لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

والاحتجاج بالتوراة والإنجيل على أهل تلك الملل جائز لا ضير فيه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر (رض) أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا ، فقال لهم : كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا : نُحمِّمُهما (١) ونضربهما. فقال : لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مِدْراسها الذي يُدَرِّسها منهم كفَّه على آية الرجم ، فقال : ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد ، فرأيت صاحبها يجنأ عليها (٢) ، يقيها الحجارة (٣).

ولهذا أفتى مَن وقفنا على فتاواه من العلماء بجواز اقتناء التوراة والإنجيل ، بل كتب الضلال كلها لنقضها أو للاحتجاج بها على من يعتقد بها.

وعليه ، فلعل اقتناء أهل البيت عليهم‌السلام لهذه الكتب كان لأجل هذه الغاية ، فلا يستخرجون شيئاً منها إلا وقت الحاجة إليه ، كما صنع الإمام عليه‌السلام مع بُريه.

وقد ورد ما يشهد لذلك في كتبهم ، فقد أخرج أبو عمرو الداني في سُننه ، عن ابن شوذب قال : إنما سُمّي المهدي لأنه يُهدَى إلى جبل من جبال الشام ، يستخرج منه أسفار التوراة ، يحاج بها اليهود ، فيسلم على يديه جماعة من اليهود (٤).

وعن كعب قال : إنما سُمّي المهدي لأنه يهدى إلى أسفار من أسفار التوراة ، يستخرجها من جبال الشام ، يدعو إليها اليهود فيسلم على تلك الكتب جماعة كثيرة ،

__________________

(١) أي نسكب عليهما الماء الحميم ، وقيل : نجعل في وجوههما الحمَّة ، أي السواد.

(٢) أي يحني ظهره عليها.

(٣) صحيح البخاري ٦ / ٤٦ كتاب التفسير ، سورة آل عمران ، ٩ / ٢٠٥ كتاب المحاربين من أهل الردة والكفر ، باب الرجم في البلاط ، وصفحة ٢١٤ باب أحكام أهل الذمة. وراجع صحيح مسلم ٣ / ١٣٢٦.

(٤) العرف الوردي في أخبار المهدي (المطبوع ضمن الحاوي للفتاوي) ٢ / ٨١.

٤٢١

ثمّ ذكر نحواً من ثلاثين ألفاً (١).

ومما ينبغي بيانه هاهنا أن الكتب السماوية التي في أيدي الناس لا ريب في كونها من كتب الضلال ، بسبب ما دخلها من التحريف ، وأما ما عند أهل البيت عليهم‌السلام من كتب الأنبياء السابقين فهي وإن كانت منسوخة قد انتهى أمد العمل بها ، إلا أنها لا تشتمل على ضلال ، لأن الله سبحانه لا يقول إلا الحق ، ولا يُنْزل إلى الناس باطلاً.

قال صاحب الجواهر أعلى الله مقامه : ليس من كتب الضلال كتب الأنبياء السابقين ، ما لم يكن فيها تحريف ، إذ النسخ لا يُصيرها ضلالاً ، ولذا كان بعضها عند أئمتنا عليهم‌السلام ، وربما أخرجوها لبعض أصحابهم ، بل ما كان منها مثل الزبور ونحوه من أحسن كتب الرشاد ، لأنها ليست إلا مواعظ ونحوها على حسب ما رأينا ، والله أعلم (٢).

قلت : وقد ورد مثل ذلك في بعض أحاديث أهل السنة ، فقد أخرج الآجري وغيره أن أبا ذر قال : قلت : يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالاً كلها : (أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال : وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ، ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، يفكّر فيها في صنع الله عزوجل إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا في ثلاث : تزوُّد لمعاد ، ومرمَّة لمعاش ، ولذَّة في غير محرَّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شانه ، حافظاً للسانه ، ومن عَدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعينه). قال : قلت : يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عِبَراً كلها : (عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها

__________________

(١) الفتن لنعيم بن حماد ، ص ٢٥١.

(٢) جواهر الكلام ٢٢ / ٦٠.

٤٢٢

بأهلها كيف يطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثمّ هو لا يعمل). قال : قلت : يا رسول الله فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى مما أنزل الله عليك؟ قال : نعم ، اقرأ يا أبا ذر (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١).

فإذا كانت كتب مواعظ وعِبَر فما المحذور في اقتنائها؟!

* * *

قال الكاتب : ٩ ـ القرآن :

والقرآن لا يحتاج لإثباته نص ولكن كتب فقهائنا وأقوال جميع مجتهدينا تنص على أنه مُحَرَّفٌ ، وهو الوحيد الذي أصابه التحريف من بين كل تلك الكتب.

وأقول : نسبة القول بتحريف القرآن إلى كل علماء الشيعة كذب فاضح ، فإن من قال بالتحريف عدد قليل من علماء الشيعة لا كل الفقهاء وجميع المجتهدين كما زعم.

هذا مع أن زعمه أنهم يقولون : (إن القرآن هو الوحيد الذي أصابه التحريف) فرية أخرى ، فإنهم أطبقوا على أن كل أو جل الكتب السماوية قد أصابتها يد التحريف والخيانة.

