لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

قال الكاتب : وزرارة هو الذي قال : (سألت أبا عبد الله عن التشهد ... إلى أن قال : فلما خرجت ضرطت في لحيته وقلت : لا يفلح أبداً) رجال الكشي ص ١٤٢.

وأقول : لقد أوضحنا فيما تقدَّم من هذا الكتاب أن هذه الرواية ضعيفة السند ، وذكرنا وجهها بما لا قدح فيه على زرارة ، وأوضحنا المراد بكلمته تلك ، فراجع.

* * *

قال الكاتب : وقال زرارة أيضاً : (والله لو حَدَّثْتُ بكل ما سمعتهُ من أبي عبد الله لانتَفَخَتْ ذكور الرجال على الخشب. رجال الكشي ص ١٢٣.

وقال في حاشية في هذا الموضع : وهذا اتهام منه لأبي عبد الله ، ومراده أن أبا عبد الله قد حدَّثه بقضايا مخزية تثير شهوة الرجال بحيث لا يمكنهم ضبط النفس عند سماعهم ذلك ، إلا إذا قضى أحدهم شهوته ولو على خشبة.

وأقول : مع الغض عن سند هذا الحديث فإن المراد بقوله : (لانتَفَخَتْ ذكور الرجال على الخشب) هو أن الذكور من الرجال ـ وهم الأشداء منهم ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ـ ينتفخون على الخشب ، أي أنهم يُصلبون ويُتركون حتى تنتفخ أبدانهم.

وهذا المعنى هو الذي أفاده السيِّد ابن طاوس في الإقبال ، فإنه بعد أن ساق قول الصادق عليه‌السلام ليونس بن يعقوب : يا يونس ليلة النصف من شعبان يُغفر لكل من زار الحسين عليه‌السلام من المؤمنين ما قدّموا من ذنوبهم ، وقيل لهم : استأنفوا العمل. قال : قلت : هذا كله لمن زار الحسين عليه‌السلام في ليلة النصف من شعبان؟ قال : يا يونس لو خبَّرتُ الناس بما فيها لمن زار الحسين عليه‌السلام لقامت ذكور رجالٍ على الخشب.

قال قدَّس الله نفسه : أقول : لعل معنى قوله عليه‌السلام : (لقامت ذكور رجالٍ على الخشب) ، أي كانوا قد صُلبوا على الأخشاب ، لعظيم ما كانوا ينقلونه ويروونه في

٥٢١

فضل زيارة الحسين عليه‌السلام في النصف من شعبان ، من عظيم فضل سلطان الحساب ، وعظيم نعيم دار الثواب ، الذي لا يقوم بتصديقه ضعاف الألباب (١).

واستجوده المجلسي قدس‌سره في البحار ، حيث قال :

بيان : أقول : على ما أفاده رحمه‌الله يكون إضافة الذكور إلى الرجال للمبالغة في وصف الرجولية وما يلزمها من الشدّة والإقدام على أمور الخير وعدم التهاون فيها ...

وقيل : المعنى أنهم يركبون على الأخشاب عند عدم المراكب مبالغة في اهتمامهم بذلك. وقيل : إنهم لكثرة استماع ما يعجبهم من وصف المناكح والمشتهيات تقوم ذكورهم على نحو الخشب. أو أنهم لكثرة ما يسمعون من تلك الفضائل يتكلمون عليها ويجترءون بعد الإتيان بها على المعاصي ، فيقوم ذكرهم على كل خشب ، مبالغة في جرأتهم وعدم مبالاتهم. والأوجه ما أفاده السيد رحمه‌الله (٢).

ومنه يتّضح أن ما ذكره الكاتب في معنى هذه العبارة من حديث زرارة لا معنى له ، وذلك لأنه لا معنى لقضاء الشهوة على الخشب ، بل معنى كلام زرارة هو أنه لو حدَّثتكم بكل ما سمعته من أبي عبد الله عليه‌السلام لصُلب بسبب ذلك الأشداء من الرجال ، بسبب إذاعته للمخالفين وعدم الحرص على كتمانه.

* * *

قال الكاتب : عن ابن مسكان قال : سمعت زرارة يقول : (رحم الله أبا جعفر ، وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفتة).

فقلت له : وما حمل زرارة على هذا؟ (قال : حمله على هذا أن أبا عبد الله أخرج مخازيه) الكشي ص ١٣١.

__________________

(١) إقبال الأعمال ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦. والحديث مروي في وسائل الشيعة ١٠ / ٣٦٦.

(٢) بحار الأنوار ١٠١ / ٩٥.

٥٢٢

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها جبريل بن أحمد الفاريابي ، وهو لم تثبت وثاقته في كتب الرجال.

ومن جملة رواة هذا الخبر محمد بن عيسى وهو العبيدي ، وهو مختلف في وثاقته ، بل إن أكثر الروايات الطاعنة في زرارة مروية عنه ، ولهذا قال السيد أحمد بن طاوس في كتابه (حل الإشكال) : ولقد أكثر محمد بن عيسى من القول في زرارة حتى لو كان بمقام عدالة كادت الظنون تسرع إليه بالتهمة ، فكيف وهو مقدوح فيه (١).

