لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

البكر في الزواج منها :

من ذلك صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام ، قال : البِكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها (١).

وصحيحة أبي مريم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها (٢).

ولهذا قال المحقق الخوئي قدس‌سره : ومن هنا يكون حكم المتعة حكم الزواج الدائم في اعتبار رضا الأب (٣).

ومما قلناه يتضح أنه لا يصح للفتاة أن تتزوج متعة أو دواماً من دون إذن أبيها ، فلا يَرِد كل ما قاله الكاتب من المحاذير.

ثمّ إن ما ذكره الكاتب من المحاذير وارد على فتاوى بعض أئمة مذاهب أهل السنة ، فإن بعضهم لا يشترط الولي في صحة نكاح الفتاة البكر والثيب.

قال ابن رشد في بداية المجتهد :

اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط ، فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بولي ، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة وزُفر والشعبي والزهري : إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤاً جاز. وفرّق داود بين البكر والثيب ، فقال باشتراط الولي في البكر ، وعدم اشتراطه في الثيب. ويتخرج على رواية ابن قاسم عن مالك في الولاية قول رابع : أن اشتراطها سُنّة لا فرض ، وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي ، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلاً من الناس على إنكاحها ، وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ، ليعقد عليها ، فكأنه عنده من شروط

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ٤٥٨.

(٢) المصدر السابق ١٤ / ٤٥٩.

(٣) مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح) ٢ / ٢٦٣.

٢٢١

التمام ، لا من شروط الصحة (١).

قلت : فعلى قول أبي حنيفة وزُفَر والشعبي والزهري ومالك برواية ابن القاسم يجوز للمرأة البكر أن تزوج نفسها بغير إذن وليّها ، فترد كل المحاذير التي ذكرها الكاتب ، فعليه أن يفتي بحرمة النكاح الدائم لما تترتب عليه من المفاسد العظيمة والآثار الخطيرة التي ذكرها.

* * *

قال الكاتب : ٥ ـ إن أغلب الذين يتمتعون ، يُبيحون لأنفسهم التمتع ببنات الناس ، ولكن إذا تقدم أحدٌ لخطبة بناتهم ، أو قريباتهم فأراد أن يتزوجها متعة ، لما وافق ولما رَضِيَ ، لأنه يرى هذا الزواج أشبه بالزنا ، وأن هذا عار عليه ، وهو يشعر بهذا من خلال تمتعه ببنات الناس ، فلا شك أنه يمتنع عن تزويج بناته للآخرين متعة ، أي أنه يبيح لنفسه التمتع ببنات الناس ، وفي المقابل يُحَرِّمُ على الناس أن يتمتعوا ببناته.

إذا كانت المتعة مشروعة ، أو أمراً مباحاً ، فَلِمَ هذا التحرج في إباحة تمتع الغرباء ببناته أو قريباته؟!!

وأقول : أما أن أغلب الذين يتمتعون هكذا يصنعون فهو رجم بالغيب ، وذلك لأنه لا توجد إحصائية موثّقة عند الكاتب تدل على صحة زَعْمه.

ولو سلَّمنا بوقوع مثل ذلك فهذا لا يصلح دليلاً على حرمة هذا النكاح ، وذلك لأن أموراً كثيرة محلَّلة لا يرتضيها الرجل لبناته وأخواته كما تقدَّم الكلام فيه :

منها : تعدد الزوجات ، فإن الرجل يود أن يتزوج الاثنتين والثلاث والأربع ، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته ولا لأخواته.

ومنها : الطلاق ، فإن الرجل قد يطلِّق أهله ، ولا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

__________________

(١) بداية المجتهد ٣ / ٤٤.

٢٢٢

ومنها : أن الرجل قد يلاعن أهله ، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها : أن الرجل ربما يُصِرّ على رؤية من يريد التزويج بها ، ولكنه قد لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها : أن الرجل قد يتزوَّج وهو مريض أو فقير مُعْدم ، ولكنه لا يرتضي لبناته وأخواته أن يزوِّجهن من مريض أو فقير مُعْدم.

ومنها : أن الرجل قد يرغب في أن يتزوج الزواج المسمَّى في السعودية بزواج المِسْيار (١) ، ولكنه قد لا يرتضيه لبناته ولا لأخواته.

ومنها : خدمة النساء ، فإن الموسِر قد يستجلب خادمة تخدم في بيته ، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته ولا لأخواته.

