لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

لأهل البيت صلوات الله عليهم ، ونسوا أن الذي يدفعهم إلى هذا أناس يعملون وراء الكواليس ستأتي الإشارة إليهم في الفصل الآتي.

وأقول : هذا الكلام أيضاً من الاتهامات الباطلة التي دأب الكاتب على إلصاقها بالشيعة بلا دليل ، ولهذا لم يذكر ما يوثِّق كلامه من أي مصدر شيعي ، وإنما هي مجرد تلفيقات واضحة وأكاذيب فاضحة لا تخفى على من رآها.

والخدمة التي يقدّمها الشيعي لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام لا تكون بالانقضاض على أهل السنة وقتلهم كما قال الكاتب ، وإنما تكون بدعوتهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالمعاشرة الطيبة ، وبالأخلاق السامية التي أمر بها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وحثّوا شيعتهم عليها.

ففي صحيحة أبي أسامة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : عليك بتقوى الله ، والورع ، والاجتهاد ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وحسن الخلق ، وحسن الجوار ، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم ، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ، وعليكم بطول الركوع والسجود ، فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال : يا ويله أطاع وعصيتُ ، وسجد وأبيتُ (١).

وفي صحيحة ابن أبي يعفور قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير ، فإن ذلك داعية (٢).

وأما ساعة الصفر التي ينتظرها الشيعة وأهل السنة فهي ظهور المهدي المنتظر عليه‌السلام الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً ، والذي يُظهِر الله به الحق ، ويُدحِض به الباطل ، ويُعِزُّ الله به المسلمين ، ويذل به الكفار والمنافقين.

__________________

(١) الكافي ٢ / ٧٧.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٧٨.

٥٠١

اللهم عجِّل فرجه ، وسهِّل مخرجه ، واجعلنا من أنصاره ، والمجاهدين تحت لوائه ، والمستشهدين بين يديه ، إنك سميع الدعاء قريب مجيب ، والحمد لله رب العالمين.

٥٠٢

أثر العناصر الأجنبية في صنع التشيع

قال الكاتب : عرفنا في الفصل الأول من هذا الكتاب دور اليهودي عبد الله بن سبأ في صنع التشيع ، وهذه حقيقة يتغافل عنها الشيعة جميعاً من عوامهم وخواصهم.

وأقول : لقد أوضحنا في بدايات هذا الكتاب أن عبد الله بن سبأ لا يمت إلى التشيع بصلة ، وأن ثبوت وجوده لا يدل على أن له أيّة علاقة بالشيعة كثبوت بعض الشخصيات المنحرفة ، ولا توجد رواية واحدة تثبت علاقة عبد الله بن سبأ بالشيعة إلا روايات سيف بن عمر الوضَّاع الكذَّاب الذي اتفق حفاظ الحديث على ضعفه.

هذا وقد أثبتنا كل ذلك بالأدلة الواضحة في كتابنا (عبد الله بن سبأ) ، فراجعه.

* * *

قال الكاتب : لقد فكرتُ كثيراً في هذا الموضوع ، وعلى مدى سنوات طوال فاكتشفت كما اكتشف غيري أن هناك رجالاً لهم دور خطير في إدخال عقائد باطلة ، وأفكار فاسدة إلى التشيع.

وأقول : لقد حاول أعداء الشيعة جهدهم لتشويه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ،

٥٠٣

فوضعوا أحاديث باطلة ونسبوها إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، إلا أن أئمة الهدى عليهم‌السلام قد أوضحوا لشيعتهم جملة من هؤلاء الوضَّاعين ، فلعنوهم وتبرَّءوا منهم ، وحذَّروا شيعتهم منهم.

كما قام علماء الطائفة قدَّس الله أسرارهم بجمع الأخبار وتنقيحها ، وتوضيح حال الرواة وتمييزها ، فصرفوا زهرة أعمارهم في ذلك ، وصنّفوا الكتب التي اعتنوا بضبطها وتحريرها ، فجاءت بحمد الله وافية شافية ، تغني الفقيه وتكفيه في استنباط الأحكام الشرعية والمعتقدات الإسلامية ، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء على ما بذلوه وأتعبوا فيه أنفسهم الشريفة.

وأما الاتهامات التي سيذكرها الكاتب فهي خواء وهباء ، وسيتضح للقارئ الكريم بعون الله تعالى زيف ادعاءاته في الطعن في أجلاء الرواة وثقات أصحاب الأئمة عليهم‌السلام.

* * *

قال الكاتب : إن مكوثي هذه المدة الطويلة في حوزة النجف العلمية التي هي أم الحوزات ، واطلاعي على أمهات المصادر جعلني أقف على حقائق خطيرة يجهلها ، أو يتجاهلها الكثيرون واكتُشِفَتْ شخصيات مُريبة كان لها دور كبير في انحراف المنهج الشيعي إلى ما هو عليه اليوم ، فما فعله أهل الكوفة بأهل البيت وخيانتهم لهم كما تقدم بيانه يدل على أن الذين فعلوا ذلك بهم كانوا من المتسترين بالتشيع ، والموالاة لأهل البيت.

