لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

ثمّ يقرضه إياه (١) ، ثمّ يقبضه منه مرة ثانية خمساً ، لتبرأ ذمّة المكلف عما في ذمّته من الخمس الذي لا يقدر على سداده ، ويحل للمكلف بعد ذلك أن يتصرف في ماله ، لأن رقبة المال حينئذ لم يتعلق بها شيء من الخمس ، والمتعلق بذمَّته إنما هو الدين لا الخمس.

هذا هو وجه المسألة التي لم يفهم مدّعي الاجتهاد حقيقتها ، فاختلق منها قصة ، لا أن المسألة مسألة تنافس وتخفيض نسبة الخمس كما افتراه الكاتب.

* * *

قال الكاتب : ولما رأى زعيم الحوزة أن المنافسة على الخمس صارت شديدة ، وأن نسبة ما يرده هو من الخمس صارت قليلة ، أصدر فتواه بعدم جواز دفع الخمس لكل من هبَّ ودَبَّ من السادة ، بل لا يُدْفَعُ إلا لشخصيات معدودة ، وله حصة الأسد أو لوكلائه الذين وزعهم في المناطق.

وأقول : إن عدم جواز إعطاء الخمس إلا للوكلاء أمر جار على القاعدة ، وذلك لأنه لا يجوز لكل من هبَّ ودَرَج أن يتصرَّف في الحقوق الشرعية كيفما يحلو له ، وإنما يصرفها الفقيه المأمون فيما يحرز به رضا الإمام عليه‌السلام كما مرَّ.

ومن أجل ذلك صدرت من كثير من العلماء فتاوى بتحريم إعطاء الخمس إلا للوكلاء المعروفين ، من أجل الحيلولة دون تلاعب من تسوِّل له نفسه بأن يخدع العوام ويأخذ منهم الحقوق الشرعية بغير حق.

وكل من راجع السيّد السيستاني يعرف أنه دام ظله لا يقبض الحقوق الشرعية من أهل العراق ، وقد أعطى إذناً عاماً لكل من في ذمَّته حق شرعي أن يصرفه على

__________________

(١) لأنه إذا أقرضه إياه جاز له التصرف في أمواله باعتبار أنها صارت مخمَّسة ، وما يجب عليه دفعه يصير ديناً للمرجع يسدّده إليه وقت استطاعته.

٣٨١

فقراء بلده ، فإذا كان هذا حال السيِّد فكيف تصدر منه هذه الألاعيب التي افتراها الكاتب من أجل تجميع الخمس؟!

* * *

قال الكاتب : وبعد استلامه هذه الأموال ، يقوم بتحويلها إلى ذهب بسبب وضع العملة العراقية الحالية ، حيث يملك الآن غرفتين مملوءتين بالذهب. وأما ما يسرقه الوكلاء دون علم السيد فَحَدِّثْ ولا حَرَجَ.

وأقول : هذه فرية باردة واضحة البطلان ، فإن عصر تجميع الذهب في الغُرَف قد مضى وفات ، ولو أن الكاتب زعم أن السيد يحول المبالغ إلى بنوك سويسرا لأمكن تصديق فريته ، وأما الكذب بهذه الصورة المفضوحة فلا يمكن أن يصدّقه إلا الحمقى والمغفّلون.

وإذا كان السيد قد جمع كل هذا الذهب في هاتين الغرفتين فلا أظن أنه سيبقى ذهب في كل العراق أصلاً.

ثمّ إن من اطَّلع على أحوال السيِّد علم أن بيت السيّد ضيق جداً ، ولا يسعه أن يجعل فيه ما يحتاجه من الكتب فكيف يسعه أن يجمع فيه كل هذا الذهب؟

ثمّ كيف تسنّى للكاتب أن يطّلع على هاتين الغرفتين المزعومتين دون غيره من الناس؟!

وأنا أجزم بأن الكاتب لو كان عنده دليل واحد على مزاعمه الباطلة لذكره ، ولكن هذا الخبر قد جاء به من جراب النورة المملوء بالافتراءات والأباطيل ، وكم فيه من عجائب وغرائب!!

وأما اتهام وكلاء السيد بأنهم يسرقون الخمس من دون علمه فلا قيمة له ، لأن كل كلام لا دليل عليه لا يُعتنى به ، والكاتب لم يذكر اسم وكيل واحد سرق من

٣٨٢

أموال الخمس.

ولو سلمنا جدلاً بحصول ذلك من بعضهم فالسيّد لا يحاسَب على ما لم يطَّلع عليه ، ونحن لا ننزّه كل الناس عن الخيانة ، فإن التاريخ حدّثنا بأن بعض وكلاء الأئمة عليهم‌السلام قد خانوا أماناتهم ، فأخذوا ما بحوزتهم من الأموال ، كما حصل لبعض وكلاء الإمام الكاظم عليه‌السلام الذين جحدوا إمامة الرضا عليه‌السلام لئلا يدفعوا إليه ما بحوزتهم من الأموال.