ثمّ إن الوارد في الخبر هو قوله : (فإن في قلبي عليه لَعَنَّة) ، لا (لفتة) كما ذكره الكاتب.

قال الميرداماد في شرح هذه العبارة :

قوله رحمه‌الله : (فإن في قلبي عليه لَعَنَّة) بفتح اللام للتأكيد وإهمال العين مفتوحة أو مضمومة وتشديد النون ، أي أن في قلبي عليه لَعَنَّة ، أي أن في قلبي لعارضاً واعتراضاً عليه ، عَنَّ للنفس وعرض للقلب وهجس في الصدر وخطر في الضمير معتناً معترضاً ، أو أن في قلبي شدة وملاجة وهيجاناً في المعانة والاعتنان ، أي المعارضة والاعتراض ، والعنن أي اللجاج والمحاجة والمؤاخذة عليه ، أو لعارضة وغائلة عليه فجأة لست أدري ما سببها ، من قولهم : أعننت بعنة ما أدري ما هي ، أي تعرضت لشيء ما أعرفه. قال في مجمل اللغة : ولقيته عين عنة ، أي فجاءة (٢).

وأما قوله : (لأن أبا عبد الله عليه‌السلام أخرج مخازيه) فهو من كلام الراوي لا من كلام الإمام عليه‌السلام ، ولعل مراده بالمخازي هو ما صدر من الإمام الصادق عليه‌السلام من القدح في زرارة مما سيأتي بيان وجهه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) التحرير الطاووسي ، ص ١٢٧.

(٢) تعليقة الميرداماد المطبوعة في ذيل اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٥٦.

٥٢٣

قال الكاتب : ولهذا قال أبو عبد الله فيه : (لعن الله زرارة) ص ١٣٣. وقال أيضاً : وقال أبو عبد الله : لعن الله بريداً ، لعن الله زرارة ص ١٣٤.

وأقول : سيأتي قريباً إن شاء الله بيان وجه هذا اللعن ، وأنه إنما صدر من الإمام عليه‌السلام خوفاً على زرارة وتقيَّة عليه ، فانتظر.

* * *

قال الكاتب : وقال أبو عبد الله رضي الله عنه أيضاً : اللهم لو لم يكن جهنم إلا سكرجة (١) لوسعها آل أعين بن سنسن ص ١٣٣.

وأقول : هذا الخبر ضعيف السند ، فإن الكشي رواه عن أبي الحسن محمد بن بحر الكرماني الرهني الترماشيري ، وقال : وكان من الغلاة الحنقين.

وقال الشيخ الطوسي في الفهرست : محمد بن بحر الرهني من أهل سجستان ، كان متكلماً عالماً بالأخبار فقيهاً ، إلا أنه متهم بالغلو (٢).

وقال ابن الغضائري : محمد بن بحر الرهني الشيباني أبو الحسين النرماشيري : ضعيف ، في مذهبه ارتفاع (٣).

وقال النجاشي : محمد بن بحر الرهني أبو الحسين الشيباني ساكن ترماشير من أرض كرمان ، قال بعض أصحابنا : إنه كان في مذهبه ارتفاع ، وحديثه قريب من السلامة ، ولا من أين قيل (٤).

ومن رواة هذا الخبر أبو العباس المحاربي الجزري ، وهو مهمل في كتب

__________________

(١) سكرجة : هو إناء صغير يؤكل في الشيء القليل ، وهذه كلمة فارسية معرَّبة (من الكاتب).

(٢) الفهرست للطوسي ، ص ٢٠٨.

(٣) رجال ابن الغضائري ، ص ٩٨.

(٤) رجال النجاشي ٢ / ٣٠٣ ، ط حجرية ، ص ٢٧١.

٥٢٤

الرجال.

ومن الرواة الفضيل الرسان ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

هذا مع أن الكشي رحمه‌الله عقب على هذا الحديث بقوله : محمد بن بحر هذا غالٍ ، وفضالة ليس من رجال يعقوب ، وهذا الحديث مزاد فيه ، مغيَّر عن وجهه (١).

فكيف يعوَّل على مثل هذا الحديث في تضعيف زرارة وغيره؟!

* * *

وقال أيضاً : لا يموت زرارة إلا تائهاً عليه لعنة الله ص ١٣٤.

وأقول : هذا حديث ضعيف السند ، فإن من جملة رواته جبريل بن أحمد وهو الفريابي كما مرَّ ، ولم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

ومن جملتهم العبيدي وهو محمد بن عيسى وقد تقدَّم أنه مختلف في وثاقته.

* * *

قال الكاتب : وقال أبو عبد الله أيضاً : هذا زرارة بن أعين ، هذا والله من الذين وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز : (وَقَدِمْنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) (الفرقان / ٢٣) رجال الكشي ص ١٣٦.

وأقول : سند هذه الرواية هو : حدثني محمد بن مسعود ، قال : حدثني جبرئيل ابن أحمد ، عن موسى بن جعفر ، عن علي بن أشيم ، قال : حدَّثني رجل عن عمار الساباطي.

فهي ضعيفة السند بالإرسال ، مضافاً إلى أن من رواتها جبرئيل بن أحمد ، وقد

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٦٣.