وأقول : سيرى القارئ العزيز إن شاء الله تعالى أن الكاتب قد جاء ببعض الأخبار الضعيفة وترك ما صحَّ سنده ، لا لأجل شيء إلا لما اشتملت عليه تلك الأخبار من الطعن في أجلاء الرواة ، ولو كان الكاتب مجتهداً كما يزعم ، ومنصفاً كما

٥٠٤

ينبغي له ، لكان اللازم عليه أن ينظر في أسانيد هذه الأخبار ، فيأخذ الصحيح منها ، ويطرح الضعيف ، ومع صحّتها يلزمه أن يُعمِل المرجحات السندية والدلالية لترجيح بعضها على بعض ، لا أن يختار بعضها ويتغافل عن بعضها الآخر لغاية في نفسه ، من غير أن يلتزم في الاختيار بالمنهج العلمي المعروف عند العلماء.

* * *

قال الكاتب : ولنأخذ نماذج من هؤلاء المتسترين بالتشيع :

هشام بن الحكم ، وهشام هذا حديثه في الصحاح الثمانية [!!] وغيرها.

وأقول : لا ريب في أن زعم الكاتب أن الشيعة عندهم صحاح ثمانية غريب جداً ، لأن هذا القول لم يقله أحد قبله.

والعجيب أن بعض أهل السنة قد جعل من جملة الطعون على الشيعة أنهم لا صحاح عندهم ، بينما نرى الكاتب يثبت للشيعة ثمانية صحاح؟!

ثمّ إنّا لا ندري ما ذا يريد بهذه الصحاح الثمانية؟

هل يريد بها الكتب الأربعة (الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه) ، مع كتاب الوسائل والوافي وبحار الأنوار ، بضميمة كتاب جامع أحاديث الشيعة؟ أو يريد غيرها؟

وغير خفي أن كل مؤالف ومخالف يعرف أن الشيعة لم يجمعوا أحاديثهم الصِّحاح في كتاب متفق عليه عندهم كما هو الحال عند أهل السنة الذين اتفقوا على صحة أحاديث البخاري ومسلم.

فلا ندري من أين جاءت لهم هذه الصحاح الثمانية التي زعمها الكاتب؟!

* * *

٥٠٥

قال الكاتب : إن هشام [كذا] تسبب في سجن الإمام الكاظم ، ومن ثمّ قتله ، ففي رجال الكشي : (إن هشام بن الحكم ضال مضل شارك في دم أبي الحسن رضي الله عنه) ص ٢٢٩.

وأقول : هذه الرواية دالة على مدح هشام بن الحكم لا على ذمِّه ، وإليك نص الحديث :

وحدثني حمدويه بن نصير ، قال : حدثنا محمد بن عيسى العبيدي ، قال : حدثني جعفر بن عيسى ، قال : قال موسى بن الرقي لأبي الحسن الثاني عليه‌السلام : جعلتُ فداك روى عنك ... (١) وأبو الأسد أنهما سألاك عن هشام بن الحكم ، فقلت : (ضال مضل شرك في دم أبي الحسن عليه‌السلام) فما تقول فيه يا سيدي نتولاه؟ قال : نعم. فأعاد عليه : نتولاه على جهة الاستقطاع؟ قال : نعم تولوه ، نعم تولوه ، إذا قلت لك فاعمل به ولا تريد أن تغالب به ، اخرج الآن فقل لهم : (قد أمرني بولاية هشام بن الحكم). فقال المشرقي لنا بين يديه وهو يسمع : ألم أخبركم أن هذا رأيه في هشام بن الحكم غير مرة (٢).

والحديث واضح الدلالة في أن الإمام عليه‌السلام قد أمر القوم بأن يتولوا هشام بن الحكم ، وأن يخبروا غيرهم بأن هذا هو رأي الإمام عليه‌السلام فيه ، خلافاً لما نقله موسى بن صالح وأبو الأسد ، فإن كلامهما لا قيمة له ولا اعتبار به.

بل إن الإمام عليه‌السلام قد أنكر ما نسباه إليه في رواية أخرى رواها الكشي بسنده عن هشام بن إبراهيم في حديث طويل وصفه السيّد الخوئي في المعجم بأنه صحيح السند (٣) ، جاء فيه : فقال جعفر : جُعِلتُ فداك إن صالحاً وأبا الأسد ختن علي بن

__________________

(١) هنا بياض في النسخة وبقرينة روايات ـ منها رواية سيأتي ذكرها ـ يظهر أنه سقط اسم : موسى ابن صالح كما في اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٨٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٥٤٤.

(٣) معجم رجال الحديث ٤ / ٩٠.

