لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

وأقول : هذا حديث مرسل رواه الحر العاملي في الفصول المهمة ، فلا يصح الاحتجاج به.

ولو سلّمنا بصحة الحديث فهو متَّفق مع ما رواه أهل السنة في كتبهم من أنه لم يبق عندهم شيء كان على زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا الصلاة ، وقد أحدثوا فيها ما أحدثوا.

فقد أخرج البخاري في صحيحه ، والمقدسي في الأحاديث المختارة ، وغيرهما ، بأسانيدهم عن الزهري أنه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ.

وفي رواية أخرى ، قال : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قيل : الصلاة؟ قال : أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها؟! (١)

وأخرج الترمذي في سننه ، وأحمد بن حنبل في المسند عن أنس أنه قال : ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : أين الصلاة؟ قال : أوَلم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟ (٢)

وأخرج مالك بن أنس في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركتُ عليه الناس إلا النداء للصلاة (٣).

وأخرج أحمد في المسند عن أم الدرداء أنها قالت : دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : مَن أغضبك؟ قال : والله لا أعرف منهم من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئاً إلا

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٣٣ كتاب مواقيت الصلاة وفضلها ، باب تضييع الصلاة عن وقتها. الأحاديث المختارة ٥ / ١٠٣. شعب الإيمان ٣ / ١٣٤.

(٢) سنن الترمذي ٤ / ٦٣٣. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ١٠١ ، ٢٠٨.

(٣) الموطأ ، ص ٤٢.

٤٦١

أنهم يصلّون جميعاً (١).

وفي رواية أخرى قال : إلا الصلاة (٢).

وأخرج أحمد في مسنده عن أنس أيضاً أنه قال : ما أعرف شيئاً مما عهدتُ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم. فقال أبو رافع : يا أبا حمزة ، ولا الصلاة؟ فقال : أوَليس قد علمت ما صنع الحَجَّاج في الصلاة؟

وأخرج أحمد في المسند ، والبغوي في شرح السنة ، والبوصيري في مختصر الإتحاف ، والمقدسي في الأحاديث المختارة ، بأسانيدهم عن أنس قال : ما أعرف فيكم اليوم شيئاً كنتُ أعهده على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير قولكم : لا إله إلا الله. قال : فقلت : يا أبا حمزة ، الصلاة؟ قال : قد صليت حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... (٣).

وأخرج الطيالسي في المسند ، والبوصيري في مختصر الإتحاف عن أنس أنه قال : والله ما أعرف اليوم شيئاً كنت أعرفه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالوا : يا أبا حمزة ، والصلاة؟ قال : أوليس أحْدَثتم في الصلاة ما أحدثتم؟ (٤).

فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أنهم ضيَّعوا كل شيء في الدين إلا شهادة ألا إله إلا الله كما في بعضها ، أو الصلاة كما في بعضها الآخر ، أو الأذان للصلاة كما في بعض ثالث ، أو الصلاة جماعة كما في بعض رابع.

ونحن قد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتابنا (مسائل خلافية) (٥) ، فراجعه

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٤٤٣ ، ٥ / ١٩٥.

(٢) المصدر السابق ٦ / ٤٤٣.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٧٠. شرح السنة ١٤ / ٣٩٤. مختصر إتحاف السادة المهرة ٢ / ٣٠٧. الأحاديث المختارة ٥ / ١٠٢.

(٤) مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢٧١. مختصر إتحاف السادة المهرة ٢ / ٣٠٧.

(٥) مسائل خلافية ، ص ١٥٤ ـ ٢١١.

٤٦٢

فإنه مهم.

* * *

قال الكاتب : وقال الحر عن هذه الأخبار بأنها : (قد تجاوزت حد التواتر ، فالعجب من بعض المتأخرين حيث ظن أن الدليل هنا خبر واحد).

وأقول : نحن لا ننكر ورود الأخبار الصحيحة الدالة على أن مِن مرجِّحات باب التعارض هو الأخذ بما خالف العامة للسبب الذي أوضحناه فيما مرَّ ، وسواء ثبتت هذه المسألة بالتواتر أم بأخبار الآحاد فكلاهما حجة يعمل بها ، وهذه مسألة أصولية لا وجه للخوض فيها هنا.

* * *

قال الكاتب : وقال أيضاً : (واعلم أنه يظهر من هذه الأحاديث المتواترة بطلان أكثر القواعد الأصولية المذكورة في كتب العامة) الفصول المهمة ص ٣٢٦.

وأقول : هذا على مسلك صاحب الوسائل رحمه‌الله ، فإنه محدِّث لا يرى حجية القواعد الأصولية التي لم تروَ من طريق الأئمة عليهم‌السلام ، وهو خطأ واضح ، وليس هنا موضع بحث هذه المسألة.