ومنها : توظيف النساء ، فإن صاحب العمل قد يوظِّف بعض النساء للعمل عنده ، ولكنه قد لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها : أن الرجل قد يسترق بعض الإماء ويستمتع بهن ، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها كثير غير ذلك ، فهل يرى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة أن كل تلك الأمور تصبح محرَّمة ، لأن الرجل يرتضيها لنفسه ، ولا يرتضيها لبناته ولا لأخواته؟

ولو سلَّمنا أيضاً أن بعض الذين يتزوَّجون متعةً يأبَون أن يزوِّجوا بناتهم متعةً ، فلعل ذلك من أجل أنهم يودّون تزويج بناتهم وأخواتهم زواجاً دائماً ، فإنه خير لهن من زواج المتعة لما مرَّ بيانه ، أو لعل السبب هو الخشية من المؤاخذات القانونية والشنعة التي قد تحصل للفتاة بسبب ذلك ، أو لعدم تقدّم الكفء بنظر الولي ، أو لعدم

__________________

(١) زواج المسيار هو أن يتزوج الرجل المرأة بصداق وبيِّنة وموافقة الولي ، ولكن الزوجة قد تبقى في بيت أهلها ، وتُسقِط كافة حقوقها من نفقة ومبيت وقسم وغيرها ، إلا أن الزوج (يُسيِّر عليها) أي يطوف بها كل فترة ، ليقضي وطره منها.

٢٢٣

حاجتهن لمثل هذا النكاح ، أو لغير ذلك ، وليس شرطاً أن يكون الرفض بداعي عدم الاعتقاد بحلّية نكاح المتعة كما زعم الكاتب.

* * *

وقال الكاتب : ٦ ـ إن المتعة ليس فيها إشهاد ، ولا إعلان ، ولا رضَى ولي أمر المخطبة ، ولا يقع شيء من ميراث المتَمَتِّع للمُتَمَتَّع بها ، إنما هي مستأجَرة كما نُسِب ذلك القول إلى أبي عبد الله رضي الله عنه ، فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها بين الناس؟

وأقول : إن كل ما شُرط في النكاح الدائم فهو مشترط في نكاح المتعة ، من الإيجاب والقبول ، وبذل المهر ، وتعيين الزوجين ، وتحقق رضاهما ، واعتبار إذن الولي إن كانت الفتاة بكراً ، وألا تكون المرأة ذات بعل أو في عدة من بعل آخر ، فلا فرق من هذه النواحي بين نكاح المتعة والنكاح الدائم ، وهذه الأمور هي المحقِّقة لماهية النكاح.

وأما الإشهاد والإعلان فهو مستحب فيه ، لا مقوِّم لحقيقته ، ولهذا وقع الاختلاف في اشتراط الشهادة على النكاح الدائم وإعلانه.

قال صاحب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة : ولا يصح النكاح إلا بشهادة عند الثلاثة ، وقال مالك : يصح من غير شهادة ، إلا أنه اعتبر الإشاعة وترْك التراضي بالكتمان ، حتى لو عقد في السِّر واشترط كتمان النكاح فُسِخ عند مالك ، وعند أبي حنيفة والشافعي وأحمد : لا يضر كتمانهم مع حضور شاهدين (١).

قلت : إن الثلاثة اعتبروا شهادة شاهدين وإن كان النكاح سِرًّا ، وأما مالك فاعتبر الإعلان فيه وإن كان من غير شهود ، فلم يرَ مالك أن الشهادة شرط صحّة ، ولم يرَ الثلاثة أن الإعلان شرط صحّة.

__________________

(١) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، ص ٣٩٣.

٢٢٤

وقال ابن رشد في بداية المجتهد : وقال أبو ثور وجماعة : ليس الشهود من شرط النكاح ، لا شرط صحّة ولا شرط تمام ، وفعل ذلك الحسن بن علي ، رُوي عنه أنه تزوّج بغير شهادة ، ثمّ أعلن النكاح (١).

وقال ابن قدامة في المغني : وعن أحمد أنه يصح بغير شهود ، وفعله ابن عمر والحسن بن علي وابن الزبير وسالم وحمزة ابنا ابن عمر ، وبه قال عبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون والعنبري وأبو ثور وابن المنذر ، وهو قول الزهري ومالك إذا أعلنوه. قال ابن المنذر : لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر. وقال ابن عبد البر : قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين) من حديث ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر ، إلا أن في نقله ذلك ضعيفاً ، فلم أذكره. قال ابن المنذر : وقد أعتق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفية ابنة حيي فتزوجها بغير شهود. قال أنس بن مالك رضي الله عنه : اشترى رسول الله جارية بسبعة قروش ، فقال الناس : ما ندري أتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم جعلها أم ولد؟ فلما أن أراد أن يركب حَجَبَها ، فعلموا أنه تزوَّجها. متفق عليه. قال : فاستدلوا على تزويجها بالحجاب (٢).

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحكى في البحر عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدي وداود أنه لا يعتبر الإشهاد (٣).

وقال ابن رشد : واختلفوا إذا أشهد شاهدين ، ووُصِّيا بالكتمان ، هل هو سِرّ أو ليس بِسِرّ؟ فقال مالك : هو سِر ويفسخ. وقال أبو حنيفة والشافعي : ليس بِسِر (٤).