٥٢٥

مرَّ بيان حاله.

ومنهم علي بن أشيم ، وهو علي بن أحمد بن أشيم ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، بل صرح الشيخ الطوسي رحمه‌الله بأنه مجهول. وضعَّفه جملة من علمائنا ، منهم المحقق الحلي في المعتبر ، ونسب تضعيفه إلى النجاشي في كتاب المصنفين ، وابن فهد في المهذب البارع ، والشهيد الثاني في المسالك ، ونسبه للمتأخرين ، وغيرهم (١).

ومنهم موسى بن جعفر ، وهو أيضاً لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، فإنه مشترك بين جماعة لم يوثّق منهم أحد (٢).

* * *

وقال الكاتب : إن قوماً يُعارون الإيمان عارية ، ثمّ يُسْلَبُونَه ، فيقال لهم يوم القيامة (المعارون) ، أما إن زرارة بن أعين منهم ص ١٤١.

وأقول : سند هذا الحديث : محمد بن يزداد ، قال : حدثني محمد بن علي بن الحداد ، عن مسعدة بن صدقة.

وأكثر روايات الكشي عن محمد بن يزداد إنما كانت بواسطة محمد بن مسعود العياشي الثقة (٣) ، أو بواسطة محمد بن الحسن وعثمان بن حامد الكشّيين (٤) ، وهما لم تثبت وثاقتهما في كتب الرجال.

وحيث إن الكشي رحمه‌الله قد دأب في كتابه على إسقاط بعض الوسائط من غير إشعار كما يلاحظه من سبر غور هذا الكتاب وتأمله ، فمن المطمأن به أن الكشي إنما

__________________

(١) المعتبر ١ / ٢٩٢. المهذب البارع ١ / ١٨٢. مسالك الأفهام ٣ / ٣٩٤.

(٢) راجع معجم رجال الحديث ١٩ / ٣١ ـ ٣٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال ١ / ٢٨٨.

(٤) نفس المصدر ١ / ٢٨٨ ، ٣٤٠ ، ٢ / ٤٩٢ ، ٥١٥ ، ٥٩٦ ، ٦٠٦ ، ٦٥٢ ، ٧١٢ ، ٨٥٣. وروى عن محمد بن الحسن فقط في ٢ / ٨٥٣.

٥٢٦

روى عن محمد بن يزداد بواسطة ما ، وهي إما العياشي الثقة أو الآخران اللذان لم تثبت وثاقتهما ، وعليه فالرواية من هذه الجهة تعاني من الإرسال.

ومن الرواة محمد بن علي الحداد ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، ومسعدة بن صدقة ، فيه كلام ، فقد صرَّح السيِّد أحمد بن طاوس رحمه‌الله بأنه عامي المذهب (١).

* * *

قال الكاتب : وقال أيضاً : إنْ مرض فلا تَعُدْهُ وإن مات فلا تَشْهَدْ جنازته. فقيل له : زرارة؟ متعجباً ، قال : نعم زرارة شر من اليهود والنصارى ومن قال : إن الله ثالث ثلاثة ، إن الله قد نكس زرارة.

وأقول : سند هذه الرواية هو : محمد بن أحمد ، عن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وهي رواية مرسلة ، فإن رجال علي بن الحكم لا يُعرف من هم؟

وقوله : (إن الله قد نكس زرارة) ، ليس جزءاً من هذا الحديث ، بل هو جزء من حديث آخر ، جاء فيه : فما ذنبي أن الله قد نكس قلب زرارة كما نكست هذه الجارية هذا القمقم.

وهي رواية ضعيفة أيضاً ، سندها هو : علي ، قال : حدثني يوسف بن السخت ، عن محمد بن جمهور ، عن فضالة بن أيوب ، عن ميسر.

ويوسف بن السخت قد مرَّ تضعيفه.

ومحمد بن جمهور ضعيف.

قال النجاشي : محمد بن جمهور أبو عبد الله العمّي ، ضعيف في الحديث ، فاسد

__________________

(١) التحرير الطاووسي ، ص ١٢٨.

٥٢٧

المذهب ، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها (١).

وقال ابن الغضائري : محمد بن جمهور ، أبو عبد الله العَمِّي ، غالٍ ، فاسد الحديث ، لا يُكتب حديثه (٢).

وقال الشيخ الطوسي في رجاله : محمد بن جمهور العمي ، عربي بصري غال (٣).

* * *

وقال الكاتب : إن زرارة قد شك في إمامتي فاستوهبته من ربي ص ١٣٨.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند أيضاً ، فإن سندها : محمد بن قولويه قال : حدَّثني سعد بن عبد الله ، عن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر ، عن أحمد بن هلال ، عن أبي يحيى الضرير ، عن درست بن أبي منصور الواسطي.

وهذا السند فيه الحسن بن علي بن موسى ، وأبو يحيى الضرير ، وهما مجهولان.

وفيه أحمد بن هلال ، وهو العبرتائي.

قال الشيخ الطوسي في الفهرست : أحمد بن هلال العبرتائي ... وُلد سنة ثمانين ومائة ، ومات سنة سبع وستين ومائتين ، وكان غالياً مُتَّهماً في دينه (٤).