ويكفي في بطلان مزاعمه أنه لم يثبت كلتا الدعويين ، ونقْلُ القول بالتحريف عن بعض لا يثبت قول الكل به.

ومع أن الميرزا النوري رحمه‌الله قد بذل غاية جهده في تكثير القائلين بالتحريف في كتابه (فصل الخطاب) في المقدمة الثالثة صفحة ٢٥ (في ذكر أقوال علمائنا رضوان الله

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢٠ / ٢٤.

٤٢٣

تعالى عليهم أجمعين في تغيير القرآن وعدمه) ، حيث نسب القول بالتحريف لجماعة منهم الشيخ الكليني وعلي بن إبراهيم القمي والعياشي ومحمد بن الحسن الصفار ، ومحمد بن العباس بن علي بن مروان الماهيار ، والشيخ الطبرسي صاحب كتاب الاحتجاج ، لوجود روايات في كتبهم ظاهرة في التحريف ، أو لوجود عناوين أبواب فُهم منها القول بالتحريف.

كما أنه نسب القول بالتحريف للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد ، مع أنه يصرّح كما سيأتي في كتابه (أوائل المقالات) بعدم القول بالتحريف.

وحاول أن يتصيد من كلمات بعض الأعلام ما يُستظهَر منه القول بالتحريف مع أنه لا دلالة في كل ذلك ، كما نسبه إلى الفضل بن شاذان ونقل عبارته التي يحتج فيها على أهل السنة بأنهم كانوا يقولون بضياع بعض القرآن دون بعض السنة ، فجعل هذا الكلام دليلاً على قول الفضل بن شاذان بالتحريف.

ولهذا نسب القول بالتحريف إلى علي بن أحمد الكوفي ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، والشيخ يحيى تلميذ الكركي ، والمولى محمد صالح المازندراني ، والمجلسيين ، والسيد علي خان ، والمولى مهدي النراقي ، والمحقق القمي ، والشيخ أبي الحسن الشريف جد صاحب الجواهر ، والشيخ علي بن محمد المقابي ، والشيخ مرتضى الأنصاري ، وظاهر ابن طاوس في فلاح السائل وسعد السعود.

ونسبه إلى جماعة ذكر في فهرست الشيخ الطوسي أو رجال النجاشي أن لهم كتباً في التحريف كالبرقي صاحب كتاب المحاسن ، ووالده الذي له كتاب (التنزيل والتغيير) ، وعلي بن الحسن بن فضال الذي له كتاب (التنزيل من القرآن والتحريف) ، وأحمد بن محمد بن سيار الذي له كتاب في القراءات سمَّاه الشيخ حسن بن سليمان الحلي (التنزيل والتحريف) ، وأبي طاهر عبد الواحد بن عمر القمي له كتاب في قراءة أمير المؤمنين عليه‌السلام وحروفه.

٤٢٤

كما نسب القول بالتحريف لمجاهيل لا يعرفهم النوري نفسه ، منهم صاحب كتاب (تفسير القرآن وتأويله وتنزيله وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وزيادات حروفه وفضائله وثوابه وروايات الثقات عن الصادقين من آل رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين) ، كما في سعد السعود لابن طاوس ، ومنهم صاحب كتاب ذكر ابن طاوس في الكتاب المذكور أن فيه قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب والحسن الحسين وعلي بن الحسين ومحمد وزيد ابني علي بن الحسين وجعفر بن محمد وموسى ابن جعفر صلوات الله عليهم.

وهؤلاء دون الثلاثين مع صحة النسبة إليهم وهي لا تصح ، لأنها كانت بالظنون غير الصحيحة ، وحمل الكلام على غير وجهه ، وتأويل كلماتهم على خلاف ما يريدون.

ولو كان مجرد ذكر الرواية في الكتاب كافياً لِصحَّة نسبة القول بالتحريف لعُدّ من القائلين به البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارقطني ، وأحمد بن حنبل ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وأبو داود الطيالسي ، والحميدي ، والدارمي ، وابن حبان ، والهيثمي ، وابن المنذر ، وسعيد بن منصور ، وعبد الرزاق ، والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه ، والضياء المقدسي ، والبيهقي ، وابن سعد ، والسيوطي ، والمتقي الهندي ، والطبراني ، وابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، والبزار ، وأبو نعيم الأصفهاني ، وابن الأثير صاحب جامع الأصول ، والقرطبي صاحب التفسير ، وابن جرير الطبري ، وابن كثير الدمشقي ، والمحاملي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبد البر ، والخطيب البغدادي ، ويوسف بن موسى الحنفي صاحب كتاب معتصر المختصر ، وأبو بكر الشيباني صاحب كتاب الآحاد والمثاني ، وابن رجب الحنبلي صاحب كتاب جامع العلوم والحكم ، وابن قدامة المقدسي ، ومحمد بن علي الشوكاني ، وأبو الحسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام) ، وابن حزم الأندلسي ، والإمام الشافعي في مسنده ، وغيرهم.

