لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

ولا أخفي على القارئ الكريم أني كلما اطَّلعت على أمثال هذه الاتهامات التي يُلصقها كُتّاب أهل السنة بالشيعة ، حمدتُ الله كثيراً على نعمة الهداية ، وعلمت أن هؤلاء القوم لو كانت عندهم مطاعن صحيحة يطعنون بها في مذهب الشيعة لما احتاجوا إلى أمثال هذه الافتراءات المكشوفة والأكاذيب المفضوحة.

لكنهم ـ هداهم الله ـ لما عجزوا عن مقارعة الشيعة بالحجج والأدلة لجئوا إلى مقارعتهم بالأكاذيب الملفَّقة والتُّهَم الباطلة.

* * *

قال الكاتب : وللأسف يَرْوون في ذلك روايات ينسبونها إلى الإمام الصادق رضي الله عنه وإلى أبيه أبي جعفر سلام الله عليه.

روى الطوسي عن محمد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت : (الرجل يُحِلُّ لأخيه فرج جاريته؟ قال : نعم لا بأس به له ما أحل له منها) الاستبصار ٣ / ١٣٦.

وروى الكليني والطوسي عن محمد بن مضارب قال : قال لي أبو عبد الله رضي الله عنه : (يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتُصيبُ منها ، فإذا خرجت فارددها إلينا) الكافي ، الفروع ٢ / ٢٠٠ ، الاستبصار ٣ / ١٣٦.

وأقول : إن الكاتب استدل بهاتين الروايتين على أن الأئمة أباحوا فروج الزوجات ، مع أن موضوع الروايتين هو تحليل الإماء والجواري فقط ، لا الحرائر المحصنات من النساء.

ومنه يتضح أن الكاتب مضافاً إلى أنه لم يكن أميناً في نقله ، فإنه يحاول الضحك على عقول القرَّاء ، فيستدل على ما ألصقه بالشيعة زوراً وظلماً بروايات لا تدل عليه من قريب ولا بعيد.

وهذه الروايات الواردة في تحليل الجواري والإماء لا ترتبط الآن بواقعنا ، ولا

٢٦١

يضر الشيعي الجهل بأحكامها ، لعدم الابتلاء بها.

ولكن لا بأس بنقل ما ورد في كتب أهل السنة مما يرتبط بتحليل الجواري ، ليتضح للقارئ الكريم أنها مسألة فقهية وقع الخلاف فيها بين الفقهاء ، فنقول :

أخرج الترمذي والنسائي وأبو داود في السنن وغيرهم عن حبيب بن سالم قال : رُفِع إلى النعمان بن بشير رجل وقع على جارية امرأته ، فقال : لأقضينَّ فيها بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لئن كانت أحلَّتها له لأجلدنّه مائة ، وإن لم تكن أحلَّتها له رجمته (١).

وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه ووافقه الذهبي ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجل أتى جارية امرأته ، قال : إن كانت حلَّلتها له جُلد مائة ، وإن لم تكن أحلَّتها له رجمتُه (٢).

وأخرج أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه الصغرى والكبرى والدارمي في سننه ، بأسانيدهم عن النعمان بن بشير : أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين ، ويُنبز قرقوراً ، أنه وقع بجارية امرأته ، فرُفع إلى النعمان بن بشير فقال : لأقضينَّ فيها بقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن كانت أحلَّتها لك جلدتُك مائة ، وإن لم تكن أحلّتها لك رجمتك بالحجارة. فقالت : أحللتُها له. فجُلد مائة. فكتبتُ إلى حبيب بن سالم ، فكتب إلي بهذا (٣).

وهذه الأخبار كلها تدل على أن المرأة إن حلَّلت جاريتها لزوجها فإنه يُجلد مائة جلدة ، وإلا فيُرجم.

__________________

(١) سنن الترمذي ٤ / ٥٤. سنن أبي داود ٤ / ١٥٧ ، ١٥٨. سنن النسائي ٦ / ٤٣٣ ، ٤٣٤. سنن ابن ماجة ٣ / ٨٥٣. مسند أحمد ٤ / ٢٧٥. مصنف ابن أبي شيبة ٥ / ٥١١. شرح معاني الآثار ٣ / ١٤٥.

(٢) المستدرك ٤ / ٤٠٦.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٧٦. السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٣٢٩. سنن النسائي ٦ / ٤٣٤. سنن الدارمي ٢ / ٦٢٤.