وقال النجاشي : أحمد بن هلال ، أبو جعفر العبرتائي ، صالح الرواية ، يُعرف منها ويُنكر ، وقد روي فيه ذموم من سيّدنا أبي محمد العسكري عليه‌السلام (٥).

ومن جملة الرواة درست بن أبي منصور ، وهو واقفي ، ولم يثبت توثيقه.

__________________

(١) رجال النجاشي ٢ / ٢٢٥.

(٢) رجال ابن الغضائري ، ص ٩٢.

(٣) رجال الطوسي ، ص ٣٦٤ رقم ١٧.

(٤) الفهرست ، ص ٨٣.

(٥) رجال النجاشي ١ / ٢١٨.

٥٢٨

قال الشيخ الطوسي في رجاله : درست بن أبي منصور الواسطي ، واقفي ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

هذا مع أن الرواية لا ذمَّ فيها لزرارة ، بل هي على العكس من ذلك ، وذلك لأن مفاد الرواية هو أن زرارة كان قد شك في إمامة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فاستوهبه الإمام عليه‌السلام من الله ، فوهبه له وأعطاه إياه ، فقال بإمامته.

ولهذا قال السيد أحمد بن طاوس رحمه‌الله في كتابه حل الإشكال : والذي أقول هاهنا : إن هذا السند ضعيف بأحمد بن هلال ، ويُضرب من هذا ، وفيه شاهد بنجاته (٢).

وللكاتب هنا حاشية قال فيها : إن عامة مراجعنا وعلمائنا يفسِّرون قول أبي عبد الله وطعنه في زرارة على أنه من باب التقية ، فما ذا يكون قول زرارة وطعنه في أبي عبد الله عند ما قال لعنه الله بأنه ضرط في لحية أبي عبد الله أهو تقية أيضاً؟؟

والجواب : أنا أوضحنا فيما تقدم أن الكاتب لا يعرف المراد بالتقية ، ولهذا كرَّرها في كتابه مريداً بها غير معناها.

وأما ما روي من الطعن في زرارة فهو محمول على عدة وجوه سيأتي بيانها قريباً.

ولا ندري ما هي العلاقة بين ما روي عن الصادق عليه‌السلام من الطعن في زرارة وبين قول زرارة المذكور ، فإن قول زرارة ـ مضافاً إلى ضعف سنده كما مرَّ ـ لا يدل على أن تلك الطعون على فرض صحَّتها لم تصدر عن الصادق عليه‌السلام تقية.

ثمّ قال الكاتب في حاشيته : لا إن هذا يثبت لنا أنَّ قطيعة كانت بين أبي عبد الله وزرارة سببها أقوال زرارة وأفعاله الشنيعة وبدعه المنكرة ، وإلا لما قال فيه أبو عبد الله ما قال.

__________________

(١) رجال الشيخ الطوسي ، ص ٣٣٦ رقم ٣.

(٢) التحرير الطاووسي ، ص ١٢٤.

٥٢٩

وأقول : إن الروايات الضعيفة لا تثبت شيئاً ، فإن كل ما روي في الطعن في زرارة ضعيف السند كما اتضح مما سبق ، ولا يصح أن نطرح الروايات الصحيحة المادحة له لأجل هذه الروايات الضعيفة.

وكان ينبغي على الكاتب لتصح دعواه أن يذكر رواية واحدة صحيحة تدل على أن زرارة صدرت منه أفعال شنيعة أو بِدَع منكرة ، أو كانت بينه وبين الإمام الصادق عليه‌السلام قطيعة أو جفوة ، إلا أنه لم يفعل شيئاً من ذلك.

* * *

قال الكاتب : قلت : فإذا كان زرارة من أسرة نصرانية ، وكان قد شك في إمامة أبي عبد الله ، وهو الذي قال بأنه ضرط في لحية أبي عبد الله ، وقال عنه لا يفلح أبداً ، فما الذي نتوقع أن يقدمه لدين الإسلام؟؟.

إن صحاحنا [!!] طافحة بأحاديث زرارة ، وهو في مركز الصدارة بين الرواة ، وهو الذي كذب على أهل البيت ، وأدخل في الإسلام بدعاً ما أدخل مثلها أحد كما قال أبو عبد الله ، ومن راجع صحاحنا [!!] وجد مصداق هذا الكلام ، ومثله بريد حتى أن أبا عبد الله رضي الله عنه لعنهما.

وأقول : لقد اتضح للقارئ العزيز ضعف كل الأخبار التي احتج بها الكاتب على ما أراده من تضعيف زرارة ، ويمكننا أن نزيد هذه المسألة إيضاحاً فنقول :

أولاً : أن كل الروايات التي وردت في ذم زرارة أو أكثرها قد رواها الكشي فقط في كتابه ، ولم ينقلها غيره من العلماء ، وهذا في حد ذاته موهن لها.

ثانياً : أن كل تلك الروايات أو أكثرها ضعيف السند ، وقد أوضحنا ذلك فيما مرَّ ، فكيف يصح الاحتجاج بها؟!

ثالثاً : أنها معارضة بروايات أخر صحيحة مادحة لزرارة.

