حجته تدحض حجج خصومه ومخالفيه.

__________________

(١) تنقيح المقال ٢ / ٤٣.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية ٢٢.

٧٧

وأما الربع الباقي فهم الذين لا يفقهون ولا يميِّزون ، فهؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق.

وهذا الربع موجود في الناس في جميع الأعصار ، ولو كان الناس كلهم شيعة لكانوا من جملتهم ، وأما مع اختلاف المذاهب فسيكون هذا الربع الأحمق موزَّعاً في الطوائف ، وسيكون أكثره في غير الشيعة بحمد الله وفضله ، لقلة الشيعة وكثرة غيرهم.

* * *

قال الكاتب : وقال الصادق رضي الله عنه : (أما والله لو أجدُ منكم ثلاثة مؤمنين يكتُمون حديثي ما استحللتُ أن أكتمهم حديثاً) أصول الكافي ١ / ٤٩٦.

وأقول : أخبر الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية أنه لو وجد من المخاطبين ثلاثة مؤمنين يكتمون ما يخبرهم به عليه‌السلام لما استحَلَّ أن يكتمهم شيئاً ، ولأخبرهم بالأسرار الإلهية والمعارف النبوية التي لا يطلع عليها غيرهم.

وغير خفي أن الإمام عليه‌السلام كان يخاطب أفراداً مخصوصين ، ولم يكن عليه‌السلام يريد بكلامه هذا كل الشيعة ، بقرينة أن راوي الحديث ـ وهو ابن رئاب ـ قال : (سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لأبي بصير ...) ، ولو كان الإمام عليه‌السلام يريد بكلامه كل الشيعة لقال الراوي : قال لنا أبو عبد الله عليه‌السلام كذا وكذا.

ولو سلَّمنا أن الإمام عليه‌السلام كان يريد الشيعة قاطبة ، فإن أقصى ما يدل عليه الحديث هو أن الإمام عليه‌السلام لم يجد من الشيعة ثلاثة يكتمون حديثه ، ولو لا ذلك لما استحل أن يكتمهم بعض علومه.

ولا دلالة في ذلك على عدم إيمان الشيعة ، أو على انحرافهم عن خط أهل البيت عليهم‌السلام كما هو واضح جلي ، بل أقصى ما فيه هو ذمّهم بأنهم كانوا لا يكتمون أحاديث الأئمة عليهم‌السلام ، وكانوا يفشونها للمخالفين لا غير ، وهو ذم لا يعتبره أهل السنة

٧٨

ذمًّا ، بل يرونه ـ على العكس من ذلك ـ مدحاً ، لأنهم يرون أن الكتمان كذب ونفاق.

ولا يُتوهَّم أن استحلال الإمام عليه‌السلام كتمان بعض أحاديثه عن المخاطبين من الشيعة أو عن أكثر الشيعة يعني كتمان باقي العلوم والمعارف عنهم ، وذلك لأن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام خصَّا كثيراً من أصحابهما كأبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهم بعلوم جليلة وأسرار كثيرة.

ففي صحيحة جميل بن دراج ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : بشِّر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية العجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه ، لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست (١).

وفي صحيحة سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي عليه‌السلام إلا زرارة ، وأبو بصير ليث المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي ، ولو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا ، هؤلاء حُفَّاظ الدين ، وأمناء أبي عليه‌السلام على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا ، والسابقون إلينا في الآخرة (٢).

فإن وصفهم بأنهم (أمناء الله وأمناء الإمام على الحلال والحرام) ، وأنهم (حفَّاظ الدين) واضح الدلالة على أن هؤلاء المذكورين كانوا محل ثقة الأئمة الصادقين عليهم‌السلام ومستودع أسرارهم ، ولو لا ذلك لما صحَّ وصفهم بأمثال هذه الصفات.

هذا مع دلالة جملة من الأخبار على أن الأئمة عليهم‌السلام خصُّوا شيعتهم بما شاءوا من العلوم والمعارف ، ولهذا أمر الأئمة عليهم‌السلام شيعتهم بكتمان أسرارهم ، وحذّروهم من إفشائها ، ولو لا أنهم عليهم‌السلام أباحوا أسرارهم لشيعتهم لما اتّجه أمرهم لهم بالكتمان ، وتحذيرهم إياهم من الإفشاء والإعلان.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٣٩٨. وسائل الشيعة ١٨ / ١٠٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٣٤٨. وسائل الشيعة ١٨ / ١٠٤.

٧٩

وأحاديث الأمر بالكتمان كثيرة ، وإليك بعضاً منها :

فقد روى الكليني رحمه‌الله في الحديث الصحيح عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إن أحب أصحابي إليَّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإن أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم لَلّذي إذا سمع الحديث يُنسب إلينا ويُروى عنا فلم يقبله اشمأزَّ منه وجحده ، وكفَّر من دان به ، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج ، وإلينا أُسند ، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا (١).

وفي صحيحة محمد بن أبي نصر قال : ... قال أبو جعفر عليه‌السلام : في حكمة آل داود : ينبغي للمسلم أن يكون مالكاً لنفسه ، مقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه ، فاتقوا الله ولا تذيعوا حديثنا ... (٢).

وفي خبر معلى بن خنيس قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا معلى اكتم أمرنا ولا تذعه ، فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزَّه الله به في الدنيا ، وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة ، يقوده إلى الجنة ، يا معلى من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذلَّه الله به في الدنيا ، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة ، وجعله ظلمة تقوده إلى النار ، يا معلى إن التقية من ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له ، يا معلى إن الله يحب أن يُعبد في السِّر كما يحب أن يُعبد في العلانية ، يا معلى إن المذيع لأمرنا كالجاحد له (٣).

وفي خبر زيد الشحام ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أُمر الناس بخصلتين فضيَّعوهما ، فصاروا منهما على غير شيء : الصبر والكتمان (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يبيحون أسرارهم لشيعتهم ، ويأمرونهم بكتمانها عن غير أهلها.

__________________

(١) أصول الكافي ٢ / ٢٢٣. وسائل الشيعة ١٨ / ٦١.

(٢) أصول الكافي ٢ / ٢٢٤. وسائل الشيعة ١١ / ٤٩٢.

(٣) أصول الكافي ٢ / ٢٢٣. وسائل الشيعة ١١ / ٤٨٥.

(٤) أصول الكافي ٢ / ٢٢٢. وسائل الشيعة ١١ / ٤٨٤.

٨٠