ولهذا لزم التأكيد على العوام بألا يدفعوا حقوقهم إلا لمن يعرفونه بالصلاح والأمانة والتقوى والورع ، دون غير المعروف بذلك.

* * *

قال الكاتب : قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : (طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءَها طيباً ، والقرآن شعاراً ، والدعاء دِثاراً ، ثمّ قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح .. إن داود عليه‌السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عَشَّاراً أو عريفاً أو شرطياً) نهج البلاغة ٤ / ٢٤.

قارن بين كلام الأمير رضي الله عنه وبين أحوال السادة واحكم بنفسك ، إن هذا النص وغيره من النصوص العظيمة ليس لها أي صدى عند السادة والفقهاء ، وحياة الترف والنعيم والبذخ التي يعيشونها أَنْسَتْهُم زهد أمير المؤمنين ، وأعمت أبصارهم عن تدبر كلامه ، والالتزام بمضمونه.

وأقول : لقد اطّلعتُ على أحوال من وسعني معرفتهم من علماء النجف ومراجعها فرأيتهم يعيشون حياة الزهد في الدنيا ، والانصراف عن ملذاتها مع ما بأيديهم من الأموال التي لم يستغلوها لمآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية.

٣٨٣

فما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام منطبق عليهم أتمَّ الانطباق ، مع شدّة هذا الزمان المملوء بالمغريات والملذات ، فإنهم لو أرادوا أن يستمتعوا بالدنيا لوسعهم ذلك من غير أن يتكلفوا أية مئونة ، ولكنهم ضربوا بكل ذلك عرض الجدار ، مؤثرين دار البقاء ، وزاهدين في دار الفناء.

ومن أراد أن يطلع على زهد العلماء وانصرافهم عن الدنيا وملذاتها فليطالع الكتب المتكفلة بذلك ، ففيها الكثير من قضاياهم وأحوالهم ، وليس هذا موضع بيانها.

ونحن بهذه المناسبة ندعو كل منصف لزيارة مراجع النجف الأشرف وقم المقدسة ليطَّلع بنفسه على أحوالهم وزهدهم وانصرافهم عن الدنيا ، وليعلم أن كل ما قاله الكاتب ما هو إلا افتراءات مفضوحة وأكاذيب مكشوفة.

* * *

قال الكاتب : إن العَشّار هو الذي يأخذ ضريبة العُشر ، فلا يستجاب دُعاؤه كما قال رضي الله عنه ، فكيف بالخماس؟ الذي يأخذ الخمس من الناس؟ إن الخَمَّاس لا يستجاب له من باب أولى لأن ما يأخذه من الخمس ضعف ما يأخذه العَشَّار ، نسأل الله العافية.

وأقول : إنما لا يستجاب دعاء العشَّار لأنه من أعوان الظالمين الذين يجمعون لهم الأموال من الناس بالقهر وبغير حق.

وأما من يقبض الخمس فإنه يقبضه من أهله بحق ، ويصرفه في محلّه بحق ، فكيف يكون ملعوناً أو مذموماً؟!

ولهذا لا يقال لجابي الزكاة للإمام العادل (إنه عشَّار) مع أنه قد يأخذ العشر وقد يأخذ نصف العشر ، وذلك لأنه يأخذها بحق ، ويدفعها للإمام العادل الذي يصرفها على مستحقيها.

فبين الأمرين فرق واضح ، وليس كل من يتسلّم مالاً فهو عشّار أو ملعون أو

٣٨٤

لا يستجاب دعاؤه.

* * *

قال الكاتب : تنبيه آخر :

عرفنا مما سبق أن الخمس لا يُعْطَى للفقهاء ولا المجتهدين واتضح لنا هذا الأمر من خلال بحث الموضوع من كل جوانبه ، ويحسن بنا أن ننتبه إلى أن الفقهاء والمراجع الدينية يزعمون أنهم من أهل البيت ، فترى أحدهم يروي لك سلسلة نسبه إلى الكاظم رضي الله عنه. اعلم أنه يستحيل أن يكون هذا الكم الهائل من فقهاء العراق وإيران وسورية ولبنان ودول الخليج والهند وباكستان وغيرها من أهل البيت ، ومَن أحصى فقهاء العراق وجد أن من المحال أن يكون عددهم الذي لا يُحْصَى من أهل البيت ، فكيف إذا ما أحصينا فقهاء البلاد الأخرى ومجتهديها؟ لا شك أن عددهم يبلغ أضعافاً مضاعفة ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً من أهل البيت؟؟

وأقول : من الأخطاء الواضحة التي وقع فيها الكاتب ونحن نبَّهنا عليها فيما سبق أنه يظن أن كل العلماء بل كل طلبة العلم سادة ، ولهذا رأيناه يطلق عليهم كلمة (سادة) ، كما أنه أطلق في كلامه هنا على طلبة العلم كلمة (فقهاء) ، مع أن الأمر ليس كذلك.

