لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

قريباً إن شاء الله تعالى.

على أنه يمكننا أن نقول عين ما قاله الكاتب في حق أكثر علماء أهل السنة حرفاً بحرف ، فنعمد إلى كل من خالف آراءنا أو طعن فينا فنتَّهمه بأنه مدسوس في مذاهب أهل السنة لغرض الفساد والإفساد ، أو بث الفرقة بين المسلمين ، أو تشويه عقائدهم ، أو تشكيكهم فيها ، أو صرف ولائهم عن أئمة الهدى عليهم‌السلام إلى سلاطين الجور ، أو ترويج عقائد اليهود والنصارى على أنها عقائد من صميم الإسلام ، أو غير ذلك مما يمكن اتهامهم به.

* * *

قال الكاتب : وَلْنَأخذْ ثلاثة من أشهر مَن خرج من طبرستان :

١ ـ الميرزا حسين بن تقي النوري الطبرسي مؤلف كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية من كتب الشيعة ليثبت بها تحريف القرآن الكريم. وجمع أقوال الفقهاء والمجتهدين ، وكتابه وصمة عارٍ في جبين كل شيعي.

وأقول : إن كتاب (فصل الخطاب) لا يمكن أن يكون وصمة عار على جبين كل شيعي ، لأنه كتاب عبَّر فيه الكاتب عن رأيه الخاص ، ورأيه لا يلزم الشيعة كلهم حتى يكون عاراً عليهم ، ولا سيما مع تخطئتهم له وردهم عليه ، ونحن قد أجبنا عن ذلك فيما تقدم من بحوث هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادة الكلام فيه مرة ثانية.

* * *

قال الكاتب : إن اليهود والنصارى يقولون بأن القرآن مُحَرَّفٌ ، فما الفرق بين كلام الطبرسي وبين كلام اليهود والنصارى؟ وهل هناك مسلم صادق في إسلامه

٥٤١

يشهد على الكتاب الذي أنزله الله تعالى وَتَكَفَّلَ بحفظه ، يشهد عليه بالتحريف والتزوير والتبديل؟؟.!!

وأقول : بغض النظر عما يقوله اليهود والنصارى ، فإن قولهم لا قيمة له عندنا ، وموافقتهم ومخالفتهم عندنا ليست دليلاً على الحق.

والميرزا حسين النوري رحمه‌الله له جهود مشكورة وآثار مشهورة في نصرة الإسلام والذب عنه ، وهفوته في هذا الكتاب لا تجعلنا نتجاهل كل جهوده ، ولا تسقط شيئاً من اعتباره ، فإن لكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة.

هذا مع أنه لم يقل : (إن القرآن الموجود بين أيدينا محرَّف تحريف الزيادة والتبديل) ، وإنما قال : (إن بعض كلمات أو آيات القرآن سقطت من القرآن الموجود بين أيدينا).

قال آغا بزرك الطهراني في كتاب الذريعة :

(٩١٢ : فصل الخطاب في تحريف الكتاب) لشيخنا الحاج ميرزا حسين النوري الطبرستاني ابن المولى محمد تقي بن الميرزا علي محمد النوري ... أثبت فيه عدم التحريف بالزيادة والتغيير والتبديل وغيرها مما تحقق ووقع في غير القرآن ، ولو بكلمة واحدة لا نعلم مكانها ، واختار في خصوص ما عدا آيات الأحكام وقوع تنقيص عن الجامعين ، بحيث لا نعلم عين المنقوص المذخور عند أهله ، بل يعلم إجمالاً من الأخبار التي ذكرها في الكتاب مفصلاً ثبوت النقص فقط. وردَّ عليه الشيخ محمود الطهراني الشهير بالمعرب ، برسالة سماها (كشف الارتياب عن تحريف الكتاب) ، فلما بلغ ذلك الشيخ النوري كتب رسالة فارسية مفردة في الجواب عن شبهات (كشف الارتياب) كما مر في ١٠ / ٢٢٠ ، وكان ذلك بعد طبع (فصل الخطاب) ونشره ، فكان شيخنا يقول : لا أرضى عمن يطالع (فصل الخطاب) ويترك النظر إلى تلك الرسالة. ذكر في أول الرسالة الجوابية ما معناه : إن الاعتراض مبني على المغالطة في لفظ

٥٤٢

التحريف ، فإنه ليس مرادي من التحريف التغيير والبديل ، بل خصوص الإسقاط لبعض المنزل المحفوظ عند أهله ، وليس مرادي من الكتاب القرآن الموجود بين الدفتين ، فإنه باق على الحالة التي وضع بين الدفتين في عصر عثمان ، لم يلحقه زيادة ولا نقصان ، بل المراد الكتاب الإلهي المنزل. وسمعت عنه شفاها يقول : إني أَثبتُّ في هذا الكتاب أن هذا الموجود المجموع بين الدفتين كذلك باقٍ على ما كان عليه في أول جمعه كذلك في عصر عثمان ، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع على سائر الكتب السماوية ، فكان حريًّا بأن يسمَّى (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب) ، فتسميته بهذا الاسم الذي يحمله الناس على خلاف مرادي خطأ في التسمية ، لكني لم أرد ما يحملوه عليه ، بل مرادي إسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي ، وإن شئت قلت اسمه (القول الفاصل في إسقاط بعض الوحي النازل) (١).