٥٠٦

يقطين حكيا عنك أنهما حكيا لك شيئاً من كلامنا فقلتَ لهما : (ما لكما والكلام بينكما ينسلخ إلى الزندقة) ، فقال : ما قلت لهما ذلك ، أأنا قلتُ ذلك؟ والله ما قلتُ لهما. وقال يونس : جعلت فداك إنهم يزعمون أنا زنادقة. وكان جالساً إلى جنب رجل ، وهو يتربع رِجْلاً على رجْل ساعة بعد ساعة ، يمرغ وجهه وخديه على بطن قدمه اليسرى. قال له : أرأيتك أن لو كنت زنديقاً فقال لك : (هو مؤمن) ، ما كان ينفعك من ذلك؟ ولو كنت مؤمناً ، فقال : (هو زنديق) ما كان يضرّك منه؟ (١).

وإنكار الإمام ما نسباه إليه من القول دليل على أنهما يتقوَّلان على الإمام عليه‌السلام ما لم يقل ، ومِن تقوُّلهما ما نسباه للإمام عليه‌السلام في هشام بن الحكم.

والعجيب أن الكاتب نقل الكلام وكأنه قول الإمام عليه‌السلام ، ولم ينقل الحديث بتمامه ليتضح للقارئ أن الحديث قد ورد في مدح هشام بن الحكم لا في ذمِّه كما هو واضح.

* * *

قال الكاتب : (قال هشام لأبي الحسن رضي الله عنه : أوصني ، قال : أوصيك أن تتقي الله في دمي) رجال الكشي ص ٢٢٦.

وقد طلب منه أبو الحسن رضي الله عنه أن يمسك عن الكلام ، فأمسك شهراً ، ثمّ عاد فقال له أبو الحسن : (يا هشام ، أيَسُركَ أَنْ تشترك في دم امرئٍ مسلم؟). قال : لا. قال : وكيف تشترك في دمي؟ فإن سكتَّ وإلا فهو الذبح. (فما سكت حتى كان من أمره ما كان صلى الله عليه) رجال الكشي ص ٢٣١.

أيمكن لرجل مخلص لأهل البيت أن يتسبب في قتل هذا الإمام رضي الله عنه؟

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها جعفر بن معروف ،

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٨٩.

٥٠٧

وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، سواء قيل باتحاده أم بتعدّده ، لأنه إما السمرقندي ، وهو قد ضعَّفه ابن الغضائري ، فقال : جعفر بن معروف أبو الفضل السمرقندي ، يروي عنه العياشي كثيراً ، كان في مذهبه ارتفاع ، وحديثه يُعرف تارة وينكر أخرى (١).

وإما لأنه الكشي ، وهو لم يثبت توثيقه وإنْ أكثر الكشي صاحب الرجال من الرواية عنه.

ومنهم إسماعيل بن زياد الواسطي ، وهو مجهول (٢).

ومع الإغماض عن سند الرواية فإنها لا تدل على أن هشام بن الحكم قد تسبَّب في مقتل الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وذلك لأن الإمام عليه‌السلام قد حذَّره من مناظرة أهل الخلاف في تلك الفترة ، وهشام قد ترك الكلام شهراً ثمّ عاد إليه ، إلى أن حصل للإمام عليه‌السلام ما حصل ، والرواية ليست ظاهرة في الدلالة على أن ما حصل للإمام عليه‌السلام كان بسبب هشام كما هو واضح وكما هو معروف من سيرة الإمام عليه‌السلام.

* * *

قال الكاتب : اقرأ معي هذه النصوص :

عن محمد بن الفرج الرخجي قال : كتبت إلى أبي الحسن رضي الله عنه أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم ـ لجواليقي ـ في الصورة. فكتب : دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ بالله من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان. أصول الكافي ١ / ١٠٥ ، بحار الأنوار ٣ / ٢٨٨ ، الفصول المهمة ص ٥١.

لقد زعم هشام بن الحكم أن الله جسم ، وزعم هشام بن سالم أن الله صورة.

__________________

(١) رجال ابن الغضائري ، ص ٤٧.

(٢) راجع معجم رجال الحديث ١٩ / ٢٨٧ ، فإن الخوئي قدس‌سره قد ضعَّف هذه الرواية.

٥٠٨

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، لأنها مرفوعة ، فإن الكليني رحمه‌الله قال : محمد بن علي رفعه عن محمد بن الفرج الرخجي.

ومحمد بن الفرج من أصحاب الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، وأما علي بن محمد الذي يروي عنه الكليني كثيراً فهو علي بن محمد بن عبد الله بن بندار الثقة ، وهو لا يروي عن محمد بن الفرج الرخجي لبُعْد الطبقة.

ومع الإغماض عن سند الرواية فإن هذه الرواية لا بد أن تحمل على وجوه صحيحة ، حتى لا تتعارض مع ما هو الثابت عن الإمام الصادق والكاظم من إجلالهما لهشام بن الحكم وتقديمهما له على شيوخ أصحابهما.

ولا بأس أن ننقل كلام الشيخ المجلسي قدس‌سره في هذا المقام ، فإنه كافٍ ووافٍ بالمراد.