٢٦٢

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : (لئن كانت أحلتها له) أي إن كانت امرأته جعلت جاريتها حلالاً ، وأذنت له فيها ، (لأجلدنّه مائة) وفي رواية أبي داود : (جلدتك مائة). قال ابن العربي : يعني أدَّبته تعزيراً ، أو أبلغ به الحد تنكيلاً ، لا أنه رأى حدّه بالجلد حداً له. قال السندي بعد ذكر كلام ابن العربي هذا : لأن المحصن حدّه الرجم لا الجلد ، ولعل سبب ذلك أن المرأة إذا أحلَّت جاريتها لزوجها فهو إعارة الفروج ، فلا يصح ، لكن العارية تصير شبهة ضعيفة ، فيُعزَّر صاحبها انتهى (١).

ولأجل أن المحصن حدّه الرجم والحديث ظاهره يدل على خلاف ذلك ، وقع أهل السنة في خلط وخبط ، وأراحوا أنفسهم بالإعراض عنه وترك العمل به.

قال الترمذي : وقد اختلف أهل العلم في الرجل يقع على جارية امرأته ، فروي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم علي وابن عمر أنّ عليه الرجم ، وقال ابن مسعود : ليس عليه حدّ ، ولكن يُعزَّر. وذهب أحمد وإسحاق إلى ما روى النعمان ابن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

قلت : والإشكال المهم في الحديث هو أنه إذا كان التحليل غير مشروع في الدين ولا أثر له ، فكيف حصل به دفع الحدّ عمن وقع على جارية امرأته ، ووجب الاكتفاء بتعزيره؟

هذا مع أن عروض الشبهة حينئذ يقتضي دفع التعزير عنه أيضاً ، فلم وجب تعزيره؟!

وهذا دليل واضح على أن التحليل كان معروفاً عندهم ، وأنه كان جائزاً في الدين ، فيجوز للمرأة أن تحلِّل جاريتها لزوجها يصيب منها ما يشاء.

إلا أن هذه المرأة لما جاءت تشكو زوجها أنه وقع على جاريتها ، فقد عُرِف أنها

__________________

(١) تحفة الأحوذي ٥ / ١١.

(٢) سنن الترمذي ٤ / ٥٥.

٢٦٣

لم تحلِّلها له ، وإلا لو حلَّلتها له لما جاءت تشكوه ، لكن النعمان بن بشير حكم بأنها إن كانت أحلَّتها له فيما مضى فلعلّه وطأها بشبهة التحليل السابق فيُعزَّر ، لاستخفافه بالإقدام على وطء الجارية من غير يقين بالحلّية ، وإن لم تكن حلَّلتها له فيما مضى ، فهو زانٍ يجب رجمه ، لكونه محصَناً.

ومما قلناه يتضح أن الحديث يدل على جواز تحليل الأمة ، ولهذا ذهب إلى جواز التحليل جمع من أعلام أهل السنة.

فقد أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عطاء أنه قال : كان يُفعل ، يُحِلّ الرجل وليدته ـ أي جاريته ـ لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها ، وما أحب أن يفعل ذلك ، وما بلغني عن ثبت ، وقد بلغني أن الرجل يُرسِل وليدته إلى ضيفه (١).

قلت : لا ريب في أن عطاء لم يكن يتحدَّث عن أحوال الروافض ، وإنما كان يتحدث عما يصنعه أهل السنة في ذلك الوقت ، وقوله : (كان يُفعل) ظاهر في أن التحليل كان متعارفاً عندهم ، يعملونه من غير نكير بينهم.

وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني إبراهيم بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن زادويه عن طاوس أنه قال : هي أحل من الطعام ، فإن وَلَدَتْ فولدها للذي أُحلّتْ له ، وهي لسيِّدها الأول.

وعن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع طاوساً يقول : قال ابن عباس : إذا أحلَّت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليُصِبْها ، وهي لها ، قال ابن عباس : فليجعل به بين وركيها (٢).

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٧ / ١٦٩. المحلى لابن حزم ١٢ / ٢٠٦.

(٢) قال ابن حزم في المحلى ١٢ / ٢٠٨ : أما قول ابن عباس فهو عنه وعن طاوس في غاية الصحة ، ولكنا لا نقول به ، إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : مراده أن القول بالتحليل منقول بسند في غاية الصحة عن ابن عباس وطاووس ، ولكن ابن حزم لا يقول به ، لأن قولهما ليس حجة في نفسه ، وهذا من مهازلهم فإنهم يأخذون بقول الصحابي متى شاءوا ، ويتركونه متى شاءوا من غير ضابطة صحيحة.

٢٦٤

وعن معمر قال : قيل لعمرو بن دينار : إن طاوساً لا يرى به بأساً. فقال : لا تُعار الفروج.

وعن ابن جريج قال : أخبرني ابن طاوس عن أبيه : كان لا يرى بأساً ، قال : هو حلال ، فإن وَلَدَتْ فولدها حر ، والأمة لامرأته ، لا يغرم زوجها شيئاً.

