لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

* * *

قال الكاتب : وقوله تعالى : (ومَن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) وقوله تعالى (ولا ينفعُكم نُصْحِي إن أردتُ أَنْ أنصح لكم) نزلتا فيه ص ٥٢ ـ ٥٣.

وأقول : هذه الرواية أيضاً ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها جعفر بن معروف ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال الخوئي في معجم رجال الحديث : إن من ترجمه الشيخ ويروي عنه الكشي كثيراً لم تثبت وثاقته ، فإن الوكالة لا تلازم الوثاقة على ما تقدم في المدخل ، واعتماد الكشي عليه لا يثبت الوثاقة أيضاً ... (١).

وعليه فهذه الرواية ساقطة أيضاً.

* * *

قال الكاتب : وروى الكشي أيضاً أن أمير المؤمنين رضي الله عنه دعا على عبد الله بن العباس وأخيه عُبَيْد الله فقال : (اللهم العن ابنَيّ فلان ـ يعني عبد الله وعبيد الله ـ واعم أبصارَهُمَا كما عَميَتْ قلوبُهما الاجلين في رقبتي ، واجعل عَمَى أبصارهما دَليلاً على عَمَى قلوبهما) ص ٥٢.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها محمد بن سنان ، وهو ضعيف على المشهور.

فقد ضعفه النجاشي في رجاله حيث قال : وهو رجل ضعيف جداً ، لا يعوَّل عليه ، ولا يُلتفَت إلى ما تفرَّد به.

وقال الشيخ : محمد بن سنان مطعون عليه ، ضعيف جداً ، وما يستبد بروايته

__________________

(١) معجم رجال الحديث ٤ / ١٣٢.

١٦١

ولا يشركه فيه غيره لا يُعمل عليه.

وقال المفيد في رسالته العددية : ومحمد بن سنان مطعون فيه ، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه ، وما كان هذا سبيله لا يُعمل عليه في الدين.

وقال المحقق الخوئي : ولو لا أن ابن عقدة والنجاشي والشيخ والشيخ المفيد وابن الغضائري ضعَّفوه وأن الفضل بن شاذان عدَّه من الكذابين ، لتعيّن العمل برواياته ، ولكن تضعيف هؤلاء الأعلام يصدّنا عن الاعتماد عليه والعمل برواياته (١).

هذا مضافاً إلى أن الرواية لم يرد فيها (يعني عبد الله وعبيد الله) ، وإنما هي استظهار من الكاتب ، ولعل اللعن لغيرهما ، وإدراج الكشي للرواية تحت عنوان عبد الله بن عباس اجتهاد منه ، ولعل المراد غير ابني العباس.

هذا مع أن الرواية اشتملت على عبارة مشوشة وهي قوله (الأجلين في رقبتي) ، وهي كلمة لا يُعرف لها معنى ، وهو تشويش يوهن الرواية ويمنعنا من العمل بها.

وعلى كل حال فإنا لو سلَّمنا بصحة كل تلك الروايات القادحة في عبد الله بن عباس ، فإن دواوين أهل السنة وصحاحهم مملوءة بذكر ما شجر بين الصحابة من سُباب وشتم وحرب مما لا يخفى على أحد.

فما بالهم لم يعتبروا رواية تلكم الأحاديث في كتبهم طعناً في أهل السنة ، واعتبروا نقل أمثال هذه الروايات في الكتب الشيعية طعناً في الشيعة ، مع أن بعض تلك الروايات مروية عن طاوس الذي هو من رواة أهل السنة.

هذا مع أن الكاتب لو كان مجتهداً وكان منصفاً كما يزعم لعلم أن منهج الكشي رحمه‌الله في رجاله هو ذِكْر الأخبار المادحة والقادحة المنقولة في رواة الأحاديث ، وأما الترجيح بينها أو قبول بعضها وطرح بعضها الآخر فهو وظيفة الفقيه ، ولا يلزم من

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٦ / ١٦٠.

١٦٢

رواية أمثال هذه الأخبار الطعن في الكشي خاصة أو في الشيعة عامة ، وهو معلوم لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ولو كان عند الكاتب أدنى معرفة بتمييز الأخبار ومعرفة الغث منها والسمين لعلم أن الأخبار المروية في ابن عباس كلها من الأحاديث الواهية الضعيفة كما أوضحنا بعضها ، وكما نص عليه بعض أعلام المذهب.

فقد قال السيد أحمد بن طاوس : وقد روى صاحب الكتاب [يعني الكشي] أخباراً شاذة ضعيفة تقتضي قدحاً أو جرحاً ، ومثل الحبْر [يعني ابن عباس] رضوان الله عليه موضع أن يحسده الناس وينافسوه ويقولوا فيه ويباهتوه :

حسَدُوا الفتَى إذْ لم يَنالوا فضلَه

فالناسُ أعداءٌ له وخصومُ

كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجْهِها

حسَداً وبَغْياً : إنَّه لدميمُ.