قال قدس‌سره : لا ريب في جلالة قدر الهشامين وبراءتهما عن هذين القولين ، وقد بالغ السيد المرتضى قدّس الله روحه في براءة ساحتهما عما نُسب إليهما في كتاب الشافي مستدلاً عليها بدلائل شافية ، ولعل المخالفين نسبوا إليهما هذين القولين معاندة ، كما نسبوا المذاهب الشنيعة إلى زرارة وغيره من أكابر المحدِّثين.

إلى أن قال : فظهر أن نسبة هذين القولين إليهما إما لتخطئة رواة الشيعة وعلمائهم ، لبيان سفاهة آرائهم ، أو أنهم لما ألزموهم في الاحتجاج أشياء إسكاتاً لهم نسبوها إليهم ، والأئمة عليهم‌السلام لم ينفوها عنهم إبقاءً عليهم ، أو لمصالح أخر ، ويمكن أن يحمل هذا الخبر على أن المراد : ليس القول الحق ما قال الهشامان بزعمك. أو ليس هذا القول الذي تقول ما قال الهشامان ، بل قولهما مباين لذلك. ويحتمل أن يكون هذان مذهبهما قبل الرجوع إلى الأئمة عليهم‌السلام والأخذ بقولهم ، فقد قيل : إن هشام بن الحكم قبل أن يلقى الصادق عليه‌السلام كان على رأي جهم بن صفوان ، فلما تبعه عليه‌السلام تاب ورجع إلى الحق ، ويؤيّده ما ذكره الكراجكي في كنز الفوائد من الرد على القائلين بالجسم بمعنييه ، حيث قال : وأما موالاتنا هشاماً رحمه‌الله فهي لما شاع عنه واستفاض من تركه

٥٠٩

للقول بالجسم الذي كان ينصره ، ورجوعه عنه وإقراره بخطئه فيه وتوبته منه ، وذلك حين قصد الإمام جعفر بن محمد إلى المدينة فحجبه وقيل له : إنه أمرنا أن لا نوصلك إليه ما دمت قائلاً بالجسم. فقال : والله ما قلت به إلا لأني ظننت أنه وفاق لقول إمامي عليه‌السلام ، فإما إذ أنكره عليَّ فإني تائب إلى الله منه. فأوصله الإمام عليه‌السلام إليه ، ودعا له بخير (١).

وقال المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي :

واعلم أنه بالَغَ العلامة في الخلاصة في مدح الهشامين وتوثيقهما ، وقال ابن طاوس رضي الله عنه : الظاهر أن هشام بن سالم صحيح العقيدة معروف الولاية غير مدافع ، وقال بعض العلماء : ما رواه الكشي من أن هشام بن سالم يزعم أن لله عزوجل صورة ، وأن آدم مخلوق على مثال الرب ، ففي الطريق محمد بن عيسى الهمداني ، وهو ضعيف. وقال بعض أصحابنا : لما رأى المخالفون جلالة قدر الهشامين نسبوا إليهما ما نسبوا ترويجاً لآرائهم الفاسدة. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا : لا حاجة في الاعتذار عما نسب إلى هشام بن سالم إلى ما ذكروه من ضعف الرواية (٢).

* * *

قال الكاتب : وعن إبراهيم بن محمد الخراز ، ومحمد بن الحسين قالا : دخلنا على أبي الحسن الرضا رضي الله عنه ، فحكينا له ما روي أن محمداً رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة ، رجلاه في خضره ، وقلنا : (إن هشام بن سالم ، وصاحب الطاق ، والميثمي يقولون : إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد ... الخ) أصول الكافي ١ / ١٠١ ، بحار الأنوار ٤ / ٤٠.

وأقول : قال المجلسي في مرآة العقول : الحديث الثالث ـ يعني هذا الحديث ـ

__________________

(١) مرآة العقول ٢ / ٣ ، ٥.

(٢) شرح أصول الكافي للمازندراني ٣ / ٢٣٠.

٥١٠

ضعيف (١).

وذلك لأن أحد رواة هذا الحديث إبراهيم بن محمد الخزاز ، وهو مهمل في كتب الرجال.

ومن الرواة أيضاً بكر بن صالح ، وهو بكر بن صالح الرازي الضبّي ، وهو ضعيف ، ضعَّفه النجاشي وابن الغضائري ، وقد مرَّ بيان حاله فيما تقدَّم.

ومن جملة الرواة الحسين بن الحسن ، وهو ابن برد الدينوري.

قال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث : الحسين بن الحسن في إسناد هذه الروايات إذا كان راويه محمد بن إسماعيل فهو الحسين بن الحسن بن برد الدينوري ، ومحمد بن إسماعيل هو البرمكي الرازي بقرينة ما يأتي في الحسين بن الحسن بن برد الدينوري ، وقد ذكر محمد بن يعقوب بإسناده عن محمد بن إسماعيل عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح.

إلى أن قال : فمن الغريب أنه لم يُتعرَّض للرجل في شيء من الكتب الرجالية (٢).

فإذا كان هذا هو حال رواة هذا الخبر فكيف يعوِّل عليه مدَّعي الاجتهاد والفقاهة في تضعيف هشام بن سالم وغيره ، ويتغافل عن الروايات الصحيحة المادحة له؟!

