لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

قلت : هكذا فعل هؤلاء السلاطين من البناء والهدم على حسب ما يحلو لهم ، وما فعله غيرهم في المسجدين معروف ، والكاتب لا ينكر شيئاً من أفعالهم ، وإنما يود أن يتحامل على الشيعة ، فيُنكر عليهم وجود بعض الروايات الضعاف التي تذكر نقض الإمام المهدي عليه‌السلام للمسجدين المعظمين ، مع أن نقضهما أمر راجع للإمام المهدي عليه‌السلام بعد خروجه دون غيره.

* * *

قال الكاتب : وبين المجلسي : (أن أول ما يبدأ به ـ القائم ـ يُخْرِجُ هذين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ رَطْبَيْنِ غَضَّيْنِ ، ويذريهما في الريح ، ويكسر المسجَد) البحار ٥٢ / ٣٨٦.

وأقول : هذا الحديث رواه المجلسي عن كتاب الفضل بن شاذان بسنده إلى بشير النبال ، وبشير هذا لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، فالرواية ضعيفة السند ، لا يصح الاحتجاج بها.

ومع الإغماض عن سند الرواية فإنا قد أوضحنا آنفاً أن الحق والعدل هو ما يفعله الإمام المهدي عليه‌السلام ، وإلا لما كان ممدوحاً في سيرته وعادلاً في حكمه.

على أن الرواية لم تنص على أن المشار إليهما أبو بكر وعمر ، فلعل المراد غيرهما ، واسم الإشارة كما يصح أن يشار به إليهما كذلك يصح أن يشار به إلى غيرهما ، ولعل المعني بعض خلفاء الأمويين أو العباسيين المعاصرين للإمام عليه‌السلام وقت صدور الرواية.

ولو سلَّمنا بصحة الحديث وأن المقصود بالإشارة هو أبو بكر وعمر فلا بد من إعادة النظر في تقييمهما من جديد ، والحكم فيهما بما يحكم به الإمام المهدي عليه‌السلام.

هذا مع أن دفنهما في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس حقاً لهما دون سائر المسلمين ، ولا

٦٠١

حق لعائشة وغيرها في الإذن فيه ، ونحن بعد البحث والتتبّع لم نجد له وجهاً مصحِّحاً ، لأن الموضع الذي دُفِنا فيه ليس ملكاً لهما بالاتفاق ، فلا بد أن يكون ملكاً لغيرهما ، فإن كان ملكاً لفاطمة عليها‌السلام فهي لم تأذن لهما فيه ، وإن كان ملكاً لابنتيهما عائشة وحفصة ، فسبب الملك إما الميراث أو غيره ، وغير الميراث لم يثبت ، وأما الميراث فإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُورَث كما زعموا فلا حق لعائشة وحفصة في شيء مما تركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يكون كله صدقة ، وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُورَث كما هو الصحيح فلمَ منعا فاطمة عليها‌السلام إرثها ، واستحوذا على مكان لهما يُدفنان فيه دون باقي المسلمين؟ على أن نصيب ابنتيهما من الميراث لا يسع كل هذا المقدار كما لا يخفى ، لأن كل واحدة منهما لها تسع الثمن ، وهو لا يساوي شيئاً.

* * *

قال الكاتب : إن من المتعارَف عليه ، بل المُسَلَّمِ به عند جميع فقهائنا وعلمائنا أن الكعبة ليس لها أهمية ، وأن كربلاء خير منها وأفضل ، فكربلاء حسب النصوص التي أوردها فقهاؤُنا هي أفضل بقاع الأرض وهي أرض الله المختارة المقدسة المباركة ، وهي حرم الله ورسوله ، وقِبْلَةُ الإسلام وفي تربتها الشفاء ، ولا تدانيها أرض أو بقعة أخرى حتى الكعبة.

وكان أستاذنا السيد [كذا] محمد الحسين آل كاشف الغطاء يتمثل دائما بهذا البيت :

ومن حديث كربلاء والكعبة

لكربلاء بانَ عُلُوُّ الرُّتبَه

وقال آخر :

هي الطفوفُ فَطُفْ سبعاً بمعناها

فما لمكةَ معنىً مثل معناها

أرضٌ ولكنها السبعُ الشدادُ لها

دانتْ وطأطأَ أعلاها لأَدْناها

٦٠٢

وأقول : أما أن الكعبة ليس لها أهمية فهذا كذب صراح ، كيف وهي قبلة المسلمين ، وقد أطبق علماء المسلمين كافة : سنة وشيعة على أن الصلاة لا تصح إلا باستقبال القبلة وهي الكعبة المشرفة ، وهذا أمر معلوم لا ينكره إلا مكابر جاهل.

وأما أن كربلاء هي أرض الله المختارة المقدسة المباركة ، وهي حرم الله ورسوله ، وقبْلَةُ الإسلام ، فهذا افتراء واضح ، وذلك لأنك لا تجد أحداً من الشيعة جوَّز استقبال كربلاء في الصلاة أو غيرها ، أو وصفها بأنها أرض الله المختارة.

وحرم الله هي مكة المكرمة ، وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي المدينة المنورة كما نطقت بذلك الأخبار الكثيرة.

ففي صحيحة حسان بن مهران ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : مكة حرم الله ، والمدينة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكوفة حرمي ، لا يردها جبار يجور فيه إلا قصمه الله (١).