وعن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن قيس عن الوليد بن هشام أخبره أنه سأل عمر بن عبد العزيز فقال : امرأتي أحلَّت جاريتها لابنها. قال : فهي له (١).

قلت : وهو ظاهر في صحة التحليل عنده ، إلا أنه يرى أن التحليل مضافاً إلى أنه محلِّل لفرج الجارية فهو ناقل لملكيتها لمن حُلِّلتْ له.

وقال ابن حزم : وبه ـ أي وبجواز التحليل ـ يقول سفيان الثوري (٢).

* * *

قال الكاتب : قلت : لو اجتمعت البشرية بأسرها فَأَقْسَمَتْ أن الإمامين الصادق والباقر عليهما‌السلام قالا هذا الكلام ما أنا بمصدق.

إن الإمامين سلام الله عليهما أجَلُّ وأَعظم من أن يقولا مثل هذا الكلام الباطل ، أو يبيحا هذا العمل المقزز الذي يتنافى مع الخلق الإسلامي الرفيع بل هذه هي الديَاثَة ، ولا شك أن الأئمة سلام الله عليهم ورثوا هذا العلم كابراً عن كابر فنسبة هذا القول وهذا العمل إليهما إنما هو نسبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو إذن تشريع إلهي.

وأقول : لقد أوضحنا آنفاً أن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام لم يُبيحا تحليل فروج

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٧ / ١٦٩ ـ ١٧٠. ونقل السيوطي جملة من هذه الأخبار عن عبد الرزاق في تفسيره الدر المنثور ٦ / ٨٩. وراجع كتاب المحلى لابن حزم ١٢ / ٢٠٦.

(٢) المحلى ١٢ / ٢٠٦.

٢٦٥

المحصنات أو الحرائر ، والحديثان اللذان ذكرهما الكاتب إنما يدلّان على تحليل الإماء والجواري فقط ، ولا يدلّان على تحليل غيرهن للضيوف والرجال الأجانب كما زعمه الكاتب.

ونقلنا من أقوالهم أن تحليل الإماء قد ذهب إلى جوازه بعض الصحابة كابن عباس ، وبعض أعلام أهل السنة كسفيان الثوري وعطاء وطاووس وغيرهم ، ومن منعه لم يستند إلى حجة صحيحة في المنع. ورَدُّ الأحاديث لا يكون بالاستحسانات الموروثة والتقليد لعلماء أهل السنة الذين لم يَنقلوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً واحداً في حرمة تحليل الإماء ، وإنما رووا أقوالاً متضاربة عن زيد وعمرو وبكر ، وهي لا تنفع في المقام مع نقل أئمة العترة الطاهرة عليهم‌السلام.

* * *

قال الكاتب : في زيارتنا للهند ولقائنا بأئمة الشيعة هناك كالسيد النقوي وغيره مررنا بجماعة من الهندوس وَعَبَدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية ، وقرأنا كثيراً فما وجدنا ديناً من تلك الأديان الباطلة يبيح هذا العمل ، وَيُحلهُ لأتباعه.

فكيف يمكن لدين الإسلام أن يبيح مثل هذا العمل الخسيس الذي يتنافى مع أَبسط مقومات الأخلاق؟

وأقول : سيأتي الكلام في زيارة المصنف إلى الهند ولقائه بالسيد النقوي ، وسيتضح أنها سقطة عظيمة من سقطات الكاتب ، وأنها القَشَّة التي قصمت ظهر البعير ، فانتظر ولا تعجل.

وما قاله من أن الهندوس وعَبَدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية لا يستحلون لأنفسهم أن يحلِّلوا فروج زوجاتهم وبناتهم للرجال الأجانب حجّة عليه ، لأنه إذا ثبت أن الهندوس وغيرهم من عُبّاد الأوثان لا يحلِّلون فروج

٢٦٦

نسائهم فكيف بطائفة عظيمة من طوائف المسلمين ، يشهدون الشهادتين ، ويقيمون الصلاة ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجُّون إلى بيت الله الحرام ، ويحرِّمون الزنا واللواط والاستمناء والقبائح ، ويُظهرون كل شعائر الإسلام ، هل يصدّق عاقل بأنهم يبيحون تحليل فروج نسائهم للرجال الأجانب؟!

لقد قلنا سابقاً : إن ما ألصقه بالشيعة يدل على خوائه وإفلاسه ، وأنه لو كان عنده دليل صحيح يبطل به مذهب الشيعة وعقائدهم لما لجأ إلى هذه الأكاذيب الرخيصة المكشوفة.