ومع الإغماض عن سند الرواية فإن الراويين نسبا القول بالتجسيم لهشام بن سالم ومؤمن الطاق والميثمي ، والإمام سلام الله عليه تعرّض لبيان بطلان هذا القول ، ولم يتعرّض لصحة تلك النسبة لهم ولا عدمها ، وهذا يشعر بتكذيب هذه النسبة لهم ، وإلا لذمَّهم على ما هو دأبهم عليهم‌السلام من ذمِّ المبطلين والتحذير من ضلالاتهم.

قال المجلسي قدس‌سره : وأما نسبة هذا القول إلى هؤلاء الأكابر فسيأتي القول فيه ،

__________________

(١) مرآة العقول ١ / ٣٤٧.

(٢) معجم رجال الحديث ٥ / ٢١١.

٥١١

ولعلّه عليه‌السلام إنما تعرَّض لإبطال القول ، ولم يتعرَّض لإبطال نسبته إلى القائلين لنوع من المصلحة (١).

* * *

قال الكاتب : فهل يعقلُ أن الله تعالى في هيئة شاب في سن ثلاثين سنة ، وأنه أجوف إلى السرة؟؟ إن هذا الكلام يوافق بالضبط قول اليهود في توراتهم أن الله عبارة عن إنسان كبير الحجم وهذا منصوص عليه في سفر التكوين من توراة اليهود. فهذه آثار يهودية أُدْخِلَتْ إلى التشيع على يد هشام بن الحكم المتسبب والمشترك في مقتل الإمام الكاظم رضي الله عنه ، ويد هشام بن سالم وشيطان الطاق [كذا] والميثمي علي بن إسماعيل صاحب كتاب الإمامة.

ولو نظرنا في كتبنا المعتبرة كالصحاح الثمانية [!!] وغيرها لوجدنا أحاديث هؤلاء في قائمة الصدارة.

وأقول : لقد أوضحنا فيما تقدم ضعف الأحاديث التي ساقها الكاتب ، فكيف يصح الاحتجاج بها على إثبات صحة ما نُسب إلى الهشامين ومؤمن الطاق وغيرهم؟

هذا مضافاً إلى أن مفاد الروايات التي ذكرها الكاتب هو أن بعضهم نسب القول بالتجسيم والصورة وغيرهما إلى هؤلاء الأجلاء ، لا أن تلك الأقوال كانت مروية عنهم وأن نسبتها إليهم ثابتة ، وقد مرَّ بيان ما ينفع في ذلك آنفاً.

والعجيب من الكاتب أنه نسب القول بالتجسيم إلى هؤلاء مع أن تجسيم أهل السنة لا يمكن ردّه وإنكاره ، فإنهم رووا أحاديث صحيحة كثيرة دالَّة على أن الله سبحانه يُرى يوم القيامة كما يرى البدر ليلة تمامه ، وأن له صورة يعرفها به الأنبياء ، وأن له قدماً ووجهاً وعيناً وغير ذلك ، وعليك بمراجعة كتاب التوحيد لابن خزيمة

__________________

(١) مرآة العقول ١ / ٣٤٨.

٥١٢

فإنه أوفى على الغاية ، وإليك عناوين بعض أبواب كتابه المذكور مع ذكر أرقامها وترك المكرَّر :

٤ ـ ذكر البيان من خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إثبات النفْس لله عزوجل.

٦ ـ باب ذكر إثبات وجه الله.

٨ ـ باب ذكر صورة ربنا عزوجل.

١٠ ـ باب ذكر إثبات العين لله جلَّ وعلا.

١٣ ـ باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جلَّ وعلا.

٢١ ـ باب ذكر سُنَّة ثامنة تبيِّن وتوضح أن لخالقنا جلَّ وعلا يدين.

٢٧ ـ باب ذكر إمساك الله تبارك وتعالى اسمه وجلَّ ثناؤه السماوات والأرض وما عليها على أصابعه.

٢٨ ـ باب إثبات الأصابع لله عزوجل.

٢٩ ـ باب ذكر إثبات الرِّجْل لله عزوجل.

٣٣ ـ باب ذكر الدليل على أن الإقرار بأن الله عزوجل في السماء.

٣٤ ـ باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول الرب جلَّ وعلا.

٤٨ ـ باب ذكر البيان أن جميع المؤمنين يرون الله يوم القيامة مخلياً به عزوجل.

٥٢ ـ باب ذكر إثبات ضحك ربِّنا عزوجل.

وهذا كله موافق لما في التوراة من إثبات كل ذلك لله سبحانه وأكثر.

قال صاحب (المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب) :

أما في موضوع التشبيه والتجسيم فاليهود يقولون في أوصاف الله سبحانه ما يلي :

٥١٣

١ ـ أن له وجهاً : قال الله لموسى : (لا تقدر أن ترى وجهي ، لأن الإنسان لا يراني ويعيش).