وبسبب هذا الظن الفاسد رتّب النتائج التي ذكرها في كلامه ، فاستبعد أن يكون كل هؤلاء العلماء وطلبة العلم من السَّادة.

وهذا دليل واضح على أن الكاتب بعيد كل البعد عن جو الحوزة ، وأجنبي عن معرفة مصطلحاتها ، لأنه لو كان من أهلها لعلم أن بعض أهل العلم سادة ، وبعضهم ليسوا كذلك ، وبه يندفع إشكاله ، وذلك لأن غير السّادة في الحوزة أكثر بكثير من السادة.

٣٨٥

* * *

قال الكاتب : وفوق ذلك إن شجرة الأنساب تُبَاعُ وتشْتَرَى في الحوزة ، فَمَن أراد الحصول على شرف النسبة لأهل البيت فما عليه إلا أن يأتي بأخته أو امرأته إذا كانت جميلة إلى أحد السادة ليتمتع بها ، أو أن يأتيه بمبلغ من المال ، وسيحصل بإحدى الطريقتين على شرف النسبة. وهذا أمر معروف في الحوزة.

وأقول : إن أنساب كثير من السّادة محفوظة ومعروفة ولا سيّما في العراق التي لا تزال فيها العشائر العراقية محافظة على أنسابها وأصولها العربية حتى لو لم تكن منتسبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا أمر معروف في العراق لا يخفى على أحد.

والسيادة إنما تثبت بالعلم ، أو بالبيّنة ، أو بالشهرة بين الناس.

وبهذا أيضاً تثبت سائر الأنساب ، وأما الشجرة المزعومة التي يكتبها زيد أو عمرو فلم يقل أحد باعتبارها.

وليس من السهل في الأوساط الشيعية أن يدّعي السيادة من هو غير معروف بها ، وذلك لأن الأسر المنتسبة للذرية الطاهرة معروفة ومحفوظة بحمد الله وفضله.

وأما المهزلة التي ذكرها الكاتب من أن من أراد شجرة نسب فإنه يأتي بأخته أو امرأته إلى أحد السادة ليتمتع بها ، أو أن يأتيه بمبلغ من المال ... فهذا كلام لا يخفى ما فيه من الكذب ، ولا يقوله من يخاف الله سبحانه ، والكاتب نفسه يعرف أنه باطل مكذوب ، فإن عقول الناس ليست بهذه السذاجة ، وبذل الأعراض ليست بهذه السهولة التي صوَّرها الكاتب ، ولكن :

لي حيلةٌ في مَنْ يَنُمُ

وليسَ في الكذَّابِ حيلهْ

مَنْ كانَ يخلقُ مَا يَقُو

لُ فحيلتي فيه قليلهْ.

ولا ندري لِمَ قطع الكاتب بأنه سيِّد وأنه منتسب لأهل البيت عليهم‌السلام ، وشك في

٣٨٦

انتساب غيره من الناس؟! هل كانت عنده شجرة نسب صحيحة؟ أم أن شجرة نسبه قد اشتراها من بعض السادة ببعض الأثمان؟! ولا ريب في أن التشكيك في نسب غيره يستلزم التشكيك في نسبه هو أيضاً سواء بسواء.

* * *

قال الكاتب : لذلك أقول لا يغرنكم ما يصنعه بعض السادة والمؤلفين عند ما يضع أحدهم شجرة نسبه في الصفحة الأولى من كتابه ليخدع البسطاء والمساكين كي يبعثوا له أخماس مكاسبهم.

وأقول : إن من يجعل شجرة نسبه في كتابه لا يريد من الناس خمساً ، لأنه إذا كان عالماً فإنه يتمكَّن من قبض الحقوق الشرعية من دون حاجة لشجرة النسب.

على أنك لا تكاد تجد عالماً ذكر شجرة نسبه في كتابٍ له إلا القلة القليلة ، ولعل الكاتب اطلع على بعض كتب السيد عبد الحسين شرف الدين قدَّس الله نفسه الشريفة ، فرأى أن السيد قد أدرج شجرة نسبه في جملة منها ، فظن أن كل العلماء هكذا يصنعون للغاية التي تخيلها.

مع أن ذكْر شجرة النسب إما أن يكون من أجل التشرّف بذكر الانتساب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من أجل تثبيت النسب والمحافظة عليه من النسيان والضياع ، أو من أجل دفع توهم من ينفي سيادة صاحب الكتاب ، أو لغير ذلك.

* * *

قال الكاتب : وفي ختام مبحث الخمس لا يفوتني أن أذكر قول صديقي المناضل الشاعر البارع المجيد أحمد الصافي النجفي رحمه‌الله ، والذي تعرفت عليه بعد حصولي على درجة الاجتهاد فصرنا صديقين حميمين رغم فارق السن بيني وبينه إذ

٣٨٧

كان يكبرني بنحو ثلاثين سنة أو أكثر.