* * *

قال الكاتب : زرنا الحوزة القائمية في إيران فوجدنا السادة هناك يبيحون إعارة الفُروج ، وممن أفتى بإباحة ذلك السيد [كذا] لطف الله الصافي وغيره ، ولذا فإن موضوع إعارة الفرج منتشر في عموم إيران ، واستمر العمل به حتى بعد الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوى ومجيء آية الله العُظْمَى الإمام الخميني الموسوي ، وبعد رحيل الإمام الخميني أيضاً استمر العمل عليه وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى فشل أول دولة شيعية في العصر الحديث كان الشيعة في عموم بلاد العالم يتطلعون إليها ، مما حدا بمعظم السادة إلى التبرؤ منها ، بل ومهاجمتها أيضاً.

وأقول : الظاهر أنه يريد بالحوزة القائمية حوزة قم المقدسة ، بقرينة ذكر الشيخ لطف الله الصافي في البين ، فإنه في قم لا في غيرها.

ولا يوجد واحد من علماء الشيعة ـ لا الشيخ لطف الله الصافي ولا غيره ـ يفتي بجواز إعارة فروج الزوجات والأخوات والبنات ، ولو رأى الكاتب فتوى لصغير أو كبير لطبل بها وزمَّر ، ولذكرها بنصِّها في كتابه هذا الذي سوَّده بالأكاذيب الكثيرة.

ومن الكذب المفضوح زعمه أن إعارة الفروج منتشرة في عموم إيران ، وأنها أحد الأسباب التي أدَّت إلى فشل حكومة إيران الحالية ، ولا أدري ما هو ارتباط

٢٦٧

مسألة إعارة الفروج بفشل أي دولة من الدول؟

هل يرى الكاتب أن إعارة الفروج قد أثّرت سلباً على السياسة الداخلية أو الخارجية لحكومة إيران؟!

إن مثل هذا التفكير الهزلي يدل على ضحالة فكر الكاتب وسذاجته ، وهو مثَلٌ واضح لتمادي هذا الكاتب في قول الزور والافتراء بكل جهده وطاقته ، حتى لو لم يصدِّق كلامه أحد.

* * *

قال الكاتب : ومما يُؤْسَفُ له أن السادة هنا أفْتَوْا بجواز إعارة الفرج ، وهناك كثير من العوائل في جنوب العراق وفي بغداد في منطقة الثورة ممن يمارس هذا الفعل بناء على فتاوى كثير من السادة منهم : السيستاني والصدر والشيرازي والطباطبائي والبروجردي وغيرهم ، وكثير منهم إذا حَلَّ ضيفاً عند أحد منهم استعار امرأته إذا رآها جميلة ، وتبقى مُستعارةً عنده حتى مغادرته.

وأقول : هذا من الأكاذيب التي لا تخفى على كل منصف ، فإنه لم يُفْتِ أحد من علماء الشيعة بجواز إعارة فروج النساء الحرائر كما مرَّ ، فأين تلك الفتاوى المزعومة وهذه كتب الفتاوى منتشرة في الآفاق؟

ولو كان الكاتب صادقاً مع نفسه لنقل لقارئه فتوى واحدة تدل على صحة زعمه ، وأنّى له بهذه الفتوى.

ومن الأدلة على أن هذا الكاتب بعيد عن أجواء الحوزة وأهل العلم أنه ذكر البروجردي المتوفى سنة ١٣٨٠ ه‍ ـ ، مع أنه قدس‌سره لا يُعرَف له الآن مقلّدون ، ولا تُتَداوَل رسالته العملية ، ولا تُعرَف له فتاوى محفوظة عند الناس ، وهو ـ كغيره من العلماء ـ لا يفتي بجواز إعارة فروج الحرائر.

٢٦٨

والظاهر أنه لا يريد بالبروجردي المرجع الديني المشهور السيد حسين البروجردي قدس‌سره ، بل يريد به شخصاً آخر غير معروف ، لأنه وصفه في كلامه الآتي بأنه كان يدير عمليات نشر الفساد في مدينة الثورة (١) ببغداد!!

وأما إعارة الزوجة للضيف فهو كذب فاضح لا يخفى على من تأمَّله.

* * *

قال الكاتب : إن الواجب أن نحذر العوام من هذا الفعل الشنيع ، وأن لا يقبلوا فتاوى السادة بإباحة هذا العمل المقزز الذي كان للأصابع الخفية التي تعمل من وراء الكواليس الدور الكبير في دَسِّهِ في الدين ونَشْرِهِ بين الناس.

وأقول : بما أن كل كلام هذا الكاتب في هذه المسألة لا يعدو كونه أكاذيب مفتراة ، فلا حاجة لتحذير العوام من الانتهاء عن عمل هم منه برآء ، وفطرتهم وغيرتهم تمنعهم منه وتصدهم عنه.

وكما قلنا آنفاً : إنه لا فتاوى في إباحة هذا العمل ولا مُفتون ، والحمد لله رب العالمين.

