لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

غرضه السيِّئ ، ويكشف عن سوء نيَّته أنه لم ينقل عبارة الشيخ الطوسي بنصِّها ، وإنما نقلها بالصورة المحرَّفة التي رأيناها ، والله المستعان على ما يصفون.

* * *

قال الكاتب : مع ملاحظة البلايا التي رُويَتْ في الكافي وتهذيب الأحكام وغيرهما ، فلا شك أنها إضافاتِ لأَيْدٍ خَفيَّةٍ تسترت بالإسلام ، والإسلام منها بريء ، فهذا حال أعظم كتابين فَمَا بالك لو تابعنا حال المصادر الأخرى ما ذا نجد؟؟

وأقول : لقد اتضح للقارئ العزيز أن مزاعم الكاتب بشأن الكتابين المذكورين كلها أوهام فاسدة وخيالات كاسدة ، وما زعمه من وجود بلايا في الكافي والتهذيب يحتاج منه إلى بيان وإثبات ، وأما التعمية بهذه الصورة وهو في مقام الإثبات فهي غير مقبولة ولا قيمة لها ، لأن كل ادّعاء لم يستند على دليل صحيح فحقّه أن يُضرب به عرض الجدار ، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى إطالة.

* * *

قال الكاتب : ولهذا قال السيد هاشم معروف الحسني :

(وضع قُصَّاصُ الشيعة مع ما وضعه أعداء الأئمة عدداً كثيراً من هذا النوع للأئمة الهُدَاة) وقال أيضاً :

(وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد أن الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم) الموضوعات ص ١٦٥ ، ٢٥٣.

وأقول : من الواضح المعلوم أن علماء الشيعة لا يرون صحَّة كل أحاديث الكافي أو الوافي أو غيرهما من مجاميع الحديث عندهم ، بل إنهم يرون أنها لا تخلو من

٥٨١

أحاديث ضعيفة أو موضوعة ، وهذا أمر لا نتنازع فيه ، إلا أنه لا يستلزم إسقاط هذه الكتب عن الاعتبار والحجية ، فإن العلماء جزاهم الله خير الجزاء محَّصوا هذه الأحاديث ونقَّحوها ، فعرفوا الصحيح من الضعيف ، وميَّزوا السليم من السقيم ، وحال هذه الكتب حال أكثر كتب أهل السنة التي جمعت الصحيح والضعيف والمكذوب والموضوع ، فلم يمنع اشتمالها على أحاديث موضوعة من العمل بما فيها من أحاديث صحيحة معتبرة.

* * *

قال الكاتب : وقد اعترف بذلك الشيخ الطوسي في مقدمة التهذيب فقال : (ذاكرني بعض الأصدقاء .. بأحاديث أصحابنا ، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما يُنافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا) ورغم حرص الطوسي على صيانة كتابه إلا أنه تعرض للتحريف كما رأيت.

وأقول : إن الاختلاف والتباين بين الأحاديث أمر لا يُنكر ، ونحن لا نتنازع فيه ، وذلك لأن الأحاديث المتعارضة كثيرة في كتب الشيعة وأهل السنة ، وحسبك أن تنظر في كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد ، لتعرف مدى تعارض الأحاديث عند أهل السنة ، وما ترتب على ذلك من اختلاف الفتاوى فيما بينهم.

وكثرة الأحاديث المتعارضة في كتب الفريقين لا يضر ، لأن الفقيه يمكنه تمييز الصحيح من الضعيف والسليم من السقيم ، كما يمكنه الترجيح بين الأحاديث المعتبرة بالمرجِّحات السندية والدلالية ، والأخذ بالراجح وطرح المرجوح.

أما أن كتاب الشيخ الطوسي قد تعرَّض للتحريف فقد أوضحنا بطلانه آنفاً ، فلا حاجة لإعادته.

٥٨٢

* * *

قال الكاتب : في زيارتي للهند التقيت السيد دلدار علي فأهداني نسخة من كتابه (أساس الأصول) جاء في ص ٥١ : (إن الأحاديث المأثورة عن الأئمة مختلفة جداً لا يكاد يُوجَد حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه ، ولا يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده) وهذا الذي دفع الجم الغفير إلى ترك مذهب الشيعة.

وأقول : هذه الحكاية هي القشَّة التي قصمتْ ظهر البعير ، فإنها كذبة صلعاء لا يمكن توجيهها بوجه ، وذلك لأن الكاتب لا يمكن أن يدرك السيد دلدار علي الذي مضى على وفاته عند كتابة الكاتب لكتابه (لله ثمّ للتاريخ) مائة وخمس وثمانون سنة.

قال البحاثة المتتبع آغا بزر الطهراني في كتابه (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) :

أساس الأصول : في الرد على الفوائد المدنية الاسترآبادية ، للعلامة السيد دلدار علي بن محمد معين النقوي النصيرآبادي اللكهنوي ، المجاز من آية الله بحر العلوم ، والمتوفى سنة ١٢٣٥ ... (١).

وعليه فلو فرضنا أن الكاتب رأى السيد دلدار في سنة وفاته ، وكان الكاتب في أول بلوغه ، أي أن عمره كان خمس عشرة سنة ، فإن عُمْر المؤلف حين كتب كتابه (لله ثمّ للتاريخ) سيكون مائتي (٢٠٠) سنة.