٥٣٠

منها : صحيحة جميل بن دراج ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : بشِّر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية العجلي ، وأبا بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمد ابن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه ، لو لا هؤلاء لانقطعت آثار النبوة واندرست (١).

وصحيحة سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما أجد أحداً أحيا ذِكْرنا وأحاديث أبي عليه‌السلام إلا زرارة ، وأبو بصير ليث المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وبُرَيد بن معاوية العجلي ، ولو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا ، هؤلاء حُفَّاظ الدين وأمناء أبي عليه‌السلام على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا ، والسابقون إلينا في الآخرة.

وعن أبي العباس الفضل بن عبد الملك قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أحب الناس إليَّ أحياء وأمواتاً أربعة : بُرَيد بن معاوية العجلي ، وزرارة ، ومحمد بن مسلم ، والأحول ، وهم أحب الناس إليَّ أحياء وأمواتاً.

وعن المفضل بن عمر ، أن أبا عبد الله عليه‌السلام قال للفيض بن المختار في حديث : فإذا أردتَ حديثنا فعليك بهذا الجالس. وأومى إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعين.

وعن إبراهيم بن عبد الحميد وغيره قالوا : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : رحم الله زرارة بن أعين ، لو لا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي عليه‌السلام.

وعن أبي عبيدة الحذاء ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : زرارة ، وأبو بصير ، ومحمد بن مسلم ، وبريد ، من الذين قال الله تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.)

والأحاديث في ذلك كثيرة ، فمن أرادها فليطلبها من مظانها.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٩٨.

٥٣١

رابعاً : أن بعض الروايات الأخر قد كشفت عن أن ما صدر من الإمام الصادق عليه‌السلام من ذم زرارة وغيره من أجلاء الرواة إنما كان تقيَّة عليهم لئلا تتوجه إليهم أنظار المخالفين فيلحقوهم بالأذى والضرر.

ومن تلك الروايات ما رواه الكشي بسنده عن عبد الله بن زرارة قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك ، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قرَّبناه وحمدنا مكانه ، لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقرِّبه ، يرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوّه منا ، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ، ويحمدون كل من عبناه نحن وأن نحمد أمره ، فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرتَ بنا ولِمَيْلك إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر ، لمودتك لنا ولميلك إلينا ، فأحببتُ أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون بذلك منا دافع شرّهم عنك ، يقول الله جل وعز (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (١) ، هذا التنزيل من عند الله صالحة ، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملِك ولا تعطب على يديه ، ولقد كانت صالحة ، ليس للعيب منها مساغ والحمد الله. فافهم المثل يرحمك الله ، فإنك والله أحب الناس إليَّ ، وأحب أصحاب أبي عليه‌السلام حيًّا وميتاً ، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، إن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً ، يرقب عبور كل سفينة صالحة ترِدُ من بحر الهدى ، ليأخذها غصباً ثمّ يغصبها وأهلها ، فرحمة الله عليك حيًّا ، ورحمته ورضوانه عليك ميتاً ، ولقد أدَّى إليَّ ابناك الحسن والحسين رسالتك ، حاطهما الله وكَلاهما ورعاهما وحفظهما بصلاح أبيهما كما حفظ الغلامين ، فلا يضيقنَّ صدرك من الذي أمرك أبي عليه‌السلام وأمرتك به ، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به ، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به ، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ، ولو أُذِنَ لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم به ،

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ٧٩.

٥٣٢

فردوا إلينا الأمر ، وسلِّموا لنا ، واصبروا لأحكامنا وارضوا بها ، والذي فرَّق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه ، وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها ، فإن شاء فرَّق بينها لتسلم ، ثمّ يجمع بينها لتأمن من فسادها وخوف عدوها في آثار ما يأذن الله ، ويأتيها بالأمن من مأمنه والفرج من عنده. عليكم بالتسليم والرد إلينا ، وانتظار أمرنا وأمركم وفرجنا وفرجكم ... (١).

وعن الحسين بن زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك : جعلني الله فداك ، إنه لا يزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران أنك ذكرتني وقلت فيَّ. فقال : اقرأ أباك السلام ، وقل له : أنا والله أحب لك الخير في الدنيا ، وأحب لك الخير في الآخرة ، وأنا والله عنك راضٍ ، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا (٢).

وعن حمزة بن حمران ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بلغني أنك برئت من عمي ـ يعني زرارة. قال : فقال : أنا لم أبرأ من زرارة ، لكنهم يجيئون ويذكرون ويروون عنه ، فلو سكتُّ عنه ألزمونيه ، فأقول : من قال هذا فأنا إلى الله منه بريء (٣).

والأحاديث الدالة على مدح زرارة وبراءته كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية.

ومن كل ذلك يتضح أن ما ساقه الكاتب من الأحاديث لا يمكن التمسك به في الطعن في زرارة بن أعين رحمه‌الله.

* * *

قال الكاتب : أبو بصير ليث بن البختري :

أبو بصير هذا تَجَرّأ على أبي الحسن موسى الكاظم رضي الله عنه عند ما سُئِلَ رضي الله عنه

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٤٩.