* * *

قال الكاتب : ٣ ـ إنهم لا يجتمعون مع السنة على شيء :

قال السيد نعمة الله الجزائري : (إنا لا نجتمع معهم ـ أي مع السنة ـ على إله ، ولا على نبي ، ولا على إمام ، وذلك أنهم يقولون : إن ربَّهم هو الذي كان محمد نبيه وخليفته من بعده أبو بكر. ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي ، بل نقول : إن

٤٦٣

الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا) (١) الأنوار الجزائرية ٢ / ٢٧٨ باب نور في حقيقة [كذا] دين الإمامية والعلة التي من أجلها يجب الأخذ بخلاف ما تقوله العامة.

وأقول : إن كلام السيِّد نعمة الله الجزائري قدس‌سره واضح جداً ، فإنه يريد بهذا الكلام لازمه ، وهو نفي خلافة أبي بكر لا أكثر ولا أقل ، فمراده بقوله (إن النبي الذي نصب أبا بكر خليفة لا نعتقد به) هو أنه لا يوجد نبي هكذا حتى نعتقد به ، فالقضية سالبة بانتفاء موضوعها ، فإن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصب أبا بكر خليفة.

وكذلك لا يوجد رب قد أرسل نبيّا كان خليفته أبا بكر حتى نؤمن به ، فإن ربَّنا سبحانه لم يرسل نبيّا هكذا.

وهذا نظير قول من يقول : (إن الشيعة لا يجتمعون مع أهل السنة في رب ولا في نبي ولا في خليفة) ، فإن مراده أن أهل السنة يعتقدون في الله أن له صورة كصورة آدم عليه‌السلام ، ويداً ورِجلاً ووجهاً وساقاً وعيناً وأنه في مكان وأن صفاته كصفات الآدميين ، والشيعة لا يعتقدون بأن ربّهم هكذا ، بل هم ينزِّهونه عن كل ذلك.

وأهل السنة يعتقدون في النبي أنه غير معصوم فيما لا يرتبط بالتشريع ، وأنه يسب ويلعن من لا يستحق ، ويخرج إلى الناس وبُقَع المني في ثيابه ، وأنه يبول واقفاً ، ويأكل ما ذُبح على النُّصُب ، وأنه أبدى عورته للناس وأمثال هذه الأمور ، والشيعة ينزِّهونه عن كل ذلك.

ولا يمتنع عند أهل السنة أن يكون خليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيفاً لا يهتدي إلى الحق إلا أن يُهدى ، أو يجتهد برأيه كيف شاء ، فلا يدري أصاب أم أخطأ ، بل لا غضاضة عندهم في أن يحتاج هذا الخليفة إلى رعيَّته ليقوِّموه إذا أخطأ ، وأن يكون له شيطان يعتريه ويستفزّه ، وغير ذلك.

__________________

(١) للكاتب هنا حاشية ، سيأتي ذكرها وبيان ما فيها.

٤٦٤

ومما قلناه يتضح أن نفي الاتفاق في هذه الأمور يراد به نفي الصفات المذكورة عن الله سبحانه ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن الإمام الحق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يراد به نفي الاعتقاد بالله ، أو التصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى على من يعرف أساليب الكلام.

إلا أن الإنصاف يقتضي أن نقول : إن تعبير السيّد الجزائري قدس‌سره : (أنّا لا نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام) بالمعنى الذي أوضحناه تعبير غير حسن ، لا يحسن صدوره منه ولا من غيره وإن كان المراد منه صحيحاً وواضحاً ، وذلك لأن المغرضين قد اتّخذوه وسيلة للتشويش به على العوام وإيهامهم بأن الشيعة لا يعتقدون بالله سبحانه ولا بنبوّة نبيِّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما صنع الكاتب وغيره ، فكان الأولى بالسيّد رحمه‌الله أن يذكر المعنى المراد بعبارات غير موهمة.

وللكاتب هنا حاشية نصّها : إن الواقع يثبت أن الله تعالى هو رب العالمين ، ومحمد [كذا] صلى‌الله‌عليه‌وآله هو نبيّه ، وأبو بكر [كذا] خليفة محمد على الأمة ، سواء كانت خلافته شرعية أم لا.

وأقول : إن الواقع لا يثبت خلافة أبي بكر ، فإنه لم يقم على خلافته أي دليل صحيح ، وإنما أقام القوم عليها خيالات واهية ركيكة اعتبروها أدلة.

ولا أدري كيف يُثْبِت الواقع خلافة أبي بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء كانت خلافته شرعية أم لا؟ فإنه إن كان الواقع يثبت خلافته فلا بد أن تكون شرعية ، وإلا فهي غير شرعية.

فإن أراد الكاتب بقوله : (إن الواقع يثبت خلافة أبي بكر) مجرد تولي الحكم من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا لا نتنازع فيه ، وإنما النزاع في استحقاقه للخلافة وأهليته لها وشرعية تلك الخلافة.

وقال الكاتب أيضاً في تلك الحاشية : فكلام السيّد الجزائري خطير للغاية ، فهو يعني : إذا ثبت أن أبا بكر خليفة محمد ، ومحمد نبي الله ، فإن السيّد الجزائري لا يعترف

٤٦٥

بهذا الإله ولا نبيه محمد ، والواقع يثبت أن أبا بكر خليفة محمد سواء كانت خلافته شرعية أم لا.