٤٢٥

وهؤلاء أكثر من أربعين شخصاً من أعلام أهل السنة قد رووا أخبار التحريف في كتبهم المعروفة ، وما تركناه أكثر مما أحصيناه ، مع أن أهل السنة لا يلتزمون بأن هؤلاء يقولون بالتحريف مع تصحيحهم لأحاديث صريحة تدل على ذلك.

ومن الطريف أن الكاتب الذي نقل عن الميرزا النوري قوله بتحريف القرآن قد تعامى عن أدلّته قدس‌سره في إثبات تحريف التوراة والإنجيل في الصفحات ٣٥ ـ ٥٣ ، فلا أدري لِمَ لمْ يرَ الكاتب كل تلكم الصفحات ، ونسب القول بعدم تحريف الكتب السماوية لكافة علمائنا ، مع أن علماء الشيعة مطبقون على القول بتحريف تلك الكتب لفظاً ومعنى.

فقد قال الميرزا النوري قدس‌سره : الأمر الأول : وقوع التغيير والتحريف في الكتابين ، وأن الموجود بأيدي اليهود والنصارى غير مطابق لما نزل على موسى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام ، وهو بمكان من الوضوح ، بل هو مقطوع به بعد ملاحظة الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة وإجماع المسلمين ، بل ملاحظتهما في أنفسهما كافية في إثبات المطلوب ، ومغنية عن الاستدلال عليه بها (١).

في حين أن البخاري قد صرَّح في صحيحه بأن تحريف كل الكتب السماوية إنما هو في المعاني والتأويل ، لا في الألفاظ والكلمات.

فقد قال في كتاب التوحيد ، باب (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) قال قتادة : مكتوب (يَسْطُرُونَ) يخطّون (فِي أُمِّ الْكِتَابِ) جملة الكتاب وأصله (مَا يَلْفِظُ) ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه ، وقال ابن عباس : يُكتب الخير والشر (يُحَرِّفُونَ) يزيلون ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عزوجل ، ولكنهم يحرِّفونه يتأولونه على غير تأويله (٢).

قال ابن حجر في فتح الباري : قال شيخنا ابن الملقن في شرحه : هذا الذي قاله

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ٣٥.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٣٦٠.

٤٢٦

أحد القولين في تفسير هذه الآية ، وهو مختاره أي البخاري ، وقد صرَّح كثير من أصحابنا بأن اليهود والنصارى بدَّلوا التوراة والإنجيل ، وفرَّعوا على ذلك جواز امتهان أوراقهما ، وهو يخالف ما قاله البخاري هنا. انتهى ، وهو كالصريح في أن قوله : (وليس أحد) إلى آخره من كلام البخاري ، ذيَّل به تفسير ابن عباس (١).

هذا مضافاً إلى أن القول بسلامة التوراة من التحريف في ألفاظها قول معروف لابن تيمية.

قال ابن حجر في فتح الباري عند ذكر اختلاف الأقوال في تحريف التوراة والإنجيل :

ثالثها : وقع [أي التحريف] في اليسير منها [أي من التوراة والإنجيل] ومعظمها باق على حاله ، ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه (الرد الصحيح على من بدَّل دين المسيح). رابعها : إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ ، وهو المذكور هنا ، وقد سُئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجرداً فأجاب في فتاويه أن للعلماء في ذلك قولين ، واحتج للثاني (٢) من أوجه كثيرة ، منها قوله تعالى لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (٣).

* * *

قال الكاتب : وقد جمع المحدّث النوري الطبرسي في إثبات تحريفه كتاباً ضخم الحجم سماه : (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف ، وجمع فيه أقوال جميع الفقهاء وعلماء الشيعة في التصريح بتحريف القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين ، حيث أثبت أن جميع

__________________

(١) فتح الباري ١٣ / ٤٤٨.

(٢) وهو أن التحريف وقع في معاني التوراة والإنجيل ، لا في كلماتهما.

(٣) فتح الباري ١٣ / ٤٤٩.

٤٢٧

علماء الشيعة وفقهاءهم المتقدمين منهم والمتأخرين يقولون : إن هذا القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين محرف.

وأقول : الكتاب (الضخم) الذي ذكره الكاتب لا يتجاوز ٣٧٥ صفحة بالحجم المتوسط (الوزيري).

فهل يصدِّق القارئ العزيز أن كتاباً بهذا الحجم يحتوي على أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف ، ناهيك عما في الكتاب أيضاً من مناقشات واحتجاجات وجمع الأقوال ، وذِكْر طائفة كبيرة جداً من روايات أهل السنة وأقوال علمائهم.