* * *

وأقول : إذا كان أحمد الصافي النجفي رحمه‌الله يكبر الكاتب بثلاثين سنة أو أكثر فهذا يعني أن الكاتب وُلد سنة ١٣٤٤ ه‍ ـ أو بعدها ، لأن الصافي النجفي ولد سنة ١٣١٤ ه‍ ـ وتوفي سنة ١٣٩٧ ه‍ ـ (١) ، فيكون عمْر الكاتب لما نال درجة الاجتهاد بزعمه أقل من ثلاثين سنة ، إذا قلنا بأن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس‌سره أعطاه إجازة الاجتهاد في سنة وفاته وهي سنة ١٣٧٣ ه‍ ـ ، وأما لو قلنا إن الشيخ أعطاه الاجتهاد قبل وفاته بخمس سنين مثلاً ، فإن الكاتب يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد وعمره أقل من خمس وعشرين سنة ، وهذا نادر جداً يكاد يكون ممتنعاً في عصرنا ، ولم يُسمع بواحد من أهل كربلاء حصل على الاجتهاد في هذه السن.

* * *

قال الكاتب : عند ما قال لي : ولدي حسين ، لا تُدَنِّسْ نَفْسَكَ بالخُمس ، فإنه سُحْت ، وناقشني في موضوع الخمس حتى أقنعني بحرمته ، ثمّ ذكر لي أبياتاً كان قد نظمها بهذا الخصوص احتفظتُ بها في محفظة ذكرياتي ، وأنقلها للقراء الكرام بنصها ، قال رحمه‌الله :

عجبتُ لقوم شَحذُهم باسم دينِهم

وكيف يَسوغُ الشَّحذُ للرجلِ الشَّهمِ

لَئِنْ كان تحصيلُ العلومِ مُسَوِّغًا

لِذاكَ فإنّ الجهلَ خيرٌ من العِلم!!

وهل كان في عهدِ النبيِّ عِصابَةٌ

يعيشونَ من مالِ الأنامِ بذا الاسمِ؟

لَئِنْ أوجبَ اللهُ الزكاةَ فلم تَكُنْ

لِتُعْطَى بِذُلٍّ بل لِتُؤْخَذَ بالرَّغْمِ

أتانا بها أبناءُ ساسانَ حِرْفَةً

ولم تكن في أبناءِ يَعْرُبَ مِن قدمِ.

وأقول : إن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من الشعراء ، والمكلف يجب عليه اتباع

__________________

(١) معجم رجال الفكر والأدب في النجف ٢ / ٧٩٣.

٣٨٨

النصوص الصحيحة المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لا قصائد الشعراء.

هذا مع أن القصيدة لا دلالة فيها على ما قاله الكاتب ، لأن الشاعر ذمَّ أناساً تزيَّوا بزي العلم ، واتخذوا الاستجداء من الناس لهم حرفة ، فصاروا يقتاتون بهذه الأموال التي يأخذونها بالذُّل.

وأين هذا من الخمس الذي لا يؤخذ بالاستجداء ولا بالذل ، وإنما يدفعه الناس للعلماء بالاختيار وبالإجلال والتعظيم؟!

ولو سلّمنا أن المرحوم أحمد الصافي النجفي قال ذلك وقصَدَه فلا ريب في خطئه واشتباهه ، وكلامه لا يعوّل عليه بعد وضوح الأدلة واشتهار النصوص الصحيحة الثابتة عن أئمة العترة الطاهرة عليهم‌السلام الناصَّة على وجوب دفع الخمس في حال الحضور والغيبة كما مرَّ بيانه مفصَّلاً.

٣٨٩

الكتب السّماوية

قال الكاتب : لا شك عند المسلمين جميعهم أن القرآن هو الكتاب السماوي المنزل من عند الله على نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلوات الله عليه. ولكن كثرة قراءتي ومطالعتي في مصادرنا المعتبرة ، أوقفتني على أسماء كتب أخرى يدعي فقهاؤها [كذا] أنها نزلت على النبي صلوات الله عليه ، وأنه اختص بها أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وأقول : ما نسبه الكاتب إلى فقهاء الشيعة من أن تلك الكتب نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس صحيحاً ، وإنما بعضها من إملاء رسول الله على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبعضها من إملاء الملك ، وبعضها من تأليف أمير المؤمنين عليه‌السلام كما سيأتي بيانه قريباً ، وليس فيها صحيفة واحدة يُدَّعى أنها أُنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم كما سيتضح ذلك قريباً للقارئ الكريم.

* * *

قال الكاتب : وهذه الكتب هي : ١ ـ الجامعة :

عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال : أبا محمد ، وإن عندنا الجامعة ، وما يدريهم ما

٣٩٠

الجامعة؟! قال : قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟

قال : صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [كذا] وإملائه من فلق فيه ، وخط علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش .. الخ انظر الكافي ١ / ٢٣٩ ، بحار الأنوار ٢٦ / ٢٢.

وهناك روايات أخرى كثيرة تجدها في الكافي والبحار وبصائر الدرجات ووسائل الشيعة إنما اقتصرنا على رواية واحدة رَوْمًا للاختصار.