(٢) المصدر السابق ١ / ٣٥٢.

(٣) نفس المصدر ١ / ٣٥٨.

٥٣٣

عن رجل تزوج امرأة لها زوج ، ولم يعلم.

قال أبو الحسن رضي الله عنه : (تُرْجَمُ المرأة ، وليس على الرجل شيء إذا لم يعلم) ... فضرب أبو بصير المرادي على صدره يحكها وقال : أظن صاحبنا ما تكامل علمه. رجال الكشي ص ١٥٤.

أي أنه يتهم الكاظم رضي الله عنه بقلة العلم!!

وأقول : سند هذه الرواية هو : علي بن محمد ، قال : حدثني محمد بن أحمد ، عن محمد بن الحسن ، عن صفوان ، عن شعيب بن يعقوب العقرقوفي.

وهو سند ضعيف.

قال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث :

أقول : الرواية ضعيفة ، فإن علي بن محمد لم يوثّق ، ومحمد بن أحمد مجهول ، ومحمد بن الحسن الذي يروي عن صفوان لم يوثق ، فالمتحصل أن الروايات الذامَّة لم يتم سندها فلا يعتد بها. نعم ، روى الشيخ هذه الرواية الأخيرة بسند معتبر مع اختلاف يسير في المتن ، فقد روى بإسناده عن علي بن الحسن ، عن أيوب بن نوح ، والسندي بن محمد ، عن صفوان بن يحيى ، عن شعيب العقرقوفي ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ... إلى أن قال : قال : فذكرت ذلك لأبي بصير ، فقال لي : والله لقد قال جعفر عليه‌السلام : تُرجم المرأة ويُجلد الرجل الحد. وقال بيده على صدره يحكّه (صدري فحكه) : ما أظن صاحبنا تكامل علمه. التهذيب : الجزء ٧ ، باب الزيادات في فقه النكاح ، الحديث ١٩٥٧ ، والاستبصار : الجزء ٣ ، باب الرجل يتزوج بامرأة ثمّ علم بعد ما دخل بها أن لها زوجاً ، الحديث ٦٨٧. وروى هذا المضمون أيضاً بإسناده عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن شعيب ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل تزوج امرأة لها زوج ، قال : يُفرَّق بينهما. قلت : فعليه ضرب؟ قال : لا. ماله يضرب؟! فخرجتُ من عنده وأبو بصير بحيال الميزاب ، فأخبرتُه بالمسألة والجواب ، فقال لي :

٥٣٤

أين أنا؟ فقلت : بحيال الميزاب. قال : فرفع يده ، فقال : ورب هذا البيت ، أو رب هذه الكعبة ، لسمعت جعفراً يقول : إن عليّا عليه‌السلام قضى في الرجل تزوَّج امرأة لها زوج ، فرجم المرأة ، وضرب الرجل الحد ، ثمّ قال : لو علمت أنك علمت لفضخت رأسك بالحجارة. ثمّ قال : ما أخوفني ألا يكون أوتي علمه. التهذيب : الجزء ١٠ ، باب حدود الزنا ، الحديث ٧٦.

أقول ـ والقائل الخوئي ـ : هاتان الروايتان لا بد من رد علمهما إلى أهله ، فإن الرجل إذا لم يثبت أنه كان عالماً بأن المرأة لها زوج ، فما هو الوجه في ضربه الحد؟ ومجرد احتمال أنه كان عالماً لا يجوِّز إجراء الحد عليه ، هذا من جهة نفس الرواية ، وأما من جهة دلالتهما على ذم أبي بصير فغاية الأمر أنهما تدلان على أنه كان قاصراً في معرفته بعلم الإمام عليه‌السلام في ذلك الزمان لشبهة حصلت له ، وهي تخيله أن حكمه عليه‌السلام كان مخالفاً لما وصل إليه من آبائه عليهم‌السلام ، وهذا ـ مع أنه لا دليل على بقائه واستمراره ـ لا يضر بوثاقته ، مضافاً إلى أن الظاهر أن المراد بأبي بصير في الرواية يحيى بن القاسم دون ليث المرادي ، فإنك ستعرف أنه لم يثبت كون ليث من أصحاب الكاظم عليه‌السلام ، والله العالم (١).

وما قاله السيّد قدّس الله نفسه متين ، وقد بلغ به الغاية.

* * *

قال الكاتب : ومرة تذاكر ابن أبي اليعفور [كذا] وأبو بصير في أمر الدنيا ، فقال أبو بصير : أما إن صاحبكم لو ظفر بها لاستأثر بها ، فأغفى ـ أبو بصير ـ فجاء كلب يريد أن يشغر (٢) عليه ، فقام حماد بن عثمان ليطرده فقال له ابن أبي يعفور : دعه ، فجاءه حتى شغر في أذنيه. ص ١٥٤ رجال الكشي.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٤ / ١٤٩.

(٢) رفع رجله ليبول (حاشية من الكاتب).

٥٣٥

أي أنه يتهم أبا عبد الله بالركون إلى الدنيا وحب الاستِئْثَار بها ، فعاقبه الله تعالى بأن أرسل كلباً فبال بأذنيه جزاءً له على ما قال في أبي عبد الله.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة ، وسندها : علي بن محمد ، قال : حدثني محمد بن أحمد بن الوليد ، عن حماد بن عثمان.