مضافاً إلى أن الميرزا النوري قدس‌سره قد كرَّر كثيراً من الروايات ، فذكرها تارة مسندة ، وتارة من غير إسناد كما ذكره الشيخ محمد جواد البلاغي قدس‌سره في كتابه (آلاء الرحمن) ، حيث قال في مقام الرد على تلك الروايات :

هذا وإن المحدِّث المعاصر جهد في كتاب (فصل الخطاب) في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة ، وكثَّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل عن الأئمة عليهم‌السلام في الكتب ، كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع أن المتتبِّع المحقِّق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد ، وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسَّر احتمال صدقها ، ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي والتعارض ، وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم إما بأنه ضعيف الحديث ، فاسد المذهب مجفو الرواية ، وإما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يُعرَف حديثه ويُنكَر ، ويروي عن الضعفاء ، وإما بأنه كذّاب متَّهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف ، وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه‌السلام ، وإما بأنه كان غالياً كذّاباً ، وإما بأنه ضعيف لا يُلتفت إليه ولا يُعوَّل عليه ومن الكذابين ، وإما بأنه فاسد الرواية يُرمى بالغلو. ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً ، ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير ، لوجب من دلالة

٤٢٨

الروايات المتعدِّدة أن ننزّلها على أن مضامينها تفسير للآيات أو تأويل ، أو بيان لما يُعلم يقيناً شمول عموماتها له ، لأنه أظهر الأفراد وأحقّها بحكم العام ، أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل ، أو ما كان هو المورد للنزول ، أو ما كان هو المراد باللفظ المبهم. وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحتمل ما ورد فيها أنه تنزيل أو أنه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات ، كما يُحمَل التحريف فيها على تحريف المعنى ، ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه‌السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ، ففيها : (وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرَّفوا حدوده). وكما يُحمَل ما فيها من أنه كان في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام أو ابن مسعود ، ويُنزَّل على أنه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل ، ومما يشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام للزنديق كما في نهج البلاغة وغيره : وقد جئتهم بالكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل (١).

ثمّ بعد أن ذكر تأويل بعض الروايات التي استدل بها المحدِّث النوري على التحريف قال : فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات (فصل الخطاب) بما حشده من الروايات التي عرفت حالها إجمالاً ، وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قُدّست أسرارهم. فإن قيل : إن هذه الرواية ضعيفة ، وكذا جملة من الروايات المتقدمة. قلنا : إن جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية وأشد منها ضعفاً كما أشرنا إليه في وصف رواتها ، على أن ما ذكرناه من الصِّحاح فيه كفاية لأولي الألباب (٢).

وكيف كان فالمهم الذي ينبغي الكلام فيه هو تحريف القرآن نفياً أو إثباتاً ، وأما التشبث ببعض الأقوال أو الروايات دون بعض من دون مرجّح فليس من دأب طلاب الحق المنصفين.

__________________

(١) آلاء الرحمن ، ص ٢٦.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢٩.

٤٢٩

* * *

قال الكاتب : قال السيد هاشم البحراني (١) : وعندي في وضوح صحة هذا القول ـ أي القول بتحريف القرآن ـ بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع ، وأنه من أكبر مقاصد (٢) غصب الخلافة ، فتدبر. مقدمة البرهان الفصل الرابع ص ٤٩.

وأقول : كيف يمكن الحكم بأن القول بتحريف القرآن من ضروريات مذهب الشيعة مع إنكار أساطين الطائفة له؟! فإن الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والطبرسي وغيرهم من أعلام الطائفة كلهم نصّوا على سلامة القرآن من كل زيادة ونقيصة ، فهل غاب عن كل هؤلاء ما هو ضروري في مذهب الشيعة؟!

وصحة أخبار التحريف لا تستلزم القول به ، للزوم تأويلها جمعاً بينها وبين غيرها من الأحاديث الصحيحة ، كأحاديث الحث على التمسك بالكتاب ، وأحاديث العَرْض على كتاب الله وغيرها ، وإلا لَلَزم أن يقول بالتحريف مَنْ ذكرنا أسماءهم من علماء أهل السنة وغيرهم ، لصحة أحاديث التحريف التي أخرجوها في كتبهم.

* * *

قال الكاتب : وقال السيد نعمة الله الجزائري رداً على من يقول بعدم التحريف : (إن تسليم تواتره عن الوحي الإلهي ، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يُفْضِي إلى طرح الأخبار المستفيضة مع أن أصحابنا قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها)

__________________

(١) هذه الكلمة لأبي الحسن العاملي ، وقد التبس على الكاتب فنسبها للسيد هاشم البحراني ، بسبب طبع مقدمة تفسير (مرآة الأنوار) للعاملي كمقدمة لتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني.

(٢) كذا في نسخة الكتاب ، والموجود في المصدر : (مفاسد) ، ولعل الكاتب تعمد تغيير اللفظ مراعاة لمقامات الخلفاء الثلاثة.

٤٣٠

الأنوار النعمانية ٢ / ٣٥٧.

وأقول : مع حصول الجزم بتواتر القرآن فلا محذور في طرح الأخبار المستفيضة التي ذكرها ، وذلك لأن المتواتر قطعي الصدور ، وأما الحديث المستفيض فهو ظني الصدور ، ولا يمكن رفع اليد عن المتواتر القطعي لأجل الأخبار الظنية.

على أنه يمكن تأويل تلك الأخبار كما مرَّ في كلام الشيخ البلاغي قدس‌سره بما لا يستلزم القول بالتحريف.

هذا مع أن كثيراً من تلك الأخبار ضعاف الأسانيد ، ومعارضة بما هو أصحّ منها سنداً وأوضح دلالة ، فكيف يمكن التعويل عليها؟!