ولست أدري إذا كانت الجامعة حقيقة أم لا ، وفيها كل ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة!! فلما ذا أُخْفِيَتْ إذن؟ وحُرِمنا منها ومما فيها مما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة من حلال وحرام وأحكام؟ أليس هذا كتمان العلم؟

وأقول : لقد عنون الكاتب هذا الفصل بالكتب السماوية ، أي الكتب النازلة من السماء ، وقال في مقدّمته : (كتب أخرى يدَّعي فقهاؤها أنها نزلت على النبي صلوات الله عليه).

لكن نص الرواية التي نقلها يدل بوضوح على أن (الجامعة) ليست كتاباً سماوياً ، وإنما هي من إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابة أمير المؤمنين عليه‌السلام بخطّه.

وهذا الحديث الذي نقل بعضه فيه بيان ما خُصَّ به أهل البيت عليهم‌السلام من الصحائف والكتب وما عندهم من العلوم الشرعية والمعارف الإلهية التي لم تكن عند غيرهم من الناس.

و (الجامعة) : هي صحيفة أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتبها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والظاهر من الأخبار أنها تشتمل على كل الأحكام الشرعية من الحلال والحرام وكل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش كما نصَّ عليه هذا الحديث وغيره (١).

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ٢٥ / ١١٦ ، ٢٦ / ١٨ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٨ ،

٣٩١

ولا أدري لِمَ يستعظم الكاتب وجود مثل هذه الصحيفة ويستبعده ، مع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خصَّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بما لم يخص به غيره ، وهذا مروي في كتبهم ، فقد أخرج الترمذي بسنده عن جابر ، قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا يوم الطائف فانتجاه ، فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما انتجيته ولكن الله انتجاه (١).

وأخرج أحمد والحاكم وغيرهما عن أم سلمة ، قالت : والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت : عدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غداة بعد غداة ، يقول : (جاء علي؟) مراراً. قالت فاطمة : كان بعثه في حاجة. قالت : فجاء بعد. قالت : فظننت أن له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب ، وكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبَّ عليه عليٌّ فجعل يسارُّه ويناجيه ، ثمّ قُبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه ذلك ، فكان عليٌّ أقرب الناس به عهداً (٢).

وأخرج ابن سعد وأبو نعيم والهيثمي وغيرهم عن ابن عباس قال : كنا نتحدّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره (٣).

__________________

٣٩ ، ٤١ ، ٤٥ ، ٤٦ ، ٤٨ ، ٤٧ / ٢٦.

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٣٩ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وقال الملا علي القاري في شرح الحديث في مرقاة المفاتيح ١٠ / ٤٧١ : والمعنى أني بلَّغته عن الله ما أمرني أن أبلّغه إياه على سبيل النجوى. وقال : قال الطيبي رحمه‌الله : كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية جعله من خزَّانها.

قلت : وعند الطبراني في معجمه الكبير ٢ / ١٨٦ أن الذي قال : (لقد طالت نجواه مع ابن عمه) هو أبو بكر. وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة ٢ / ٥٨٤ ، والخطيب في تاريخ بغداد ٧ / ٤٠٢.

(٢) مسند أحمد ٦ / ٣٠٠. المستدرك ٣ / ١٣٨ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. فضائل الصحابة ٢ / ٦٨٦.

(٣) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨. حلية الأولياء ١ / ٦٨. مجمع الزوائد ٩ / ١١٣. المعجم الصغير للطبراني ٢ / ٦٩. كتاب السنة لابن أبي عاصم ٢ / ٥٥٠.

٣٩٢

فلا محذور بعد هذا كله في أن يخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام بما شاء من العلوم ، ولا استبعاد في أن يكتب علي عليه‌السلام شيئاً مما خصَّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به في صحيفة أسماها أو سُمّيتْ بعد ذلك الصحيفة الجامعة ، ولا سيما أن غيره من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يكتبون بعض مسموعاتهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعبد الله بن عمرو بن العاص ، كما في حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة حيث قال : ما من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب (١).

هذا مع نص بعض أعلام أهل السنة على أن عليّا عليه‌السلام كان من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين يكتبون حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن الصلاح : اختلف الصدر الأول في كتابة الحديث ، فمنهم من كرِه كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه ، ومنهم من أجاز ذلك ...

إلى أن قال : وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين (٢).

وقال السيوطي : وأباحها ـ أي كتابة الحديث ـ طائفة وفعلوها ، منهم عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وابن عمر أيضاً ، والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز ، وحكاه عياض عن أكثر الصحابة والتابعين (٣).

والعجب أن هذا الكاتب وبعض أهل السنة ينكرون حيازة أمير المؤمنين عليه‌السلام مثل هذه الصحيفة ، ولا ينكرون حيازة أبي هريرة لمثل ذلك ، فإنهم رووا أن أبا هريرة

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٣٨ كتاب العلم ، باب كتابة العلم.