ولا بأس أن أنبِّه القارئ العزيز إلى أن أهل السنة دأبوا على اختلاق الافتراءات التي تمس العِرْض والشرف ، إمعاناً في الكيد للشيعة والمحاربة لهم ، وهو أسلوب قذر لا يلجأ إليه إلا المبطلون الضعفاء المضعضَعون ، الذين استنفدوا كل أسلحتهم وحُجَجهم ، وتلقوا من خصمهم الضربات الموجعة.

وفي الواقع أن علماء الشيعة قد أبطلوا كل حجج القوم وزيفوا مذاهبهم بالأدلة الواضحة المتينة والحجج الجلية القويمة ، ولم يبْقوا لهم من مذاهبهم قشَّة

__________________

(١) هي أكبر أحياء مدينة بغداد ، وسكنتها أغلبهم من الشيعة ، تأسست في زمن رئيس العراق الأسبق عبد الكريم قاسم.

٢٦٩

يتمسكون بها.

ومن أجل ذلك لجأ بعض علماء أهل السنة وكُتَّابهم إلى اتباع الأساليب القذرة الرخيصة في حربهم مع الشيعة ، فألصقوا بمذهب الشيعة ما شاءوا من الأكاذيب والافتراءات المفضوحة التي لا يخفى بطلانها على من تأمَّلها ، ولا تنطلي إلا على أتباعهم المغفَّلين وغيرهم من الجهَّال بمذهب الشيعة الإمامية.

* * *

قال الكاتب : ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل أباحوا اللواطة [كذا] بالنساء ، وَرَوَوْا أيضاً روايات نسبوها إلى الأئمة سلام الله عليهم ، فقد روى الطوسي عن عبد الله بن أبي اليعفور [كذا] قال : (سألتُ أبا عبد الله رضي الله عنه عن الرجل يأتي المرأة من دبرها. قال : لا بأس إذا رضيت ، قلت : فأين قول الله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله فقال : هذا في طلب الولد ، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله ، إن الله تعالى يقول : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَنَّى شِئْتُم الاستبصار ٣ / ٢٤٣ ...

ثمّ ذكر الكاتب روايتين أخريين في هذه المسألة.

وأقول : بغض النظر عن أسانيد هذه الأحاديث التي فيها ما هو ضعيف السند ، فإن مسألة إتيان النساء من أدبارهن مسألة مختلَف فيها بين العلماء ، وقد وقع الأخذ فيها والرَّد ، فمنَعها مَن منَعها ، وجوَّزها مَن جوَّزها ، وقد ذهب إلى جوازه بعض الصحابة والتابعين وأئمة مذاهب أهل السنة.

قال القرطبي : وممن نُسب إليه هذا القول سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون ، وحُكي ذلك عن مالك في كتاب له يُسمَّى كتاب السر ، وحُذّاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ... وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من

٢٧٠

الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب (جماع النسوان وأحكام القِرَان) ، وقال الكيا الطبري : وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأساً (١).

وقال ابن قدامة في المغني : ورُويت إباحته عن ابن عمر وزيد بن أسلم ونافع ومالك ، وروي عن مالك أنه قال : ما أدركتُ أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال (٢).

ولا بأس بنقل ما ذكره السيوطي في الدر المنثور مع طوله ، فإن فيه فوائد كثيرة.

قال السيوطي : أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وتفسيره والبخاري وابن جرير عن نافع قال : قرأت ذات يوم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال ابن عمر : أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت : لا. قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عمر (فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : في الدبر.

وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق النضر بن عبد الله الأزدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر في قوله (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : إن شاء في قُبُلها ، وإن شاء في دبرها.

وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وأبو نعيم في المستخرج بسند حسن عن ابن عمر قال : إنما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية رخصة في إتيان الدبر.

وأخرج ابن جرير والطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن النجار بسند حسن

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٣ / ٩٣.

(٢) المغني ٨ / ١٣٢.

٢٧١

عن ابن عمر : أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنكر ذلك الناس ، وقالوا : أثفرها. فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية.

وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق أحمد بن الحكم العبدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال : جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكو زوجها ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية.

وأخرج النسائي وابن جرير من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رجلاً أتى امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.)

وأخرج الدارقطني في غرائب مالك من طريق أبي بشر الدولابي ... عن عبد الله بن عمر بن حفص وابن أبي ذئب ومالك بن أنس فرقهم كلهم عن نافع قال : قال لي ابن عمر : امسك على المصحف يا نافع. فقرأ حتى أتى على (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ،) قال لي : أتدري يا نافع فيمَ نزلت هذه الآية؟ قلت : لا. قال : نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها ، فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الآية. قلت له : مِن دُبرها في قُبُلها؟ قال : لا ، إلا في دبرها.