وإطباق الأصحاب على صحَّتها في الجملة ـ لو سلَّمنا به ـ لا يستلزم القول بتحريف القرآن كما مرَّ بيانه ، ولهذا لم يطبقوا على القول بالتحريف.

* * *

قال الكاتب : ولهذا قال أبو جعفر كما نقل عنه جابر : (ما ادَّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله إلا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما نزل إلا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده) الحجة من الكافي ١ / ٢٦.

ولا شك أن هذا النص صريح في إثبات تحريف القرآن الموجود اليوم عند المسلمين. والقرآن الحقيقي هو الذي كان عند علي والأئمة من بعده عليهم‌السلام حتى صار عند القائم عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام.

وأقول : هذا الحديث ضعيف السند ، فإن من جملة رواته عمرو بن أبي المقدام ، وهو مختلف فيه ، ولم تثبت وثاقته.

قال المجلسي قدس‌سره : الحديث الأول [في سنده] مختلف فيه (١).

__________________

(١) مرآة العقول ٣ / ٣٠.

٤٣١

والذي يظهر من كلمات الأعلام أن الأكثر ذهب إلى تضعيفه (١).

وكيف كان فالرجل لم تثبت وثاقته بدليل معتمد ، ولا سيما مع اضطراب كلام العلماء فيه ، فإن ابن الغضائري وثّقه في أحد قوليه ، وضعَّفه في قوله الآخر (٢) ، وذكره العلّامة قدس‌سره مرّة في القسم الأول من خلاصته في الثقات ، وذكره مرة ثانية في القسم الثاني منها في الضعفاء (٣) ، وكذلك صنع ابن داود في رجاله (٤) ، وعليه فالرجل لا يُعتمد حديثه لجهالته.

على أنه ليس المراد بجمع القرآن وحفظه كما أُنزل هو جمع سوره وآياته في مصحف كما توهّمه الكاتب ، بل المراد بجمعه أحد معنيين :

المعنى الأول : هو العلم بتفسيره ومعرفة ما فيه من أحكام ومعارف.

ويدل على ذلك قوله عليه‌السلام في الحديث الآخر الذي رواه الكليني رحمه‌الله في نفس الباب : ما يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء.

فإنه ظاهر فيما قلناه ، وإلا لو كان المراد بجمع القرآن في الحديث جمع ألفاظه في مصحف لكان أكثر هذه الأمّة يدّعون أن عندهم جميع القرآن كلّه ، أما ادِّعاء العلم بالقرآن وفهم آياته ومعانيه الظاهرة والباطنة كما أنزلها الله سبحانه فهذا لم يدَّعه أحد من هذه الأمة إلا أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وقوله : (ظاهره وباطنه) يرشد إلى ذلك ، فإن ظاهر القرآن وباطنه مرتبطان بمعانيه لا بألفاظه (٥) ، وجمع الظاهر والباطن يعني الإحاطة بمعاني آيات الكتاب

__________________

(١) راجع تنقيح المقال ٢ / ٣٢٤. رجال العلّامة ، ص ٢٤١.

(٢) راجع رجال ابن الغضائري ، ص ٧٣ ، ١١١.

(٣) رجال العلامة ، ص ١٢٠ ، ٢٤١.

(٤) راجع تنقيح المقال ٢ / ٣٢٤.

(٥) الظاهر : ما ظهر معناه ، والباطن : ما خفي تأويله.

٤٣٢

العزيز كلها ، أو أن الظاهر هو لفظه ، والباطن معناه ، فيكون المعنى أنه لا يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده علماً بألفاظ القرآن ومعانيه كاملة إلا الأوصياء عليهم‌السلام.

ولو كان المراد بجمع القرآن جمع ألفاظه كلها في مصحف لما صحَّ لنا أن نقول : (إن غير علي عليه‌السلام من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قد جَمَعه) ، لأنه إذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد جمعه قبلهم ، فكيف يتأتى لهم أن يجمعوا ما كان مجموعاً؟!

هذا مضافاً إلى أن الظاهر من أحاديث الباب أنها جاءت تؤكِّد أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام علموا تفسير القرآن ، وفهموا معانيه كلها ، وعرفوا أحكامه كما أرادها الله سبحانه ، وأن أحداً غيرهم من هذه الأمة لا يستطيع أن يدَّعي علم ذلك كله.

المعنى الثاني : أن المراد بجمع القرآن كما أُنزل هو جمعه في مصحف رُتّب فيه المنسوخ قبل الناسخ ، والمكّي قبل المدني ، والسابق نزولاً قبل اللاحق ، وهكذا ، وجمع القرآن بهذا النحو لم يتأتَّ لأحد من هذه الأمّة إلا لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فقد أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن أبي داود في كتاب المصاحف ، وابن عبد البر في الاستيعاب والتمهيد ، وغيرهم عن محمد بن سيرين ، قال : لمَّا توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليٌّ عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر فقال : أكرهتَ إمارتي؟ فقال : لا ، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. فزعموا أنه كتبه على تنزيله ، فقال محمد : لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم (١).