قلت : وهذا هو مذهب جمع من الصحابة الذين نُقِلتْ أقوالهم في الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة التي دلَّت على أن بعض الصحابة كانوا يرون التحريف.

منها : ما أخرجه مسلم ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة ، أنها قالت : كان فيما أُنزل من القرآن (عَشر رضعات معلومات يُحرِّمن) ثمّ نُسخن ب ـ (خمس معلومات) ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن (٢).

قلت : هذا الحديث واضح الدلالة على أن عائشة كانت تعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٦ / ٢٣١.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ١٠٧٥. الموطَّأ ، ص ٣٢٤. سنن الترمذي ٣ / ٤٥٦. سنن أبي داود ٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤. سنن النسائي ٦ / ١٠٠. السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٢٨٩. سنن ابن ماجة ١ / ٦٢٥. صحيح سنن أبي داود ٢ / ٣٨٩. صحيح سنن النسائي ٢ / ٦٩٦. صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٣٢٨. إرواء الغليل ٧ / ٢١٨. سنن الدارمي ٢ / ١٥٧. السنن الكبرى ٧ / ٤٥٤. صحيح ابن حبان ١٠ / ٣٥ ، ٣٦. شرح السنة ٩ / ٨٠. سنن الدارقطني ٤ / ١٨١. مسند أبي عوانة ٣ / ١١٩. تفسير القرآن العظيم ١ / ٤٦٩. كتاب الأُم ٥ / ٢٦. مسند الشافعي ، ص ٢٢٠.

٥٤٣

توفي وتحريم خمس رضعات كان مما يُقرأ من القرآن ، إلا أنه سقط بعد ذلك ، لعدم وجوده في القرآن الذي بأيدينا.

ومنها : ما أخرجه ابن ماجة وأحمد والدارقطني والطبراني في الأوسط وغيرهم عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغلنا بموته دخَلَ داجن (١) فأكلها (٢).

قلت : وهذا كلام واضح الدلالة على أن عائشة تعتقد أن ضياع آية الرجم ورضاعة الكبير كان بسبب الداجن ، لا لنسخ التلاوة كما زعم القوم.

ومنها : ما أخرجه ابن حبان ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، والطيالسي وعبد الرزاق والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم ، عن زر بن حبيش قال : لقيت أُبَي ابن كعب فقلت له : إن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصاحف ويقول : إنهما ليستا من القرآن ، فلا تجعلوا فيه ما ليس منه ، قال أُبَي : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لنا ، فنحن نقول (٣).

قال ابن كثير في تفسيره : وهذا مشهور عند كثير من القُرَّاء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم

__________________

(١) الداجن : هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم ، وقد يطلق على غير الشاة مما يألف البيوت كالطير وغيرها.

(٢) سنن ابن ماجة ١ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦. مسند أحمد ٦ / ٢٦٩. سنن الدارقطني ٤ / ١٧٩. الدر المنثور ٢ / ٤٧١ في تفسير الآية ٢٣ من سورة النساء. المعجم الأوسط للطبراني ٦ / ١٠. مسند أبي يعلى ٤ / ١٤٤. حسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٣٢٨ ، وقال ابن حزم في المحلى ١٢ / ١٧٧ : هذا حديث صحيح.

(٣) صحيح ابن حبان ١٠ / ٢٧٤. مسند أحمد ٥ / ١٢٩. المعجم الكبير للطبراني ٩ / ٢٦٨ ، ٢٦٩. مجمع الزوائد ٧ / ١٤٩ قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح. تفسير القرآن العظيم ٤ / ٥٧١. موارد الظمآن ٢ / ٧٨٦. مسند الحميدي ١ / ١٨٥. وفي صحيح البخاري في كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الناس ٣ / ١٦٠٤ إشارة إلى ذلك ، فراجعه.

٥٤٤

يتواتر عنده (١).

وقال الفخر الرازي : إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما ، وإن قلنا إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر.

قال : وهذا عقدة عصبة (٢).

ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم ـ في حديث ـ أن عمر بن الخطاب قال : لو لا أن يقول الناس : (زاد عمر في كتاب الله) لكتبتُ آية الرَّجْم بيدي (٣).

وفي رواية الموطأ ، ومسند الشافعي ، والسنن الكبرى للبيهقي وغيرها قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، يقول قائل : (لا نجد حدَّين في كتاب الله) ، فقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا ، والذي نفسي بيده لو لا يقول الناس : (زاد عمر في كتاب الله) لكتبتها : (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة) ، فإنا قد قرأناها (٤).

قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن : ظاهر قوله : (لو لا أن يقول الناس ... الخ) أن كتابتها جائزة ، وإنما منعه قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من الخارج ما يمنعه ، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة ، لأن هذا شأن المكتوب (٥).

قلت : إذا كانت من القرآن فيجب كتابتها ، وإلا فلا تجوز ، والحديث واضح الدلالة على أن عمر كان يعتقد أنها من القرآن ، ولكن يمنعه من كتابتها فيه كلام

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ٤ / ٥٧٢.

(٢) فتح الباري ٨ / ٦٠٤.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ٢٢٤١. سنن أبي داود ٤ / ١٤٤ ـ ١٤٥. صحيح ابن حبان ٢ / ١٤٧. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣ / ٨٣٥ ، وإرواء الغليل ٨ / ٣.

(٤) الموطأ ، ص ٤٥٨. مسند الشافعي ، ص ١٦٣. السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ٢١٢.

(٥) البرهان في علوم القرآن ٢ / ٣٦.

٥٤٥

الناس ، وهذا عذر غير مقبول منه ، ولا سيما أنه كان حاكماً مهاباً لا يقدر أحد على معارضته.

ومنها : ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي الأسود ، قال : بعث أبو موسى الأشعري إلى قرَّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرَّاؤهم ، فاتلوه ولا يطولَنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنا نقرأ سورة ، كنا نشبِّهها في الطول والشدة ببراءة ، فأُنسيتها غير أني حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبّهها بإحدى المسبِّحات (١) فأُنسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون ، فتُكتب شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة (٢).

قلت : قوله : (فأُنسيتُها) يدل على أن السورتين اللتين أشار إليهما أبو موسى لم تنسخ تلاوتهما ، وإنما نسيهما أبو موسى وغيره من الصحابة فلم تُكتبا في المصحف المتداول عند المسلمين ، ولو لا ذلك لقال : (فنُسختا) ، ولما كان في نسيانهما قساوة قلب ، وأبو موسى ساق ذلك لبيان آثار قساوة القلب التي ابتُلي بها هو وغيره.

ومنها : ما أخرجه الحاكم بسنده عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : ما تقرءون ربعها يعني براءة ، وإنكم تسمُّونها سورة التوبة ، وهي سورة العذاب (٣).

وأخرج الطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة رضي الله عنه أيضاً ، قال : التي تسمُّون سورة التوبة هي سورة العذاب ، وما يقرءون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها (٤).

__________________

(١) هي السور التي افتُتحت بسبحان وسبَّح ويسبِّح وسبِّح.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٧٢٦.

(٣) المستدرك ٢ / ٣٣١. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. الدر المنثور ٤ / ١٢٠.

(٤) المعجم الأوسط للطبراني ١ / ٣٦٥. مجمع الزوائد ٧ / ٢٨. وقال : رواه الطبراني في الأوسط

٥٤٦

ومنها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصحَّحه وأحمد ـ واللفظ له ـ والسيوطي والبيهقي والطيالسي وغيرهم ، عن زر بن حبيش قال : قال لي أُبَي بن كعب : كائن تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كائن تعدُّها؟ قال : قلت : ثلاثاً وسبعين آية. فقال : قط؟ لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ، والله عليم حكيم (١).

وفي لفظ آخر له : قال : كم تقرءون سورة الأحزاب؟ قال : بضعاً وسبعين آية. قال : لقد قرأتُها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل البقرة أو أكثر ، وإن فيها آية الرجم (٢).

قلت : والأحاديث الدالة على سقوط سُوَر وآيات من كتاب الله كثيرة جداً في مصادرهم ، لا نرى ضرورة لاستقصائها ، لأن ذلك يخرجنا عن موضوع الكتاب.

وللخروج من هذا المأزق الذي وقع فيه أهل السنة قالوا بأنها كانت قرآناً ، ولكن نُسخت تلاوتها من كتاب الله.

قال ابن كثير بعد أن ذكر أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة : وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثمّ نُسِخَ لفظه وحُكْمه أيضاً ، والله أعلم (٣).

وقال البيهقي بعد أن ذكر آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ، وساق جملة من رواياتهم الدالة على أنها كانت في القرآن ، وأنها سقطت أو أُسقطت منه ،

__________________

ورجاله ثقات.

(١) المستدرك ٤ / ٣٥٩ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مسند أحمد ٥ / ١٣٢. السنن الكبرى ٨ / ٢١١. كنز العمال ٢ / ٤٨٠. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٧٣. الدر المنثور ٦ / ٥٥٨ عن عبد الرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدارقطني في الأفراد والحاكم وابن مردويه والضياء في المختارة.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٣٢.

(٣) تفسير القرآن العظيم ٣ / ٤٦٥.

٥٤٧

قال : في هذا وما قبله دلالة على أن آية الرجم حكمها ثابت ، وتلاوتها منسوخة ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (١).

وقال الزرقاني في شرح قول عائشة : كان فيما أُنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يُحَرِّمْنَ) ، ثمّ نُسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فيما يُقرَأ من القرآن.