مع أن الكاتب قد صرَّح فيما تقدَّم أن الشاعر أحمد الصافي النجفي يكبره بحوالي ثلاثين سنة ، والصافي النجفي من مواليد سنة ١٣١٤ ه‍ ـ ، وعليه فيكون الكاتب من مواليد ١٣٤٤ ه‍ ـ ، فيكون عمره في سنة ١٤٢٠ ه‍ ـ هو ٧٦ سنة ، فما أبعد التفاوت في كلامه الدال على عدم وثاقته ، ولهذا حقَّ لنا إسقاط كل حكاياته التي ذكرها في كتابه ، وادَّعى فيها المشاهدة.

وأما قوله : (وهذا الذي دفع الجم الغفير إلى ترك مذهب الشيعة) ، فيردُّه أنّا لم

__________________

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢ / ٤.

٥٨٣

نسمع عن شخص معروف أنه ترك مذهب الشيعة وتحوَّل إلى مذاهب أهل السنة ، بخلاف الذين تركوا التسنُّن فهم كثيرون جداً ، وقد كتب الشيخ هشام آل قطيط المتشيِّع كتاباً في ثلاثة مجلدات باسم (المتحوِّلون : حقائق ووثائق) ، ذكر فيه العشرات من العلماء والمفكرين الذين تشيَّعوا ، وكتبوا كتباً يذكرون فيها الأسباب التي دعتهم لترك مذاهبهم والتحوُّل إلى مذهب الشيعة الإمامية.

ولا بأس أن أسرد لك قائمة بأسماء بعض المتشيعين مع ذكر بعض مؤلفاتهم :

١ ـ الشيخ محمد مرعي الأنطاكي الحلبي : ذكر قصة تشيعه في كتابه (لما ذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام).

٢ ـ الشيخ محمد أمين الأنطاكي الحلبي : ذكر قصة تشيعه في كتابه (في طريقي إلى التشيع).

٣ ـ الداعية الدكتور السيد محمد التيجاني السماوي (تونس) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (ثمّ اهتديت).

٤ ـ مروان خليفات (الأردن) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (وركبتُ السفينة).

٥ ـ المحامي أحمد حسين يعقوب (الأردن) : ألف سلسلة من الكتب التي ينتصر فيها لمذهب الشيعة الإمامية ، منها (نظرية عدالة الصحابة) و (النظام السياسي في الإسلام) ، و (المواجهة مع رسول الله وآله) ، وغيرها.

٦ ـ الشيخ معتصم سيد أحمد (السودان) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (الحقيقة الضائعة : رحلتي نحو مذهب آل البيت عليهم‌السلام).

٧ ـ السيد إدريس الحسيني (المغرب) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (لقد شيعني الحسين عليه‌السلام).

٨ ـ الباحث العراقي صائب عبد الحميد : له كتب كثيرة ، منها (منهج في الانتماء المذهبي) وغيره.

٥٨٤

٩ ـ الكاتب المصري صالح الورداني : ذكر قصة تشيعه في كتابه (الخدعة : رحلتي من السنة إلى الشيعة) ، وله مجموعة من الكتب النافعة.

١٠ ـ السيدة لمياء حمادة (سوريا) : ذكرت قصة تشيعها في كتابها (وأخيراً أشرقت الروح).

١١ ـ السيد حسين الرجا (سوريا) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (دفاع من وحي الشريعة ضمن دائرة السنة والشيعة).

١٢ ـ الشيخ هشام آل قطيط (سوريا) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (ومن الحوار اكتشفت الحقيقة).

١٣ ـ الدكتور أسعد وحيد القاسم (فلسطين) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (حقيقة الشيعة الاثني عشرية).

١٤ ـ المحامي محمد علي المتوكل (السودان) : ذكر قصة تشيعه في كتابه (ودخلنا التشيع سُجَّداً).

١٥ ـ الدكتور سعيد أيوب (مصر) : له كتاب (وجاء الحق) وغيره.

* * *

قال الكاتب : ولننظر في القول بتحريف القرآن ، فإن أول كتاب نص على التحريف هو كتاب سليم بن قيس الهلالي (ت ٩٠ ه‍ ـ) فإنه أورد روايتين فقط ، وهو أول كتاب ظهر للشيعة ، ولا يوجد فيه غير هاتين الروايتين.

ولكن إن رجعنا إلى كتبنا المعتبرة ، والتي كُتِبَتْ بعد كتاب سليم بن قيس بدهور فإن ما وصل إلينا منها طافح بروايات التحريف ، حتى تسنى للنوري الطبرسي جمع أكثر من ألْفَيْ رواية في كتابه (فصل الخطاب).

وأقول : إن الكاتب هنا اعتبر كتاب سليم بن قيس أول كتاب ظهر للشيعة ولا

٥٨٥

يحتوى إلا على روايتين فقط دالَّتين على التحريف ، بينما سيأتي قريباً في كلامه تصريحه بأن كتاب سليم بن قيس كتاب اختلقه أبان بن أبي عياش ونسبه لسليم.

وأما روايات التحريف فقد أجبنا عليها فيما سبق ، ولا حاجة لتكرار الكلام فيها ، ونقلنا فيما مرَّ قول آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي في كتابه (آلاء الرحمن) ، الذي أوضح به أن الميرزا النوري جمع الرواية الواحدة من مصادر مختلفة بحيث أشعر القارئ أنها روايات مختلفة ، بينما هي رواية واحدة ، فراجع كلمته فإنها مفيدة جداً.