وقال الرفا في فوائده تخريج الدارقطني : نبأنا أبو أحمد بن عبدوس ، نبأنا علي بن الجعد ، نبأنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال : وقع رجل على امرأته في دبرها ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.) قال : فقلت لابن أبي ذئب : ما تقول أنت في هذا؟ قال : ما أقول فيه بعد هذا؟

وأخرج الطبراني وابن مردويه وأحمد بن أسامة التجيبي في فوائده عن نافع قال : قرأ ابن عمر هذه السور ، فمرَّ بهذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية ، فقال : تدري فيمَ أُنزلت هذه الآية؟ قال : لا. قال : في رجال كانوا يأتون النساء في أدبارهن.

٢٧٢

وأخرج الدارقطني ودعلج كلاهما في غرائب مالك من طريق أبي مصعب وإسحاق بن محمد القروي كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه قال : يا نافع أمسك على المصحف. فقرأ حتى بلغ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية ، فقال : يا نافع أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت : لا. قال : نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله الآية.

قال الدارقطني : هذا ثابت عن مالك. وقال ابن عبد البر : الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وأخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.)

وأخرج النسائي والطحاوي وابن جرير والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس ، أنه قيل له : يا أبا عبد الله إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب العبد أو العِلْج على أبي ، فقال مالك : أشهدُ على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له : فإن الحارث ابن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن إنّا نشتري الجواري ، أفنحمض لهن؟ قال : وما التحميض؟ فذكر له الدبر ، فقال ابن عمر : أف أف ، أيفعل ذلك مؤمن؟ أو قال : مسلم؟ فقال مالك : أشهدُ على ربيعة أخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع.

قال الدارقطني : هذا محفوظ عن مالك صحيح.

وأخرج النسائي من طريق يزيد بن رومان عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأساً أن يأتي الرجل المرأة في دبرها.

وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال : كنت عند محمد بن كعب

٢٧٣

القرظي ، فجاءه رجل فقال : ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال : هذا شيخ من قريش فسَلْه. يعنى عبد الله بن علي بن السائب. فقال : قذر ولو كان حلالاً.

وأخرج ابن جرير عن الدراوردي قال : قيل لزيد بن أسلم : إن محمد بن المنكدر نهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد : أشهدُ على محمد لأخبرني أنه يفعله.

وأخرج ابن جرير عن ابن أبي مليكة أنه سُئل عن إتيان المرأة في دبرها ، فقال : قد أردتُه من جارية لي البارحة ، فاعتاصتْ عليَّ ، فاستعنتُ بِدُهن.

وأخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجرجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر ، فقال لي : الساعة غسلتُ رأسي منه.

وأخرج ابن جرير في كتاب النكاح من طريق ابن وهب عن مالك أنه مباح.

وأخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم قال : ما أدركتُ أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال ـ يعني وطء المرأة في دبرها ، ثمّ قرأ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ثمّ قال : فأيُّ شيء أَبْيَنُ من هذا؟

وأخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن الشافعي سُئل عنه ، فقال : ما صحَّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال.

وأخرج الحاكم عن ابن عبد الحكم أن الشافعي ناظَرَ محمد بن الحسن في ذلك ، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج ، فقال له : فيكون ما سوى الفرج محرَّماً؟ فالتزمه فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها ، أفي ذلك حرث؟ قال : لا. قال : أفيحرم؟ قال : لا. قال : فكيف تحتج بما لا تقول به؟ (١)

__________________

(١) الدر المنثور ١ / ٦٣٥ ـ ٦٣٨. وذكر الطبري بعض هذه الأخبار في تفسيره ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، فراجعها.

٢٧٤

قلت : هذه جملة وافرة من أحاديثهم الدالة على جواز إتيان المرأة في دبرها ، منقولة عن بعض الصحابة والتابعين وأئمة مذاهبهم ، وما تركناه أكثر مما نقلناه.

ولا بأس أن نختم الكلام بما ذكره الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ، حيث ذكر أبياتاً من الشعر لهمام القاضي الذي أراد أن يطأ امرأة في دبرها على مذهب الإمام مالك ، فنظم لها رغبته في هذه الأبيات :

ومَذعورةٍ جاءتْ على غيرِ موعدٍ

تقنَّصْتُها والنَّجمُ قد كادَ يطلعُ

فقلتُ لها لما استمرَّ حديثُها

ونفسي إلى أشياءَ منها تَطَلَّعُ

أَبِيْني لنا : هل تُؤمِنين بمالكٍ؟

فإني بِحُبِّ المالكيَّةِ مُولَعُ

فقالتْ : نَعَمْ إني أدينُ بدينِهِ

ومذهبُه عَدلٌ لديَّ ومُقْنِعُ

فبِتْنا إلى الإصباحِ ندعو لمالكٍ.