وعلي بن أحمد لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، ومحمد بن أحمد مجهول كما مرَّ في كلام السيد الخوئي قدس‌سره.

على أن قوله : (صاحبكم) ليس صريحاً في أنه يريد به الإمام الصادق عليه‌السلام وإن كان ذلك محتملاً ، والمظنون قوياً أنه كان يريد به شخصاً آخر ، لأنه لو أراد الإمام عليه‌السلام لقال : (صاحبنا) ، فإن ذلك هو التعبير المتعارف في الإشارة إلى الإمام عليه‌السلام.

* * *

قال الكاتب : وعن حماد الناب قال : جلس أبو بصير على باب أبي عبد الله رضي الله عنه ليطلب الإذن ، فلم يُؤْذَنْ له ، فقال : لو كان معنا طبق لأَذِنَ ، قال فجاء كلب فشغر في وجه أبي بصير ، فقال ـ أبو بصير ـ : أف أف [كذا] ما هذا؟ (١). فقال له جليسه : هذا كلب شغر في وجهك رجال الكشي ص ١٥٥.

أي أنه يتهم أبا عبد الله رضي الله عنه بحب الثريد والطعام اللذيذ بحيث لا يأذن لأحد بالدخول عليه إلا إذا كان معه طبق طعام ، لكن الله تعالى عاقبه أيضاً فأرسل كلباً فبال في وجهه عِقاباً له على ما قاله في أبي عبد الله رضي الله عنه.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند أيضاً ، وسندها : محمد بن مسعود ، قال : حدثني جبرئيل بن أحمد ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، عن يونس عن حماد الناب.

وقد مرَّ أن جبرئيل بن أحمد لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

__________________

(١) لأنه كان أعمى البصر (حاشية من الكاتب).

٥٣٦

قال المحقق الخوئي : جبرئيل بن أحمد لم يوثَّق ، على أن الظاهر أن المراد بأبي بصير فيها يحيى بن القاسم ، فإنه كان ضريراً ، وأما المرادي فلم نجد ما يدل على كونه ضريراً ، ومجرد التكنية بأبي بصير لا يدل عليه كما هو ظاهر (١).

هذا مع أنه يحتمل ضبط كلمة (لأُذِن) في الحديث بالمبني للمفعول ، فيُراد بفاعل الإذن أهل الدار ، أو خادم الإمام عليه‌السلام ، لا أن يكون ضبط الكلمة هو (أَذِن) بالمبني للمعلوم كما ضبطها الكاتب ليعود الضمير فيها على الإمام عليه‌السلام.

وعليه فلا إشكال في كلام أبي بصير إلا اتهام خادم الإمام عليه‌السلام بالاستعجال في الإذن له لو كان معه طبق من طعام ، ومثل هذا لا يكون فيه طعن ذي بال في أبي بصير.

* * *

قال الكاتب : ولم يكن أبو بصير موثوقاً في أخلاقه ، ولهذا قال شاهداً على نفسه بذلك : كنتُ أقرِئُ امرأةً كنت أُعلمها القرآن ، فمازَحْتُها بِشَيء!! قال : فَقَدِمْتُ على أبي جعفر رضي الله عنه ـ أي تَشْتَكِيه ـ قال : فقال لي أبو جعفر : يا أبا بصير أي شيء قلت للمرأة؟ قال : قلتُ بيدي هكذا ، وغَطَّى وجهه!!

قال : فقال أبو جعفر : لا تعودن عليها رجال الكشي ص ١٥٤.

أي أن أبا بصير مد يده ليلمس شيئاً من جسدها بغرض المداعبة (!!) والممازحة ، مع أنه كان يُقْرِئُها القرآن!!!

وأقول : قال الخوئي قدس الله نفسه : لا دلالة في الرواية على الذم ، إذ لم يُعلَم أن مزاحه كان على وجهٍ محرَّم ، فمن المحتمل أن الإمام عليه‌السلام نهاه عن ذلك حمايةً للحمى ، لئلا ينتهي الأمر إلى المحرَّم ، والله العالم (٢).

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٤ / ١٤٩.

(٢) معجم رجال الحديث ١٤ / ١٤٨.

٥٣٧

والكاتب قد ضبط النص بما يدل على أن المرأة جاءت للإمام عليه‌السلام تشكو أبا بصير ، مع أن النص لا دلالة فيه على ذلك ، بل الضبط هو : (فقَدمْتُ على أبي جعفر فقال لي ...) ، لكن الكاتب أراد أن يهوِّل ما صنعه أبو بصير من جهة ، وأن ينفي عن الإمام عليه‌السلام علمه بالحادثة من دون مُخبِر من جهة ثانية ، فضبط النص بما يدل على أن المرأة جاءت للإمام عليه‌السلام لتشكو أبا بصير.

والعجيب من الكاتب وأضرابه أنه أراد تضعيف أبي بصير لأنه مازح امرأة ولم يُعلَم أن مزاحه معها كان على وجهٍ محرَّم أم لا ، ولم يضعفوا خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة ونزا على زوجته ، ولا المغيرة بن شعبة الذي زنا بأم جميل ، ولا طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم ممن خرجوا على الخليفة الحق وحاربوه ، وقُتل بسببهم عشرات الألوف من المسلمين من غير ذنب.