وقال السيوطي : وأخرجه ابن أشتة في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين ، وفيه أنه ـ يعني عليّا عليه‌السلام ـ كتَب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ، وأن ابن سيرين قال : تطلَّبتُ ذلك الكتاب ، وكتبتُ فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨. المصاحف ص ١٦. الاستيعاب ٣ / ٩٧٤. التمهيد ٦ / ٣١. وراجع تاريخ الخلفاء ، ص ١٧٣ ، الإتقان في علوم القرآن ١ / ١٢٧ ، كنز العمال ٢ / ٥٥٨ ، حلية الأولياء ١ / ٦٧ ، الفهرست لابن النديم ، ص ٤١.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ / ١٢٧.

٤٣٣

وبهذا كله يتضح أن ما استدل به الكاتب مخدوش سنداً ودلالة.

* * *

قال الكاتب : ولهذا قال الإمام الخوئي في وصيته لنا وهو على فراش الموت عند ما أوصانا كادر التدريس في الحوزة :

(عليكم بهذا القرآن حتى يظهر قرآن فاطمة).

وقرآن فاطمة الذي يقصده الإمام هو المصحف الذي جمعه علي رضي الله عنه والذي تقدمت الإشارة إليه آنفاً.

وأقول : هذه الرواية من الأكاذيب المكشوفة ، وذلك لأن الخوئي قدّس الله نفسه لم يمرض قبل موته حتى يوصي وهو على فراش الموت ، وإنما مات فجأة ، وهذا يعرفه كل من كان محيطاً بالسيّد ، بل هو أمر مشهور يعرفه كثير من الناس.

ثمّ إن مثل هذا الكلام لا يصدر من السيّد الخوئي جزماً ، وذلك لأن السيّد قد صرَّح في كتبه بسلامة القرآن من الزيادة والنقيصة ، فأي قرآن يُظهره صاحب الزمان؟!

ثمّ ما هي العلاقة بين المصحف الموجود بين أيدينا ومصحف فاطمة عليها‌السلام؟! فإنهما كتابان متغايران ، وذلك لأن مصحف فاطمة كتاب فيه ما كان وما يكون من الحوادث كما مرَّ بيانه ، وليس هو بقرآن ، أو مشتمل على آيات وأحكام.

كما أن الأخبار لم تدل على أن صاحب الزمان عليه‌السلام سيظهر للناس مصحف فاطمة عليها‌السلام ، وإنما دلَّت على أنه سيظهر لهم المصحف الذي كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، المشتمل على التنزيل والتأويل كما مرَّ.

ويكفي في الدلالة على افتعال هذه القضية هي زعمه أن السيّد الخوئي قدس‌سره قد أطلق على الكتاب اسم (قرآن فاطمة) ، مع أنه (مصحف فاطمة) ، وهذا خطأ فادح لا

٤٣٤

يقع فيه صغار طلبة العلم فضلاً عن السيّد الخوئي قدس‌سره.

* * *

قال الكاتب : إن من أغرب الأمور وأنكرها أن تكون كل هذه الكتب قد نزلت من عند الله ، واختص بها أمير المؤمنين سلام الله عليه والأئمة من بعده ، ولكنها تبقى مكتومة عن الأمة وبالذات عن شيعة أهل البيت ، سوى قرآن بسيط قد عبثت به الأيادي فزادت فيه ما زادت ، وأنقصت منه ما أنقصت ـ على حد قول فقهائنا ـ!!

وأقول : لقد أوضحنا أن كل تلك الكتب ما عدا التوراة والإنجيل والزبور لم تكن منزلة من عند الله سبحانه ، وإنما كان بعضها من إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعضها الآخر من إملاء الملَك.

وعلى كل حال فلا غضاضة كما مرَّ في إخفاء هذه الكتب عن سائر الناس ، لأن منها ما لا يحتاجون إليه ، كمصحف فاطمة عليها‌السلام المشتمل على بيان الحوادث والوقائع ، والمصلحة تدعو إلى إخفائه وكتمانه وعدم بذله للناس.

وما يحتاج إليه الناس من تلك الكتب فهو عند الأئمة عليهم‌السلام ، وهم سلام الله عليهم سيعرِّفونهم بما فيها من أحكام دينهم وتعاليمه ، فالناس بالنتيجة يستفيدون منها ولكن بالواسطة وبتعريف الأئمة عليهم‌السلام لهم ، وهذا لا محذور فيه.

وأما زعمه أن القرآن بسيط فهو جناية كبيرة على كتاب الله سبحانه وعلى الشيعة في آن واحد ، فإن علماء الشيعة قديماً وحديثاً قد جعلوه المصدر الأول من مصادر التشريع واستنباط الأحكام والمعتقدات ، وضربوا عرض الجدار بكل الأخبار التي تعارضه وإن كانت صحيحة السند ، وهذا أمر لا يخفى على صغار طلبة العلم فضلاً عمَّن يدّعي الاجتهاد والفقاهة.

ثمّ إن ما زعمه الكاتب من أن القرآن عبثت به الأيدي فزادت فيه ما زادت ،

٤٣٥

زعم باطل ، لأنا لم نجد بعد تتبع الأقوال من يقول بزيادة شيء في المصحف الذي هو عند الناس ، ومن زعم تحريف القرآن إنما قال بتحريف النقصان لا الزيادة ، وهو أمر معلوم لا يخفى على مَن تتبع الأقوال في المسألة.