ونُؤْثرُ فتياهُ احتساباً ونتبعُ (١)

* * *

قال الكاتب : لا شك أن هذه الأخبار معارضة لنص القرآن ، إذ يقول الله تعالى : (وَيَسْأَلُونك عن المحيض قل هو أَذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يَطْهُرْنَ) (البقرة / ٢٢٢) فلو كان إتيان الدبر مباحاً لأمر باعتزال الفرج فقط ولقال (فاعتزلوا فروجَ النساء في المحيض). ولكن لما كان الدبر مُحَرَّما إتيانه أمر باعتزال الفروج والأدبار في محيض النساء بقوله (ولا تقربوهن).

وأقول : على هذا الاستدلال يحرم الاستمتاع بالحائض بأي نحو من أنحاء الاستمتاع ، سواء أكان في الفرج أم في الدبر أم في غيرهما ، وهذا لا يقول به أحد ، وتردّه أقوال علماء أهل السنة الذين يعتقد بهم الكاتب ، فإنهم نصُّوا على أنه يجوز مباشرة الحائض ، ويجب اجتناب خصوص الفرج.

__________________

(١) محاضرات الأدباء ٢ / ٢٦٨ ط دار مكتبة الحياة.

٢٧٥

فقد قال ابن كثير في تفسيره : فقوله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) يعني الفرج ، لقوله : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج. قال أبو داود أيضاً : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً (١).

وقال القرطبي في تفسيره : وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها ...

إلى أن قال : وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي : يجتنب موضع الدم ، لقوله عليه‌السلام : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، وقد تقدَّم ، وهو قول داود ، وهو الصحيح من قول الشافعي ، وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال : سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج. قال العلماء : مباشرة الحائض وهي مُتَّزرة (٢) على الاحتياط والقطع للذريعة ، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك منه ذريعة إلى موضع الدم المحرَّم بإجماع ، فأُمر بذلك احتياطاً ، والمحرَّم نفسه موضع الدم ، فتتَّفق بذلك معاني الآثار ولا تَضادّ (٣).

وقال ابن قدامة في المغني : مسألة : قال ويُستمتَع من الحائض بما دون الفرج ، وجملته أن الاستمتاع من الحائض فيما فوق السُّرَّة ودون الركبة جائز بالنص والإجماع ، والوطء في الفرج محرَّم بهما. واختُلف في الاستمتاع بما بينهما ، فذهب أحمد رحمه‌الله إلى إباحته ، وروي ذلك عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق ، ونحوه قال الحَكَم ، فإنه قال : لا بأس أن تضع على فرجها ثوباً ما لم يدخله. وقال أبو حنيفة

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ١ / ٢٥٨.

(٢) دفع توهم أنه إذا جاز كل شيء إلا خصوص الفرج ما معنى ما ورد في بعض الآثار من أن للرجل من امرأته حال الحيض ما فوق السُّرَّة فقط؟

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٣ / ٨٦ ـ ٨٧.

٢٧٦

ومالك والشافعي : لا يباح ، لما روي عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرني فاتزر ، فيباشرني وأنا حائض. رواه البخاري. وعن عمر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض ، فقال : فوق الإزار.

ولنا قول الله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، والمحيض اسم لمكان الحيض ، كالمقيل والمبيت ، فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه.

إلى أن قال : اللفظ ـ يعني المحيض ـ يحتمل المعنيين ـ يعني الحيض ، ومكان الحيض ، وهو الفرج ـ ، وإرادة مكان الدم أرجح ، بدليل أمرين :

أحدهما : أنه لو أراد الحيض لكان أمراً باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية ، والإجماع بخلافه.

والثاني : أن سبب نزول الآية أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها ، فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت ، فسأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اصنعوا كل شيء غير النكاح. رواه مسلم في صحيحه (١) ، وهذا تفسير لمراد الله تعالى ، ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض ، لأنه يكون موافقاً لهم.

إلى أن قال : وما رووه عن عائشة دليل على حِل ما فوق الإزار لا على تحريم غيره ، وقد يترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض المباح تقذّراً ، كتركه أكل الضب والأرنب ، وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً. ثمّ ما ذكرناه منطوق ، وهو أولى من المفهوم (٢).

وقال الطبري في تفسيره : وعلَّة قائل هذه المقالة قيام الحجة بالأخبار المتواترة

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٢٤٦. صحيح ابن حبان ٤ / ١٩٦. سنن ابن ماجة ١ / ٢١١. مسند أحمد ٣ / ١٣٢.

(٢) المغني لابن قدامة ١ / ٣٨٤.