ثمّ ذكر تلك الأحاديث وبيَّن ضعفها ثمّ قال : هذا الذي رأيت ، ولو ورد في مثله ألف حديث يُنقل أمكن أن يعرض للتهمة ، فكيف مثل هذه الروايات الواهية الضعيفة الركيكة (١). وقال التفرشي في نقد الرجال : وما ذكره الكشي من الطعن فيه ـ أي في ابن عباس ـ ضعيف السند (٢).

وقال المحقق الخوئي بعد أن ضعف جملة من الروايات القادحة فيه : هذه الرواية وما قبلها من طرق العامة ، وولاء ابن عباس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه‌السلام هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التُّهَم والطعون عليه (٣).

ثمّ ما بال القوم كفَّروا والدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجداده الطاهرين ، كما كفَّروا أبا

__________________

(١) التحرير الطاووسي ، ص ١٥٩ ، ١٦٣.

(٢) نقد الرجال ٣ / ١١٨.

(٣) معجم رجال الحديث ١٠ / ٢٣٨.

١٦٣

طالب عليه‌السلام ، وهو عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكافله وحاميه وناصره ، ولم يروا في ذلك بأساً ولا غضاضة مع وضوح الدلائل على إيمانهم ، وطعنوا في الشيعة من أجل روايات ضعيفة ظاهرها الطعن بما لا يستوجب كفراً في العباس بن عبد المطلب ، أو في ابنه عبد الله؟!

ولعمري إنهم إذا أرادوا أن يراعوا حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمِّه العباس وابنه فمراعاته في والديه وأجداده وعمِّه أبي طالب عليهم‌السلام أولى.

* * *

قال الكاتب : وروى ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في الفروع عن الإمام الباقر قال في أمير المؤمنين : (وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام ، عباس وعقيل).

وأقول : أما أنهما ضعيفان فهو معلوم من حالهما ، فلم يُعرف لهما موقف في حرب أو في سلم يدل على قوة أو شجاعة ، لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، وأهل السنة قد رووا أنهما أُخرجا مع المشركين إلى بدر مُكرَهين (١) ، وحسبك هذا دليلاً على ضعفهما.

وأما أنهما ذليلان فلعل المراد بذلك هو ذلّهما لما أُسِرا يوم بدر مع من أُسِر من المشركين (٢).

وأما أنهما حديثا عهد بالإسلام فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أن العباس أسلم قبل فتح خيبر وأظهر إسلامه يوم فتح مكة (٣) ، وذكر أن إسلام عقيل كان قبل

__________________

(١) أما خروج العباس مكرهاً فذُكر في أسد الغابة ٣ / ١٦٣ ، والإصابة ٣ / ٥١١ ، والاستيعاب ٢ / ٨١٢ ، وسير أعلام النبلاء ٢ / ٩٦. وأما خروج عقيل فراجعه في سير أعلام النبلاء ١ / ٢١٨ ، ٣ / ٩٩. وأسد الغابة ٤ / ٦١. والاستيعاب ٣ / ١٠٧٨. والمنتظم ٥ / ٢٣٦.

(٢) أسد الغابة ٣ / ١٦٥. الاستيعاب ٢ / ٨١١.

(٣) الاستيعاب ٢ / ٨١٢.

١٦٤

الحديبية (١).

وقال ابن حجر : تأخَّر إسلامه [يعني عقيلاً] إلى عام الفتح.

وجعل إسلامه بعد الحديبية قولاً (٢).

* * *

قال الكاتب : إن الآيات الثلاث التي زعم الكشي أنها نزلت في العباس معناها الحكم عليه بالكُفر والخلود في النار يوم القيامة ، وإلا فقل لي بالله عليك ما معنى قوله : (فهو في الآخرة أعمى وأَضَلُّ سبيلا)؟

وأقول : لقد أوضحنا فيما تقدَّم ضعف الحديث سنداً ، وأنه لا يصح الاحتجاج به ، وإطالة الكلام فيه مضيعة للوقت.

ثمّ إن الكشي لم يقل : (إن الآيات نزلت في العباس وابنيه) كما زعم الكاتب ، وإنما روى ذلك بسنده عن طاوس والزهري والشعبي وغيرهم ، فلعل الزاعم هو هؤلاء الذين هم من أهل السنة!! أو غيرهم ... من يدري؟؟

* * *

قال الكاتب : وأما أَنّ أمير المؤمنين رضي الله عنه دعا على ولدي العباس عبد الله وعبيد الله باللعن وعمى البصر وعَمَى القلب فهذا تكفير لهما.

وأقول : لقد أوضحنا فيما تقدَّم أن الرواية ضعيفة السند ، فالكلام فيها هدر للوقت بلا فائدة ، وأوضحنا أنه لم يرد في الحديث ذكر للعباس وابنيه ، فلو سلَّمنا بصحة الحديث فلعل المراد غيرهما ممن يستحق اللعن ، والله العالم.

__________________

(١) نفس المصدر ٣ / ١٠٧٨.

(٢) الإصابة ٤ / ٤٣٨.