وفي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن مكة حرم الله ، حرَّمها إبراهيم عليه‌السلام ، وإن المدينة حرمي ، ما بين لابتيها حرَم ، لا يعضد شجرها ـ وهو ما بين ظل عاير إلى ظل وعير ـ وليس صيدها كصيد مكة ، يؤكل هذا ولا يؤكل ذاك ، وهو بريد (٢).

وأما الروايات التي تفيد أن كربلاء أفضل من مكة فلم أطَّلع على روايات صحيحة تدل على ذلك ، وكل الروايات التي وقفت عليها في أسانيدها ضعفاء ، كمحمد بن سنان ، وأبي سعيد العصفري ، وغيرهما ممن لم يثبت توثيقهم ، فلا يمكن الاعتماد على هذه الروايات في إثبات أمر كهذا.

بل قد يستظهر من وصف مكة بأنها حرم الله ، ووصف المدينة بأنها حرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أفضل البقاع هي مكة والمدينة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ / ١٢.

(٢) نفس المصدر.

٦٠٣

هذا مضافاً إلى دلالة موثقة سعيد بن عبد الله الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أَحبُّ الأرض إلى الله مكة ، وما تربة أحب إلى الله عزوجل من تربتها ، ولا حَجَر أحب إلى الله من حجرها ، ولا شجر أحب إلى الله من شجرها ، ولا جبال أحب إلى الله من جبالها ، ولا ماء أحب إلى الله من مائها (١).

وفي معتبرة ميسر بن عبد العزيز ، قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام وعنده في الفسطاط نحو من خمسين رجلاً ، فجلس بعد سكوت منا طويلاً فقال : ما لكم؟! لعلكم ترون أني نبي الله! والله ما أنا كذلك ، ولكن لي قرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولادة ، فمن وصلنا وصله الله ، ومن أحبَّنا أحبَّه الله عزوجل ، ومن حرمنا حرمه الله ، أتدرون أي البقاع أفضل عند الله منزلة؟ فلم يتكلم أحد منا ، فكان هو الراد على نفسه ، فقال : ذلك مكة الحرام التي رضيها الله لنفسه حرماً ، وجعل بيته فيها. ثمّ قال : أتدرون أي البقاع أفضل فيها عند الله حرمة؟ فلم يتكلم أحد منا ، فكان هو الراد على نفسه ، فقال : ذلك المسجد الحرام. ثمّ قال : أتدرون أي بقعة في المسجد الحرام أعظم عند الله حرمة؟ فلم يتكلم أحد منا ، فكان هو الراد على نفسه ، قال : ذاك ما بين الركن الأسود والمقام وباب الكعبة ، وذلك حطيم إسماعيل عليه‌السلام ، ذاك الذي كان يذود فيه غنيماته ويصلي فيه ، والله لو أن عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان ، قام الليل مصلياً حتى يجيئه النهار ، وصام النهار حتى يجيئه الليل ، ولم يعرف حقَّنا وحرمتنا أهل البيت ، لم يقبل الله منه شيئا أبداً (٢).

هذا مع دلالة بعض الأخبار على أن أفضل بقاع الأرض ما بين الركن والمقام ، وهي بقعة من مكة لا من غيرها ، وقد مرَّ ذلك في معتبرة ميسر المتقدِّمة.

وفي صحيحة أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، قال : قال لنا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ١٦٢. وسائل الشيعة ٩ / ٣٤٩.

(٢) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق ، ص ٢٤٥. ونقله المجلسي عنه في بحار الأنوار ٢٧ / ١٧٧.

٦٠٤

علي بن الحسين : أي البقاع أفضل؟ فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم. فقال : أما أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أن رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح عليه‌السلام في قومه ـ ألف سنة إلا خمسين عاماً ـ يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثمّ لقي الله عزوجل بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً (١).

هذا هو مبلغ علمنا بحسب دلالة الأخبار التي وقفنا عليها ، والله أعلم بحقائق الأمور.

وأما الأشعار التي ذكرها الكاتب فلا يخفى أنها لا تدل على أفضلية كربلاء على مكة المكرمة ، لأن قوله : (لكربلاء بان علو الرتبة) ظاهر في ثبوت رتبة عالية لكربلاء ، ولا دلالة فيه على أن تلك الرتبة أعلى من رتبة مكة ، كما أن قوله : (فما لمكة معنى مثل معناها) ظاهر في أن لكربلاء معنى غير موجود في مكة ، ولعل الشاعر يشير إلى أن زائر كربلاء يدخلها مكروباً محزوناً ، بخلاف زائر مكة ، وهذا لا دلالة فيه أيضاً على أفضلية كربلاء على مكة المكرمة.

* * *

قال الكاتب : ولنا أن نسأل : لما ذا يكسر القائم المسجد ويهدمه ويرجعه إلى أساسه؟

والجواب : لأن من سيبقى من المسلمين لا يتجاوزون عُشْرَ عددهم كما بَيَّنَ الطوسي : (لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس) الغيبة ص ١٤٦.

بسبب إِعمالِ القائم سيفَه فيهم عموماً ، وفي المسلمين خصوصاً.