قلت : لا ريب في أن النكاح في هذه الحالة لا إعلان فيه مع أنه جائز وصحيح على رأي أبي حنيفة والشافعي وغيرهما ممن لا يرى وجوب الإشهاد في النكاح.

__________________

(١) بداية المجتهد ٣ / ٥٣.

(٢) المغني ٧ / ٣٣٩.

(٣) نيل الأوطار ٦ / ١٢٧.

(٤) بداية المجتهد ٣ / ٥٣.

٢٢٥

وما نقلناه من أقوال أئمة المذاهب وغيرهم كافٍ في التحقق من أن الإشهاد والإعلان ليسا مقوِّمين لحقيقة النكاح ، وأن القول باشتراطهما مرتبط بتمامية الدليل الدال عليهما ، لا لكون الإشهاد مقوِّماً لماهية النكاح.

وأما ما يرتبط برضا الولي فقد قلنا فيما مرَّ إنه لا يحل التزويج بالبكر من دون إذن وليها ، سواء أكان النكاح دواماً أم متعة ، وأما المرأة الثيب فهي تملك نفسها في النكاحين من غير فرق.

وصحة النكاح من غير ولي مسألة اختلف فيها أئمة أهل السُّنة على أقوال.

قال صاحب رحمة الأمة : ولا يصح النكاح عند الشافعي وأحمد إلا بولي ، فإن عقدت المرأة النكاح لم يصح. وقال أبو حنيفة : للمرأة أن تزوِّج نفسها ، وأن توكِّل في نكاحها إذا كانت من أهل التصرف في مالها ، ولا اعتراض عليها إلا أن تضع نفسها في غير كفء ، فيعترض الولي عليها. وقال مالك : إن كانت ذات شرف وجمال ومال يُرغَب في مثلها لم يصح نكاحها إلا بولي ، وإن كانت بخلاف ذلك جاز أن يتولى نكاحها أجنبي برضاها. وقال داود : إن كانت بكراً لم يصح نكاحها إلا بولي ، وإن كانت ثيباً صح (١).

قلت : فعلى قول أبي حنيفة في المرأة الرشيدة ، وداود في المرأة الثيب ، ومالك في غير المرأة ذات الشرف والمال والجمال ، يصح عقد النكاح من غير ولي ، وهذا الاختلاف دليل على أن رضا الولي ليس مقوماً لحقيقة النكاح.

وأما التوارث فلا يدخل أيضاً في حقيقة النكاح ، لحكمهم بصحة النكاح من غير توارث فيه ، ولهذا جوَّزوا التزويج بالكافرة الكتابية ، مع أنهم لم يجوزوا التوارث بين المسلم والكافر ، فلا المسلم يرث الكافر عندهم ، ولا الكافر يرث المسلم.

أما جواز التزويج بالكتابية فقد أجمعوا عليه.

__________________

(١) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، ص ٣٨٨.

٢٢٦

قال ابن قدامة في المغني : وليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حِل حرائر نساء أهل الكتاب. قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرَّم ذلك. وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوَّجوا نساء من أهل الكتاب ، وبه قال سائر أهل العلم (١).

قلت : ويدل عليه قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) (٢).

وأما عدم التوارث بين المسلم والكافر فقد أوضحه ابن قدامة بقوله : أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم ، وقال جمهور الصحابة والفقهاء : لا يرث المسلمُ الكافر. يُروى هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأسامة بن زيد وجابر بن عبد الله ، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاووس والحسن وعمر ابن عبد العزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامة الفقهاء وعليه العمل (٣).

قلت : ومما مرَّ يتّضح أن الزوجة الكافرة لا ترث زوجها المسلم ، وهو لا يرثها أيضاً عندهم ، وأما عندنا فهو يرثها وإن كانت لا ترثه.

وكذلك الحال فيما لو كان الزوجان مملوكين ، فإنهما أيضاً لا يتوارثان ، وذلك لأن المملوك لا يَمْلِك ، فلا يَرث ولا يُورَث.

قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً في أن العبد لا يرث ، إلا ما روي عن ابن مسعود في رجل مات وترك أباً مملوكاً ، يُشترى من ماله ، ثمّ يُعتَق فيَرِث ... ولنا أن فيه نقصاً

__________________

(١) المغني ٧ / ٥٠٠.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٥.

(٣) المصدر السابق ٧ / ١٦٦.

٢٢٧

مَنَعَ كونه موروثاً ، فمَنَعَ كونه وارثاً كالمرتد ...

إلى أن قال : وأجمعوا على أن المملوك لا يُورَث ، وذلك لأنه لا مال له فيورث ، فإنه لا يَمْلِك (١).

هذا كله مضافاً إلى أن نكاح المتعة قد يكون مشتملاً على كل تلك الأمور ، فيكون فيه إشهاد وإعلان ، ويكون فيه توارث ونفقة ومبيت ومباضعة إذا اشترط الزوجان ذلك في العقد ، فيكون حاله حال النكاح الدائم من هذه الجهات ، إلا أنه ينقضي بالمُدة ، والنكاح الدائم ينقضي بالطلاق. وانقضاء المدة ووقوع الطلاق مزيلان للنكاح لا مقوِّمان له كما هو واضح.