١٦٥

* * *

قال الكاتب : إن عبد الله بن العباس تلَقِّبُه العامة ـ أهل السنة ـ بترجمان القرآن وحَبْرُ الأُمة ، فكيف نلعنه نحن ، ونَدَّعِي محبةَ أهلِ البيتِ عليهم‌السلام؟!!

وأقول : ومن قال لمدَّعي الاجتهاد والفقاهة أن الشيعة يلعنون عبد الله بن عباس؟

ولا أدري لِمَ نسب للشيعة قاطبة لعن ابن عباس بسبب وجود روايات ضعيفة السند في أحد كتبهم ، مع أن كلمات علماء الشيعة في مدح ابن عباس لا تخفى على من يرى في نفسه الاجتهاد ، وهي أشهر من أن تذكر ، وإليك بعضاً منها :

١ ـ قال العلامة الحلي في رجاله : عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان محبّا لعلي عليه‌السلام وتلميذه ، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه‌السلام أشهر من أن يخفى ، وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً فيه ، وهو أجل من ذلك ، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير ، وأجبنا عنها ، رضي الله تعالى عنه (١).

٢ ـ وقال ابن داود في رجاله : عبد الله بن العباس (ل ي) (٢) رضي الله عنه ، حاله أعظم من أن يشار إليه في الفضل والجلالة ومحبة أمير المؤمنين عليه‌السلام وانقياده إلى قوله (٣).

٣ ـ وقال السيد أحمد بن طاوس في كتابه حل الإشكال : عبد الله بن العباس رضوان الله عليه حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام والموالاة والنصرة له والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة مما لا شبهة فيه (٤).

__________________

(١) رجال العلامة ، ص ١٠٣.

(٢) يعني من أصحاب رسول الله وأصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) رجال ابن داود ، ص ١٢١.

(٤) التحرير الطاووسي ، ص ١٥٩.

١٦٦

٤ ـ وقال السيد علي خان الشيرازي في الدرجات الرفيعة : الذي أعتقده في ابن عباس رضي الله عنه أنه كان من أعظم المخلصين لأمير المؤمنين وأولاده ، ولا شك في تشيّعه وإيمانه ، وستقف على ما نذكره من أخباره على ما تحقق معه ذلك إن شاء الله تعالى (١).

٥ ـ وقال الحر العاملي في خاتمة وسائل الشيعة : عبد الله بن العباس ، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه‌السلام أشهر من أن يخفى ، وقد روي فيه قدح ، وهو أجل من ذلك (٢).

٦ ـ وقال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث : والمتحصل مما ذكرنا أن عبد الله بن عباس كان جليل القدر مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام كما ذكره العلّامة وابن داود (٣).

إلى غير ذلك مما لا يسعنا ذكره من كلمات أعلام الشيعة الإمامية قدَّس الله أسرارهم ، التي تصدح بمدح عبد الله بن عباس والثناء عليه ، وتبطل ما قاله الكاتب من تكفير الشيعة له ولعنهم إياه.

* * *

قال الكاتب : وأما عقيل رضي الله عنه فهو أخو أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فهل هو ذليل ، وحديث عهد بالإسلام؟!

وأقول : أما أخوّته لأمير المؤمنين عليه‌السلام فلا يشك فيها أحد ، وأما كونه ذليلاً وحديث عهد بالإسلام فلعله لما قلناه فيما تقدم ، فلا حاجة لإعادته.

__________________

(١) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ، ص ١٠١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٣٩.

(٣) معجم رجال الحديث ١٠ / ٢٣٩.

١٦٧

ثمّ إن أهل السنة رووا من الطعن في عقيل ما هو أكثر من ذلك ، فقد أخرج ابن عبد البر في (الاستيعاب) حديثاً عن ابن عباس جاء فيه قوله : كان عقيل أكثرهم ذِكْراً لمثالب قريش ، فعادوه لذلك ، وقالوا فيه بالباطل ، ونسبوه إلى الحمق ، واختلقوا عليه أحاديث مزوَّرة ، وكان مما أعانهم على ذلك مغاضبته لأخيه عليّ ، وخروجه إلى معاوية ، وإقامته معه ، ويزعمون أن معاوية قال يوماً بحضرته : هذا لو لا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه. فقال عقيل : أخي خير لي في ديني ، وأنت خير لي في دنياي ، وقد آثرتُ دنياي ، وأسأل الله تعالى خاتمة الخير (١).

ولا ريب في أن إقراره بأنه آثر دنياه على آخرته أشد في الطعن فيه من وصفه بأنه ضعيف أو ذليل أو حديث عهد بالإسلام.

* * *

قال الكاتب : وأما الإمام زين العابدين علي بن الحسين فقد روى الكليني : أن يزيد بن معاوية سأله أن يكون عبداً له ، فرضي رضي الله عنه أن يكون عبداً ليزيد إذ قال له : (قد أقررتُ لك بما سألتَ ، أنا عبدٌ مُكْرَهٌ فإن شِئتَ فَأمْسِكْ وإن شِئتَ فَبعْ) الروضة من الكافي في ٨ / ٢٣٥.