وأقول : ما العلاقة بين هدم المسجد وبين ذهاب تسعة أعشار الناس؟ هل يرى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة أي ربط بين الأمرين؟!

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ١٦٣.

٦٠٥

ونحن قد أوضحنا فيما سبق الأسباب المحتملة التي قد تدعو إلى هدم المسجد إلى أساسه على فرض صحَّة الحديث ، فلا حاجة لإعادتها.

وأما ذهاب تسعة أعشار الناس فالظاهر من الحديث أنه حدَثٌ سابق على ظهور صاحب الزمان عليه‌السلام ، فإنه قال : (لا يكون هذا الأمر) أي لا يظهر المهدي عليه‌السلام (حتى يذهب) أي يهلك (تسعة أعشار الناس).

وذهابهم إما أن يُراد به هلاكهم بالموت ، بسبب ما يقع في آخر الزمان من الحروب المدمِّرة التي هي غير بعيدة الحدوث بحسب ما نراه من تتابعات الأحداث ، أو بسبب الأمراض والأوبئة ، أو بسبب القحط والمجاعات ، أو بأسباب أخرى لا نعلم بها.

وإما أن يراد به هلاكهم بالضلال ، بسبب ما يكون في آخر الزمان من الاختلاف والفتن وكثرة المغريات وتعدّد أسباب الانحراف واللهو والضلال.

نعم ، قد دلَّت الأخبار على أن صاحب الزمان عليه‌السلام بعثه الله نقمة ، لينتقم به من أعدائه وأعداء دينه ، وأنه عليه‌السلام سيقتل العتاة والظلمة وأهل الزيغ والضلال وكل من لم يرضَ بالحق ، ولكنّا لم نرَ في الأخبار أنه عليه‌السلام سيفني جزءاً من ألف فضلاً عن تسعة أعشار الناس.

* * *

قال الكاتب : ٣ ـ يقيم حكم آل داود :

وعقد الكليني باباً في أن الأئمة عليهم‌السلام إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم آل داود ، ولا يسألون البينة ، ثمّ روى عن أبي عبد الله قال : (إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود وسليمان ، ولا يَسْأَلُ بَيِّنَةً). الأصول من الكافي ١ / ٣٩٧.

وأقول : قال المولى المجلسي قدس‌سره في بحار الأنوار :

٦٠٦

ثمّ اعلم أن الظاهر من الأخبار أن القائم عليه‌السلام إذا ظهر يحكم بما يَعْلم في الواقعة لا بالبيِّنة ، وأما من تقدَّمه من الأئمة عليهم‌السلام فقد كانوا يحكمون بالظاهر ، وقد كانوا يُظْهِرون ما يعلمون من باطن الأمر بالحِيَل كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يفعله في كثير من الموارد ، وقال الشيخ المفيد في كتاب المسائل : للإمام عليه‌السلام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات ، ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه ، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى ، وقد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور ، فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى ، ويجوز أن يدلَّه الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين ، فلا تغيب عنه حقيقة الحال ، والأمور في هذا الباب متعلقة بالألطاف والمصالح التي لا يعلمها على كل حال إلا الله عزوجل ، ولأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال : فمنهم من يزعم أن أحكام الأئمة على الظواهر دون ما يعلمونه على كل حال ، ومنهم من يزعم أن أحكامهم إنما هي على البواطن دون الظواهر التي يجوز فيها الخلاف ، ومنهم من يذهب إلى ما اخترته أنا من المقال (١).

وقال في مرآة العقول : وهذا الاختلاف في سِيَرهم عليهم‌السلام ليس من قبيل النسخ حتى يرد : (لا نسخ بعد نبيِّنا) ، بل إما باعتبار التقية في بعضها ، أو اختلاف الأوضاع والأحوال في الأزمان ، فإنه يمكن أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الإمام بالحكم بالواقع إذا لم يصر سبباً لتفرّق الناس ورجوعهم عن الحق ، وبالحكم بالظاهر إذا صار سبباً لذلك ... (٢).

قلت : لما كانت وظيفة الإمام المهدي عليه‌السلام هي ملء الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً ، فمن الطبيعي أن يكون حكمه بالواقع ، لترجع الحقوق إلى أهلها ، وهذا يقتضي أن يحكم بعلمه الذي يلهمه الله به ، وهو حكم داود عليه‌السلام ، لا

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٦ / ١٧٧.

(٢) مرآة العقول ٤ / ٣٠١.

٦٠٧

بالظاهر الذي قد يصيب الواقع وقد يخطئه.

وحكم الحاكم بعلمه دون الاتكال على البينات والأَيمان قد جوَّزه بعض علماء أهل السنة.

قال ابن قدامة في المغني :

(مسألة) قال : (ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حَدٍّ ولا غيره ، لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. هذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن ، وهو أحد قولي الشافعي ، وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك ، وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قالت له هند : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. قال : (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فحكم لها من غير بينة ولا إقرار ، لعلمه بصدقها.

إلى أن قال : ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن ، فما تحقَّقه وقطع به كان أولى ، ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم ، فكذلك في ثبوت الحق قياساً عليه (١).

قلت : وعلى هذا فلا غضاضة على الإمام المهدي عليه‌السلام أن يحكم في القضايا بعلمه الذي يلهمه الله إياه ، فلا يَسأل عن بيِّنة ، وهذا هو المراد بحكم داود.