وأقول : إن كلام السيّد الجزائري واضح جداً ، وقد مرَّ بيانه ، وهو قدس‌سره قد علق نفي الألوهية ونفي النبوة على أمر محال ، وهو ثبوت شرعية خلافة أبي بكر ، فلا إشكال في البين ، ولا نفي للألوهية والنبوة بالنتيجة.

وأما أن الواقع يثبت خلافة أبي بكر فقد أجبنا عنه.

ثمّ قال الكاتب : وقد عرضت الأمر على الإمام الخوئي ، فسألته عن الحكم الشرعي في الموضوع بصورة غير مباشرة في قصة مشابهة ، فقال : إن من يقول هذا الكلام فهو كافر بالله ورسوله وأهل البيت عليهم‌السلام.

وأقول : ما نسبه للخوئي قدس‌سره غير صحيح ، ولا يمكن أن يكفّر الخوئي قائل ذلك ، لما أوضحناه من معنى العبارة ، ونحن لا نعلم ما هي هذه القصة المشابهة التي زعم الكاتب نقلها للخوئي ، ولو سلّمنا بوقوع هذه القضية فلعل من قال كلاماً آخر يشبه كلام الجزائري يكون كافراً ، لعدم كونه تعليقاً على محال ، بخلاف كلام الجزائري رحمه‌الله.

* * *

قال الكاتب : عقد الصدوق هذا الباب في علل الشرائع فقال : عن أبي اسحاق الأرجاني رفعه قال : قال أبو عبد الله رضي الله عنه : أتدري لم أُمِرْتم بالأخذ بخلاف ما تقوله العامة؟

فقلت : لا ندري.

فقال : (إن عليّا لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأُمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين رضي الله عنه عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذا

٤٦٦

أفتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلبسوا على الناس) ص ٥٣١ طبع إيران.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإنها مضافاً إلى كونها مرفوعة ، فقد رواها أبو إسحاق الأرجاني ، وهو مهمل في كتب الرجال.

ومع الإغماض عن سند الرواية فإنها تدل على أن أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام كانوا يسألونه ويخالفونه ، وهو أمر ليس بمستغرَب ولا مستبعد منهم ، فإن القوم قد بالغوا في عداوتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام حتى حاربوه بسيوفهم ، وأعلنوا سبّه على المنابر سنين كثيرة ، فهل يستبعد منهم مخالفة فتاواه؟!

فإذا تحقق ذلك أمكن استكشاف الحق أحياناً بالأخذ بما خالف العامة ، لأنه حينئذ موافق لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ولا بد أن نذكِّر هاهنا بأن ذلك إنما يكون في حال تعارض الأخبار وإرادة ترجيح بعضها على بعض ، أو في حال فقدان النص وعدم التمكن من معرفة الحكم مع الاضطرار للمعرفة كما هو ظاهر بعض الأخبار.

* * *

قال الكاتب : ويتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي :

لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ما أيجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم؟ أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال : نعم يجب الأخذ بخلاف قولهم ، لأن الأخذ بخلاف قولهم ، وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم على افتراض وجود الحق عندهم في تلك المسألة.

وأقول : لم يذكر الكاتب كيف يُعلم أن الحق مع العامة في تلك المسألة؟

وكيف كان فجواب مسألته هو أن الذي أجمع عليه علماء الشيعة قديماً وحديثاً أنه لو فرض حصول العلم بالحكم الموافق للعامة ، أو قام الدليل الصحيح على ما

٤٦٧

يوافقهم ، فإنه يجب حينئذ الأخذ به ، وموافقتُه لهم لا تضر به ، لأن الحق أحق أن يُتَّبع.

ونحن قد أوضحنا فيما مرَّ أن الأخذ بخلاف قول العامة إنما هو في حال وجود خبرين أو أخبار متعارضة ، بعضها موافق لهم ، وبعضها مخالف لهم ، فلا مناص حينئذ من حمل الموافق على التقية وطرحه ، والعمل بالمخالف ، لا من أجل كونه مخالفاً ، بل لأن الموافقة لهم دليل على صدوره من الأئمة عليهم‌السلام تقية.

وأما ما نسبه للسيد محمد باقر الصدر قدس‌سره فهو غير صحيح ، لأنه مخالف لكلامه في كتبه وأبحاثه ، فإنه ذكر أن مخالفة العامة ما هو إلا مرجِّح عند تعارض الأدلة الشرعية من أجل استكشاف الحكم الشرعي الصادر عنهم عليهم‌السلام لا على جهة التقية ، وأما مع وضوح الحكم الشرعي فلا معنى للترجيح حينئذ بمخالفة العامة (١).