قال : (فيما يُقرأ من القرآن) المنسوخ ، فالمعنى أن العَشْر نُسخت بخَمس ، ولكن هذا النسخ تأخَّر حتى توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، وبعض الناس لم يبلغه النسخ ، فصار يتلوه قرآناً ، فلما بلغه تَرَك ، فالعَشْر على قولها منسوخة الحكم والتلاوة ، والخمس منسوخة التلاوة فقط كآية الرجم ... وليس المعنى أن تلاوتها كانت ثابتة وتركوها ، لأن القرآن محفوظ (٣).

وقال الآمدي في الإحكام : المسألة السادسة : اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم ، وبالعكس ، ونسخهما معاً ، خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة ، ويدل على ذلك العقل والنقل.

إلى أن قال : وأما النقل أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة أنها قالت : (فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس) ، وليس في المصحف عشر رضعات محرمات ولا حكمها ، فهما منسوخان (٤).

وكلماتهم في جواز نسخ التلاوة ووقوعه كثيرة جداً ، وفيما ذكرناه كفاية.

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ٢١١.

(٢) هذا من مهازل التبريرات التي لهج بها علماء أهل السنة لتبرير روايات التحريف التي امتلأت بها كتبهم ، ونحن لم نكن نتصور أن نجد من يزعم أن النسخ تأخر إلى ما بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما زعمه الزرقاني هنا ، فإن هذا لم يقل به أحد.

(٣) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ٣ / ٣٢١.

(٤) الإحكام ٣ / ١٥٤.

٥٤٨

وهذا الذي ذكروه من نسخ التلاوة متَّفِق في النتيجة مع ما قاله الميرزا النوري قدس‌سره ، فإن نتيجة كلا القولين هي وقوع النقص في القرآن ، غاية الأمر أنهم سمَّوه نسخ تلاوة ، والميرزا النوري سمَّاه تحريفاً ، وإلا فالمؤدَّى واحد ، والاختلاف إنما هو في التسمية ، وتسميتهم أقل شناعة من تسمية الميرزا النوري ، ولهذا شنَّعوا عليه أعظم تشنيع ، مع أن ما شنَّعوا عليه به هم يقولون به كما أوضحناه.

* * *

قال الكاتب : ٢ ـ أحمد بن علي بن أبي طالب (١) الطبرسي صاحب كتاب (الاحتجاج).

وقال في حاشية له هنا : أطلق على نفسه هذا الاسم لقصد التمويه ، حتى يتسنَّى له بَثّ سمومه ، وإلا فإن مثله لا يصح أن ينسب نفسه للتراب الذي كان يدوسه أمير المؤمنين صلوات الله عليه. علماً أنه لا يُعْرَفُ له أصلٌ ، ولا تُعْرَفُ له ترجمة.

وأقول : إنه لم يُطلِق على نفسه هذا الاسم كما زعم الكاتب ، فلا يراد بعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام كما تصوَّره الكاتب ، وإنما هو اسم أبيه وجدّه حقيقة ، والتشابه في الأسماء غير عزيز ولا بمحرَّم.

والعجيب من مدَّعي الاجتهاد والفقاهة أنه زعم أن الطبرسي لا يُعرف له أصل ولا تعرف له ترجمة ، مع أن كتاب الاحتجاج موشَّح بترجمة ضافية له ، وقد ترجمه تلميذه ابن شهرآشوب في كتابه (معالم العلماء) ، ص ٢٥ ، والحر العاملي صاحب وسائل الشيعة في كتابه (أمل الآمل) ٢ / ١٧ ، والشيخ يوسف البحراني في كتابه (لؤلؤة البحرين) ، ص ٣٤١ ، وغيرهم.

وأما مسألة سلسلة نسبه فمن المعلوم أن العرب يُنسبون إلى قبائلهم ، والعجم

__________________

(١) للكاتب هنا حاشية أدرجناها في المتن للرد عليها.

٥٤٩

يُنسبون إلى بلادهم ، فكانت نسبة الطبرسي إلى بلده من غير أن ينسب إلى قبيلته ، وهذا جار في كثير من مشاهير الخاصة والعامة.

ولو جئنا إلى جملة من أعلام أهل السنة لما رأينا في تراجمهم ذكراً لسلسلة نسبهم ، ولا سيما إذا لم تتوفر الدواعي لنقل أنسابهم والعناية بها ، كما هو حال الطبرسي الذي اشتهر بكتابه في الاحتجاج.

ومن العجيب أن الكاتب يتكلم في أصول الأنساب مع أن بعض أئمة مذاهب أهل السنة وحفَّاظ الحديث عندهم لا تُعرف أنسابهم.

ونحن سنأخذ مثالين اثنين حذراً من الإطالة : واحد من أئمة مذاهبهم ، وواحد من حفاظ الحديث عندهم.

أما الأول فهو أبو حنيفة النعمان ، فإنه لا يُعرف أصله ولا يُعرف من أي البلاد هو.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :

الإمام فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي ، مولى بني تيم الله بن ثعلبة ، يقال : إنه من أبناء فارس (١).