فهنيئاً لهم بهذه المعايير المعكوسة في التضعيف والتوثيق!!

* * *

قال الكاتب : وكان أبو بصير مخلطاً :

فعن محمد بن مسعود قال : سألت علي بن الحسن عن أبي بصير فقال : أبو بصير كان يُكنى أبا محمد وكان مولى لبني أسد ، وكان مكفوفاً.

فسألته هل يُتَّهَمُ بالغُلُوّ؟ [كذا] فقال : أَما الغُلُوُّ فلا ، لم يكن يُتَّهَم ، ولكن كان مخلطاً. رجال الكشي ص ١٥٤.

قلت : أحاديثه في الصحاح [!!] كثيرة جداً ، وفيها عجب عجاب ، فإذا كان مخلطاً فما ذا أدخل في الدين من تخليط؟!! إن أحاديثه فيها عجب عجاب أليست هي من تخليطه؟؟!!

وأقول : صدر الرواية الذي لم يذكره الكاتب هو :

٥٣٨

محمد بن مسعود ، قال : سألت علي بن الحسن بن فضال عن أبي بصير ، فقال : وكان اسمه يحيى بن أبي القاسم ، فقال : أبو بصير يكنَّى أبا محمد ، وكان مولى لبني أسد ، وكان مكفوفاً. فسألته : هل يُتَّهم بالغلو ... الخ.

ومن الواضح أن السؤال كان عن أبي بصير يحيى بن القاسم الأسدي المكفوف ، لا عن أبي بصير ليث المرادي الذي عقد له الكاتب هذا الفصل ، إلا أن الكاتب بتر صدر الرواية ليوهم القارئ أن أبا بصير المذموم في الرواية هو ليث المرادي ، مع أنه يحيى بن القاسم أو ابن أبي القاسم.

ولعل مدَّعي الاجتهاد والفقاهة لم يميِّز بينهما ، فظن أن أبا بصير واحد لا متعدِّد ، مع أن من يدَّعي الاجتهاد ينبغي أن يميِّز بين هذين الرجلين فلا يخلط بينهما.

هذا مع أن كلام ابن فضال في أبي بصير هذا (يحيى بن القاسم) معارض بما قاله النجاشي فيه ، حيث قال : يحيى بن القاسم أبو بصير الأسدي ، وقيل أبو محمد ، ثقة وجيه ، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله ، وقيل : يحيى بن أبي القاسم ، واسم أبي القاسم إسحاق ... ومات أبو بصير سنة خمسين ومائة (١).

ومعارض بما رواه الكشي نفسه في صحيحة شعيب العقرقوفي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء ، فمِمّن نسأل؟ قال : عليك بالأسدي. يعني أبا بصير (٢).

ومعارض بما صرَّح به الكشي نفسه من أن أبا بصير الأسدي من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على العمل برواياتهم.

قال الكشي : أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام ، وانقادوا لهم بالفقه ، فقالوا : أفقه الأولين ستة : زرارة ،

__________________

(١) رجال النجاشي ٢ / ٤١١.

(٢) اختيار معرفة الرجال ١ / ٤٠٠.

٥٣٩

ومعروف بن خربوذ ، وبُرَيد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار ، ومحمد بن مسلم الطائفي (١).

على أنه يمكن حمل التخليط على محمل لا يضر بوثاقة أبي بصير.

قال المحقق الخوئي : وأما قول ابن فضال : (إنه كان مخلطاً) فلا ينافي التوثيق ، فإن التخليط معناه أن يروي الرجل ما يُعرَف ويُنكر ، فلعل بعض روايات أبي بصير كانت منكرة عند ابن فضال ، فقال : إنه مخلط (٢).

* * *

قال الكاتب : علماء طبرستان :

لقد ظهر في طبرستان جماعة تظاهروا بالعلم ، وهم ممن اندسوا في التشيع لغرض الفساد والإفساد. من المعلوم أن الإنسان تشهد عليه آثاره ، فإن كانت آثاره حسنة فهذا دليل حسن سلوكه وخُلُقِه واعتقاده وسلامة سَريرَته ، والعكس بالعكس فإن الآثار السيئة تدل على سوء من خَلَّفَها سواء في سلوكه أو في خلقه أو اعتقادِه وتدل على فساد سريرته.

إن بعض علماء طبرستان تركوا مخلفات تثير الشكوك حول شخصياتهم.

وأقول : سيتضح للقارئ العزيز بحمد الله وفضله أن كل ما جاء به الكاتب ما هو إلا شكوك باطلة ، وخيالات فاسدة ، وتحامل على بعض علماء الطائفة من غير مبرِّر صحيح.

والذين ذكرهم الكاتب علماء أجلاء لا تُنكَر خدماتهم الجليلة على مذهب الشيعة الإمامية ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، وسيتضح كل ذلك

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٥٠٧.

(٢) معجم رجال الحديث ٢٠ / ٨٣.

٥٤٠