وأما وجود روايات ظاهرة في التحريف في المصادر المعتمدة عند الشيعة فهذا لا يضر ، لوجود أضعافها في كتب أهل السنة ، وقد اشتمل صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما من كتبهم الحديثية المعتمدة على كثير من تلك الروايات ، ووجود هذه الروايات لا يستلزم القول بالتحريف كما أوضحنا فيما مرَّ.

* * *

قال الكاتب : فمن الذي وضع هذه الروايات؟ وبخاصة إذا رجعنا إلى ما ذكرناه آنفاً في بيان ما أُضيف إلى الكتب ، وبالذات الصحاح تبين أن هذه الروايات وُضعَتْ في الأزمان المتأخرة عن كتاب سليم بن قيس ، وقد يكون في القرن السادس ، أو السابع ، حتى أن الصدوق المتوفى ٣٨١ ه‍ ـ قال : (إن مَن نسب للشيعة مثل هذا القول ـ أي التحريف ـ فهو كاذب) لأنه لم يُسْمَعْ بمثل هذه الروايات ، ولو كانت موجودة فعلا لَعُلِمَ بها أو لَسُمعَ.

وكذلك الطوسي أنكر نسْبَةَ هذا الأمر إلى الشيعة كما في تفسير (التبيان في تفسير القرآن) ط النجف ١٣٨٣ ه‍ ـ وأما كتاب سليم بن قيس فهو مكذوب على سليم بن قيس وضعه إبان بن أبي عياش ، ثمّ نسبه إلى سليم. وابان هذا قال عنه ابن المطهر الحلي والأردبيلي : (ضعيف جداً ، وَينْسِبُ أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه) انظر الحلي ص ٢٠٦ ، جامع الرواة للأردبيلي ١ / ٩.

٥٨٦

وأقول : أنا أتعجب من هذه الاستدلالات الغريبة ، فإن الكاتب استدل على أن روايات التحريف لم يُسمع بها في زمان الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي بأنهما نفيا تحريف القرآن ، وجعل ذلك دليلاً على أن تلك الروايات لم يكن لها وجود في زمانهما ، وإنما اختُلقت بعدهما بمدة مديدة ، مع أن الروايات المزبورة كانت موجودة في زمانهما بل قبله ، ولهذا أشار إليها الشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣ ه‍ ـ والمعاصر للصدوق في كتابه (أوائل المقالات) كما مرَّ النقل عنه.

ولعل الكاتب نسي أنه قد ذكر قبل سطور قليلة أن تلك الروايات مذكورة في كتاب سليم بن قيس ، وهو مكتوب قبلهما بسنين كثيرة ، ونسي أنه ذكر فيما مرَّ روايات نقلها عن الكافي للكليني (ت ٣٢٩ ه‍ ـ) دالة عنده على التحريف.

وإذا كان الكاتب قد جزم بأن روايات تحريف القرآن مدسوسة في كتب الأحاديث الشيعية في العصور المتأخرة ، فلا بد من الجزم أيضاً بأن أحاديث التحريف المروية في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث عند أهل السنة قد زيدت فيها في العصور المتأخرة ، وذلك لأن البخاري ومسلم ومالك وأصحاب السنن الأربعة والمعاصرين لهم لم يكونوا يقولون بالتحريف مع وجود روايات التحريف الكثيرة الصريحة في كتبهم ، وهذا يدل ـ بميزان الكاتب ـ أن تلك الروايات قد زيدت فيما بعد في كتبهم ، وإلا لو رأوها لقالوا بالتحريف.

* * *

قال الكاتب : ولما قامت الدولة الصفوية صار هناك مجال كبير لوضع الروايات وإلصاقها بالإمام الصادق وبغيره من الأئمة سلام الله عليهم.

وأقول : هذا كلام غريب ، وما أكثر الغرائب في كلام هذا الكاتب ، فإن المجاميع الحديثية الشيعية كلها كُتِبتْ في العصور التي سبقت الدولة الصفوية (حوالي

٥٨٧

٩٠٠ ه‍ ـ ١١٣٤ ه‍ ـ) (١) ، فإن الكليني صاحب الكافي توفي سنة ٣٢٩ ه‍ ـ ، والشيخ الصدوق صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه توفي سنة ٣٨١ ه‍ ـ ، والشيخ الطوسي صاحب التهذيب والاستبصار توفي سنة ٤٦٠ ه‍ ـ ، فما أبعد أزمانهم عن زمان الدولة الصفوية.

وأما من جاء بعدهم كالفيض الكاشاني مؤلِّف كتاب الوافي المتوفى سنة ١٠٩١ ه‍ ـ ، والحر العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة المتوفى سنة ١١٠٤ ه‍ ـ ، فإنهما جمعا روايات الكتب الأربعة ورتَّباها وبوَّباها لا أكثر.

وأما المجلسي صاحب بحار الأنوار المتوفى سنة ١١١١ ه‍ ـ ، فإنه جمع في كتابه من الأخبار والآثار ما تفرَّق في الكتب الكثيرة التي كتبها أساطين المذهب ، والتي يُخشى اندثارها كما اندثر غيرها من كتب الحديث ، فأوعز كل ما نقله إلى مصدره ، وجاءت الطبعة الحديثة من هذا الكتاب مزدانة ببيان المصادر التي نقل المجلسي عنها بأرقام المجلدات والصفحات.