* * *

قال الكاتب : وروى المجلسي : (يقوم القائم بأمر جديد ، وكتاب جديد ، وقضاء جديد) البحار ٥٢ / ٣٥٤ ، غيبة النعماني ص ١٥٤.

وقال أبو عبد الله رضي الله عنه : (لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على

__________________

(١) المغني ١١ / ٤٠١.

٦٠٨

كتاب جديد) البحار ٢ / ١٣٥ ، الغيبة ص ١٧٦.

وأقول : أما الأمر الجديد الذي يقوم به صاحب الزمان فهو العدل بين الرعية ، والقسمة بالسوية ، ومنع المنكرات ، وإقامة الحدود ، وإحياء السنة ، وإماتة البدعة ، وأمثال هذه الأمور.

وأما الكتاب الجديد فيحتمل أن يكون المراد به القرآن الكريم ، وكونه جديداً إما بسبب أنه سيكون مرتَّباً على حسب النزول ، ويكون المنسوخ فيه مقدَّماً على الناسخ ، وما شاكل ذلك.

أو أنه جديد في معانيه التي حرَّفها سلاطين الجور وعلمائهم ، لأن الإمام عليه‌السلام سيظهره مفسَّراً كما أراد الله سبحانه وتعالى.

ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب الجديد كتاباً مشتملاً على مهمات الشريعة وأحكامها التي يحتاج إليها الناس في كل أمورهم.

وأما القضاء الجديد فهو إما بسبب العدل بين الرعية الذي لم يعرفه الناس في عصور الغيبة وما قبلها ، وإما لأن الإمام عليه‌السلام لا يَسأل عن البيِّنة ، وإنما يحكم بعلمه وعلى حسب الواقع الحق في كل قضية كما مرَّ.

وهذه الأحكام وإن كانت هي أحكام الإسلام الصحيحة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنها ستكون جديدة عند الناس ، لأنهم ما ألفوها في أزمنة سلاطين الجور ، وما عرفوها قبل أيام الإمام المهدي عليه‌السلام ، لا أنها أحكام جديدة في نفسها ، وإلا كانت بدعاً محدثة.

* * *

قال الكاتب : ونختم هذه الفقرة بهذه الرواية المروعة ، فقد روى المجلسي عن أبي عبد الله رضي الله عنه : (لو يعلم الناس ما يصنعُ القائم إذا خرج لأَحَبَّ أكثرُهم أَلا يَرَوْهُ

٦٠٩

مما يقتل من الناس .. حتى يقول كثير من الناس : ليس هذا من آل محمد ، ولو كان من آل محمد لرحم). البحار ٥٢ / ٣٥٣ ، الغيبة ص ١٣٥.

وأقول : بعد الغض عن سند هذه الرواية ، فإن الرواية لا تتنافى مع ما هو المتوقَّع من الإمام المهدي عليه‌السلام على حسب قراءة الوضع الحاضر في العالم المعاصر ، فإن الفساد الإداري والأخلاقي والديني قد بلغ الغاية ، فعمَّ كل مكان في الأرض.

ومن البديهي أن الإمام المهدي عليه‌السلام سيعمل كل ما يقيم به العدل ويرفع به الظلم ، وإن استلزم ذلك كثرة القتل الذي يتطلبه قمع سلاطين الجور وأهل الزيغ المعاندين وأعوانهم ، وإقامة العدل والتطهير الشامل من كل الفساد المتراكم ، وإقامة الحدود التي كانت معطَّلة ، مع كثرة القتل من دون قصاص ، وكثرة ارتكاب المحرمات التي يعاقَب عليها بالقتل.

كل هذا يولِّد هذا الموقف من كثير من الناس الذين يخافون أن يصل حكم المحكمة العادلة إليهم أو إلى ذويهم وخواصّهم.

ثمّ إن الرواية لا تدل على كثرة وقوع القتل منه عليه‌السلام ، بل تدل على كثرة من يحب ألا يراه بسبب قتله بعض الناس ، فإن قوله : (لأَحَبَّ أكثرُهم ألا يَرَوْه مما يقتل من الناس) ، يدل على ذلك ، لأن (مِن) في (مما يقتل) سببية ، أي بسبب (ما يقتل) أي قتله ، لأن (ما) مصدرية تُسبك مع ما بعدها بمصدر ، و (من) في قوله : (من الناس) تبعيضية ، أي بعض الناس.

* * *

قال الكاتب : واستوضحت السيد الصدر عن هذه الرواية فقال : (إن القتل الحاصل بالناس أكثره مختص بالمسلمين) ثمّ أهدى لي نسخة من كتابه (تاريخ ما بعد الظهور) حيث كان قد بين ذلك في كتابه المذكور ، وعلى النسخة الإهداء بخط يده.