إلى أن قال : قال أحمد العجلي : أبو حنيفة تيمي من رهط حمزة الزيات ، كان خزَّازاً يبيع الخز.

وقال عمر بن حماد بن أبي حنيفة : أما زوطى فإنه من أهل كابل ، وولد ثابت على الإسلام ، وكان زوطى مملوكاً لبني تيم الله بن ثعلبة ، فأُعتق ، فولاؤه لهم ، ثمّ لبني قفل ...

وقال النضر بن محمد المروزي : عن يحيى بن النضر قال : كان والد أبي حنيفة من نسا.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٦ / ٣٩٠.

٥٥٠

وروى سليمان بن الربيع عن الحارث بن إدريس : أبو حنيفة أصله من ترمذ.

وقال أبو عبد الرحمن المقري : أبو حنيفة من أهل بابل.

وروى أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول عن أبيه عن جدّه ، قال : ثابت والد أبي حنيفة من أهل الأنبار.

ثمّ نقل أن أبا حنيفة اسمه النعمان بن ثابت بن المرزبان (١).

قلت : انظر رحمك الله كيف اختلفوا في أصل واحد من أئمة مذاهبهم الأربعة على أقوال متعددة ، فما بالك بغيره.

وأما الثاني فهو ابن ماجة صاحب السنن المشهور ، فإنهم لا يزيدون في ذِكْر نَسَبه إلا على أنه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة (٢).

وقال الرافعي في تاريخ قزوين : وماجة لقب يزيد ، والد أبي عبد الله ، وكذلك رأيت بخط أبي الحسن القطان وهبة الله بن زاذان ، وقد يقال : محمد بن يزيد بن ماجة ، والأول أثبت (٣).

وعليه ، فابن ماجة لا يعرف إلا باسمه واسم أبيه فقط.

ولا ريب في أن مقام الطبرسي صاحب الاحتجاج عند الشيعة ليس كمقام أبي حنيفة وابن ماجة عند أهل السنة ، فلا ندري بعد هذا لما ذا شكَّك الكاتب في أصل الطبرسي ، وجعل ذلك طعناً فيه ، وتعامى عما ذكرناه آنفاً وغيره مما تركناه من الطعون الصحيحة في أئمتهم وحفاظ أحاديثهم.

* * *

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٦ / ٣٩٠ وما بعدها.

(٢) راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٧٧. المنتظم ١٢ / ٢٥٨. البداية والنهاية ١١ / ٥٦. تهذيب التهذيب ٩ / ٤٦٨. طبقات الحفاظ ، ص ٢٧٨. تذكرة الحفاظ ٢ / ٦٣٦. النجوم الزاهرة ٣ / ٧٠. مرآة الجنان ٢ / ١٤٠. وفيات الأعيان ٤ / ٢٧٩. الوافي بالوفيات ٥ / ٢٢٠.

(٣) التدوين في أخبار قزوين ، ص ١٦٥.

٥٥١

قال الكاتب : أورد في كتابه روايات مصرحة بتحريف القرآن ، وأورد أيضاً روايات زعم فيها أن العلاقة بين أمير المؤمنين والصحابة كانت سيئة جداً ، وهذه الروايات هي التي تتسبب في تمزيق وحدة المسلمين ، وكل من يقرأ هذا الكتاب يجد أن مؤلفه لم يكن سليم النية.

وأقول : إذا كان مجرد ذكر روايات تدل على تحريف القرآن كافياً في إدانة الكاتب واتّهامه بأنه لم يكن سليم النية ، فهذا وارد بعينه على البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجة ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وأبي داود الطيالسي والبيهقي والهيثمي والسيوطي وابن جرير الطبري وغيرهم من حفاظ الحديث وأعلام أهل السنة الذين رووا أحاديث التحريف ودوَّنوها في كتبهم (١).

وإن كانت إدانة الكاتب إنما هي بسبب اعتقاده بتحريف القرآن دون مجرد ذكر روايات التحريف فالطبرسي لم يصرِّح في كتابه بأنه يقول بالتحريف ، ولم يُنقل عنه الذهاب إلى هذا القول ، وعلى الكاتب حينئذ أن يدين جملة من الصحابة الذين روي عنهم القول بالتحريف كما دلَّت عليه روايات أهل السنة في كتبهم المعتبرة.

وأما طعن الكاتب في الطبرسي بأنه روى في الاحتجاج ما يدل على أن العلاقة بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين بعض الصحابة كانت سيِّئة جداً ، فهو غير وارد ، لأن أهل السنة رووا في كتبهم الكثير من ذلك.

فقد أخرج أحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ، وغيرهم بأسانيدهم عن أبي سعيد الخدري قال : اشتكى عليّا الناسُ ، قال : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : أيها الناس لا تَشْكُوا عليّا ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله (٢).