وبالنتيجة فإن الزوجين دواماً أو متعةً قد يكون بينهما توارث وقد لا يكون ، وهذا لا ينافي الزوجية ، لأنها غير مبتنية عليه كما هو واضح.

وأما ما قاله الكاتب من أن المرأة المتمتَّع بها مستأجرة كما ورد في الحديث المروي في الكافي والاستبصار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ذكرت له المتعة ، أهي من الأربع؟ فقال : تزوَّجْ منهن ألفاً ، فإنهن مستأجرات (٢).

فتفصيل الجواب فيه أن نقول : إن الكلام في هذه الرواية تارة يكون من ناحية السند وتارة أخرى من ناحية الدلالة :

أما من ناحية السند فالرواية ضعيفة ، فإن من جملة رواتها سعدان بن مسلم ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال (٣).

وأما من ناحية الدلالة فلا إشكال فيها إلا في وصف النساء المتمتعات بأنهن (مستأجرات).

__________________

(١) المصدر السابق ٧ / ١٣١.

(٢) الكافي ٥ / ٤٥٢. الاستبصار ٣ / ١٤٧.

(٣) راجع معجم رجال الحديث للخوئي ٨ / ٩٨ ، ٩٩.

٢٢٨

وهذا الإشكال يندفع بأدنى تأمل ، لأنه لا مانع من إطلاق (المستأجرة) على المرأة المنكوحة بالنكاح الدائم والمنقطع على حد سواء ، ولا سيما بعد التصريح في كتاب الله بإطلاق الأجر على المهر.

قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) (١).

وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (٢).

وقال تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣).

وقال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (٤).

وقال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) (٥).

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية ٥٠.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية ٩.

(٣) سورة النساء ، الآية ٢٤.

(٤) سورة النساء ، الآية ٢٥.

(٥) سورة المائدة ، الآية ٥.

٢٢٩

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن المهر يُسمَّى أجراً.

وبهذا الذي قلناه صرَّح المفسِّرون من أهل السنة في تفاسيرهم.

فقال القرطبي في تفسيره : قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) الاستمتاع التلذذ ، والأجور المهور ، وسُمِّي المهر أجراً لأنه أجر الاستمتاع ، وهذا نص على أن المهر يُسمَّى أجراً ، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع ، لأن ما يقابل المنفعة يُسمَّى أجراً (١).

وقال الطبري في تفسيره : وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأعطوهن مهورهن كما حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : وآتوهن أجورهن : الصداق (٢).

وقال أيضاً : وأما قوله (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فإن الأجر العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها ، وهو المهر كما حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ... عن ابن عباس في قوله (آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني مهورهن (٣).

وقال : في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ :) يعني اللاتي تزوجتهن بصداق مسمى ، كما حدثني محمد بن عمرو ... عن مجاهد قوله : (أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) قال : صدقاتهن (٤).

وقال ابن كثير في تفسيره : وقوله تعالى (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وادفعوا مهورهن بالمعروف (٥).

وقال أيضاً : وقوله تعالى (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن (٦).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٥ / ١٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٩.

(٣) المصدر السابق ٦ / ٦٩.

(٤) المصدر السابق ٢٢ / ٢٠.

(٥) تفسير القرآن العظيم ١ / ٤٧٦.

(٦) المصدر السابق ٢ / ٢٢.

٢٣٠

وقال الإمام الشافعي : فأمر الله عزوجل الأزواج بأن يؤتوا النساء أجورهن وصدقاتهن ، والأجر هو الصداق ، والصداق هو الأجر والمهر ، وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء (١).

وقال البخاري في صحيحه : أجورهن : مهورهن (٢).

وكلماتهم التي صرَّحوا فيها بأن الأجر هو الصداق والمهر لا تكاد تحصى.

ومن المناسب للمقام أن ننقل للقارئ الكريم فتاوى بعض أعلام أهل السنة المتعلقة بالإجارة في النكاح.

١ ـ قال القرطبي في تفسيره : وقال أبو الحسن الكرخي : إنّ عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز ، لقوله تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...) وقال أبو القاسم : ينفسخ قبل البناء ، ويثبت بعده (٣).

ومراده أنه إذا دخل بالمرأة صحَّ العقد وثبت النكاح ، وإن لم يدخل بها انفسخ.

٢ ـ وقال أيضاً : استدل أصحاب الشافعي بقوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح ... وقال علماؤنا في المشهور : ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة : ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد (٤).

قلت : معنى انعقاد النكاح بكل لفظ أنه ينعقد بلفظ الإجارة أو بالهبة أو بالتمليك أو بغيرها ، وعلماء الشيعة لا يصحِّحون هذه الأنكحة ، لأنهم قصروا الصحة على لفظي : زوَّجتُ وأنكحتُ.