* * *

قال الكاتب : إذا كانت هذه الكتب قد نزلت من عند الله حقاً ، وحازها أمير المؤمنين صدقاً ، فما معنى إخفائها عن الأمة وهي من أحوج ما تكون إليها في حياتها وفي عبادتها لربها؟

عَلَّلَ كثير من فقهائنا ذلك : لأجل الخوف عليها من الخصوم!!

ولنا أن نسأل : أيكون أمير المؤمنين وأسد بني هاشم جباناً بحيث لا يستطيع أن يدافع عنها؟! أَيُكتمُ أمرها ويحرم الأمة منها خوفاً من خصومه؟! لا والذي رفع السماء بغير عمد ، ما كان لابن أبي طالب أن يخاف غير الله.

وأقول : لقد أوضحنا آنفاً أنه لا محذور في إخفائها كلها ، فلا حاجة للإعادة.

والعجب أن الكاتب نسب إلى كثير من علماء الشيعة أن الإخفاء كان للتقية والخوف من الخصوم ، ولم يذكر مَن مِن العلماء ذكر ذلك.

وعلى أيّة حال فنحن غير مطالبين بمعرفة السبب من إخفاء هذه الكتب عن الشيعة خاصة وعن الناس عامة ، ونحن نجزم بأن الأئمة عليهم‌السلام لا يتصرفون إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، وهم سلام الله عليهم أعرف بها ، ولهذا فنحن من هذه الجهة في راحة.

ثمّ إن الكاتب صار يطبِّل ويزمِّر ويصيح بأعلى عقيرته بأن الأئمة لا يصح منهم أن يخفوا هذه الكتب ، مع أن أهل السنة قد ذكروا أن أبا بكر جمع القرآن بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قراطيس ، فكانت عنده حتى توفي ، ثمّ كانت عند عمر حتى

٤٣٦

توفي ، ثمّ كانت عند حفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل إليها عثمان ، فأبت أن تدفعها إليه ، حتى عاهدها ليردنَّها إليها ، فبعثت بها إليه ، فنسخ عثمان هذه المصاحف ثمّ ردَّها إليها ، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها (١).

ففي صحيح البخاري قال زيد بن ثابت في حديث يذكر فيه قصة جمع القرآن : فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفَّاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه (٢).

وبسنده عن أنس قال في حديث آخر : فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصُّحُف ننسخها ثمّ نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف (٣).

فلما ذا أخفى أبو بكر وعمر كتاب الله عن المسلمين حتى ماتا؟!

ولما ذا صار هذا المصحف إلى حفصة مع أنه حق للمسلمين كلهم؟

ولما ذا أخفته حفصة كل تلك المدة ، ثمّ أبت أن تدفعه لعثمان في أول الأمر؟

هذا مع شدة حاجة المسلمين للمصحف كاملاً ، لتلاوته والتعبّد بما فيه والعمل بأحكامه ، واختلاف المصاحف المتداولة عند الناس!!

وكل ما يمكن أن يقال في توجيه إخفاء أبي بكر وعمر وحفصة للمصحف المجموع ، يقال مثله بالأولوية في توجيه إخفاء أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تلك الكتب التي

__________________

(١) التمهيد ٦ / ٣٠.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٦٠٩ ، ٤ / ٢٢٤٨. سنن الترمذي ٥ / ٢٨٣ ، ٢٨٤ وصحّحه. صحيح ابن حبان ١٠ / ٣٦٠ ، ٣٦٤. السنن الكبرى للبيهقي ٢ / ٤١. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٧ ، ٩. مسند أبي يعلى ١ / ٥١ ، ٥٩. المعجم الكبير للطبراني ٥ / ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٤٨. شعب الإيمان ١ / ١٩٦.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ١٦١٠.

٤٣٧

لا تسامي القرآن ولا تدانيه ، وقد مرَّ الكلام في ذلك.

فما أعجب هذا الكاتب الذي شنَّع على الشيعة قولهم بإخفاء أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تلك الكتب عن الناس ، كيف تعامى عن إخفاء أبي بكر وعمر كتاب الله عن الأمة مدة خلافتهما حتى ماتا!!

فلِمَ لا يشنِّع عليهما خاصة وعلى أهل السنة عامة؟!