__________________

(١) راجع روايات تحريف القرآن المنقولة من مصادر أهل السنة في كتابنا (كشف الحقائق) ، ص ٦٧ ـ ٧٥.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٨٦. المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٣٣ ط حيدرآباد ٣ / ١٣٤ وقال الحاكم :

٥٥٢

وأخرج الترمذي في سُننه وحسَّنه ، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ، بأسانيدهم عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشاً ، واستعمل عليهم علي بن أبي طالب ، فمضى في السرية فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إذا لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي. وكان المسلمون إذا رجعوا من السفر بدءوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلَّموا عليه ، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم ، فلما قدمت السَّرِية سلَّموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام أحد الأربعة فقال : يا رسول الله ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ قام الثاني فقال مثل مقالته ، فأعرض عنه ، ثمّ قام الثالث فقال مثل مقالته ، فأعرض عنه ، ثمّ قام الرابع فقال مثل ما قالوا ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والغضب يُعرَف في وجهه ، فقال : ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن عليّا مني وأنا منه ، وهو وليُّ كل مؤمن بعدي (١).

وأخرج مسلم في صحيحه ، والترمذي في سننه عن سعد بن أبي وقاص ، قال : أمَرَ معاوية بن أبي سفيان سعداً ، فقال : ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال : أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبَّه ، لأَن تكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم ... الحديث (٢).

__________________

هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص. مجمع الزوائد ٩ / ١٢٩. حلية الأولياء ١ / ٦٨. فضائل الصحابة ٢ / ٦٧٩.

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٣٢. مسند أحمد ٤ / ٤٣٧. المستدرك ٣ / ١١٩ ، ط حيدرآباد ٣ / ١١١. صحيح ابن حبان ١٥ / ٣٧٤. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٣٢. موارد الظمآن ٢ / ٩٨٦. مسند الطيالسي ، ص ١١١. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ / ٦٠٥. خصائص أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب للنسائي ، ص ١٠٩. حلية الأولياء ٦ / ٢٩٤. المصنف لابن أبي شيبة ٦ / ٣٧٥. مسند أبي يعلى ١ / ١٨٤. المعجم الكبير للطبراني ١٨ / ١٢٨.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧١. سنن الترمذي ٥ / ٦٣٨ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

٥٥٣

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن سهل بن سعد قال : استُعمل على المدينة رجل من آل مروان ، قال : فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم عليّا ، قال : فأبى سهل ، فقال له : أما إذ أبيت فقل : (لعن الله أبا التراب). فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دُعي بها ... الحديث (١).

وأخرج الترمذي في سُننه وحسَّنه ، عن البراء ، قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشين ، وأمَّر على أحدهما علي بن أبي طالب ، وعلى الآخر خالد بن الوليد ، وقال : إذا كان القتال فعليٌّ. قال : فافتتح علي حصناً ، فأخذ منه جارية ، فكتب معي خالد كتاباً إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشي به ، قال : فقدمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ الكتاب فتغيَّر لونه ، ثمّ قال : ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله؟ قال : قلت : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، وإنما أنا رسول. فسكت (٢).

وأخرج الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ، وأبو يعلى في مسنده ، عن أبي بكر بن خالد بن عرفطة أنه قال : إن سعد بن مالك قال : بلغني أنكم تُعْرَضون على سب علي رضي الله عنه بالكوفة ، فهل سببته؟ قال : معاذ الله. قال : والذي نفس سعد بيده لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في علي شيئاً لو وُضع المنشار على مِفْرَقي على أن أسبّه ما سببته أبداً (٣).

وأخرج الضياء المقدسي ، وأبو يعلى وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبان يُعْرَف في وجهه الغضب ، فتعوَّذتُ بالله من غضبه ، فقال : مالكم وما لي؟ من آذى عليّا

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧٤.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٦٣٨ ، ٤ / ٢٠٧.

(٣) الأحاديث المختارة ٣ / ٢٧٤. مسند أبي يعلى ١ / ٣٢٨. مجمع الزوائد ٩ / ١٣٠ قال الهيثمي : رواه أبو يعلى ، وإسناده حسن. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٣٣. المصنف لابن أبي شيبة ٦ / ٣٧٥. كتاب السنة لابن أبي عاصم ، ص ٥٩٠.

٥٥٤

فقد آذاني (١).

قلت : والأحاديث الدالة على أن كثيراً من الصحابة كانوا يبغضون أمير المؤمنين عليه‌السلام ويسبّونه وينتقصونه كثيرة جداً تفوق حد الحصر ، وإنكارها كإنكار الشمس في وضح النهار ، وما ذكرناه فيه كفاية وزيادة.

وعليه ، فيلزم الكاتب أن يطعن في كثير من أعلام أهل السنة الذين رووا أمثال هذه الأمور ، كما يلزمه أن يطعن فيمن روى ما هو أعظم من ذلك.

فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ للبخاري ـ بسندهما عن عائشة : أن فاطمة عليها‌السلام بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا نُورَث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المال) ، وإني والله لا أغيِّر شيئاً من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأعملنَّ فيها بما عمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدَتْ (٢) فاطمة على أبي بكر في ذلك ، قال : فهجرَتْه فلم تكلِّمه حتى تُوفِّيتْ ، وعاشت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر ، فلما تُوفِّيتْ دفنها زوجُها عليٌّ ليلاً ، ولم يُؤْذِنْ (٣) بها أبا بكر ، وصلَّى عليها ، وكان لعليٍّ من الناس وجه حياةَ فاطمة ، فلما تُوفِّيتْ استنكر عليٌّ وجوهَ الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك. كراهةً لمحضر عمر ، فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر : وما عسيتهم أن

__________________

(١) الأحاديث المختارة ٣ / ٢٦٧. مسند أبي يعلى ١ / ٣٢٥. مجمع الزوائد ٩ / ١٢٩ قال الهيثمي : رواه أبو يعلى والبزار باختصار ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ، غير محمود بن خداش وقنان ، وهما ثقتان.

(٢) أي غضبت.

(٣) أي لم يخبر أبا بكر بالأمر.

٥٥٥

يفعلوا بي ... (١).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا نُورَث ، ما تركنا صدقة). فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى تُوفِّيتْ ، وعاشت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر. قالت : وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل به إلا عملتُ به ، فإني أخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ ، فأما صدَقَتُه بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال : هما صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمْرهما إلى وَلِيِّ الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم (٢).

وأخرج مسلم في صحيحه ـ في حديث طويل ـ عن عائشة أنها قالت : فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس ، فغلبه عليٌّ عليها ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه ... (٣).

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن الزهري أن مالك بن أوس حدَّثَه ، قال :

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ١٢٨٦. صحيح مسلم ٣ / ١٣٨٠. وأخرج هذا الحديث بألفاظ متقاربة أحمد في المسند ١ / ٦. وابن حبان في صحيحه ١١ / ١٥٢ ، ١٤ / ٥٧٣. والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٣٠٠. وعبد الرزاق في المصنف ٥ / ٣٢٧ ط أخرى ٥ / ٤٧١. وابن سعد في الطبقات الكبرى ٢ / ٣١٥.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ٩٥٢ ، ٣ / ١٢٨٦.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ١٣٨٢.

٥٥٦

أرسل إليَّ عمر بن الخطاب ، فجئته حين تعالى النهار ...

إلى أن قال : فجاء يَرْفَأ (١) فقال : هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر : نعم. فأذن لهم فدخلوا ، ثمّ جاء فقال : هل لك في عباس وعلي؟ قال : نعم. فأذن لهما ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين ، فاقض بينهم وأرِحْهم. فقال مالك بن أوس : يخيل إليَّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر : اتَّئِدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا نُورَثُ ، ما تركنا صدقة)؟ قالوا : نعم. ثمّ أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا نُورَثُ ، ما تركنا صدقة)؟ قالا : نعم.

إلى أن قال : قال ـ أي عمر ـ : فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجئتما ، تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نُورَث ، ما تركنا صدقة. فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثمّ توفي أبو بكر ، وأنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق ، فوَلِيْتُها ، ثمّ جئتني أنت وهذا ، وأنتما جميع وأمركما واحد ، فقلتما : ادفعها إلينا ، فقلت : إن شئتم دفعتُها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذتماها بذلك ، قال : أكذلك؟ قالا : نعم. قال : ثمّ جئتماني لأقضي بينكما؟ ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فرُدَّاها إلي (٢).

فما يقول الكاتب في أمثال هذه الأخبار الصحيحة عند القوم؟

__________________

(١) هو حاجب عمر بن الخطاب.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ١٣٧٧.

٥٥٧

ألا تدل روايتها في صحاحهم على أن نيَّات كُتَّابها لم تكن سليمة؟

ألا يدل ذلك على أن أهل بخارى وسمرقند ونيسابور وترمذ وسجستان وغيرها أرادوا تشويه علاقات الصحابة مع أهل البيت عليهم‌السلام؟

الجواب يعرفه الكاتب وكل من صدَّق كلامه واغترَّ به.

* * *

قال الكاتب : ٣ ـ فضل بن الحسن الطبرسي صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن ، ذلك التفسير الذي شحنه بالمغالطات والتأويل المُتَكَلَّف ، والتفسير الجاف المخالف لأبسط قواعد التفسير.

وأقول : كان على الكاتب لو كان منصفاً أن يسوق بعض الأمثلة الدالة على أن الطبرسي صاحب مجمع البيان شحن كتابه بالمغالطات والتأويلات المتكلفة ، لا أن يرسل الكلام هكذا من غير دليل ولا حجة.

هذا مع أن كتاب مجمع البيان قد جمع فيه الطبرسي رحمه‌الله أقوال مفسِّري أهل السنة ، وربما ذكر ما روي عن الصادقِينَ عليهم‌السلام ، فهو أقرب إلى تفاسير أهل السنة منه إلى التفاسير الشيعية الأخرى التي أغفلت أقوال أهل السنة وآراءهم.