٦١٠

وأقول : الذي ذكره السيد محمد الصدر رحمه‌الله في كتابه المذكور بعد أن ساق الروايات المختلفة الدالة على كثرة وقوع القتل بعد ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام هو قوله :

ولكنا إن لاحظنا المقتولين في هذه الحملة وجدناها موجَّهة ضد أولئك الفاشلين في التمحيص الذي كان جزءاً رئيسيّاً من التخطيط العام لما قبل الظهور ، فكل من تطرَّف نتيجة للتمحيص إلى طرف الباطل لا يكون الآن إلا مقتولاً لا محالة ، ولذا نسمع من هذه الأخبار أنه عليه‌السلام يقتل أعداء الله ، ويقتل كل منافق مرتاب ، وأنه لا يستتيب أحداً ، وأنه يقتل قوماً يرفضون ثورته ويقولون له : (ارجع ، لا حاجة لنا ببني فاطمة) ، وكل هؤلاء هم الفاشلون في التمحيص السابق على الظهور (١).

ومنه يتَّضح أن ما نسبه الكاتب للسيد محمد الصدر رحمه‌الله وعزاه للكتاب المذكور كله كذب فاضح وافتراء واضح ، لأن الذين يرفضون دعوته عليه‌السلام والمائلين إلى طرف الباطل أكثرهم من غير المسلمين ، بسبب قلة المسلمين وكثرة غيرهم من الكفرة والمردة في جميع العصور كما هو واضح معلوم.

* * *

قال الكاتب : ولا بد لنا من التعليق على هذه الروايات فنقول :

١ ـ لما ذا يعمل القائم سيفه في العرب؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه عربياً؟

٢ ـ ألم يكن أمير المؤمنين وذريته الأطهار من العرب؟

٣ ـ بل القائم الذي يعمل سيفه في العرب كما يقولون أليس هو نفسه من ذرية أمير المؤمنين؟ وبالتالي أَليس هو عربياً؟!

٤ ـ أليس في العرب الملايين ممن يُؤمن بالقائم وبخروجه؟

__________________

(١) تاريخ ما بعد الظهور ، ص ٣٩٨.

٦١١

٥ ـ فلما ذا يخصص العرب بالقتل والذبح؟ وكيف يُقال : لا يخرجُ مع القائم منهم واحد؟

وكيف يمكن أن يهدم المسجد الحرام والمسجد النبوي؟ مع أن المسجد الحرام هو قبلة المسلمين كما نص عليه القرآن ، وبين أنه أول بيت وُجد على وجه الأرض ، وكان رسول الله صلوات الله عليه قد صلى فيه وأيضاً أمير المؤمنين والأئمة من بعده وخصوصاً الإمام الصادق الذي مكث فيه مدة طويلة.

وأقول : لقد أوضحنا الجواب فيما تقدَّم على كل هذه الأسئلة بما لا مزيد عليه ، فلا حاجة للتكرار والإعادة.

* * *

قال الكاتب : لقد كان ظَنُّنَا أن القائم سيُعيد المسجد الحرام بعد هدمه إلى ما كان عليه زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبل التوسعة ، ولكن تبين لي فيما بعد أن المراد من قوله (يُرْجِعُه إلى أساسه) أي يهدمه ، ويُسَوِّيهِ بالأرض ، لأن قِبلَة الصلاة ستتحول إلى الكوفة.

روى الفيض الكاشاني : (يا أهل الكوفة لقد حباكم الله عزوجل بما لم يَحْبُ أحداً من فضل ، مُصَلاكم بيتُ آدم وبيت نوح ، وبيت إدريس ومصلى إبراهيم .. ولا تذهب الأيام حتى يُنْصَبَ الحجر الأسود فيه) الوافي ١ / ٢١٥.

وأقول : لقد تكلمنا في هدم المسجدين إلى أساسهما ، وذكرنا أن الرواية الواردة في ذلك ضعيفة السند ، ومع الإغماض عن سند الرواية وتسليم وقوع ذلك من الإمام عليه‌السلام فلا ريب في أنه عليه‌السلام سيعيد بناءهما على التقوى بعد أن يزيل كل حجر وضعه سلاطين الجور وأتباعهم.

وأما ما قاله الكاتب من أن الإمام المهدي عليه‌السلام سيهدم المسجد الحرام ، ولن

٦١٢

يعيد بناءه ، لأنه سيحوِّل القبلة إلى مسجد الكوفة فهذا من الأباطيل الواهية التي نتعجب صدورها من عاقل!! ولا سيما أن الحديث الذي احتج به على ذلك لا يدل على ما قاله ، فإن وضع الحجر الأسود في مسجد الكوفة لا يعني صيرورته قبلة للناس ، وذلك لأن الكعبة المشرفة تبقى قبلة للمسلمين حتى لو أزيل منها الحجر الأسود.

ثمّ إن الحديث لم ينص على أن من ينصب الحجر الأسود فيه هو الإمام المهدي عليه‌السلام ، ولا دلالة فيه على أن مسجد الكوفة بعد نصب الحجر فيه يصير قبلة للناس.

ولعل إخبار الإمام عليه‌السلام بنصب الحجر الأسود فيه إنما كان للتدليل على أهميته وعظم مكانته عند الناس ، لا من أجل بيان مشروعية هذا الفعل ومحبوبيته.

ونضيف إلى هذا كله أن هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن الشيخ الصدوق رواها بسنده إلى الأصبغ بن نباتة (١) ، وطريق الصدوق إلى الأصبغ بن نباتة ضعيف.

فإن في طريقه محمد بن علي ماجيلويه ، وهو لم يثبت توثيقه وإن كان من مشايخ الرواية للصدوق.