ومجمل القول أنك لا تجد واحداً من علماء الشيعة يجوِّز طرح الحكم الشرعي الثابت بالأدلة الصحيحة من أجل مخالفة العامة ، وإنما هو قول بعض علماء أهل السنة الذين جوَّزوا طرح السُّنة الثابتة لأنها صارت شعاراً للروافض كما تقدَّم بيانه.

ولكن الكاتب دأب في هذا الكتاب على إلصاق بعض مخازي القوم بعلماء الشيعة ، لأجل تبرئة أهل السنة مما ابتُلوا به ، إلا أنه فشل في مسعاه ، وخاب في مبتغاه ، لأنه جعل أدلَّته النقولات القولية المكذوبة التي لا تنفق في سوق إثبات الأحكام الشرعية والمسائل الخلافية.

* * *

قال الكاتب : إن كراهية الشيعة لأهل السنة ليست وليدة اليوم ، ولا تختص بالسنة المعاصرين ، بل هي كراهية عميقة تمتد إلى الجيل الأول لأهل السنة ، وأعني الصحابة ما عدا ثلاثة منهم وهم أبو ذر والمقداد وسلمان ، ولهذا روى الكليني عن أبي

__________________

(١) راجع كتابه (تعارض الأدلة الشرعية) ، ص ٣٤ ، ٣٥٨ ، ٤١٥ وغيرها.

٤٦٨

جعفر قال : (كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه إلا ثلاثة المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري) روضة الكافي ٨ / ٢٤٦.

وأقول : إن الكراهية بين المذاهب كانت متأصلة منذ العصور الأولى ، بسبب الحوادث والفتن التي حصلت بين أتباعها ، والتاريخ يحدّثنا عن فتن وقعت بين الشيعة وأهل السنة ، بل حوادث وفتن وقعت بين أتباع مذاهب أهل السُّنة أنفسهم من أحناف وموالك وشوافع وحنابلة.

إلا أن الشيعة كانوا أبعد الطوائف عن تأجيج نائرة الفتن ، لأنهم كانوا يعملون بوصايا أئمتهم بحسن معاشرة أهل السنة وقد ذكرنا بعضها ، وكانوا يمارسون التقية الشديدة التي فرضها عليهم قمع الولاة لهم ، وكانوا ضعفاء مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس.

وقد نقلنا للقارئ العزيز فيما تقدم شهادة الشيخ محمد أبو زهرة بأن الشيعة الإمامية يتوددون إلى أهل السنة ولا ينافرونهم ، وهو سُنّي لا يُتَّهم في هذه الشهادة.

ولو سلَّمنا أن الشيعة يبغضون أهل السنة فلا أعتقد أن الكاتب يزعم أن أهل السُّنة يحبُّون الشيعة ويودُّونهم مع ما نقلناه سابقاً من فتاوى بعض علمائهم بكفر الروافض وحرمة ذبائحهم وعدم جواز مناكحتهم والسلام عليهم وغير ذلك.

ومع كل تلك الفتاوى الصادرة من بعض علمائهم إلا أنك لا تجد في أحاديث الشيعة وفتاوى علمائهم حثّاً على بغض أهل السنة ومعاداتهم ، بل ما تجده هو عكس ذلك كما مرَّ بيانه مفصَّلاً فيما تقدَّم.

* * *

قال الكاتب : لو سألنا اليهود : من هم أفضل الناس في مِلَّتِكُم؟

لقالوا : إنهم أصحاب موسى.

٤٦٩

ولو سألنا النصارى : من هم أفضل الناس في أمتكم؟

لقالوا : إنهم حواريو عيسى.

ولو سألنا الشيعة : من هم أسوأ الناس في نظركم وعقيدتكم؟

لقالوا : إنهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأقول : هذا الكلام قد اقتبسه الكاتب من رواية طويلة رواها عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، عن الشعبي ، وهي رواية ضعيفة عن الشعبي كما اعترف بذلك ابن تيمية في كتابه منهاج السنة (١) وأبو بكر الخلال في كتاب السنة (٢).

وسواء ثبت ذلك عن الشعبي أم لم يثبت فهو هذيان لا يصلح أن يكون حُجَّة على الشيعة في شيء ، وقد استوفينا الرد عليه في كتابنا (عبد الله بن سبأ) ، فراجعه ففيه فوائد جمَّة.

وأما ما نقله الكاتب من سؤال اليهود والنصارى والروافض ، فهو تصوّرات واحتمالات لا تصلح دليلاً في مقام البحث والمناظرة.

ونحن لا ندري ما يقوله اليهود والنصارى في المسألة ، فلعلّهم يقولون خلاف ذلك ، ويثبتون الأفضلية لغير أصحاب موسى وعيسى ، ولا سيما أنهم طعنوا في موسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم‌السلام وألصقوا بهم الفظائع.

ولو سلّمنا بأن اليهود يرون أن خير أهل ملّتهم هم أصحاب موسى ، وأن النصارى يرون أن خير أهل ملَّتهم هم حواريو عيسى ، فهذا لا يصلح دليلاً على أن أصحاب نبيِّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم خير هذه الأمّة ، لأن ثبوت الأفضلية لأصحاب موسى وعيسى لا يستلزم ثبوتها لأصحاب الأنبياء الآخرين ، وهذا واضح جداً لا يماري فيه إلا جاهل أو متعصب.