ولهذا قال الدكتور محمد حسين الذهبي ـ وهو من أهل السنة ـ في كتابه (التفسير والمفسرون) : والحق أن تفسير الطبرسي ـ بصرف النظر عما فيه من نزعات تشيعية وآراء اعتزالية ـ كتاب عظيم في بابه ، يدل على تبحُّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة ، والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام وترتيب جميل ، وهو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلم فيها ، فإذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد ، وإذا تكلم عن وجوه الإعراب أجاد ، وإذا شرح المعنى الإجمالي أوضح المراد ، وإذا تكلم عن أسباب النزول وشرح القصص استوفى

٥٥٨

الأقوال وأفاض ، وإذا تكلم عن الأحكام تعرض لمذاهب الفقهاء ، وجهر بمذهبه ونصره وإن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء ، وربط بين الآيات وآخى بين الجمل ، وأوضح لنا عن حسن السبك وجمال النظم ، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال وأراح البال ، وهو ينقل أقوال من تقدَّمه من المفسِّرين معزوَّة لأصحابها ، ويرجِّح ويوجِّه ما يختار منها.

إلى أن قال : غير أنه ـ والحق يقال ـ ليس مغالياً في تشيعه ، ولا متطرِّفاً في عقيدته ، كما هو شأن كثير من علماء الإمامية الاثني عشرية (١).

وتحت عنوان (اعتداله في تشيعه) قال : والطبرسي معتدل في تشيعه غير مغالٍ فيه كغيره من متطرفي الإمامية الاثني عشرية ، ولقد قرأنا في تفسيره فلم نلمس عليه تعصباً كبيراً ، ولم نأخذ عليه أنه كفَّر أحداً من الصحابة ، أو طعن فيهم بما يذهب بعدالتهم ودينهم. كما أنه لم يغالِ في شأن علي بما يجعله في مرتبة الإله أو مصاف الأنبياء وإن كان يقول بالعصمة.

إلى أن قال : وكل ما لاحظناه عليه من تعصّبه أنه يدافع بكل قوة عن أصول مذهبه وعقائد أصحابه ، كما أنه إذا روى أقوال المفسِّرين في آية من الآيات ونقل أقوال المفسرين من أهل مذهبه ، نجده يرتضي قول علماء مذهبه ، ويؤيِّده بما يظهر له من الدليل.

وختم كلامه بقوله : وبعد أفلا ترى معي أن هذا التفسير يجمع بين حسن الترتيب وجمال التهذيب ، ودقة التعليل ، وقوة الحجة؟ أظن أنك معي في هذا. وأظن أنك معي في أن الطبرسي وإن دافع عن عقيدته ونافح عنها لم يغلُ غلو غيره ، ولم يبلغ به الأمر إلى الدرجة التي كان عليها المولى الكازراني وأمثاله من غلاة الإمامية الاثني عشرية (٢).

__________________

(١) التفسير والمفسرون ٢ / ٧٦.

(٢) المصدر السابق.

٥٥٩

* * *

قال الكاتب : إن منطقة طبرستان والمناطق المجاورة لها مليئة بيهود الخزر ، وهؤلاء الطبرسيون هم من يهود الخزر المتسترين بالإسلام.

وأقول : قال ياقوت الحموي في معجم البلدان تحت عنوان (طبرستان) : والنسبة إلى هذا الموضع الطَبَري ... وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم ، خرج من نواحيها من لا يُحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه (١).

وقال السمعاني في الأنساب في مادة (الطبري) : هذه النسبة إلى طبرستان ، وهي آمل وولايتها ... والنسبة إليها طبري ، وخرج من آمل جماعة كثيرة من العلماء والفقهاء والمحدِّثين ...

وقال : وجماعة من أهل طبرستان قديماً وحديثاً حدَّثوا وكتب عنهم الناس ، وقد يُنسب واحد إلى طبرية الشام طبرياً ، والنسبة الصحيحة إليها طبراني وقد ذكرناه.

ثمّ عدَّ جماعة من أهل طبرستان من مشاهير العلماء ، منهم : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المشهور ، صاحب التفسير والتاريخ المعروفين ، قال : وكان أحد الأئمة العلماء ، يُحكم بقوله ، ويُرجع إلى رأيه ، لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظاً لكتاب الله ، عارفاً بالقراءات ، بصيراً بالمعاني ، فقيهاً في أحكام القرآن ، عالماً بالسُّنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها ، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام ، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور (تاريخ الأمم والملوك) وكتاب التفسير ، لم يصنف أحد مثله ، وكتاب سماه (تهذيب الآثار) لم يُرَ سواه في معناه ، إلا أنه لم يتمّه ...

وعدَّ منهم أبا بكر الخوارزمي ، وأبا مروان الحكم بن محمد الطبري ، وإسحاق

__________________

(١) معجم البلدان ٤ / ١٣.

٥٦٠