* * *

قال الكاتب : وإذا سألنا : ما ذا يفعل أمير المؤمنين والأئمة من بعده بالزبور والتوراة والإنجيل حتى يتداولوها فيما بينهم ويقرءونها [كذا] في سرّهم؟

إذا كانت النصوص تدعي أن أمير المؤمنين وحده حاز القرآن كاملاً وحاز كل تلك الكتب والصحائف الأخرى ، فما حاجته إلى الزبور والتوراة والإنجيل؟ وبخاصة إذا علمنا أن هذه الكتب نُسِخَتْ بنزول القرآن؟

وأقول : لما ذا لا يسائل الكاتب نفسه عن السبب الذي كان يدعو جملة من الصحابة للنظر في كتب أهل الكتاب والاعتناء بها ، فإنهم ذكروا كما مرَّ أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان عنده حمل بعيرين من كتب أهل الكتاب ينظر فيها؟

ولما ذا لا يُشكِل على أهل السنة الذين مُلئت كتبهم بروايات عبد الله بن عمرو ابن العاص الذي كان يحدِّث من كتب أهل الكتاب كما تقدَّم ، وبروايات كعب الأحبار الذي كان ينقل لهم ما يجده في التوراة من الدعاء والتفسير وغيرهما ، حتى كان بعض الصحابة بل بعض الخلفاء يسألونه ويعتنون بكلامه؟

وعلى كل حال فيمكن أن نوجز الدواعي لحيازة الأئمة عليهم‌السلام هذه الكتب في نقاط :

١ ـ أن تلك الكتب من مواريث الأنبياء ، فلا يصح التفريط فيها وإهمالها ، وإنما

٤٣٨

يجب الحفاظ عليها وصيانتها.

٢ ـ أن تلك الكتب قد تفيد في الاحتجاج بها على أهل الملل الأخرى ، كما احتجَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اليهود بالتوراة في إثبات رجم الزاني والزانية.

وكما يحتج المسلمون على النصارى بنبوة نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ذكر اسمه في الإنجيل كما نصَّ القرآن الكريم بذلك في قوله جل شأنه (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).

ولقد كان اليهود والنصارى يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسألون أئمة المسلمين في مسائل شتى ، ويناظرونهم في مختلف الأحكام والعقائد ، ولا ريب في أن معرفة ما في التوراة والإنجيل يعين على إفحامهم وإقامة الحجة عليهم.

٣ ـ أن حيازة تلك الكتب قد تنفع في الحكم بين اليهود والنصارى الذين كانوا في بلاد الإسلام ، ولهذا أُثِر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : والله لو ثُنيتْ لي الوسادة لقضيتُ بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل القرآن بقرآنهم (٢).

وقد أخرج أبو نعيم في كتاب الفتن بسنده عن كعب قال : المهدي يُبعث بقتال الروم ، يُعطى فقه عشرة ، يستخرج تابوت السكينة من غار بأنطاكية فيه التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه‌السلام ، والإنجيل الذي أنزله الله عزوجل على عيسى عليه‌السلام ، يحكم بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم (٣).

__________________

(١) سورة الصف ، الآية ٦.

(٢) كتاب التوحيد للصدوق ، ص ٣٠٥. أمالي الشيخ الطوسي ، ص ٥٢٣. الاحتجاج ١ / ٣٨٤ ، ٣٩١. مناقب آل أبي طالب ٢ / ٤٧. بحار الأنوار ٢٦ / ١٥٣ ، ١٨٣ ، ٢٨ / ٤ ، ٣٠ / ٦٧٢ ، ٣٥ / ٣٩١ ، ٤٠ / ١٢٦ ، ١٤٤ ، ١٥٣ ، ٨٩ / ٧٨ ، ٩٥ ،

(٣) الفتن لنعيم بن حماد ، ص ٢٤٩.

٤٣٩

٤ ـ أن تلك الكتب مشتملة على مواعظ وعِبَر كما مرَّ روايته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا محذور حينئذ في اقتنائها للانتفاع بما فيها من تلك المواعظ والعبر.

هذا مع أنهم رووا أن المهدي إنما سُمّي المهدي لأنه يُهدَى إلى أمر خفي ، ويستخرج التوراة والإنجيل من أرض يقال لها (أنطاكية).

ورووا أن المهدي يُخرج التوراة غضة ـ أي طرية ـ من أنطاكية (١).

فلما ذا لا يسأل الكاتب نفسه : ما ذا يصنع المهدي بالتوراة والإنجيل المنسوخين وعنده كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!

ولما ذا يحكم بين أهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل التوراة بتوراتهم ولا يحكم بينهم بحكم الإسلام؟

فإذا جاز ذلك للمهدي عليه‌السلام الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً جاز بالأولوية لغيره من الخلفاء والأئمة الذين لم يكلَّفوا بما كُلّف به المهدي.

* * *

قال الكاتب : إني أشم رائحة أَيد خبيثة فهي التي دَسَّت هذه الروايات ، وكذبت على الأئمة ، وسيأتي إثبات ذلك في فصل خاص إن شاء الله.

وأقول : إن ادّعاء شم الروائح ليس دليلاً علميّا في أمثال هذه الأمور المهمة التي يترتب عليها إحقاق مذهب وإبطال مذهب آخر ، وإنما الدليل هو النصوص الصحيحة الثابتة بما لها من المعاني الصحيحة ، لا بما يفسِّرها مُغرِض أو يؤوِّلها مُفتِن.

والكاتب كما رأينا في كل كلامه السابق كان يتعقَّب الروايات الضعيفة ويحتج بها على الشيعة ، أو ينقل الروايات الصحيحة التي لا يعلم بصحَّتها ويدفعها بغير حجة صحيحة ، أو يفسِّرها تفسيراً خاطئاً ثمّ يحتج بها على الشيعة.

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٢٤٩ ، ٢٥٠.

٤٤٠