(٢) مقدمة ابن الصلاح ، ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) تدريب الراوي ٢ / ٦٥.

٣٩٣

كان عنده وعاءان من العلم بثَّ أحدهما وكتم الآخر.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عنه أنه قال : حفظتُ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثْتُه ، وأما الآخر فلو بثثْتُه قُطع هذا البلعوم (١).

فإذا صحَّ عندهم مثل هذا في حق أبي هريرة فكيف لا يصح مثله على الأقل في حق علي عليه‌السلام الذي صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره إلى أن التحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جوار ربه ، بينما لم تزد صحبة أبي هريرة أكثر من ثلاث سنين قضى أكثرها في البحرين؟! (٢)

ولا سيما أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان شديد الحرص على تحصيل العلوم ، فكان يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمور الدين والدنيا ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على تعليمه كما أخرج الترمذي وحسَّنه عن عبد الله بن عمرو بن هند الحبلي ، قال : قال علي : كنت إذا سألتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاني ، وإذا سكتُّ ابتدأني (٣).

وأخرج ابن سعد عن علي عليه‌السلام أنه قيل له : ما لَك أكثر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثاً؟ فقال : إني كنت إذا سألته أنبأني ، وإذا سكتُّ ابتداني (٤).

فهل يبقى بعد هذا كله استبعاد أو غرابة في أن يملي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمير المؤمنين عليه‌السلام صحيفة جامعة في الحلال والحرام ، ولا سيما أن بعض الأحاديث الصحيحة قد نصَّت على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب للأمّة كتاباً ، فحِيل بينه وبين كتابة ذلك الكتاب؟

فقد أخرج البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم وأحمد وابن حبان وغيرهم عن ابن

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٦٤.

(٢) أخرج البخاري في كتاب المناقب ، باب علامات النبوة ٤ / ٢٣٩ ، بسنده عن أبي هريرة ، قال : صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث سنين لم أكن في سِنّي أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٦٤٠.

(٤) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨. ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢ / ٤٥٦.

٣٩٤

عباس ، قال : لما حُضِر (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده. فقال عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاباً لن تضلُّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموا. قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٢).

وأخرج مسلم عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس. ثمّ جعل تسيل دموعه ، حتى رأيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده. فقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهجر (٣).

والذي احتمله النووي وغيره أن الذي أراده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك الكتاب هو أن يكتب مهمات أحكام الدين ، أو ينص على الخلفاء من بعده (٤).

فإن صح الاحتمال الأول (٥) فليس بمستبعَد أن يملي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً على أمير

__________________

(١) أي حضره الموت.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ١٥٥ ـ ١٥٦ كتاب الطب ، باب قول المريض قوموا عني. ٩ / ١٣٧ كتاب الاعتصام ، باب كراهية الخلاف. ٦ / ١١ كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته ، ٤ / ١٢١ كتاب الجزية ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ، ٤ / ١٨٥ كتاب الجهاد ، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم. صحيح مسلم ٣ / ١٢٥٩. مسند أحمد ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، ٣٣٦. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٨ / ٢٠١.

(٣) صحيح مسلم ٣ / ١٢٥٩. مسند أحمد ١ / ٣٥٥. وراجع مسند أحمد ١ / ٢٢٢ ، ٢٩٣. المستدرك ٣ / ٤٧٧. مجمع الزوائد ٤ / ٢١٤ ، ٥ / ١٨١.

(٤) صحيح مسلم بشرح النووي ١١ / ٩٠.

(٥) الصحيح هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن ينص على أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة من بعده ، وذلك لأن

٣٩٥

المؤمنين عليه‌السلام ، بعد ما حيل بينه وبين كتابة ذلك الكتاب ، فكتب علي عليه‌السلام من إملائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحيفة جامعة مشتملة على كل أحكام الدين من الحلال والحرام.

ثمّ إنهم رووا أن ابن عباس كان عنده حمل بعير كتباً فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات عن موسى بن عقبة ، قال : وضع عندنا كُريب حِمْل بعيرٍ أو عِدْل بعيرٍ من كتب ابن عباس ، قال : فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه : ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا. قال : فينسخها ، فيبعث إليه بإحداها (١).

فلا أدري لِمَ لا يستعظمون أمثال هذه الأمور عند ما تُنسَب إلى كل الصحابة ولا ينكرونها ، ويستعظمون أمثالها إذا نُسبَت لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وينكرونها؟

وأما مسألة كتمان العلم التي أشكل بها الكاتب فليست بمحرَّمة على إطلاقها ، فإن العقل والنقل يدلّان على رجحان كتمان العلم عن غير أهله ، وعند عدم النفع في إظهاره ونشره ، كما يدلّان على وجوبه حال الخوف على النفس أو المال أو العرض ، ولهذا لم يعاود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابة الكتاب بعد أن قال القوم ما قالوا.