٣ ـ أفتى أبو حنيفة بأن الرجل إذا استأجر المرأة للوطء ، ولم يكن بينهما عقد نكاح ، فليس ذلك بزنا ، ولا حدَّ فيه ، والزنا عنده ما كان مطارفة [أي عن رغبة

__________________

(١) أحكام القرآن ١ / ١٩٦.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١٦٨٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٣ / ٢٧٣.

(٤) المصدر السابق.

٢٣١

وميل] ، وأما ما فيه عطاء فليس بزنا (١).

٤ ـ قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم : إذا آجر الرجل الدار لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة ، لم يجز قولاً واحداً ، وبه قال الشافعي ، كما لا يجوز أن يُكْري أمته أو عبده للفجور ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن يؤاجرها لذلك (٢).

وكيف كان فقد اتضح من كل ما قلناه أن المهر يسمَّى أجراً ، فيكون معنى (مستأجرات) في الحديث المزبور : مَمْهُورات ، أي دُفِعتْ لهنَّ المهور التي يُستحَل بها نكاحهن.

وبهذا يتضح أنه لا إشكال في الحديث أصلاً مع أنه ضعيف السند كما قلنا فيما تقدم.

* * *

قال الكاتب : ٧ ـ إن المتعة فتحت المجال أمام الساقطين والساقطات من الشباب والشابات في لصق ما عندهم من فجور بالدين ، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الدين والمتدينين.

وأقول : هذه دعاوى مجردة عن الدليل لا قيمة لها ، وإلا فالساقطون والساقطات لا يحتاجون للمتعة لتبرير ممارستهم للرذيلة ، وكانوا ولا يزالون بعيدين عن تعاليم الدين وأحكامه ، فأي شيء يلصقونه بالدين.

وإذا كان الساقطون والساقطات من الشيعة هكذا يصنعون ، فما يصنع أمثالهم من أهل السنة وغيرهم؟ هل احتاجوا لحكم شرعي لتبرير فعلهم للرذيلة؟ أم أن التبريرات الدينية خاصة بفسقة الشيعة ، وأما فسقة أهل السنة فهم لا يبالون بتبرير فجورهم؟

__________________

(١) المحلى ١٢ / ١٩٦.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ، ص ٢٣٦.

٢٣٢

ولو سلَّمنا بأن الفسقة من الشيعة يتزوجون المتعة التي يعتقدون بحلِّيتها ، فإنهم بلا ريب خير من الساقطين من أهل السنة الذين يُقْدِمون على ارتكاب الزنا المجمع على تحريمه.

واتخاذ نكاح المتعة وسيلة للفجور لا يحرِّم هذا النكاح ، وإلا لحرم النكاح الدائم أيضاً ، وذلك لأن الفسقة وأصحاب المآرب الدنيئة قد اتخذوا النكاح الدائم وسيلة للفجور أيضاً ، فإن بعض النساء قد اتخذنه غطاءً للزنا والإنجاب المحرَّم ، ومن الناس من اتخذه وسيلة للتكسب بالبغاء ... أو لغير ذلك مما هو معروف.

فهل يرى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة تحريم النكاح الدائم للسبب نفسه الذي حرَّم من أجله نكاح المتعة؟!

* * *

قال الكاتب : وبذلك يتبين لنا أضرار المتعة دينياً واجتماعياً وخُلُقياً ، ولهذا حُرِّمَتِ المتعة ، ولو كان فيها مصالح لما حُرِّمَت ، ولكن لما كانت كثيرةَ المفاسد حرمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحرمها أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وأقول : لقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن ما زعمه الكاتب من المفاسد المترتبة على نكاح المتعة بسبب الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعضهم باسم المتعة ، هي بعينها مترتِّبة على النكاح الدائم أيضاً ، إلا أن مثل تلكم الممارسات لا تحرِّم الحلال الذي ثبتت حلّيته بالدليل الصحيح ، وإلا لكانت أكثر الأمور المحلّلة بل العبادات الثابتة كلها محرَّمة ، وهذا لا يقول به أحد.

وقد اتّضح أيضاً أن ما زعمه الكاتب من الاضرار الدينية والاجتماعية والخُلُقية ما هو إلا دعاوى فارغة ، لا تستند إلى دليل ، ولا تنهض بها حجة.

وأما زَعْمه أن تحريم نكاح المتعة كان ناشئاً من وجود المفاسد الدينية

٢٣٣

والاجتماعية والخُلُقية فهو واضح البطلان ، وذلك لأن النزاع معه إنما هو في ثبوت التحريم والنسخ ، وهو لم يثبت بدليل صحيح كما مرَّ بيانه.