وأما الميرزا حسين النوري صاحب مستدرك الوسائل المتوفى سنة ١٣٢٠ ه‍ ـ فإنه استدرك على كتاب وسائل الشيعة ما لم يذكره الحر العاملي رحمه‌الله في الوسائل مما هو مذكور في الكتب الأخرى المعروفة التي كتبها العلماء السابقون ، وقد طُبع هذا الكتاب طبعة جديدة محقَّقة ذكرت فيها المصادر بأرقام المجلدات والصفحات.

فإذا اتضح ذلك يُعلم زيف مزاعم الكاتب وبطلان دعاويه ، ويتبين أن كل كتب الحديث إما أنها كانت مكتوبة قبل قيام الدولة الصفوية ، أو مصادرها كانت مكتوبة كذلك.

* * *

قال الكاتب : بعد هذا الموجز السريع تبين لنا أن مصنفات علمائنا لا يُوثَقُ بها ،

__________________

(١) راجع دائرة المعارف الإسلامية ١٤ / ٢٣٤. دائرة المعارف للبستاني ١٠ / ٧٣٦.

٥٨٨

ولا يُعْتَمَدُ عليها إذ لم يُعْتَنَ بها ، ولهذا عَبِثَت بها أيدي العِدَى ، فكان من أمرها ما قد عرفتَ.

وأقول : بل تبيَّن للقارئ العزيز أن كل ما قاله الكاتب ما هو إلا أوهام وخيالات ، لا تستند على دليل ولا تنهض بها حجَّة ، وأن الكاتب لم يعتمد في كلامه على الإثبات ، وإنما تشبث بخيوط من سراب ، فجمع ما ظن أنه يصل به إلى غايته ، ويحقق به بُغيته ، فباء بالخسران ، ورجع بالخيبة والخذلان.

إن الكاتب لم يستطع أن يثبت بدليل واحد أن ثمة أحاديث زيدت في الكتب المعروفة ، فيذكرها بأعيانها بعد مقارنة النُّسَخ القديمة بالنُّسَخ الحديثة من الكتب المذكورة ، ولم يتمكن من التدليل على أنها عُبث بها ، مع أنها لو زيد فيها لسهل على الباحث اكتشاف ذلك ، بسبب أن النَّقَلَة عنها كثيرون ، والمعتنون بها لا يحصَون ، فكيف يخفى عن كل هؤلاء ذلك العبث ، أو يتواطأ كل أولئك على قبول ذلك العبث والرضا به؟!

* * *

قال الكاتب : والآن نريد أن نُعَرِّجَ على لَونٍ آخر من آثار العناصر الأجنبية في التشيع.

إنها قضية الإمام الثاني عشر ، وهي قضية خطيرة جداً.

لقد تناول الأخ الفاضل السيد [كذا] أحمد الكاتب هذا الموضوع فبين أن الإمام الثاني عشر لا حقيقة له ، ولا وجود لشخصه ، وقد كفانا الفاضل المذكور مهمة البحث في هذا الموضوع ، ولكني أقول : كيف يكون له وجود وقد نصت كتبنا المعتبرة على أن الحسن العسكري ـ الإمام الحادي عشر ـ توفي ولم يكن له ولد ، وقد نظروا في نسائه وجواريه عند موته فلم يجدوا واحدة منهن حاملاً أو ذات ولد ، راجع لذلك كتاب

٥٨٩

الغيبة للطوسي ص ٧٤ ، الإرشاد للمفيد ص ٣٥٤ ، أعلام الورى للفضل الطبرسي ص ٣٨٠ ، المقالات والفرق للأشعري القمي ص ١٠٢.

وأقول : هذا من غرائب الأكاذيب ، فإن الشيخ الطوسي قدس‌سره في كتاب الغيبة قد أثبت ولادة الإمام المهدي بأدلة كثيرة ، ولهذا قال في الصفحة المذكورة ، ص ٧٤ :

والخبر بولادة ابن الحسن عليه‌السلام وارد من جهات أكثر مما يثبت به الأنساب في الشرع ، ونحن نذكر طرفاً من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأما إنكار جعفر بن علي ـ عم صاحب الزمان عليه‌السلام ـ شهادة الإمامية بولد لأخيه الحسن بن علي وُلِد في حياته ، ودفعه بذلك وجوده بعده ، وأخذه تركته وحوزة ميراثه ، وما كان منه في حمل سلطان الوقت على حبس جواري الحسن عليه‌السلام واستبدالهن بالاستبراء لهن من الحمل ليتأكد نفيه لولد أخيه ، وإباحته دماء شيعتهم بدعواهم خلفاً له بعده كان أحق بمقامه ، فليس بشبهة يعتمد على مثلها أحد من المحصِّلين ، لاتفاق الكل على أن جعفراً لم يكن له عصمة كعصمة الأنبياء ، فيمتنع عليه لذلك إنكار حق ودعوى باطل ، بل الخطأ جائز عليه ، والغلط غير ممتنع منه.

انتهى كلامه قدس‌سره ، وهو واضح في أنه كان في صدد إثبات ولادة المهدي عليه‌السلام ، والظاهر أن الكاتب قد نسب إنكار جعفر بن علي ولادة الإمام المهدي عليه‌السلام للشيخ الطوسي رحمه‌الله ، وهذا غير بعيد منه.