٢٧٧

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض ، ولو كان الواجب اعتزال جميعهن لما فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما صحَّ ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عُلِم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي المَحِيضِ) هو اعتزال بعض جسدها دون بعض ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قبُلها دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها (١).

وبه يتضح أن المراد باعتزال النساء هو ترك وطئهن في الفرج ، وأما سائر الاستمتاعات فالآية لا تدل على حرمتها ، بل دلَّت على حلّيتها أحاديث صحيحة عندهم ذكرنا بعضاً منها ، وإليك غيرها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف ، فأغسله وأنا حائض (٢).

وأخرج أيضاً بسنده عن عائشة قالت : كنتُ أغتسل أنا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إناء واحد كلانا جُنُب ، وكان يأمرني فأَتَّزِر ، فيباشرني وأنا حائض (٣).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حُيَّض (٤).

وعن عائشة ، قالت : كان إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأتزر بإزار ثمّ يباشرها (٥).

وفي حديث آخر قالت : كان إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٦.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ٦٠٢.

(٣) نفس المصدر ١ / ١١٤.

(٤) صحيح مسلم ١ / ٢٤٣.

(٥) المصدر السابق ١ / ٢٤٢.

٢٧٨

تأتزر في فور حيضتها ، ثمّ يباشرها ، قالت : وأيّكم يملك إِرْبَه (١) كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يملك إربه (٢).

ومنها : ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حضتُ يأمرني أن أتَّزر ، ثمّ يباشرني.

قال الترمذي : حديث عائشة حديث حسن صحيح ، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتابعين ، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق (٣).

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جداً لا حاجة لاستقصائها.

ولو نظرنا إلى فتاوى علماء أهل السنة في هذه المسألة لوجدناها مشتملة على شيء من التفصيل والإيضاح.

فقد روى الدارمي في سننه بسنده عن عبد الله بن عدي ، قال : سألت عبد الكريم عن الحائض ، فقال : قال إبراهيم : لقد علمتْ أم عمران أني أطعن في أليتها. يعني وهي حائض (٤).

وعن إبراهيم ، قال : الحائض يأتيها زوجها في مَرَاقّها (٥) وبين أفخاذها ، فإذا دفق غسلتْ ما أصابها ، واغتسل هو (٦).

__________________

(١) أي حاجته وشهوته ، والمراد : أنه كان أملككم لنفسه ، فيأمن من الوقوع في وطء الحائض في فرجها.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٢٤٢.

(٣) سنن الترمذي ١ / ٢٣٩.

(٤) سنن الدارمي ١ / ٢٥٥.

(٥) قال ابن منظور في لسان العرب (مادة رقق) ١٠ / ١٢٢ : ومراق البطن : أسفله وما حوله مما استرقَّ منه ، ولا واحد لها. التهذيب : والمراق ما سفل من البطن عند الصفاق أسفل السُّرّة.

(٦) سنن الدارمي ١ / ٢٥٩.

٢٧٩

وعن مالك بن مغول ، قال : سأل رجلٌ عطاء عن الحائض ، فلم يرَ بما دون الدم بأساً.

وعن مجاهد قال : لا بأس أن تُؤتَى الحائض بين فخذيها أو في سُرَّتها (١).

وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال : لا بأس أن يلعب على بطنها ، وبين فخذيها (٢).

وعن الحكم قال : لا بأس أن تَضَعَه على الفرج ، ولا تدخله (٣).

وعن الشعبي قال : إذا لفَّتْ على فرجها خرقة يباشرها (٤).

فإذا اتضح كل ما قلناه من أن المراد باعتزال النساء هو ترك وطئهن في الفرج ، يتبيَّن أن باقي الاستمتاعات الأخرى جائزة كما ذهب إليه عامّة الفقهاء.

وأما مسألة الوطء في الدبر فبما أنها مكروهة كراهة شديدة عندنا ، ولا يفعلها إلا الأراذل من الناس ، ومباحة عند بعض علماء أهل السنة ، فلا وجه حينئذ للأمر بها ، ولا معنى للتنصيص على اجتناب خصوص الفرج فقط إلا الحث على إتيان الدبر ، مع أنه لا يصح الحث عليه إلا إذا كان محبوباً للمولى ومستحباً في الشريعة المقدسة ، وهذا لم يقل به أحد.

* * *

قال الكاتب : ثمّ بيّن الله تعالى بعد ذلك من أَين يأتي الرجل امرأته فقال تعالى : (فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ من حيثُ أَمرَكُمُ اللهُ) (البقرة / ٢٢٢).

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٥٦.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ٣ / ٥٢٥.

(٣) سنن الدارمي ١ / ٢٥٩. مصنف ابن أبي شيبة ٣ / ٥٢٤.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٣ / ٥٢٤.

٢٨٠