فانظر قوله وانظر معناه : (قد أقررتُ بأني عبد لك ، وأنا عبد مكره ، فإن شئت فابقني عبداً لك وإن شئت أن تبيعني فَبِعني) فهل يكون الإمام رضي الله عنه عبداً ليزيد يبيعه متى شاء ، وَيُبقي عليه متى شاء؟

وأقول : نص الحديث بكامله كما رواه الكليني هو : ابن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن بريد بن معاوية قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج ، فبعث إلى رجل من قريش ، فأتاه فقال له يزيد : أتُقِرُّ لي أنك

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ١٠٧٩. سير أعلام النبلاء ٣ / ١٠٠.

١٦٨

عبد لي ، إن شئت بِعتُك وإن شئتُ استرقيتُك؟ فقال له الرجل : والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً ، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام ، وما أنت بأفضل مني في الدين ، ولا بخير مني ، فكيف أقرّ لك بما سألت؟ فقال له يزيد : إن لم تقرّ لي والله قتلتك. فقال له الرجل : ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليهما‌السلام ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأمر به فقُتل. ثمّ أرسل إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام فقال له مثل مقالته للقرشي ، فقال له علي بن الحسين عليهما‌السلام : أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلتَ الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله : بلى. فقال له علي بن الحسين عليهما‌السلام : قد أقررتُ لك بما سألت ، أنا عبد مُكْرَه ، فإن شئتَ فأمسك ، وإن شئتَ فَبِعْ. فقال له يزيد لعنه الله : أولى لك حقنتَ دمك ، ولم ينقصك ذلك من شرفك (١).

وهذا الحديث ضعيف السند ، فإن من جملة رواته أبا أيوب ، وهو أبو أيوب الخزاز (إبراهيم بن زياد) ، وهو مجهول ، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية لا يصح الاعتماد عليها.

مضافاً إلى أن الرواية تنص على أن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج ، وهذا خلاف ما عليه المؤرّخون من أنه لم يخرج من الشام مدة خلافته ، ولم يأت للمدينة حاجّاً ، وهذا يوهن الرواية ، بل يُسقطها من رأس.

قال المجلسي قدس‌سره في بحار الأنوار : ثمّ اعلم أن في هذا الخبر إشكالاً ، وهو أن المعروف في السِّيَر أن هذا الملعون لم يأتِ المدينة بعد الخلافة ، بل لم يخرج من الشام حتى مات ودخل النار (٢).

ولو سلَّمنا بصحَّة الخبر فهذا الفعل غير مستبعَد من يزيد بن معاوية ، فقد روى الواقدي كما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية أن مسلم بن عقبة دخل المدينة ، فدعا

__________________

(١) الروضة من الكافي ، ص ١٩٦ حديث ٣١٣.

(٢) بحار الأنوار ٤٦ / ١٣٨.

١٦٩

الناس لبيعة يزيد على أنهم خِوَل (١) ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (٢).

وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة مسلم بن عقبة : وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة ، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتى سمَّوه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك ، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ، ثمّ رفع القتل ، وبايع من بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية (٣).

وجاء في تاريخ الطبري أنه أُتي بيزيد بن وهب بن زمعة ، فقال له مسلم بن عقبة : بايعْ. قال : أبايعك على سُنّة عمر. قال : اقتلوه. قال : أنا أبايعك. قال : لا والله ، لا أقيلك عثرتك. فكلّمه مروان بن الحكم لصهر كان بينهما ، فأمر بمروان فوُجئتْ عنقه ، ثمّ قال : بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية. ثمّ أمر به فقُتِل (٤).

وقال : فدخل مسلم بن عقبة المدينة ، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد ابن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (٥).

وقال خليفة بن خياط في تاريخه : ودخل مسلم بن عقبة المدينة ، ودعا الناس إلى البيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية ، يحكم في أهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء ، حتى أتي بعبد الله بن زمعة ، وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفيّا له ، فقال : بايع على أنك خول لأمير المؤمنين ، يحكم في دمك وأهلك ومالك. قال : أبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين ، يحكم في دمي وأهلي ومالي. فقال : اضربوا عنقه. فوثب مروان فضمَّه إليه ، وقال : يبايعك على ما أحببت. قال : والله لا أقيلها إياه أبداً. وقال : إن

__________________

(١) خول : عبيد وخدم.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٢٢٥.

(٣) الإصابة ٦ / ٢٣٢.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٥) المصدر السابق ٤ / ٣٨١.

١٧٠

تنحَّى وإلا فاقتلوهما جميعاً. فتركه مروان ، فضُربت عنق ابن زمعة (١).

وذكر هذه البيعة أيضاً ابن الأثير في الكامل ، وابن الجوزي في المنتظم وغيرهما (٢).

قلت : فإذا كان الحال هكذا فهل يريد الكاتب من الإمام زين العابدين سلام الله عليه أن يرفض ما قاله يزيد أو مسرف بن عقبة ، فتضرب عنقه؟!