وأما الشيخ المفيد قدس الله نفسه فإنه نصَّ في كتابه الإرشاد على إمامة الإمام المهدي عليه‌السلام بعد أبيه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، فقال :

وكان الإمام بعد أبي محمد عليه‌السلام ابنه المسمَّى باسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المكنَّى بكنيته ، ولم يخلف أبوه ولداً ظاهراً ولا باطناً غيره ، وخلفه غائباً مستتراً على ما قدَّمنا ذكره ، وكان مولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، وأمّه أم ولد يقال لها نرجس ، وكان سنّه عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه الله فيها الحكمة وفصل

٥٩٠

الخطاب ، وجعله آية للعالمين ، وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيّا ، وجعله إماماً في حال الطفولية الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم في المهد نبيّا (١).

ثمّ ذكر أن الأخبار بغيبته مستفيضة قبل ولادته ، وأن له غيبتين ، إحداهما أطول من الأخرى ، وعقد باباً في ذكر طرف من الدلائل على إمامته ، وباباً في ما جاء من النص على إمامته ، وباباً في ذكر من رآه ، وباباً في كراماته ومعجزاته ... إلى آخر ما ذكره ، وكله صريح في نفي ما نسبه الكاتب إليه من القول بعدم ولادته.

وأما الشيخ الطبرسي في إعلام الورى فإنه عقد فصولاً في ترجمة الإمام المهدي عليه‌السلام ، فعقد فصلاً في ذكر اسمه وكنيته ولقبه ، وفصلاً آخر في ذكر مولده واسم أمّه ، وفصلاً ثالثاً في ذكر من رآه ، وفصلاً آخر في ذكر الدلائل على إثبات غيبته وصحَّة إمامته ، وفصلاً آخر في ذكر أسماء الذين شاهدوه ورأوا دلائله وخرج إليهم من توقيعاته ... إلى آخر ما ذكره من الفصول الدالة على بطلان ما نسبه إليه الكاتب من نفي ولادته.

وبقول مختصر فإن كل من نسب إلى واحد من علمائنا المعروفين أنه يقول بعدم ولادة الإمام المهدي عليه‌السلام فهو كاذب مفتر ، لا يستحيي ولا يخجل ، وذلك لأن أقوالهم معروفة ، وكتبهم مشهورة.

* * *

قال الكاتب : وقد حقق الأخ الفاضل السيد [كذا] أحمد الكاتب في مسألة نُوَّاب الإمام الثاني عشر فأثبت أنهم قوم من الدَّجَلَة ادَّعُوا النيابة من أجل الاستحواذ على ما يُراد من أموال الخُمس ، وما يُلْقَى في المرقد [كذا] ، أو عند السرداب من تبرعات.

__________________

(١) الإرشاد ، ص ٣٤٦.

٥٩١

وأقول : لا شأن لنا بما قاله أحمد الكاتب ، لأنا لا نكتب ردّاً على أقواله ، وإنما كلامنا مع كاتب (لله ثمّ للتاريخ) ، وكلام أحمد الكاتب كله مردود عليه ، فراجع إن شئت كتاب (دفاع عن التشيع) للسيد نذير الحسني ، وكتاب (متاهات في مدينة الضباب) ، وهو مجموعة حوارات وقعت بينه وبين بعض المحاورين الشيعة في شبكة هجر الثقافية.

وأما ما يرتبط بموضوع النواب الأربعة فإن أحمد الكاتب لم يأتِ بأي دليل ينفي نيابتهم ، وإنما أنكر أن يكون عنده دليل على وثاقة السفراء الأربعة ، فقال : إذن فلا يمكننا أن نصدق بدعوى أولئك النواب بالنيابة عن الإمام المهدي ، ونعتبر قولهم دليلاً على وجود الإمام ، استناداً إلى دعاوى المعاجز أو العلم بالغيب ، ولا يمكننا أن نميز دعواهم عن دعوى أدعياء النيابة الكاذبين الذين كانوا يتجاوزون الأربعة والعشرين (١).

وزعم أن هؤلاء السفراء مستفيدون من ادعاء السفارة ، وقد ادعى السفارة كثيرون ، فلا بد من الحكم بكذب الكل ، فقال : وإذا كنا نتَّهم أدعياء النيابة الكاذبين بجر النار إلى قرصهم ، وبالحرص على الأموال والارتباط بالسلطة العباسية القائمة يومذاك ، فإن التهمة تتوجَّه أيضاً إلى أولئك النواب الأربعة الذين لم يكونوا بعيدين عنها (٢).

وهذا كلام لا يخفى فساده ، لأنه على هذا المنهج لا بد أن ينكر نبوة نبيِّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن هناك من ادعى النبوة في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مستفيداً من هذا الادعاء ، والتهمة حينئذ تتوجَّه إلى الكل ، ولنفس السبب يلزمه أيضاً أن ينكر إمامة كل الأئمة من غير استثناء.

وأما اتهام النواب الأربعة بالكذب والدجَل فهو سهل من أمثال أحمد الكاتب ،

__________________

(١) تطور الفكر السياسي الشيعي.

(٢) نفس المصدر.