__________________

(١) منهاج السنة ١ / ٨ ، ط أخرى ١١ ، ١٢.

(٢) كتاب السنة ٣ / ٤٩٨ ، قال الخلال : إسناده لا يصح.

٤٧٠

ثمّ لما ذا غيَّر الكاتب صيغة السؤال؟ فلمَ لا يُسأل الشيعة : (من خير أهل ملّتكم؟) ، كما سُئل اليهود والنصارى؟

ولا ريب في أن الشيعة لو سُئِلوا هذا السؤال فإنهم سيجيبون بأن خير أهل الملة أهل بيت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا الجواب لا يستلزم أي إشكال على الشيعة ، وإنما يلزم منه ثبوت القدح في أهل السنة الذين سفكوا دماءهم ، وأزاحوهم عن مناصبهم ، وجحدوا مآثرهم ، وأنكروا فضائلهم ، والكاتب إنما أراد بافتراض هذه الأسئلة مجرد الطعن في الشيعة لا غير ، فلا بد له من تغيير صيغة السؤال ليتم له مطلوبه.

* * *

قال الكاتب : إن أصحاب محمد هم أكثر الناس تعرضاً لسب الشيعة ولعنهم وطعنهم وبالذات أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة زوجتا النبي صلوات الله عليه ، ولهذا ورد في دعاء صنمي قريش : (اللهم العن صنمي قريش ـ أبو بكر وعمر ـ وجِبْتَيْهِما وطاغوتيهما [كذا] ، وابنتيهما ـ عائشة وحفصة ... الخ) وهذا دعاء منصوص عليه في الكتب المعتبرة ، وكان الإمام الخميني يقوله بعد صلاة صبح كل يوم.

وأقول : إن الشيعة لا يقولون بعدالة كل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما يقولون بعدالة من ثبتت عدالته عندهم كائناً من كان ، ومن يراهم أهل السُّنة أجلاء ويعتبرونهم من كبار الصحابة قد لا يراهم الشيعة كذلك ، لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي اجتهد فيها الصحابة وغيرهم ، ولهذا كفَّر مشهور أهل السنة صحابياً جليلاً يراه الشيعة من أعاظم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجلَّائهم ، واتفق الكل على أنه لم يألُ جهداً في بذل النصرة لرسول الله والدفاع عنه ، وفي الذب عن الإسلام في مهده ، وهو أبو طالب عليه‌السلام ، ومع ذلك لم يرَ أهل السنة في الحكم بتكفيره أية غضاضة

٤٧١

عليهم ، ولم يجعل الشيعة ذلك ذريعة لتكفير أهل السنة.

وأما خصوص أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن الحكم فيهم تعديلاً أو جرحاً من توابع مسألة الخلافة ، وذلك لأن خلافتهم إن كانت صحيحة وشرعية ، وكانت مرضية لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا مناص حينئذ من الحكم بعدالتهم وجلالتهم.

وأما إذا كانت خلافتهم غير شرعية ، وكان الخليفة الشرعي هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلا ريب حينئذ في عذر من لا يقول بعدالتهم وجلالتهم.

وبما أن مسألة الخلافة لا تزال محل جدال ونزاع بين أهل السنة والشيعة ، فليس من المنطقي أن يحتدم النزاع في تقييم الخلفاء من دون حل الأساس الذي يبتني عليه هذا الأمر ، وهو مسألة الخلافة.

وأما مسألة عائشة وحفصة فهي أيضاً مسألة اجتهادية ، ولا دليل صحيحاً عندنا يدل على ما يعتقده أهل السُّنة فيهما.

فإذا صحَّحنا الروايات التي نصَّت على أن عليّا عليه‌السلام لا يبغضه إلا منافق ، ولا يحبّه إلا مؤمن ، وأن حربه حرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه إمام مفترض الطاعة ، فلا مناص حينئذ من الحكم بنفاق كل الذين حاربوه أو كانوا يبغضونه ، أو الحكم بكونهم فسَّاقاً على الأقل ، وإلا فلا يجوز الإقدام على تكفير مسلم أو الحكم بنفاقه من غير دليل صحيح.

وكذا إذا قلنا : (إن كل من خرج على أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو هالك) ، فلا مناص من الحكم بهلاك بعض الصحابة الذي خرجوا عليه ، ومنهم عائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم ، وإلا فلا يصح الحكم على مسلم بالهلاك إلا بدليل صحيح.

والحاصل أن جرح أو تعديل بعض الصحابة أو بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصح فيه الاجتهاد ، لأنه لا دليل متواتراً يدل على تعديل كل الصحابة وكل نساء النبي

٤٧٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحكم بنفاق بعضهم لا يخرج المجتهد فيه عن الإسلام ، ولا يخل بالعدالة إذا كان الحكم مستنداً إلى دليل ربما يكون صحيحاً.