وإذا صح وجود (الجامعة) عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فمن الواضح أنه لا يجب عليه بذلها للقوم ، وذلك لأنهم لما ردّوا كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته كيف يقبلونه من أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

__________________

مهمات الأحكام كانت مبيّنة وموضحة في ذلك الحين ، وقد أكمل الله الدين وأتم النعمة قبل هذا اليوم ، ولأن النص على الخلفاء أهم من إعادة كتابة أحكام مبيّنة ، وبالنص على الخلفاء يندفع كل اختلاف وبلاء وتضليل ، ولأن من خفيت عليه مهمات الأحكام فخالفها لا يكون ضالاً بل حتى لو خالفها وهو بها عالم ، فإنه يكون فاسقاً لا غير ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أراد أن يكتب مهمات الأحكام لما حدث اللغط والاختلاف ونسبة الهجر إليه ، وما سبب اللغط إلا علمهم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد أن ينص على الخلفاء من بعده ، ثمّ إن المناسب في ذلك الوقت ـ وهو قبيل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيام قليلة ـ مع شدة وجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانشغاله بنفسه أن ينص على من يقوم بالأمر من بعده لا كتابة مهمات الأحكام في ذلك الوقت الحرج.

(١) الطبقات الكبرى ٥ / ٢٩٣.

٣٩٦

هذا مع أن أهل السنة رووا كتمان بعض الصحابة لما عندهم من العلوم خشية حصول الضرر عليهم بالإفشاء ، ومن ذلك ما مرَّ من كلام أبي هريرة.

وأخرج الطبراني بسنده عن حذيفة قال : والله لو شئت لحدّثتكم ألف كلمة تحبّوني عليها أو تتابعوني وتصدّقوني براً من الله ورسوله ، ولو شئت لحدّثتكم ألف كلمة تبغضوني عليها ، وتجانبوني وتكذبوني (١).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة عندهم لا حاجة لاستقصائها كلها.

* * *

قال الكاتب : ٢ ـ صحيفة الناموس :

عن الرضا رضي الله عنه في حديث علامات الإمام قال : وتكون صحيفة عنده فيها أسماء شيعتهم إلى يوم القيامة ، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة. انظر بحار الأنوار ٢٥ / ١١٧ ، ومجلد ٢٦ ففيه روايات أخرى.

وأنا أتساءل : أية صحيفة هذه التي تتسع لأسماء الشيعة إلى يوم القيامة؟؟!! لو سجلنا أسماء شيعة العراق في يومنا هذا لاحتجنا إلى مائة مجلد في أقل تقدير. فكيف لو سجلنا أسماء شيعة إيران والهند وباكستان وسورية ولبنان ودول الخليج وغيرها؟ بل كم نحتاج لو سجلنا أسماء جميع الذين ماتوا من الشيعة وعلى مدى كل القرون التي مضت منذ ظهور التشيع وإلى عصرنا ...

إلى آخر ما قاله الكاتب في استبعاد أو استحالة اشتمال كتاب واحد على هذه الأسماء الكثيرة جداً.

وأقول : بغض النظر عن أسانيد تلك الروايات التي تذكر هذه الصحيفة

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ٣ / ١٨٠. مجمع الزوائد ١ / ١٨٢. قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله موثقون.

٣٩٧

المشتملة على أسماء شيعة أهل البيت عليهم‌السلام وأسماء أعدائهم ، فيمكننا الإجابة على ما أشكل به الكاتب بأمور :

١ ـ أن الظاهر من بعض الأخبار أن أسماء الشيعة مكتوبة في صحائف كثيرة ، لا في صحيفة واحدة ، بل في بعضها أنها مكتوبة في حِمْل بعير.

فقد روى محمد بن حسن الصفار في كتابه (بصائر الدرجات) بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : لما وَادَع الحسن عليه‌السلام معاوية وانصرف إلى المدينة صحبته في منصرفه ، وكان بين عينيه حمل بعير لا يفارقه حيث توجَّه ، فقلت له ذات يوم : جُعلتُ فداك يا أبا محمد ، هذا الحِمْل لا يفارقك حيث ما توجهت؟ فقال : يا حذيفة أتدري ما هو؟ قلت : لا. قال : هذا الديوان. قلت : ديوان ما ذا؟ قال : ديوان شيعتنا ، فيه أسماؤهم. قلت : جعلت فداك فأرني اسمي. قال : اغد بالغداة. قال : فغدوت إليه ومعي ابن أخ لي ، وكان يقرأ ولم أكن أقرأ ، فقال : ما غدا بك؟ قلت : الحاجة التي وعدتني. قال : ومَن ذا الفتى معك؟ قلت : ابن أخ لي ، وهو يقرأ ولستُ أقرأ. قال : فقال لي : اجلس. فجلست ، فقال : عليَّ بالديوان الأوسط. قال : فأُتي به ، قال : فنظر الفتى فإذا الأسماء تلوح ، قال : فبينما هو يقرأ إذ قال : هو يا عماه ، هو ذا اسمي. قلت : ثكلتك أمك انظر أين اسمي؟ قال : فصفح ثمّ قال : هو ذا اسمك. فاستبشرنا ، واستشهد الفتى مع الحسين بن علي عليه‌السلام (١).