ويكفي في دفع ما زعمه الكاتب من مضار نكاح المتعة ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس رضي الله عنه من أنه (لو لا نهي عمر عنها لما زنا إلا شقي) ، وأنها رحمة رحم الله بها أمَّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أن نفس تشريعها دال على ما فيها من المنافع العظيمة والفوائد الكبيرة.

* * *

قال الكاتب : تنبيه : سألتُ الإمام الخوئي عن قول أمير المؤمنين في تحريم المتعة يوم خيبر ، وعن قول أبي عبد الله في إجابة السائل عن الزواج بغير بينة أكان معروفاً على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : إن قول أمير المؤمنين رضي الله عنه في تحريم المتعة يوم خيبر إنما يشمل تحريمها في ذلك اليوم فقط لا يتعدى التحريم إلى ما بعده. أما قول أبي عبد الله للسائل ، فقال الإمام الخوئي : إنما قال أبو عبد الله ذلك تَقِيَّة ، وهذا متفق عليه بين فقهائنا.

وأقول : هذه النقولات لا قيمة لها لعدم وثاقة ناقلها ، مضافاً إلى أن ما نسبه للخوئي كذب مفضوح وافتراء مكشوف لا يخفى حتى على صغار طلبة العلم ، لأنه لا يصدر من فاضل فضلاً عن أستاذ الفقهاء والمجتهدين ، ولا سيما مع وضوح ضعف سند الرواية ومعارضتها للأحاديث الكثيرة المتواترة الناصَّة على حلّية نكاح المتعة كما أوضحناه فيما تقدَّم.

والحديث الآخر مضافاً إلى ضعف سنده فإنا أوضحنا المراد منه فيما مرَّ ، فراجعه إذ لا حاجة لتكرار الكلام فيه.

* * *

٢٣٤

قال الكاتب : قلت : والحق أن قول فقهائنا لم يكن صائباً ، ذلك أن تحريم المتعة يوم خيبر صاحبت تحريم لحوم الحمر الأهلية ، وتحريم لحوم الحمر الأهلية جرى العمل عليه من يوم خيبر إلى يومنا هذا وسيبقى إلى قيام الساعة. فدعوى تخصيص تحريم المتعة بيوم خيبر فقط دعوى مجردة لم يقم عليها دليل ، خصوصاً وأن حرمة لحوم الحمر الأهلية والتي هي قرينة المتعة في التحريم بقي العمل عليها إلى يومنا هذا.

وأقول : إن ما نسبه زوراً لفقهاء الشيعة ليس صحيحاً ، وذلك لأنا نقلنا ما قاله الشيخ الطوسي قدس‌سره في كتابيه التهذيب والاستبصار حول هذا الحديث ، فقد ذكر أنه حديث خرج تقيّة لموافقته للعامة.

وقال الحر العاملي في وسائل الشيعة : حَمَله الشيخ وغيره على التقيّة ، يعني في الرواية ، لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإمامية (١).

وقال الفيض الكاشاني في الوافي : نسبة التقية إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في مثل هذا اللفظ لا يخلو من بُعد ، وإنما يستقيم إذا نُسبت إلى بعض الرواة في وضع الحديث (٢).

هذه هي أقوال علماء الشيعة ، وليس فيها ما نسبه للخوئي قدس‌سره من الهذيان الباطل.

وأما أكل لحوم الحمر الأهلية فهو محلّل عند الإمامية ، وليس بمحرَّم كما ظنَّه مدَّعي الاجتهاد والفقاهة ، وهذه سقطة عظيمة من سقطاته الكثيرة ، وإلا فما كان ليخفى على فقيه أن حلّية أكل لحوم الحمر الأهلية قد ادُّعي فيها الإجماع ، فكيف غابت معرفة مسألة إجماعية عن فقيه مجتهد؟!

وإليك بعضاً من أقوال علماء الطائفة في حلّية أكل لحوم الحمر الأهلية على كراهةٍ.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ٤٤١.

(٢) الوافي ٣ / ٥٥ في أبواب النكاح.

٢٣٥

قال السيد المرتضى قدس‌سره : ومما انفردت به الإمامية وإن كان الفقهاء قد رووا عن ابن عباس رحمه‌الله موافقتها في ذلك تحليل لحوم الحمر الأهلية ، وحرَّمها سائر الفقهاء (١).

وقال الشيخ الطوسي قدس‌سره في كتابه (الخلاف) : يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال ، وإن كان فيها بعض الكراهية إلا أنه ليس بمحظور ، وبه قال ابن عباس في الحمار (٢) ، والحسن البصري في البغال ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، وقالوا : حرام أكلها (٣). دليلنا : إجماع الفرقة ، وأخبارهم (٤). وأيضاً : الأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل. وأيضاً : قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلى قوله (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) (٥) ، فالظاهر أن ما عدا هذه مباح إلا ما أخرجه الدليل (٦).