ومنه يُعلَم أن صدور ذلك لو صحَّ الحديث عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام لا إشكال فيه ولا شبهة ، ولا يصح توجيه الطعن للشيعة لوجود مثل هذه الرواية ، وإلا فالطعن في أهل السنة أولى وأشد ، لأنهم رووا أن بقية المهاجرين والأنصار بايعوا يزيد على أنهم عبيد ليزيد ، يحكم في دمائهم وأموالهم ونسائهم ما يشاء.

* * *

قال الكاتب : إذا أردنا أن نستقصي ما قيل في أهل البيت جميعاً فإن الكلام يطول بنا إِذْ لم يسلم واحد منهم من كلمة نابية ، أو عبارة قبيحة ، أو عمل شنيع ، فقد نُسبَتْ إليهم أعمال شنيعة كثيرة ، وفي أُمهات مصادرنا ، وسيأتيك شيء من ذلك في فصل قادم.

وأقول : قد اتضح للقارئ الكريم وسيتضح أن كل ما يذكره الكاتب لا يخلو من أحد ثلاثة أمور :

إما أنه مروي برواية ضعيفة لا يعوَّل عليها ، ولا يُحتَج بها.

وإما أن الكاتب فسَّره بغير المراد منه ، وحمَّله من معنى لا يحتمله اللفظ.

وإما أنه يعتبر ما لا طعن فيه طعناً ، كالقول بالمتعة والتقية.

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط ١ / ٢٣٨.

(٢) الكامل ٤ / ١١٨. المنتظم ٦ / ١٥.

١٧١

وسيأتي مزيد بيان في ذلك إن شاء الله تعالى.

* * *

قال الكاتب : اقرأ معي هذه الرواية :

عن أبي عبد الله رضي الله عنه : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينام حتى يُقَبِّلَ عرض وجه فاطمة) بحار الأنوار ٤٣ / ٤٤.

(وكان يَضعُ وجهَه بين ثَدْيَيْها) بحار الأنوار ٤٣ / ٧٨.

وأقول : الروايات المشار إليها روايات ضعيفة مرسلة ، ذكرها المجلسي في البحار من غير أسانيد.

ولو سلَّمنا بصحَّتها فهي لا تنافي الآداب ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان يقبّلها تقبيل أبوَّة ومحبَّة وإجلال ، وليس تقبيل شهوة ولذة ، وهذا لا محذور فيه.

وأما المراد بوضع الوجه بين الثديين فهو وضعه على الصدر فوق الثديين وأسفل العنق ، لا على نفس الثديين.

هذا مع أن أكثر علماء أهل السنة يجوِّزون تقبيل الولد والبنت في أي موضع منهما ما عدا العورة.

قال ابن حجر : قال ابن بطال : يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه ، وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة ، وتقدم في مناقب فاطمة عليها‌السلام أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبِّلها ، وكذا كان أبو بكر يقبِّل ابنته عائشة (١).

* * *

قال الكاتب : إن فاطمة سلام الله عليها امرأة بالغة فهل يعقل أن يضع رسول

__________________

(١) فتح الباري ١٠ / ٣٥٠.

١٧٢

الله وجهه بين ثدييها؟!

وأقول : لقد أوضحنا المراد بوضع الوجه بين الثديين ، ولا محذور أن يضع الوالد الرحيم الشفيق وجهه على صدر ابنته محبَّة ورحمة وإجلالاً.

ولا ندري هل اطّلع الكاتب على الروايات التي رواها أهل السنة في تقبيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته الزهراء عليها‌السلام أم لا؟! فإنها لا تقل في مضمونها عن هذه الروايات ، بل ربما زادت.

فقد روى محب الدين الطبري في (ذخائر العقبى) روايات مختلفة في هذا الباب ، فقال :

ذكر ما جاء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبِّلها في فيها ويمصها لسانه :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ما لك إذا قبَّلت فاطمة جعلتَ لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلاً؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه لما أُسري بي أدخلني جبريل الجنة ، فناولني تفاحة فأكلتها ، فصارت نطفة في ظهري ، فلما نزلت من السماء واقعت خديجة ، ففاطمة من تلك النطفة ، كلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبَّلتها. خرجه أبو سعد في شرف النبوة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر القبل لفاطمة ، فقالت له عائشة : إنك تكثر تقبيل فاطمة! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن جبريل ليلة أسرى بي أدخلني الجنة ، فأطعمني من جميع ثمارها ، فصار ماءً في صلبي ، فحملت خديجة بفاطمة ، فإذا اشتقت لتلك الثمار قبَّلت فاطمة ، فأصبت من رائحتها جميع تلك الثمار التي أكلتها. خرجه أبو الفضل بن خيرون.

وعنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا جاء من مغزاه قبَّل فاطمة ، خرجه ابن السرى.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبَّل يوماً نحر فاطمة. خرجه الحربي ، وخرجه الملا في سيرته ، وزاد : فقلت له : يا رسول الله فعلت شيئاً لم تفعله؟ فقال : يا

١٧٣

عائشة إني إذا اشتقتُ إلى الجنة قبَّلتُ نحر فاطمة (١). انتهى.