٥٩٢

ولكن من الصعب عليه إثباته ، والإمام المهدي عليه‌السلام قد جعل له سفراء أربعة معروفين بالقداسة والتقوى والورع ، بشهادة المؤالف والمخالف ، ولم ينقل عنهم دجل ولا تكالب على جمع الأموال ولا حب الرئاسة ، وقد كان أول السفراء ـ وهو أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري رحمه‌الله ـ وكيلاً للإمامين الهادي والعسكري ، وكان ثقة جليلاً ممدوحاً منهما ، ومنه تسلسلت النيابة إلى بقية النواب ، وكانت التواقيع تصدر من الإمام عليه‌السلام منبِّهة الشيعة ومحذِّرة لهم من كل من سوَّلت له نفسه أن يدَّعي النيابة عن الإمام عليه‌السلام في حال غيبته ، وقد ذكر ذلك كله الشيخ الطوسي قدس‌سره في كتابه الغيبة ، فراجعه ، فإن فيه فوائد مهمة وكثيرة (١).

* * *

قال الكاتب : وَلْنَرَ ما يصنعُه الإمام الثاني عشر المعروف بالقائم أو المنتظر عند خروجه :

١ ـ يضع السيف في العرب : (روى المجلسي أن المنتظر يسير في العرب بما في الجفر الأحمر وهو قَتَلهم) بحار الأنوار ٥٢ / ٣١٨.

وأقول : هذا الحديث نقله المجلسي عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ، وسنده هو : أحمد بن محمد ، عن ابن سنان ، عن رفيد مولى أبي هبيرة.

وهو حديث ضعيف ، وذلك لأن أحمد بن محمد الذي يروي عنه الصفار هو أحمد بن محمد بن عيسى ، فيكون ابن سنان المذكور في السند هو محمد بن سنان ، لأن أحمد بن محمد لا يروي عن عبد الله بن سنان الثقة ، ومحمد هذا ضعيف ، قد مرَّ بيان حاله فيما سبق.

هذا مضافاً إلى أن رفيداً مولى ابن (أو أبي) هبيرة لم يثبت توثيقه في كتب

__________________

(١) راجع كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، ص ٢١٤ وما بعدها.

٥٩٣

الرجال.

ومع الإغماض عن سند الرواية فيحتمل أن السبب في أن المهدي عليه‌السلام سيسير في العرب بالذبح هو أنه عليه‌السلام سيظهر في بلاد العرب ، والعرب لن يسلِّموا له الأمر طواعية ، بل سيحاربونه ويحاربهم ، وسيقتل منهم من حاربه.

ولا ريب في أن كل من كفَّ يده ، وترك مقاتلة الإمام عليه‌السلام عند خروجه ، ودان له بالطاعة ، فلن يصيبه أي مكروه منه ، ولن يقصده الإمام بالحرب ، سواء أكان من العرب أم من العجم.

فالحديث يشير إلى أن طوائف من العرب ستحارب الإمام المهدي عليه‌السلام عند ظهوره ، وأن الإمام سيحاربهم حتى يخضعهم أو يقتلهم.

وهذا المعنى قد ورد في بعض أحاديث أهل السنة ، فقد أخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن نافع بن عتبة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : تقاتلون جزيرة العرب ، فيفتحهم الله ، ثمّ تقاتلون الروم ، فيفتحهم الله ، ثمّ تقاتلون فارس ، فيفتحهم الله ، ثمّ تقاتلون الدجال ، فيفتحه الله (١).

* * *

قال الكاتب : وروى أيضاً : (ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح) بحار الأنوار ٥٢ / ٣٤٩.

وأقول : الظاهر أن المراد بهذا الحديث هو أنه لم يبق بين أهل البيت عليهم‌السلام وبين العرب إلا قتل العرب لهم ، فإنهم قد أولغوا في دماء أهل البيت وبني هاشم ، فقتلوهم شر تقتيل ، وسفكوا من دمائهم الكثير ، وذلك بقرينة قوله عليه‌السلام : (ما بقي) ، فكأنه

__________________

(١) المستدرك ٤ / ٤٢٦ ط حيدرآباد ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

٥٩٤

قال : ما بقي لنا شيء من الحقوق عليهم ، إلا أنهم عَدَوا علينا بالقتل والذبح ، وكلامه عليه‌السلام هذا إشارة إلى الحالة التي كانت في زمان الصادق عليه‌السلام ، لأن أبا جعفر المنصور قد قتل من بني هاشم العدد الكثير كما هو مذكور في التاريخ.

* * *

قال الكاتب : وروى أيضاً : (اتَّقِ العرب ، فإن لهم خبرُ سوءٍ ، أما إنه لم يخرج مع القائم منهم واحد) بحار الانوار ٥٢ / ٣٣٣.

وأقول : روى المجلسي هذه الرواية عن كتاب الغيبة للشيخ ، وسند هذه الرواية هو : الفضل ، عن علي بن أسباط ، عن أبيه أسباط بن سالم ، عن موسى الأبار.

وهذه الرواية ضعيفة السند ، فإن راوي الرواية موسى الأبار مجهول الحال ، لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، والراوي عنه أسباط بن سالم ، وهو لم يُوثَّق.

ومع الإغماض عن سند هذه الرواية فإنها معارضة بأخبار أخر دلَّت على أن بعض أنصاره من العرب.