وفي طريقه الحسين بن علوان الكلبي ، وعبارة النجاشي في رجاله موهمة (٢) ، تحتمل عود التوثيق فيها إليه أو إلى أخيه الحسن ، والظاهر أنها تعود إلى أخيه ، بقرينة الفصل بينها وبين قوله فيه : (عامي) ، لأن الوصف ب ـ (ثقة) لو كان عائداً إليه لقال : (عامي ثقة) ، ولقوله بعدُ : (وللحسين كتاب تختلف رواياته) ، وهذا قد يشعر بعدم وثاقته ، لاحتمال أن اختلاف رواياته كان ناشئاً من التخليط أو قلة الضبط ، والله أعلم.

وفي طريق الصدوق للأصبغ أيضاً عمرو بن ثابت ، وهو عمرو بن أبي المقدام ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٦٥. وسائل الشيعة ٣ / ٥٢٦.

(٢) قال النجاشي في رجاله : ١ / ١٦١ : الحسين بن علوان الكلبي ، مولاهم كوفي ، عامي ، وأخوه الحسن يكنّى أبا محمد ، ثقة ، رويا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وليس للحسن كتاب ، والحسن أخص بنا وأولى ، روى الحسين عن الأعمش وهشام بن عروة ، وللحسين كتاب تختلف رواياته.

٦١٣

ولم يثبت توثيقه.

وعليه فالرواية ضعيفة السند ، لا يصح الاحتجاج بها في شيء.

* * *

قال الكاتب : إذاً نَقْلُ الحجر الأسود من مكة إلى الكوفة ، وجَعْلُ الكوفةِ مُصَلَّى بيت آدم ونوح وإدريس وإبراهيم دليل على اتخاذ الكوفة قبلة للصلاة بعد هدم المسجد الحرام ، إذ بعد هذا لا معنى لإرجاعه إلى ما كان عليه قبل التوسعة ، ولا تبقى له فائدة ، فلا بد له من الإزالة والهدم ـ حسبما ورد في الروايات ـ وتكون القبلة والحجر الأسود في الكوفة ، وقد علمنا فيما سبق أن الكعبة ليست بذات أهمية عند فقهائنا ، فلا بد إذن من هدمها.

وأقول : إن الرواية قد نصَّت على أن مسجد الكوفة كان بيت آدم وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلَّى إبراهيم ... الخ.

لا أنه سيُجعل مصلَّى بيت [كذا] آدم ونوح وإدريس وإبراهيم كما زعم الكاتب.

وما معنى جعله مصلَّى بيت آدم ونوح؟!

ثمّ ما هو التلازم بين كون مسجد الكوفة بيتاً لآدم ونوح ومصلَّى لإبراهيم ، وبين جعله قبلة للناس بدلاً من الكعبة المشرفة؟!

وأما ما قاله من نقل الحجر الأسود إلى مسجد الكوفة ، وعدم أهمية الكعبة عند فقهاء الشيعة ، فقد أوضحنا جوابه فيما مرَّ ، فراجعه.

* * *

قال الكاتب : ونعود لنسأل مرة أخرى : ما هو الأمر الجديد الذي يقوم به

٦١٤

القائم؟ وما هو الكتاب الجديد والقضاء الجديد؟

إن كان الأمر الذي يقوم به من صلب حكم آل محمد ، فليس هو إذن بجديد. وإن كان الكتاب من الكتب التي استأثر بها أمير المؤمنين حسبما تَدَّعِيه الروايات الواردة في كتبنا فليس هو بكتاب جديد.

وإن كان القضاء من أقضية محمد وآله ، والكتاب من غير كتبهم والقضاء من غير أقضيتهم فهو فعلاً أمر جديد ، وكتاب جديد وقضاء جديد ، وكيف لا يكون جديداً والقائم سيحكم بحكم آل داودَ كما مر؟

إنه أمر من حكم آل داود ، وكتاب من كتبهم ، وقضاء من قضاء شريعتهم ، ولهذا كان جديداً ، ولذلك ورد في الرواية : (لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد) كما مر بيانه.

وأقول : لقد أجبنا على كل هذه التساؤلات فيما مرَّ بالتفصيل ، ولا حاجة لإعادة الكلام فيها مرة ثانية ، ولم يرد في الأخبار المشار إليها أن القائم عليه‌السلام سيحكم بحكم آل داود ، بل بحكم داود نفسه ، أي يحكم مثل حكمه في أنه يحكم بعلمه ، ولا يسأل عن البيِّنة ، لا أنه عليه‌السلام سيترك أحكام الإسلام ويحكم بأحكام شريعة النبي داود المنسوخة.

* * *

قال الكاتب : بقي أن تعلم أن ما يصنعه القائم حسبما جاء في الرواية المروعة ، فإنه سَيُثِخنُ في القتل بحيث يتمنى الناس ألا يروه لكثرة ما يقتل من الناس وبصورة بشعة لا رحمة فيها ولا شفقة ، حتى يقول كثير من الناس : ليس هذا من آل محمد ، ولو كان من آل محمد لرحم!!

وبدورنا نسأل : بمن سيفتك القائم؟ ودماء من هذه التي سيجريها بهذه

٦١٥

الصورة البشعة؟.

إنها دماء المسلمين كما نصَّت عليه الروايات ، وكما بين السيد الصدر.