٢ ـ وله عينين : جاء في سفر الملوك الثاني : (افتح يا رب عينيك وانظر).

٣ ـ وله أجفاناً : جاء في المزامير : (الرب في السماء كريم ، وله عينان تنظران ، أجفانه تمتحن بني آدم).

٤ ـ وأذنين : في سفر العدد : (كان الشعب كأنهم يشتكون شراً في أذني الرب).

٥ ـ وأنفاً : (يا رب بريح أنفك تراكمت المياه).

٦ ـ وفماً : (أما عبدي موسى فليس هكذا ، فماً إلى فم وعيناً أتكلم معه).

٧ ـ وله ذراعاً : في سفر الخروج : (يا رب بعظمة ذراعك يصمتون).

٨ ـ وله إصبعاً : في سفر التثنية : (أعطاني الرب لَوْحَي الحجر المكتوبين بإصبع الله).

٩ ـ وقدمين : قال اشعيا النبي : (أهكذا قال الرب؟ السماوات كرسيي ، والأرض موطن قدمي).

١٠ ـ وقلباً : في أخبار اليوم : (قال الله : قد اخترتُ وقدّستُ هذا البيت ، ليكون اسمي إلى الأبد ، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام).

١١ ـ وله صوتاً : جاء في سفر التكوين : (إن آدم وحواء سمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة).

١٢ ـ والله يسكن في السماء وكأنه بعيد عن الأرض : (قال الرب لموسى : أنتم رأيتم أنني في السماء تكلمت).

١٣ ـ ويسكن في الضباب : في سفر أخبار اليوم : (حينئذ قال الرب : إنه يسكن في الضباب).

١٤ ـ ويسكن فوق الجبال والمرتفعات : (ارفع عيني إلى الجبال من حيث يأتي

٥١٤

عَوْني معونتي من عند الرب).

١٥ ـ وقيل : إنه يسكن في سحابة تظهر فوق خيمة الاجتماع : سفر العدد : (وحين كان الله يقود اليهود في صحراء سيناء كان ينتقل أمامهم في سحابة تظهر فوق خيمة الاجتماع من موضع إلى موضع).

١٦ ـ وأنه يسكن فوق غطاء تابوت العهد الموضوع داخل خيمة الاجتماع.

١٧ ـ وقيل : إنه كان يسكن في هيكل أورشليم الذي بناه سليمان.

١٨ ـ وإنه يجلس على كرسي : في سفر الملوك : (رأيت الرب جالساً على كرسيه).

والخلاصة ... أن الله تعالى على مثال الكائن البشري ذي الجسم المحدود ، فهو يجلس ، وينزل ويصعد ، ويجيء ويذهب ، ويدخل ويخرج ، ويحل ويرتحل ، ويسير ويلاقي ويقابل ، ويسر ويفرح ، ويحزن ويأسف ، ويتضايق ويندم ، ويغضب ويسخط ، ويستهزئ ويضحك مستهزئاً ، ويخادع (١).

قلت : ومن عقائدهم الموافقة لليهود هو أن الله خلق آدم على صورته.

فقد أخرج البخاري ومسلم وابن حبان في صحاحهم ، وأحمد وأبو عوانة وعبد بن حميد في مسانيدهم وغيرهم بأسانيدهم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلق الله آدم على صورته ، وطوله ستون ذراعاً ، فلما خلقه قال : اذهب فسلِّم على أولئك النفر ، وهم من الملائكة جلوس ، فاستمع ما يحيّونك ، فإنها تحيتك وتحية ذرّيتك. قال : فذهب ، فقال : (السلام عليكم). فزادوه (ورحمة الله) ، قال : فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ، طوله ستون ذراعاً ، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن (٢).

__________________

(١) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب ١ / ١٨٥.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٠٢٣ ، ٤ / ١٩٥٩. صحيح مسلم ٤ / ٢١٨٣. مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٣١٥ ، ٣٢٣. مسند أبي عوانة ١ / ١٨٨. صحيح ابن حبان ١٤ / ٣٣. مسند عبد بن حميد ، ص ٤١٧.

٥١٥

وأخرج مسلم في صحيحه ، وأحمد في المسند ، وابن حبان وابن أبي عاصم والحميدي وغيرهم ، بأسانيدهم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه ، فإن الله خلق آدم على صورته (١).

وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وأحمد في المسند ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة ، بأسانيدهم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقولن أحدكم : (قبَّح الله وجهك ولا وجه مَن أشبه وجهك) ، فإن الله خلق آدم على صورته (٢).

وأخرج ابن أبي عاصم بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ، فإن الله خلق آدم على صورة وجهه (٣).

أقول : وهذا مطابق لعقيدة اليهود ، فقد جاء في العهد القديم ، في سفر التكوين ، الإصحاح الأول قوله : وقال الله : (نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فيتسلّطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدبّ على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ، ذكراً وأنثى خلقهم).

وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين : (يوم خلق الله الإنسان على شبه الله

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ / ٢٠١٧. صحيح ابن حبان ١٢ / ٤٢٠ ، ١٣ / ١٨. مسند أحمد ٢ / ٢٤٤ ، ٤٦٣ ، ٥١٩. مسند عبد بن حميد ، ص ٢٨٣. مسند الحميدي ٢ / ٤٧٦. كتاب السنة ١ / ٢٢٧ ـ ٢٣٠. اعتقاد أهل السنة ٣ / ٤٢٣. سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢ / ٥١٨. قال الألباني في تعليقته على كتاب السنة : إسناده صحيح ، رجاله رجال الشيخين غير شيخ المصنف ، وهو ثقة.

(٢) الأدب المفرد ، ص ٧١. مسند أحمد ٢ / ٢٥١ ، ٤٣٤. كتاب السنة ١ / ٢٢٩. مسند الحميدي ٢ / ٤٧٦. اعتقاد أهل السنة ٣ / ٤٢٢ ، ٤٢٣. تاريخ بغداد ٢ / ٢٢٠ ، ٣ / ٧٤. الصفات للدارقطني ٢ / ٣٥. قال الألباني في تعليقته على كتاب السنة : إسناده حسن صحيح ورجاله ثقات. وحسَّنه أيضاً في صحيح الأدب المفرد ، ص ٨٥.

(٣) كتاب السنة ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ قال الألباني في تعليقته : إسناده حسن صحيح ، رجاله رجال الشيخين غير شيخ المصنف ، وهو ثقة. المعجم الأوسط ٦ / ٢١.

٥١٦

عمله. ذكراً وأنثى خلقه ، وباركه ودعا اسمه آدم يوم خلق).

فما يقول الكاتب في أمثال هذه الطامات التي مُلِئَت بها كتب أهل السنة من عقائد اليهود؟

ومن أراد الاطلاع على المزيد من ذلك فليرجع إلى كتابنا (عبد الله بن سبأ) ، فإنا ذكرنا في هذا الموضوع ما لا مزيد عليه.

وأما قول الكاتب : (ولو نظرنا في كتبنا المعتبرة كالصحاح الثمانية وغيرها لوجدنا أحاديث هؤلاء في قائمة الصدارة) ، فيردّه أن روايات هشام بن الحكم في الكتب الأربعة قد بلغت ١٦٧ رواية (١) ، وروايات مؤمن الطاق قليلة لا تبلغ عشر روايات (٢) ، وروايات علي بن إسماعيل الميثمي بلغت ٢٦ رواية (٣) ، فكيف صارت أحاديث هؤلاء الرواة في قائمة الصدارة؟!

* * *

قال الكاتب : زرارة بن أعين :

قال الشيخ الطوسي : (إن زرارة من أُسرة نصرانية ، وإن جده سنسن وقيل سبسن كان راهباً نصرانياً ، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان) الفهرست ص ١٠٤.

وأقول : ما قاله الكاتب تحريف لكلام الطوسي ، وإن كان بعضه صحيحاً ، وإليك نص كلامه قدس‌سره :

قال : زرارة بن أعين ، واسمه عبد ربه ، يكنى أبا الحسن ، وزرارة لقب له ، وكان

__________________

(١) راجع معجم رجال الحديث ١٩ / ٢٩٥.

(٢) راجع المصدر السابق ١٧ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٣) راجع المصدر السابق ١١ / ٢٧٨.

٥١٧

أعين بن سنسن عبداً رومياً لرجل من بني شيبان ، تعلم القرآن ثمّ أعتقه ، فعرض عليه أن يدخل في نسبه فأبى أعين أن يفعله ، وقال : أقرَّني على ولائي ... (١).

فلم يذكر الشيخ رحمه‌الله أن أسرة زرارة كانت نصرانية ، بل إن تعلم أبيه للقرآن وعَرْض مولاه عليه إدخاله في نسبه دليل على كونه مسلماً ، ولا يُعرف عن أم زرارة أنها كانت نصرانية.

نعم ، قد كان جدّه راهباً نصرانياً في بلاد الروم ، وهذا لا يعني أن أسرة زرارة التي نشأ فيها كانت نصرانية.

ولا ريب في أن هذا لا يضر بزرارة بعد إسلام أبيه ونشأته على الإسلام ، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، وقد كان أكثر صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان ـ عبدة أوثان في الجاهلية ، وكان من الصحابة اليهودي والنصراني ، ومع ذلك حكم أهل السنة بعدالتهم وحسن إسلامهم ، بل واعتقدوا فيهم أنهم أمناء الله على حلاله وحرامه ، وهذا غير قابل للإنكار.

وإذا كان الكاتب قد استعظم قبول رواية زرارة مع أنه لم يثبت أنه وأباه كانا نصرانيين ، وإن كان جدّه راهباً ، فلِمَ لا يستعظم قبول روايات عبد الله بن سلام وتميم الداري ووهب بن منبّه وكعب الأحبار وغيرهم ممن كانوا يهوداً؟!

وإذا كانت أسرة زرارة النصرانية تشينه فلِمَ لمْ تُشِنْ أبا حنيفة أسرته ، فإن أبا حنيفة أيضاً كان من أسرة نصرانية.

فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن محبوب بن موسى قال : سمعت ابن أسباط يقول : وُلد أبو حنيفة وأبوه نصراني.

وعن الساجي قال : سمعت محمد بن معاوية الزيادي يقول : سمعت أبا جعفر يقول : كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زوطرة ، فسمَّى نفسه النعمان ، وأباه ثابتاً.

__________________

(١) الفهرست ، ص ١٣٣.

٥١٨

وعن محمد بن أيوب الذارع قال : سمعت يزيد بن زريع يقول : كان أبو حنيفة نبطياً (١).

ومن حفاظ الحديث عند أهل السنة الذين نشئوا في أُسَر نصرانية زكريا بن عدي.

قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : (م ت س ق) زكريا بن عدي بن الصلت بن بسطام : الحافظ المجود العبد الصالح أبو يحيى التيمي مولاهم الكوفي ، نزيل بغداد ، ولاؤه لبني تيم الله ، كان أبوه نصرانياً. وقيل : يهودياً فأسلم ، وهو أخو يوسف بن عدي نزيل مصر ، حدَّث عن حماد بن زيد وشريك القاضي وأبي المليح الرقي وابن المبارك ويزيد بن زريع وجعفر بن سليمان وطبقتهم بالعراق والجزيرة ، وعنه البخاري خارج صحيحه ، وابن راهويه والدارمي ومعاوية بن صالح الأشعري وعباس الدوري وعبد بن حميد وخلق ، وحديثه في الكتب سوى سنن أبي داود ، وكان أحد الأثبات ، استُخف بأمره ، ولم يخبره أبو نعيم ، فقال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد : قال أبو داود النحوي ليحيى بن معين وأنا أسمع : سمعت أبا نعيم وذُكر له زكريا بن عدي ، فقال له : ما له وللحديث؟ ذاك بالتوراة أعلم. فقال ابن معين : كان زكريا لا بأس به ، وكان أبوه يهودياً فأسلم (٢).

ومن أولئك الحفاظ عبد الله بن أبي الحسن الجبائي.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : الإمام القدوة أبو محمد عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الشَّامي الجُبَّائي من قرية الجُبَّة من أعمال طرابلس ، كان أبوه نصرانياً فأسلم هو في صغره ، وحفظ القرآن ، وقدم بغداد سنة أربعين وخمسمائة وله إحدى وعشرون سنة ، فصحب الشيخ عبد القادر ، وسمع من ابن الطلاية وابن ناصر ، وبأصبهان من أبي الخير الباغبان ومسعود الثقفي وخلق ، وحصَّل الأصول ، ثمّ

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ / ٣٩٥.

٥١٩

استوطن أصبهان ، وكان ذا قبول ومنزلة وصدق وتأله (١).

ومنهم : داود بن عبد الرحمن العطار.

قال ابن حبان في كتاب الثقات : داود بن عبد الرحمن العطار من أهل مكة ، كنيته أبو سليمان ، يروي عن ابن خثيم وعمرو بن دينار ، روى عنه ابن المبارك وأحمد بن يونس ، وكان متقناً ، مات سنة أربع وسبعين ومائة ، وكان أبوه نصرانياً يتطيب فأسلم ، وهو من أهل الشام ، وقدم مكة ووُلد له بها داود ابنه سنة مائة ، وصار من فقهاء أهل مكة ومحدِّثيهم (٢).

ومنهم : الحسن بن داود بن بابشاد.

قال الخطيب البغدادي : الحسن بن داود بن بابشاد بن داود بن سليمان أبو سعيد المصري ، قدم بغداد ودرس فقه أبي حنيفة على القاضي أبي عبد الله الصيمري ، وتوجه فيه حتى درَّس ، وكان مفرط الذكاء حسن الفهم ، يحفظ القرآن بقراءات عدة ، ويحفظ طرفاً من علم الأدب والحساب والجبر والمقابلة والنحو ، وكَتَب الحديث بمصر عن أبي محمد بن النحاس وطبقته ، كُتبت عنه أحاديث ، وكتب عني ، وكان ثقة حسن الخلق وافر العقل ، وكان أبوه يهودياً ، ثمّ أسلم وحسن إسلامه ، وذُكر بالعلم ، وهو فارسي الأصل (٣).

وغير هؤلاء كثيرون لا نرى فائدة في استقصائهم ، وفيما ذكرناه كفاية ، وهؤلاء وإن لم يكونوا عند أهل السنة بمنزلة زرارة عند الشيعة إلا أن الغاية من ذكرهم هي بيان أن هؤلاء وغيرهم لم يُزر بهم عند أهل السنة أن آباءهم كانوا يهوداً أو نصارى ، فكيف أزرى بزرارة أن جدّه كان نصرانياً؟

* * *

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٢١ / ٤٨٨.

(٢) كتاب الثقات ٦ / ٢٨٦.

(٣) تاريخ بغداد ٧ / ٣٠٧.

٥٢٠