وقال صاحب الجواهر قدس‌سره : (يكره الخيل والبغال والحمير الأهلية) في الثلاثة ، بل عن الخلاف الإجماع على ذلك ، كما عن الانتصار والغنية أنه من متفردات الإمامية في الأول والثالث ، للأصل والنصوص المستفيضة أو المتواترة أو المقطوع بمضمونها. قال محمد بن مسلم : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فقال :

__________________

(١) الانتصار ، ص ١٩٣.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ٣ / ١٧. المغني لابن قدامة ١١ / ٦٦. الشرح الكبير ١١ / ٦٦. بداية المجتهد ٣ / ٢٥.

(٣) راجع شرح مسلم للنووي ١٢ / ١٦٨ ، ١٣ / ٩١. تحفة الأحوذي ٥ / ٤١٥. عون المعبود ١٠ / ٢٨٦. شرح معاني الآثار ٤ / ٢١٠. أحكام القرآن للجصاص ٣ / ١٧. المبسوط للسرخسي ١١ / ٢٣٢. فتح الباري ٩ / ٥٣٩. المحلى ٦ / ٧٨ ـ ٧٩. المغني لابن قدامة ١١ / ٦٦. الشرح الكبير ١١ / ٦٥. كتاب الأم ٢ / ٢٥١. سبل السلام ٤ / ١٤٦. بداية المجتهد ٣ / ٢٥. رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، ص ٢٥٠.

(٤) راجع الكافي ٦ / ٢٤٥ ، ٢٤٦. التهذيب ٩ / ٤١. الاستبصار ٤ / ٧٣ ـ ٧٤.

(٥) سورة الأنعام ، الآية ١٤٥.

(٦) كتاب الخلاف ٦ / ٨٠.

٢٣٦

حلال ، ولكن الناس يعافونها ... (١).

وقال السيد علي الطباطبائي في رياض المسائل : (ويكره الخيل والحمير والبغل) ولا يحرم بلا خلاف يظهر في الأولين ، بل جعل الحكم في الأخيرين في الانتصار والغنية من متفردات الإمامية ، وعلى الأظهر في الثالث ، وهو الأشهر ، بل عليه عامة من تأخر. وفي الخلاف الإجماع عليه وعلى الأولين أيضاً ، مضافاً إلى الإجماعين المتقدمين ، وهو الحجة ، مضافاً إلى أصالتي البراءة والإباحة المستفادتين من الأدلة القطعية العقلية والنقلية كتاباً وسنة وإجماعاً مستفيضة ، بل متواترة ، وظواهر الصحيحة المستفيضة ، وفيها الصحاح وغيرها (٢).

قلت : يظهر من بعض الأخبار الصحيحة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى الناس عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، لأنها كانت تحملهم يومئذ ، ولم يحرِّمها عليهم.

من هذه الأخبار صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنهما سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، فقال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكلها يوم خيبر ، وإنما نهى عن أكلها ذلك الوقت لأنها كانت حمولة الناس ، وإنما الحرام ما حرَّم الله في القرآن.

وعن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : إن المسلمين كانوا جهدوا في خيبر ، فأسرع المسلمون إلى دوابِّهم ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإكفاء القدور ، ولم يقل : إنها حرام. وكان ذلك إبقاءً على الدواب (٣).

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكل لحوم الحمير ، وإنما نهى عنها من أجل ظهورها ، مخافة أن يفنوها ، وليست الحمير بحرام. ثمّ قرأ هذه الآية (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) إلى

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ / ٢٦٥.

(٢) رياض المسائل ٨ / ٢٣١.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ / ٣٢٣.

٢٣٧

آخر الآية (١).

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر ، وكان الناس احتاجوا إليها (٢).

وعن ابن عباس قال : لا أدري ، إنما نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس ، فكره أن تذهب حمولتهم ، أوْ حرَّمه في يوم خيبر. لحوم الحمر الأهلية (٣). اه

وهذه الأخبار واضحة الدلالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما نهى الناس عن أكل لحوم الحمر الأهلية لحاجتهم يومئذ لظهورها ، ولم يحرِّمها عليهم حرمة تشريعية ، إلا أن بعضهم قد توهَّم أن هذا النهي نهي تحريم ، فأفتى فيها بالحرمة.

ولو تأملنا أحاديث القوم في كتبهم الستة وغيرها التي رَوَوْها عن سائر الصحابة في تحريم الحمر الأهلية لرأيناها ـ رغم كثرتها ـ خالية من ذكر تحريم المتعة يوم خيبر ، باستثناء حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا يدل على أن النهي عن المتعة قد دُسَّ في الحديث دسّاً كما لا يخفى (٤).

ولو سلّمنا بصحَّة الحديث بالنحو الذي رووه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنه لا يراد بالنهي فيه التحريم ، إذ لعل المراد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما نهاهم عن المتعة من أجل أخذ الأهبة لقتال اليهود حذراً من الانشغال عن العدو بمباضعة النساء ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ١٦ / ٣٢٤.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٥٣٨.