وأقول : هذا الكلام كله اجترار وتكرار لما سبق ، ونحن قد أجبنا عليه مفصلاً ، وأوضحنا الذين سيقتلهم الإمام عليه‌السلام ، فلا وجه لتكرار الجواب مرة ثانية.

* * *

قال الكاتب : إذن ظهور القائم سيكون نقمة على المسلمين لا رحمة لهم ، ولهم الحق إن قالوا إنه ليس من آل محمد ، نعم ، لأن آل محمد يرحمون ويشفقون على المسلمين ، أما القائم فإنه لا يرحم ، ولا يشفق ، فليس هو إذن من آل محمد ، ثمّ أليس هو ـ أي القائم ـ سيملأ الأرض عدلاً وقِسْطاً بعد أن مُلِئَتْ جوراً وظُلماً؟

فأين العدل إذن إذا كان سيقتل تسعة أعشار الناس وخاصة المسلمين؟ وهذا لم يفعله في تاريخ البشرية أحد ولا حتى الشيوعيون الذين كانوا حريصين على تطبيق نظريتهم على حساب الناس ، فتأمل!!

وأقول : إن الإمام المهدي عليه‌السلام رحمة مهداة لهذه الأمة خاصة ، وللإنسانية عامة ، وهذا لا يمنع أن يكون عليه‌السلام في نفس الوقت نقمة على أعداء الدين وعلى الطواغيت والمرَدَة وسلاطين الجور وأعوانهم ، فإن سلاطين الجور وأعوانهم لا بد أن ينالوا جزاءهم العادل في الدنيا قبل عقابهم الدائم في الآخرة ، وهذا هو مقتضى العدل والإنصاف الذي سيطبقه الإمام المهدي عليه‌السلام في دولة العدل التي سيقيمها.

ونحن قد أوضحنا فيما تقدم أنه لا دلالة في الأحاديث السابقة التي احتج بها الكاتب على أن الإمام المهدي يقتل أعداداً كثيرة من الناس ومن غير شفقة ولا رحمة ، فراجع.

وأما ذهاب تسعة أعشار الناس فقد أوضحناه مفصَّلاً وذكرنا محتملات هذا

٦١٦

الحديث ، وقلنا : إنه ظاهر في الإخبار عن بعض الحوادث التي تقع قبل ظهوره عليه‌السلام ، وليس في الحديث أية دلالة على أنه عليه‌السلام يقتل تسعة أعشار الناس ، فلا حاجة للإعادة والتكرار.

* * *

قال الكاتب : لقد أسلفنا أن القائم لا حقيقة له ، وأنه غير موجود ، ولكنه إذا قام فسيحكم بحكم آل داود ، وسيقضي على العرب والمسلمين ويقتلهم قتلاً لا رحمة فيه ، ولا شفقة ، ويهدم المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويأخذ الحجر الأسود ، ويأتي بأمر جديد ، وكتاب جديد ، ويقضي بقضاء جديد ، فمن هو هذا القائم؟ وما المقصود به؟

وأقول : كل ما قاله الكاتب قد أوضحنا فساده فيما تقدَّم بحمد الله ومَنِّه ، لأنه لا يعدو أن يكون استدلالاً بأحاديث ضعيفة فهمها على غير وجهها ، أو بأحاديث حرَّف معانيها بأبشع تحريف ، وحملها على غير المراد منها ، فكانت نتيجة ذلك أن قال كل هذا الهراء الباطل.

ومن الواضح أن الأحاديث السابقة حتى الضعيفة منها لم تذكر أن الإمام المهدي عليه‌السلام سيحكم بحكم آل داود ، وأنه سيقضي على العرب والمسلمين ، وأنه سيهدم المسجد الحرام ويتركه فلا يعيد بناءه ، وأنه سيأخذ الحجر الأسود.

وأما زعمه بأنه قد ذكر أن المهدي لا حقيقة له ، فهو زعم ـ كغيره من مزاعمه ـ لا قيمة له ما دام أنه لم يقم على ما قال أي دليل صحيح.

هذا مع أنه قد عوَّل في هذه المسألة على أحمد الكاتب ، ولم يذكر أي دليل على ما ذهب إليه ، والنص الذي زعم دلالته على أن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام توفي ولم يكن له ولد قد أجبنا عليه فيما مرَّ ، فراجعه.

* * *

٦١٧

قال الكاتب : إن الحقيقة التي تَوَصّلْتُ إليها بعد دراسة استغرقت سنوات طوالاً ومراجعة لأمهات المصادر هي أن القائم كناية عن قيام دولة إسرائيل أو هو المسيح الدجال لأن الحسن العسكري ليس له ولد كما أسلفنا وأثبتنا ، ولهذا روي عن أبي عبد الله رضي الله عنه ـ وهو بريء من ذلك ـ : (ما لمن خالفنا في دولتنا نصيب ، إن الله قد أحل لنا دماءَهم عند قيام قائمنا) البحار ٥٢ / ٣٧٦.

وأقول : ما أعجب هذه المهزلة التي توصل إليها الكاتب بعد هذه السنوات الطوال ، وبعد مراجعة أمهات المصادر؟!

أي مهزلة هذه التي تُضحِك الثكلى حتى تستلقي على قفاها؟!