* * *

قال الكاتب : عن حمزة بن محمد الطيار أنه قال : ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله رضي الله عنه فقال : (رحمه‌الله وصلى عليه ، قال محمد بن أبي بكر لأمير المؤمنين يوماً من الأيام : ابسط يدك أبايعك ، فقال : أو ما فعلت؟ قال : بلى ، فبسط يده ، فقال : أشهد أنك إمام مُفْتَرَضٌ طاعته ، وأن أبي (يريد أبا بكر أباه) في النار ـ رجال الكشي ص ٦١.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن راويها هو حمزة بن محمد الطيار ، وهو مهمل ، لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال المامقاني : حمزة بن محمد الطيار ، عدَّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وقال : (كوفي). وظاهره كونه إمامياً ، إلا أن حاله مجهول (١).

ومن جملة رواة هذا الخبر زُحَل عمر بن عبد العزيز ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، بل وصفه النجاشي بالتخليط ، ووصفه الفضل بن شاذان بأنه يروي المناكير.

قال النجاشي : عمر بن عبد العزيز عربي ، بصري ، مخلط (٢).

وقال الكشي : أبو حفص ، عمر بن عبد العزيز أبي بشار ، المعروف بزُحَل. محمد ابن مسعود قال : حدثني عبد الله بن حمدويه البيهي ، قال : سمعت الفضل بن شاذان يقول : زُحَل أبو حفص يروي المناكير ، وليس بغالٍ (٣).

__________________

(١) تنقيح المقال ١ / ٣٧٧.

(٢) رجال النجاشي ٢ / ١٢٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٤٨.

٤٧٣

وقال المامقاني : هو إمامي مجهول الحال من حيث العدالة والضبط وعدمهما ، لكن الإنصاف أن مثله يُسمَّى ضعيفاً اصطلاحاً (١).

ومع الإغماض عن ضعف الحديث والتسليم بصحَّته ، فإنه يدل على أن محمد بن أبي بكر كان يعتقد أن أباه من أهل النار ، وأنه بايع أمير المؤمنين عليه‌السلام على ذلك ، وهو أعرف بأبيه منا ، واعتقاده لا يُدان به الشيعة في شيء.

ثمّ إذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد قبل منه هذه البيعة فلا بد أن تكون عقيدته في أبيه إما صحيحة أو لا تضر ببيعته ، وذلك لأن كثيراً من الصحابة لم يكونوا يعتقدون في أبي بكر وعمر وعثمان ما يعتقده أهل السنة فيهم القداسة العظيمة التي لا يجوز معها تخطئتهم في أي موقف من مواقفهم.

* * *

قال الكاتب : وعن شعيب عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال : (ما من أهل بيت إلا وفيهم نجيب من أنفسهم ، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء محمد بن أبي بكر) الكشي ص ٦١.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند أيضاً ، فإن من جملة رواتها موسى بن مصعب ، وهو مهمل في كتب الرجال.

ومع الإغماض عن السند ، فإن الرواية في نفسها لا تصح ، وذلك لأن من المقطوع به أن بيوتاً كثيرة ليس فيها نجيب ، مع أن الرواية نصَّت على أن كل بيت لا يخلو من نجيب.

ثمّ إن الرواية وإن كان مساقها المدح لمحمد بن أبي بكر ، إلا أنها مع التدقيق فيها لا تدل على مدحٍ ذي شأن ، وذلك لأنها دلَّت على أنه أنجب النجباء من أهل

__________________

(١) تنقيح المقال ٢ / ٣٤٥.

٤٧٤

بيوت السوء ، لا أنجب النجباء مطلقاً ، والنجباء من بيوت السوء قلائل جداً ، فيكون هو أنجبهم ، وهذا ليس مدحاً في واقعه كما هو واضح.

* * *

قال الكاتب : وأما عمر فقال السيد نعمة الله الجزائري :

(إن عمر بن الخطاب كان مُصاباً بداء في دُبُرِهِ لا يهدأُ إلا بماءِ الرجال) الأنوار النعمانية ١ / ٦٣.

وأقول : لم يقل السيّد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله ذلك ، وإنما نقل ما قاله علماء أهل السنة في كتبهم ، فقال :

وأما أفعاله ـ يعني عمر ـ الجميلة فلقد نقل منها مُحبّوه ومتابعوه ما لم ينقله أعداؤه ، منها ما نقله صاحب كتاب الاستيعاب ...

إلى أن قال : ومنها : ما قاله المحقق جلال الدين السيوطي في حواشي القاموس عند تصحيح لغة الأُبْنَة ، وقال هناك : (وكانت في جماعة في الجاهلية ، أحدهم سيّدنا عمر). وأقبح منه ما قاله الفاضل ابن الأثير ، وهما من أجلاء علمائهم ، قال : (زعمت الروافض أن سيِّدنا عمر كان مخنَّثاً. كذبوا ، ولكن كان به داء دواؤه ماء الرجال). وغير ذلك مما يُستقبح منا نقله ، وقد قصَّروا في إضاعة مثل هذا السر المكنون المخزون ، ولم أرَ في كتب الرافضة مثل هذا ... وقد نَقَلتْ أهل السنة هاهنا عن إمامهم ما هو أقبح من هذا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (١).