(٣) نفس المصدر ٣ / ١٥٣٩.

(٤) راجع صحيح البخاري ٣ / ١٢٨٢ ـ ١٢٨٣. صحيح مسلم ٣ / ١٥٣٧ ـ ١٥٤١. سنن الترمذي ٤ / ٢٥٤. سنن أبي داود ٣ / ٣٥٦. سنن النسائي ٧ / ٢٣٠ ـ ٢٣٣. سنن ابن ماجة ٢ / ١٠٦٤ ـ ١٠٦٦. سنن الدارمي ١ / ٥١٧.

٢٣٨

قال الكاتب : وفوق ذلك لو كان تحريم المتعة خاصًّا بيوم خيبر فقط ، لورد التصريح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسخ تلك الحرمة ، على أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا أن علة إباحة المتعة هي السفر والحرب ، فكيف تحرم في تلك الحرب والمقاتل أحوج ما يكون إليها خصوصاً وأنه في غربة من أهله وما ملكت يمينه ، ثمّ تباح في السلم؟

إن معنى قوله رضي الله عنه أنها حُرِّمَت يوم خيبر أي أنَّ بداية تحريمها كان يوم خيبر ، وأما أقوال فقهائنا إنما هي تلاعب بالنصوص لا أكثر.

وأقول : لقد أجبنا عن ذلك كله فيما مرَّ بما لا مزيد عليه ، فراجعه.

والتلاعب بالنصوص قد صدر ممن يأخذ بعض النصوص ويترك بعضها الآخر ، أو يعمل بالضعيف ، ويترك العمل بالصحيح المجمع عليه ، أو يصرف النصوص عما يراد بها.

* * *

قال الكاتب : فالحق أن تحريم المتعة ولحوم الحمر الأهلية متلازمان ، نزل الحكم بحرمتهما يوم خيبر ، وهو باق إلى قيام الساعة ، وليس هناك من داع لتأويل كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه من أجل إشباع رغبات النفس وشهواتها في البحث الدائم عن الجميلات والفاتنات من النساء للتمتع بهن ، والتلذذ باسم الدين ، وعلى حسابه.

وأقول : لقد أوضحنا المسألة بتمامها فيما تقدَّم ، وقلنا : إن أخبار حلّية لحوم الحمر الأهلية متواترة عندنا ، وكذا أخبار حلّية نكاح المتعة ، وأن النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية إنْ صحَّ ـ إنما كان من أجل الحاجة إلى ظهورها ، فلا أدري لِمَ يتشبَّث هذا الكاتب المدّعي للتشيع بأخبار العامة ويترك روايات أهل البيت عليهم‌السلام ، ويتمسَّك بحديث ضعيف ، ويغض النظر عن الأحاديث المتواترة عنهم عليهم‌السلام؟!

وأما دعواه بأن ابتداء تحريم المتعة هو يوم خيبر ، واستمر التحريم إلى الأبد ،

٢٣٩

فهو قول لا يوافقه عليه أحد ، بل هو مخالف لما اتفق عليه علماء أهل السنة من أن المتعة أُبيحت بعد يوم خيبر ، ثمّ حُرِّمت مراراً ، والأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك عندهم كثيرة.

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن إياس بن سلمة عن أبيه ، قال : رخَّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ، ثمّ نهى عنها (١).

ومنها : ما أخرجه مسلم أيضاً بسنده عن سبرة الجهني ، قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ، ثمّ لم نخرج منها حتى نهانا عنها (٢).

ولا بأس أن أنقل للقارئ الكريم ما حكاه ابن حجر في تلخيص الحبير عن الشافعي في الجمع بين الأخبار الدالة على تحليل المتعة في الوقائع المختلفة وتحريمها ، فإنه قال :

وقد اجتمع من الأحاديث في وقت تحريمها أقوال ستة أو سبعة نذكرها على الترتيب الزماني :

الأول : عمرة القضاء ، قال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عمرو عن الحسن ، قال : ما حلَّت المتعة قط إلا ثلاثاً في عمرة القضاء ، ما حلَّت قبلها ولا بعدها. وشاهده ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سبرة بن معبد ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قضينا عمرتنا قال لنا : ألا تستمتعوا من هذه النساء. فذكر الحديث.

الثاني : خيبر ، متفق عليه عن علي بلفظ : (نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر) ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣. صحيح ابن حبان ٩ / ٤٥٨. وأوطاس هو موضع بين مكة والطائف. مسند أحمد ٤ / ٥٥. سنن الدارقطني ٣ / ٢٥٨. قال البيهقي في سننه الكبرى ٧ / ٢٠٤ : وعام أوطاس وعام الفتح واحد ، فأوطاس وإن كانت بعد الفتح ، فكانت في عام الفتح بعده بيسير ، فما نهى عنه لا فرق بين أن ينسب إلى عام أحدهما ، أو إلى الآخر.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٥.

٢٤٠