فإذا كانت هذه الصحائف حمل بعير ، وأسماء الشيعة مكتوبة مجرّدة عن كل شيء ، فلا امتناع في كونها حاوية على أسماء الشيعة كلهم.

٢ ـ لعل المراد بالشيعة هم الموالون لهم حقيقةً المتَّبِعون لأحكامهم عليهم‌السلام ، لا كل من وُلد من أبوين شيعيين ، فالشيعة المكتوبة أسماؤهم هم الذين وصفهم الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الإيمان وأهل الفتح والظفر.

__________________

(١) بصائر الدرجات ، ص ١٩٢.

٣٩٨

وعنه عليه‌السلام قال : إياك والسَّفَلة ، فإنما شيعة عليٍّ من عفَّ بطنه وفرجه ، واشتدَّ جهاده ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه ، وخاف عقابه ، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر.

وعنه عليه‌السلام قال : إن شيعة علي كانوا خمص البطون ، ذبل الشفاه ، أهل رأفة وعلم وحلم ، يُعرفون بالرهبانية ، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد (١).

والشيعة الموصوفون بهذه الصفات هم الكُمَّل من الشيعة ، وليسوا هم بدرجة من الكثرة التي صوَّرها الكاتب ، فلا يستبعد أن تكون أسماؤهم مكتوبة في حمل بعير من الكتب.

٣ ـ أن أهل السنة رووا في كتبهم ما هو أدهى من ذلك وأعظم ، فقد رووا في كتبهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرج للناس كتابين فيهما أسماء كل أهل الجنة ، وأسماء كل أهل النار ، ولا ريب في أن هذين الكتابين سيكونان حاويين لكل أسماء من خلقهم الله سبحانه وتعالى منذ أن خلق الخليقة ، لأن كل واحد من الناس إما أن يكون في الجنة أو في النار ، وهذا أعظم من الكتاب الذي أنكره الكاتب.

فقد أخرج الترمذي في سننه ، وأحمد في مسنده ، والطبراني في معجمه الأوسط ، وأبو نعيم في حليته ، وغيرهم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثمّ أجمل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم أبداً. ثمّ قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثمّ أجمل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم أبداً. فقال أصحابه : ففيمَ العمل يا رسول الله إن كان أمْرٌ قد فُرغ منه؟ فقال : سَدِّدوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ عمل ، وإن صاحب

__________________

(١) الكافي ٢ / ٢٣٣.

٣٩٩

النار يخُتم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ عمل. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديه فنبذهما ، ثمّ قال : فرغ ربكم من العباد ، فريق في الجنة وفريق في السعير.

قال الترمذي : وهذا حديث حسن غريب صحيح (١).

ولنا هاهنا أن نسأل الكاتب وغيره من أهل السنة : أين صار هذان الكتابان بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ألا يمكن أن يحتفظ بهما أهل بيته ويبقيان عندهم يتوارثونهما ، وفيهما أسماء شيعتهم وأسماء أعدائهم؟

٤ ـ لو كان المراد بالشيعة هم كل هؤلاء الذين ذكرهم الكاتب فلا استحالة في أن يكون كتاب واحد حاوياً لكل أسمائهم على كثرتها ، إذ يحتمل أن يكون مثل هذا الكتاب مكتوباً لا بالطريقة التي نكتب بها كتبنا الآن حتى لا نتصور استيعاب كتاب واحد لكل هذه الأسماء الكثيرة ، أو لعله كان حاوياً لكل تلك الأسماء بنحو الإعجاز.

وبهذا يمكن تصحيح اشتمال هذا الكتاب وكتابَي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل تلك الأسماء الكثيرة مع صغر أحجام هذه الكتب.

* * *

قال الكاتب : ٣ ـ صحيفة العبيطة :

عن أمير المؤمنين رضي الله عنه قال : وأيم الله إن عندي لصحف [كذا] كثيرة قطائع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته وأن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة ، وما ورد على العرب

__________________

(١) سنن الترمذي ٤ / ٤٤٩. مسند أحمد بن حنبل ٢ / ١٦٧. مجمع الزوائد ٧ / ١٨٧. تفسير الطبري ٢٥ / ٧. تفسير القرآن العظيم ٤ / ١٠٧. حلية الأولياء ٥ / ١٦٨. جامع العلوم والحكم ١ / ٥٩. كتاب السنة لابن أبي عاصم ١ / ١٥٤ وعلق عليه الألباني بقوله : إسناده حسن ، وهو مخرج في الصحيحة (٨٤٨). سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢ / ٥٠٣. الفتح الكبير للنبهاني ١ / ٤٠. صحيح الجامع الصغير وزيادته ١ / ٧٩ وقال الألباني : صحيح.

٤٠٠