وأخرج الحاكم في المستدرك عن سعد بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة ، فأكلتها ليلة أُسري بي ، فعلقتْ خديجة بفاطمة ، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممتُ رقبة فاطمة (٢).

وفي حديث آخر رواه الحاكم بسنده عن أبي ثعلبة جاء فيه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد ، فصلى فيه ركعتين ، ثمّ ثنى بفاطمة رضي الله عنها ، ثمّ يأتي أزواجه ، فلما رجع خرج من المسجد تلقَّتْه فاطمة عند باب البيت تلثم فاه ... (٣).

قال المناوي في فيض القدير : وكانت فاطمة من فضلاء الصحابة وبلغاء الشعراء ، وكانت أحب أولاده إليه ، وإذا قدمت عليه قام إليها وقبَّلها في فمها (٤).

وقال أيضاً : (كان ـ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كثيراً ما يقبِّل عُرْف) ابنته (فاطمة) الزهراء ، وكان كثيراً ما يقبلها في فمها أيضاً. زاد أبو داود بسند ضعيف : ويمص لسانها (٥).

فما يقول الكاتب في مص اللسان وتقبيل النحر وشمِّه ولثم الفم ، هل هو جائز عنده أم أنه لا يجوز؟!

هذا مع أن أهل السنة رووا في كتبهم عن عائشة أموراً منكرة لا أدري لما ذا تعامى الكاتب عنها.

منها : ما أخرجه أبو داود في سننه ، وأحمد في مسنده ، والبيهقي في سننه الكبرى

__________________

(١) ذخائر العقبى ، ص ٣٦.

(٢) المستدرك ٣ / ١٥٦ ط حيدرآباد ، ٣ / ١٦٩ ط محققة. الدر المنثور ٥ / ٢١٨.

(٣) المستدرك ٣ / ١٥٦ ط حيدرآباد ، ٣ / ١٦٩ ط محققة.

(٤) فيض القدير ١ / ١٠٥.

(٥) المصدر السابق ٥ / ١٧٤.

١٧٤

عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها (١).

وقال الزرقاني : وللبيهقي عنها ـ أي عن عائشة ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبِّلها وهو صائم ويمص لسانها. وفيه جواز الإخبار عن مثل هذا مما يجري بين الزوجين على الجملة للضرورة ، وأما في حال غير الضرورة فمنهي عنه (٢).

بل إنهم رووا ما هو أعظم من ذلك ، فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : رأيتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرَّج فخذي الحسين وقَبَّلَ زُبَيْبته (٣).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه الطبراني ، وإسناده حسن (٤).

وأخرج البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء الحسن ، فأقبل يتمرَّغ عليه ، فرفع عن قميصه ، وقبَّل زُبَيْبته (٥).

فما ذا يقول الكاتب في أمثال هذه الروايات التي رووها في كتبهم؟!

* * *

قال الكاتب : فإذا كان هذا نصيب رسول الله صلوات الله عليه ونصيب فاطمة ، فما نصيب غيرهما؟

لقد شَكُّوا في الإمام محمد القانع هل هو ابن الرِّضا أم أنه ابن (.........). اقرأ معي هذا النص :

__________________

(١) سنن أبي داود ٢ / ٣١٢. السنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٢٣٤. مسند أحمد ٦ / ١٢٣ ، ٢٣٤.

(٢) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ٢ / ٢١٩.

(٣) الأحاديث المختارة ٩ / ٥٥٥. المعجم الكبير ٣ / ٤٥ ، ١٢ / ١٠٨. الإصابة ١ / ٦١١. ذخائر العقبى ، ص ٢٢١. سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٥٣. إلا أن فيه الحسن بدل الحسين.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٨٦.

(٥) السنن الكبرى للبيهقي ١ / ١٣٧.

١٧٥

عن علي بن جعفر الباقر [كذا] أنه قيل للرضا رضي الله عنه :

(ما كان فينا إمام قط حائل اللون ـ أي تغير واسوَد ـ فقال لهم الرضا رضي الله عنه : هو ابني ، قالوا : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قضى بالقافة ـ مفردها قائف وهو الذي يعرف الآثار والأشباه ويحكم بالنّسب ـ فبيننا وبينك القافة ، قال ابعثوا أنتم إليه ، فأما أنا فلا ، ولا تعلموهم : لِمَ دعوتُهم وَلْتكَونوا في بيوتكم.

فلما جاءوا أقعدونا في البستان ، واصطف عمومته واخوته وأخواته ، وأخذوا الرضا رضي الله عنه ، وألبسوه جبة صوف ، وقلنسوة منها ، ووضعوا على عنقه مسحاة ، وقالوا له : ادخل البستان كأنك تعمل فيه ، ثمّ جاءوا بأبي جعفر رضي الله عنه ، فقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبيه ، فقالوا : ليس له هاهنا أب ، ولكن هذا عم أبيه ، وهذا عمه ، وهذه عمته ، وإن يكن له هاهنا أب فهو صاحب البستان ، فإن قَدَمَيْه وقدميه واحدة ، فلما رجع أبو الحسن قالوا : هذا أبوه) أصول الكافي ١ / ٣٢٢.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي ، وهو مجهول ، لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية ساقطة ، لا يصح الاحتجاج بها في شيء.