قلت : ومما نقلناه يتَّضح للقارئ العزيز أن السيّد الجزائري رحمه‌الله إنما نقل هذه الأمور عن كتب أهل السُّنة لا عن كتب الشيعة ، بل إنه قد صرَّح كما رأينا بخلو كتب الشيعة عن أمثال هذه المثالب ، ووَصَفَ ذِكر أمثال هذه الأمور بأنها قبائح ، وحوقل في

__________________

(١) الأنوار النعمانية ١ / ٦٣.

٤٧٥

ختام كلامه.

فالعجب من أمانة الكاتب الذي نسب هذا القول للسيِّد الجزائري مع أنه كان مجرد ناقل لا أكثر ولا أقل.

ولا أدري لِمَ استاء الكاتب من هذا النقل ، مع أن ظاهر العبارة الأولى التي نقلها السيد الجزائري عن السيوطي أن الأمر كان في الجاهلية ، وأهل الجاهلية كانوا يفعلون كل قبيح ومنكر ، ولم يقل أهل السنة : (إن عمر بن الخطاب كان في الجاهلية يتحاشى عن بعض أفعالها) ، ولهذا رووا في كتبهم أن عمر كان في الجاهلية يعبد الأوثان ويشرب الخمر ويئد البنات وغيرها ، ولم يرَوا في نقل هذه القبائح غضاضة عليه ، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله.

* * *

قال الكاتب : واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية في منطقة تسمى (باغ فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد بابا شجاع الدين) وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب ، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي (مرك بر أبو بكر ، مرك بر عمر ، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربية : الموت لأبي بكر ، الموت لعمر ، الموت لعثمان.

وهذا المشهد يُزَارُ من قبَلِ الإيرانيين ، وتُلْقَى فيه الأموال والتبرعات ، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي ، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده وفق [كذا] ذلك قاموا بطبع صورة المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب.

وأقول : لو سلَّمنا بصحَّة ما نقله الكاتب فمن الواضح أنه لا عبرة بتصرفات

٤٧٦

العوام ، وهي لا تدل على معتقد الشيعة ، وإنما العبرة بما قاله أساطين علماء الشيعة في كتبهم المعتمدة ، وإلا فما أكثر البدع والمستحدثات التي يعملها أهل السُّنة في بلدانهم ، ومن أراد الاطلاع على كثرتها فليرجع إلى كتبهم المعدَّة لبيان ذلك ، كأحكام الجنائز وبدعها لمحمد ناصر الدين الألباني ، و (معجم البدع) لرائد بن صبري بن أبي علفة ، وغيرهما.

* * *

قال الكاتب : روى الكليني عن أبي جعفر رضي الله عنه قال : (... إن الشيخين ـ أبا بكر وعمر ـ فارقا الدنيا ولم يتوبا ، ولم يذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) روضة الكافي ٨ / ٢٤٦.

وأقول : هذا الحديث ضعيف السند ، فإن الكليني رحمه‌الله رواه عن حنَّان بلا واسطة ، وهو لم يدرك حنَّاناً ، لأن حنَّاناً كان من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، والكليني عاش في عصر الغيبة الصغرى (١).

وحيث إن الكليني عليه الرحمة يروي عن حنان بواسطة أو واسطتين ، وفي بعضها عبد الرحمن بن حماد ، وفي بعضها السياري ، وفي بعض آخر محمد بن علي الهمداني ، وفي غيرها سهل بن زياد ، ومنصور بن العباس ، وفي بعضها عبد الله بن الخطاب ، وسلمة بن الخطاب ، وفي بعضها صالح السندي ، وهؤلاء كلهم لم تثبت وثاقتهم في كتب الرجال ، فلا يصح التعويل على ما رواه الكليني عن حنان من دون ذكر الواسطة.

هذا مضافاً إلى عدم ثبوت وثاقة والد حنان ، وهو سدير الصيرفي وإن وثَّقه جملة من علمائنا رضوان الله عليهم.

__________________

(١) راجع معجم رجال الحديث ٦ / ٣٠٠.

٤٧٧

ومع الإغماض عن سند الحديث فإنه لا دلالة فيه على أن المراد بالشيخين أبو بكر وعمر ، فلعلّهما طلحة والزبير ، أو معاوية وعمرو بن العاص ، أو شيخان آخران لا نعرفهما ، ومع تسليم أن المراد بهما أبو بكر وعمر وثبوت الخبر عن الصادقين عليهم‌السلام فلا مناص لنا من الأخذ به والتعويل عليه ، لأنا مأمورون باتباعهم دون من سواهم.