منها : ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن جابر الجعفي ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدّة أهل بدر ، فيهم النجباء من أهل مصر ، والأبدال من أهل الشام ، والأخيار من أهل العراق ، فيقيم ما شاء الله أن يقيم (١).

* * *

قال الكاتب : قلت : فإذا كان كثير من الشيعة هم من أصل عربي ، أيشهر القائم السيف عليهم ويذبحهم؟؟

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي ، ص ٢٨٤. بحار الأنوار ٥٢ / ٣٣٤.

٥٩٥

لا ... لا ... إن وراء هذه النصوص رجالاً لَعِبُوا دوراً خطيراً في بث هذه السموم ، لا تستغربن ما دام كسرى قد خلص من النار إذ روى المجلسي عن أمير المؤمنين : (أن الله قد خلصه ـ أي كسرى ـ من النار ، وأن النار محرَّمة عليه) البحار ٤١ / ٤.

هل يعقل أن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يقول إن الله قد خَلَّصَ كسرى من النار ، وإن النار مُحَرَّمَةٌ عليه؟؟

وأقول : لقد قلنا فيما تقدَّم : إن الإمام المهدي عليه‌السلام لا يقاتل من آمن به ولم يحاربه ، وأما شيعته ومواليه فهم أنصاره وأحبَّاؤه ، فكيف يقتلهم ويسفك دماءهم؟!

وأما حديث كسرى فقد رواه الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي عليه الرحمة في كتاب الفضائل ، ومحمد بن جرير الشيعي في نوادر المعجزات عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، عن عمار الساباطي (١) ، وهو حديث موقوف ، من كلام عمار نفسه ، لم يروه عن الإمام المعصوم ، فلا يصلح للاحتجاج به.

والوارد في هذا الحديث أن جمجمة كسرى أنوشيروان نطقت ، فكان مما قالت : إني كنت ملكاً عادلاً شفيقاً على الرعايا رحيماً ، لا أرضى بظلم ، ولكن كنت على دين المجوس ، وقد ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمان ملكي ، فسقط من شرفات قصري ثلاثة وعشرون شرفة ليلة ولد ، فهممت أن أؤمن به ... ولكني تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك ... فأنا محروم من الجنة بعدم إيماني به ، ولكني مع هذا الكفر خلَّصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية ، وأنا في النار ، والنار محرَّمة عليَّ ... (٢).

فالحديث نصٌّ صريح في أن كسرى أنوشيروان من أهل النار ، ولكنه لا يُعذَّب

__________________

(١) الفضائل ، ص ٦٤ ط حجرية ، وطبعة أخرى ص ٧٠. نوادر المعجزات ، ص ٢١. بحار الأنوار ٤١ / ٢١٥.

(٢) عيون المعجزات ، ص ١٠. مستدرك الوسائل ١٨ / ١٦٩. بحار الأنوار ٤١ / ٢١٣.

٥٩٦

فيها لعدله في رعيته ، وهذا غير ممتنع على الله ، وليس قبيحاً منه سبحانه ، لما فيه من الترغيب في العدل والترهيب من الظلم.

ولا يخفى أن غرض الكاتب من إيراد هذا الحديث هو إيهام القرَّاء بأن الشيعة لديهم نزعات فارسية تدعوهم إلى تقديس كسرى والفرس ، مع أن الحديث المشار إليه ـ مضافاً إلى ضعف سنده ـ فيه تصريح بدخول كسرى أنوشيروان النار ، وبيان أن تحريم النار عليه خاصة إنما هو بسبب عدله لا فارسيته ، ولهذا جاءت الأخبار في ذم غيره من ملوك الفرس ، ومنهم كسرى المعاصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد روى الشيخ الطوسي رحمه‌الله في المبسوط أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إلى القياصرة والأكاسرة ، كتب إلى قيصر ملك الروم : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد ابن عبد الله إلى عظيم الروم ، (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الآية. فلما وصل الكتاب إليه قام قائماً ، ووضعه على رأسه ، واستدعى مسكاً فوضعه فيه ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ، فقال : اللهم ثبِّتْ ملكه. وكتب إلى ملك الفرس كتاباً : (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى كسرى ابن هرمز أن أسلموا تسلموا ، والسلام) ، فلما وصل الكتاب إليه أخذه ومزَّقه ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : تَمَزَّق ملكه (١).

وروى الراوندي في الخرائج والجرائح أنه لما بُعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة بعث كسرى رسولاً إلى باذان عامله في أرض المغرب : بلغني أنه خرج رجل قبلك يزعم أنه نبي ، فلتقل له : فليكفف عن ذلك ، أو لأبعثنَّ إليه من يقتله ويقتل قومه. فبعث باذان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال : (لو كان شيء قلته مِن قِبَلي لكففت عنه ، ولكن الله بعثني). وترك رُسُل باذان وهم خمسة عشر نفراً لا يكلمهم خمسة عشر يوماً ، ثمّ دعاهم ، فقال : اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا له : إن ربي قتل ربّه الليلة ، إن ربي قتل كسرى الليلة ، ولا كسرى بعد اليوم ، وقتل قيصر ولا قيصر بعد اليوم. فكتبوا قوله

__________________

(١) المبسوط ٨ / ١٢٢.