على أن في الرواية جهات من الإشكال كثيرة.

قال المحقق الخوئي قدس‌سره : يرد على الرواية وجوه :

الأول : أنها ضعيفة السند.

الثاني : أنها مخالفة لضرورة المذهب ، فإنها اشتملت على عَرْض أخوات الإمام وعمَّاته على القافة ، وهو حرام لا يصدر من الإمام عليه‌السلام. وتوهم أن ذلك من جهة الاضطرار ، وهو يبيح المحظورات ، توهم فاسد ، إذ لم تتوقف معرفة بنوة الجواد للرضا عليه‌السلام على إحضار النساء.

الثالث : أن الجماعة الذين بغوا على الرضا عليه‌السلام لينفوا بنوة الجواد عليه‌السلام عنه لو

١٧٦

كانوا معتقدين بإمامة الرضا عليه‌السلام لما احتاجوا إلى القافة بعد إخباره بالبُنوة (١).

* * *

قال الكاتب : أي أنهم شكوا في كون محمد القانع سلام الله عليه ابن الرضا رضي الله عنه ، بينما يؤكد الرضا رضي الله عنه أنه ابنه ، وأما الباقون فإنهم أنكروا ذلك ، ولهذا قالوا : (ما كان فينا إمام قط حائل اللون) ولا شك أن هذا طعن في عرض الرضا رضي الله عنه ، واتهام لامرأته ، وشكٌّ في عِفَّتِها ، ولهذا ذهبوا فأتوا بالقافة ، وحكمَ القافةُ بأن محمداً القانع هو ابن الرضا رضي الله عنه لصلبه ، عند ذلك رضوا وسكتوا.

وأقول : لو سلمنا بصحة هذه الرواية فهي لا ترتبط بشيعة الإمام عليه‌السلام ، ولا تدل على أنهم قد شكّوا في بنوة الإمام الجواد عليه‌السلام كما مرَّ نقله عن السيد الخوئي قدس‌سره.

بل ظاهر الرواية أن هؤلاء كانوا من الهاشميين ، ونحن لا نقول بعصمتهم أو بعدالتهم كلهم ، ولا امتناع في أن يصدر من بعضهم مثل هذا الأمر ، فإن هذه الشكوك قد تراود بعض من لا يلتفت إلى عوامل الوراثة من الأب والأم ، وأن الولد قد يشبه أحد أجداده البعداء من أبيه أو أمّه.

ولا ندري لعل شك هؤلاء القوم كان ناشئاً من غفلة أو تسرّع أو جهل ، أو كانوا يريدون دفع التهمة ، أو غير ذلك مما يُعذرون فيه.

والحاصل أن هذه الرواية إن صحَّت فلا مطعن فيها على الشيعة ، لأن كل ما يصدر من آحاد الناس ، أو من الذين لا يعتقدون بالإمامة لا يُدان به الشيعة ولا يُلزَمون به ، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى بيان أكثر.

وأود أن أنبّه القارئ الكريم إلى أن الشيعة لا يعبِّرون عن الإمام الجواد عليه‌السلام بالقانع كما صدر من الكاتب في هذا الموضع ، وإن كان (القانع) من ألقابه عليه‌السلام.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٢ / ٨٧.

١٧٧

* * *

قال الكاتب : من الممكن اتهام الآخرين بمثل هذه التهمة ، وقد يُصَدِّقُ الناس ذلك ، أما اتهام أهل البيت صلوات الله عليهم فهذا من أشنع ما يكون ، وللأسف فإن مصادرنا التي نزعم أنها نَقَلَتْ عِلمَ أهل البيت مليئة بمثل هذا الباطل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأقول : لقد أوضحنا أنه ليس كل حديث في المصادر الشيعية يصح الاحتجاج به أو يعتقد به الشيعة ، فإن كتب الشيعة فيها الصحيح وفيها الضعيف ، والضعيف لا قيمة له ، ولا بد من طرحه وترك العمل به.

ولو صحَّ الإلزام بالضعيف لألزمْنا المخالفين بأمور كثيرة هم لا يلتزمون بها ، ولاحتججنا عليهم بما لا يُقرّون به ، فلا أدري لِمَ يُصِرُّ مدَّعي الاجتهاد والفقاهة على إلزام الشيعة بكل حديث يراه في كتبهم وإن كان من الروايات الضعيفة أو الأحاديث الموضوعة؟!

* * *

قال الكاتب : عند ما قرأنا هذا النص أيام دراستنا في الحوزة مر عليه علماؤنا ومراجعنا مرور الكرام ، وما زِلتُ أذكر تعليل الخوئي عند ما عرضتُ عليه هذا النص إذ قال ناقلاً عن السيد [كذا] آل كاشف الغطاء : إنما فعلوا ذلك لحرصهم على بقاء نسلهم نقياً!!