* * *

قال الكاتب : وأما عثمان فعن علي بن يونس البياضي : كان عثمان ممن يُلْعَبُ به ، وكان مُخَنّثاً. الصراط المستقيم ٢ / ٣٠.

وأقول : إن البياضي العاملي رحمه‌الله قد نقل هذا الكلام عن الكلبي في كتاب المثالب (١) ، وهو كتاب ذكر فيه مثالب قريش ، ومن ضمنهم عثمان بن عفان.

ولعل المراد بقوله : (يُلعَب به) أن مروان بن الحكم وغيره كانوا يسوقون عثمان كيفما شاءوا ، ويقودونه إلى ما يريدون ، وهو ضعيف أو يتضعَّف ، لا أنه كان يُعبَث به جنسيّاً.

قال الطبري في حوادث سنة ٣٥ ه‍ ـ من تاريخه : قال علي : عياذ الله يا للمسلمين ، إني إن قعدت في بيتي قال لي عثمان : (تركتني وقرابتي وحقّي) ، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ، فصار سيِّقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر سنّه وصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

أو أن المراد أنهم لا يعتنون بقوله ، ولا يمتثلون أمره ، كما ورد في رواية ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارحموا ثلاثة : غني قوم افتقر ، وعزيزاً ذل ، وعالماً يلعب به الحمقى والجهال (٣).

__________________

(١) الصراط المستقيم ٢ / ٣٣٤.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٣٩٨.

(٣) مسند الشهاب ١ / ٤٢٧.

٤٧٨

وعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بكت السماوات السبع ومن فيهن ومن عليهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن ، لعزيز ذل ، وغني افتقر ، وعالم يلعب به الجهال (١).

وأما المخنَّث فهو من فيه انخناث وهو التكسّر والتثني كما في النساء ، ولا يراد به الذي يُلاط به كما قد يفهمه بعض العوام.

قال ابن عبد البر في التمهيد : وليس المخنَّث الذي تُعرف فيه الفاحشة خاصة وتُنسب إليه ، وإنما المخنَّث شدة التأنيث في الخلقة ، حتى يشبه المرأة في اللين والكلام والنظر والنغمة وفي العقل والفعل ، وسواء كانت فيه عاهة الفاحشة أم لم تكن ، وأصل التخنّث التكسّر واللين (٢).

ثمّ إن الذي ذكره ابن الكلبي أن عثمان كان يتخنَّث ، أي يتشبَّه في اللين والكلام بالمرأة ، لا أنه كان مخنَّثاً بالفعل كما نقله الكاتب.

قال الكاتب : وأما عائشة فقد قال ابن رجب [كذا] البرسي : (إن عائشة جمعت أربعين ديناراً من خيانة) مشارق أنوار اليقين ص ٨٦.

وأقول : هذا الخبر رواه الحافظ رجب البرسي مرسلاً ، ورواه غيره بسند فيه : علي بن الحسين المقري الكوفي ، ومحمد بن حليم التمار ، والمخول بن إبراهيم ، عن زيد بن كثير الجمحي ، وهؤلاء كلهم مجاهيل ، لا ذكر لهم في كتب الرجال.

قال المجلسي قدس‌سره : وهذا إن كان رواية فهي شاذة مخالفة لبعض الأصول (٣).

* * *

__________________

(١) الفردوس بمأثور الخطاب ٢ / ١٤.

(٢) التمهيد ١٣ / ٢٦٩.

(٣) بحار الأنوار ٣٢ / ١٠٧.

٤٧٩

ومع الإغماض عن سند الرواية ، فالخيانة فيها لا يراد بها ارتكاب الفاحشة كما أراد الكاتب أن يوهم قُرَّاءه به ، لأن الخيانة خلاف الأمانة ، وهي أخذ المال أو التصرُّف فيه بغير وجه حق.

ثمّ إن خيانة كل امرأة بحسبها ، فقد تكون في المال وقد تكون في غيره.

قال ابن حجر العسقلاني في شرح حديث البخاري (ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها) : فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زيَّن لها إبليس حتى زينتْه لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق ، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول ، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش ، حاشا وكلا ، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة ، وحسَّنتْ ذلك لآدم عُدَّ ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا حديث : (جحد آدم فجحدت ذريته) (١).

ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى عن امرأة نوح وامرأة لوط بأنهما خانتا زوجيهما في قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٢).

ولا ريب في أنه لا يراد بالخيانة هنا ارتكاب الفاحشة ، فإن نساء الأنبياء منزَّهات عن ذلك ، حتى مَن كانت منهن من أصحاب النار.

قال القرطبي في تفسيره : وقوله (فَخَانَتَاهُمَا) يعني في الدِّين ، لا في الفراش ، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وذلك أنها قالت له : أمَا ينصرك ربك؟ فقال لها : نعم. قالت : فمتى؟ قال : إذ فار التنور. فخرجت تقول لقومها : يا قوم والله

__________________

(١) فتح الباري ٦ / ٢٨٣.

(٢) سورة التحريم ، الآية ١٠.

٤٨٠