هل كان الأئمة عليهم‌السلام عند الكاتب يعلمون بقيام دولة إسرائيل منذ ذلك الوقت ، أو يبشِّرون بها؟

أو أنه سيزعم أن هناك أيادي خفيَّة كانت تخطِّط لقيام دولة إسرائيل منذ العصر الأموي؟!

ثمّ لما ذا يشير هؤلاء المخطِّطون لدولة إسرائيل بالإمام المهدي عليه‌السلام ، ويكشفون كل مخططاتهم ، وينشرونها للملأ ، مع أن أمثال هذه الأمور تحتاج إلى السِّرِّية والكتمان الشديدين؟!

وهل دولة إسرائيل من أهل البيت؟ واسمها محمد؟ وستملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً؟ أو أن هذا من مخطَّطاتها المستقبلية؟

وهل من مخططاتها أيضاً قتل اليهود تحت كل حجر ومدر ، ونشر الإسلام في كل أرجاء المعمورة؟

ثمّ ما علاقة دولة إسرائيل بكربلاء ومسجد الكوفة والحجر الأسود؟

ولما ذا تحرص دولة إسرائيل على جعل كربلاء مدينة مقدسة؟ بل تجعلها أشرف البقاع وعاصمة لها؟ ولما ذا لا تجعل القداسة للقدس وتلابيب؟

٦١٨

ولما ذا تريد دولة إسرائيل تحويل قبلة المسلمين إلى مسجد الكوفة؟ هلا جعلت قبلتهم بيت المقدس أو حائط المبكى؟

ثمّ لما ذا لم تدعُ دولة إسرائيل الشيعة في كل مكان لإظهار الإيمان والولاء لها بعد قيامها ، لتنتهي مسرحية الكتمان ، وتبدأ مهزلة الإعلان؟

ولما ذا لم يُبْدِ الشيعة المؤمنون بالإمام المهدي حتى الآن أي ولاء لدولة إسرائيل؟

وهناك إشكالات أخر على هذه النظرية التي لم يسبق الكاتبَ إليها أحدٌ ، تُعْرَف بالنظر في أخبار الإمام المهدي عليه‌السلام التي لا تنطبق على دولة إسرائيل بحال من الأحوال.

وأما الأحاديث الواردة في الدجال فهي بعيدة كل البعد عن أخبار الإمام المهدي عليه‌السلام كما هو واضح لكل من نظر في كلا الطائفتين من الأخبار.

ويكفي منها أن المهدي عليه‌السلام من نسل سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، والدجال لا يُعْرَف له نسب.

والمهدي جميل الخلقة تام الأعضاء ، والدجال ليس كذلك ، بل هو أعور.

والمهدي يحكم بالعدل سنين كثيرة ، والدجال يحكم بالجور بضعة أشهر فقط.

والمهدي من أئمة الهدى الممدوحين ، والدجال من أئمة الضلال المذمومين.

ثمّ ما معنى نشوب الحرب بين جيش المهدي عليه‌السلام وبين جيش الدجال ، فهل سيحارب المهدي نفسه؟

ولما ذا يصلي عيسى عليه‌السلام خلف المهدي عليه‌السلام إذا كان المهدي هو الدجال نفسه ، ثمّ يقتله بعد ذلك؟

وإذا كان المهدي هو الدجال فما معنى بقاء المهدي وبقاء دولته بعد مقتل الدجال؟

٦١٩

ثمّ لما ذا تحاط أحاديث الدجال بالسرّية والرمزية فيشار إليه بالمهدي ، مع أن هناك رجلاً آخر عند أهل السنة له هذا الاسم؟!

والعجيب أن الكاتب بعد دراسته الطويلة التي استمرت سنوات طوالاً ، وبعد مراجعته المضنية لأمهات المصادر ، تردَّد في نتيجته تردُّداً فاحشاً ، فاحتمل أن المراد بالمهدي هو دولة إسرائيل أو المسيح الدجال ، وما أبعد ما بين هذين الأمرين!!

ولعلّه سيحتاج إلى سنوات أخر طوال من الدراسة والبحث ، وإلى مراجعات جديدة لمصادر أخرى من أمهات المصادر ليستقر على أحد الأمرين ، أو ليصل إلى نتائج عجيبة ، ويظهر بنظريات غريبة.

* * *

قال الكاتب : ولما ذا حُكم آلِ داود؟ أليس هذا إشارة إلى الأصول اليهودية لهذه الدعوة؟

وأقول : لقد أوضحنا فيما مرَّ أن الروايات نصَّت على أنه سيحكم بحكم داود ، لا بحكم آل داود كما قال الكاتب.

وقلنا : إن المراد بذلك هو أن المهدي عليه‌السلام يحكم بحكم يشبه حكم داود في أنه عليه‌السلام لا يسأل البيِّنة ، فيحكم بعلمه وبما يلهمه الله تعالى في تلك الواقعة.

والعجيب أن الكاتب يزعم أن (حكم داود) إشارة إلى الأصول اليهودية مع أن داود عليه‌السلام نبي كريم من أنبياء الله عليهم‌السلام ، لا ارتباط له باليهود في شيء ، والله سبحانه وتعالى أثنى عليه في كتابه العزيز ، فقال عزَّ اسمه (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ، (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٥١. وسورة النمل ، الآية ١٥.

٦٢٠