وأقول : هذه سقطة من سقطاته الواضحة كما ألمحنا إلى مثلها فيما مرَّ ، فإن الكاتب لكونه سُنّيّاً يظن أن من ضمن مناهج الحوزة دراسة كتب الأحاديث ومنها الكافي للكليني ، كما هو متعارف في الدراسة السُّنية التي من ضمنها دراسة كتب الأحاديث المشهورة عندهم ، مع أن منهج الحوزة العلمية لا يشتمل على دراسة كتب

١٧٨

الأحاديث ، لا الكافي ولا غيره.

وطالب العلم من أول دراسته الحوزوية حتى وصوله إلى أعلى المراتب العلمية لا يمر به هذا النص إلا بمطالعاته الخارجية ، وكتب الدراسة الحوزوية معروفة كلها ، وهي غير مشتملة على هذا الحديث.

ثمّ إن الكاتب لكونه يظن أن كاشف الغطاء كان أعلم من الخوئي فإنه من الطبيعي أن ينقل الخوئي كلاماً عن كاشف الغطاء ، مع أن الخوئي لم ينقل في كل بحوثه ودروسه رأياً عن الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس‌سره ولا قولاً من أقواله ، لأنه كان من أنداده لا من تلاميذه. ولو كان الكاتب طالباً في الحوزة لعلم ذلك ، ولكن عذره في ذلك أنه لم يعرف الحوزة إلا سماعاً ، ولم يعِشْ فيها فيطَّلع على ما فيها ، فصار يخبط خبط عشواء ، ويمشي مشْيَ الأعمى في الظلماء.

* * *

قال الكاتب : بل اتهموا الرضا سلام الله عليه بأنه كان يعشق بنت عم المأمون ، وهي تعشقه ، انظر عيون أخبار الرضا ص ١٥٣.

وأقول : يشير الكاتب إلى عبارة وردت في ضمن خبر طويل ، ولا بأس بنقل ما أشار إليه الكاتب ليعلم القارئ حقيقة الأمر.

جاء في الخبر : وأظهر ذو الرئاستين عداوة شديدة لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام وحسده على ما كان المأمون يفضله به ، فأول ما ظهر لذي الرئاستين من أبي الحسن عليه‌السلام أن ابنة عم المأمون كانت تحبه وكان يحبها ، وكان ينفتح باب حجرتها إلى مجلس المأمون ، وكانت تميل إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وتحبه ، وتذكر ذا الرئاستين وتقع فيه ، فقال ذو الرئاستين حين بلغه ذكرها له : لا ينبغي أن يكون باب دار النساء مشرعاً إلى مجلسك. فأمر المأمون بسدِّه ، وكان المأمون يأتي الرضا عليه‌السلام يوماً ، والرضا عليه‌السلام يأتي المأمون يوماً ، وكان منزل أبي الحسن عليه‌السلام بجنب منزل المأمون ، فلما دخل أبو الحسن

١٧٩

عليه‌السلام إلى المأمون ، ونظر إلى الباب مسدوداً ، قال : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الباب الذي سددته؟ فقال : رأى الفضل ذلك وكرهه. فقال عليه‌السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون. ما للفضل والدخول بين أمير المؤمنين وحرمه؟ قال : فما ترى؟ قال : فتحه والدخول إلى ابنة عمك ، ولا تقبل قول الفضل فيما لا يحل ولا يسع. فأمر المأمون بهدمه ، ودخل على ابنة عمه ، فبلغ الفضل ذلك فغمَّه (١).

ومن الواضح أن الضمير في قوله : (أن ابنة عم المأمون كانت تحبه وكان يحبها) يعود للمأمون ، أي أن المأمون كان يحب ابنة عمه ، وكانت هي تحبه ، وكانت تميل إلى الرضا وتحبه ، أي توده ، ولهذا أشار الإمام عليه‌السلام على المأمون بأن يفتح الباب الذي كان شارعاً على مجلسه ، ويتزوج بابنة عمه ويدخل بها ، ففتح المأمون الباب ودخل على ابنة عمه.

هذا هو معنى الحديث ، إلا أن الكاتب أعاد الضمائر على الإمام الرضا عليه‌السلام ، وأبدل (تحبه ويحبها) ب ـ (يعشقها وتعشقه) ، فتأمل مقدار أمانته!!

ولو سلَّمنا جدلاً بأن الإمام عليه‌السلام كان يحب ابنة عم المأمون وكانت تحبه ، فهذا لا غضاضة فيه على الإمام عليه‌السلام ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحُبّ النساء كما ورد في الأخبار.

فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم والضياء المقدسي والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب ، وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ / ١٦٥.

(٢) سنن النسائي ٧ / ٧٢ ، ٧٤. صحيح سنن النسائي ٣ / ٨٢٧. المستدرك ٢ / ١٧٤. ط حيدرآباد ٢ / ١٦٠. وصحَّحه ووافقه الذهبي. الأحاديث المختارة ٤ / ٤٢٨ ، ٥ / ١١٢ ، ١١٣. مسند أحمد ٣ / ١٢٨ ، ١٩٩ ، ٢٨٥. السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٧٨. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٢٨٠. مسند أبي

١٨٠