٥٩٧

فإذا هما قد ماتا في الوقت الذي حدَّثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وفي مناقب آل أبي طالب عن مجالس بن مهدي المامطيري : أن النبي كتب إلى كسرى : (من محمد رسول الله إلى كسرى ابن هرمز ، أما بعد فأسلم تسلم ، وإلا فأذن بحرب من الله ورسوله ، والسلام على من اتبع الهدى). فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به ، وقال : من هذا الذي يدعوني إلى دينه ، ويبدأ باسمه قبل اسمي. وبعث إليه بتراب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مزق الله ملكه كما مزق كتابي ، أما إنه ستمزقون ملكه ، وبعث إليَّ بتراب أما إنكم ستملكون أرضه) ، فكان كما قال (٢).

* * *

قال الكاتب : ٢ ـ يهدم المسجد الحرام والمسجد النبوي.

روى المجلسي : (إن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه ، والمسجد النبوي إلى أساسه) بحار الأنوار ٥٢ / ٣٣٨ ، الغيبة للطوسي ٢٨٢.

وأقول : هذا الخبر رواه المجلسي قدس‌سره عن كتاب الإرشاد للمفيد (٣) ، والمفيد رواه مرسلاً عن أبي بصير.

ورواه الكليني في الكافي بهذا السند : أحمد بن محمد ، عمن حدَّثه ، عن محمد بن الحسين ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير (٤).

وهو واضح الإرسال ، فإن الراوي عن محمد بن الحسين غير معروف.

ورواه الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) بهذا السند : الفضل بن شاذان ، عن

__________________

(١) الخرائج والجرائح. بحار الأنوار ٢٠ / ٣٨١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ١١٢. بحار الأنوار ٢٠ / ٣٨١.

(٣) الإرشاد ، ص ٣٦٤.

(٤) الكافي ٤ / ٥٤٣.

٥٩٨

عبد الرحمن بن أبي هاشم ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير (١).

وهو خبر ضعيف بعلي بن أبي حمزة ، وهو البطائني رأس الواقفة الملعون عدو الرضا عليه‌السلام ، وقد مرَّ بيان حاله.

والحاصل أن أسانيد هذا الخبر كلها لا تقوم بها الحجة ، فلا يصح الاحتجاج به ولا التعويل عليه.

ومع الإغماض عن سند الحديث فإن هدم المسجدين إلى أساسهما غير جائز لأحد من الناس ، والإمام المهدي عليه‌السلام أعرف بما يجوز له وما لا يجوز ، ونحن نعرف الحق والعَدْل من فعله عليه‌السلام ، فإذا هدَمَ المسجدين إلى أساسهما فلا ينبغي لنا أن نشك في صحة فعله وكونه مرضيّاً عند الله سبحانه ، وإلا لما كان المهدي عليه‌السلام محمود السيرة ، وموصوفاً بأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

ولعل الوجه في هدم المسجدين إلى أساسهما ـ على فرض صحَّة الحديث ـ هو أن بعض نواحي المسجدين بناها سلاطين الجور من قبل لغير الله رياءً وسمعة ، أو بنوها بمال حرام أو مغصوب ، أو أن الإمام عليه‌السلام يريد بذلك أن يمحو آثار الظالمين وسلاطين الجور حتى لا يبقى لهم ذِكْر كما ورد في بعض الأحاديث ، أو لغير ذلك.

هذا مع أن أهل السنة رووا في كتبهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يود هدم الكعبة وإعادة بنائها ، ولكن منعه من ذلك أن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام.

فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الزبير أنه قال : حدثتني خالتي (يعني عائشة) قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عائشة لو لا أنّ قومك حديثو عهد بِشِرْكٍ لهدمتُ الكعبة ، فألزقتُها بالأرض ، وجعلتُ لها بابين : باباً شرقياً وباباً غربياً ، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر ، فإن قريشاً اقتصرتْها حيث بَنَت الكعبة (٢).

__________________

(١) الغيبة ، ص ٢٨٢.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ٩٨.

٥٩٩

وأخرج أيضاً في صحيحه عن عطاء قال : لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهلُ الشام ، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير ، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرِّئَهم أو يُحَرِّبَهم على أهل الشام ، فلما صَدَرَ الناس قال : يا أيها الناس أشيروا عليَّ في الكعبة ، أنقضها ثمّ أَبني بناءها ، أو أُصلح ما وهى منها؟ قال ابن عباس : فإني قد فُرِقَ لي رأي فيها ، أرى أن تُصلح ما وهى منها ، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه ، وأحجاراً أسلم الناس عليها ، وبُعِث عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال ابن الزبير : لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يُجِدَّه (١) ، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ، ثمّ عازم على أمري. فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها ، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة ، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ، وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة تقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو لا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحِجْر خمس أذرع ، ولجعلتُ لها باباً يدخل الناس منه ، وباباً يخرجون منه. قال : فأنا اليوم أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس. قال : فزاد فيه خمس أذرع من الحِجْر ، حتى أبدى أُسًّا (٢) نظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعاً ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشر أذرع ، وجعل له بابين ، أحدهما يُدْخَل منه ، والآخر يُخْرَج منه ، فلما قُتِلَ ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أُسٍّ نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقرَّه ، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فرُدَّه إلى بنائه ، وسُدَّ الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه (٣).

__________________

(١) أي يجعله جديداً.

(٢) أي أظهر بعض أسس البيت الذي بناه إبراهيم عليه‌السلام.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ٩٨.

٦٠٠