لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

زواج عمر بأم كلثوم بنت علي عليه‌السلام :

قال الكاتب : لما زوج أمير المؤمنين رضي الله عنه ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب ، نقل أبو جعفر الكليني عن أبي عبد الله رضي الله عنه أنه قال في ذلك الزواج : (إن ذلك فَرْجٌ غُصِبْناهُ!!!) فروع الكافي ٢ / ١٤١.

ونسأل قائل هذا الكلام : هل تزوَّج عمر أُم كلثوم زواجاً شرعياً أم اغتصبها غَصْباً؟ إن الكلام المنسوب إلى الصادق رضي الله عنه واضح المعنى ، فهل يقول أبو عبد الله مثل هذا الكلام الباطل عن ابنة المرتضى رضي الله عنه؟

ثمّ لو كان عمر اغتصب أم كلثوم ، فكيف رضي أبوها أسَدُ الله وذو الفقار [كذا] ، وفتى قريش بذلك؟!

وأقول : لقد وقع الخلاف في زواج عمر من أم كلثوم بنت علي عليه‌السلام وأنه هل وقع أم لا؟

فمنهم من نفى وقوعه ، لتضارب الأخبار واختلاف متونها بدرجة شديدة جداً ، ومنهم من ذهب إلى وقوع هذا الزواج.

فإذا قلنا بعدم وقوعه وأنه من أكاذيب الرواة ومدسوساتهم التي امتلأت بها الطوامير والأسفار ، فكل إشكالات الكاتب لا تكون واردة ، لأنها مبتنية على فرض وقوع مثل هذا الزواج.

وأما إذا قلنا بوقوع هذا الزواج كما هو الصحيح في رأينا ، فلا يلزم أي محذور على أمير المؤمنين عليه‌السلام في أن يُكرهه عمر على تزويج ابنته أم كلثوم ، ولا سيما إذا توعَّده عمر بالفرية والمكيدة ، فإن الأمر يدور بين حفظ مقام الإمامة العظمى وبين تزويج ابنته ، وحفظ مقام الإمامة أولى وأوجب.

فقد روى الكليني قدس‌سره بسند صحيح عن هشام بن سالم ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنها صبيَّة. قال : فلقي العباس ، فقال :

١٤١

مالي؟ أبي بأس؟ فقال : وما ذاك؟ قال : خطبتُ إلى ابن أخيك فردَّني ، أما والله لأُعوِّرَنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ، ولأقيمنَّ عليه شاهدين بأنه سرق ، ولأقطعنَّ يمينه. فأتاه العباس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه (١).

ولا ريب في أن أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام كانوا كثيرين ، وأن عمر كان قادراً على أن يجد في المنافقين والطلقاء والفسقة من يشهد زوراً على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالسرقة ، فيُقيم عليه حدّ السرقة ويقطع يده ، فيصير ذلك سُبّة وعاراً على علي عليه‌السلام وأبنائه إلى قيام الساعة ، وبذلك لا يمكن أن يصل أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الخلافة ، بل تُمحى كل فضائله من دواوين المسلمين ، وما روي منها لا يكون له أية قيمة ، وحينئذ لا يستطيع أهل الحق أن يستدلوا على حقّهم بدليل ، إلا ونقضه المخالفون بواقعة السرقة المزعومة.

فإذا جعلنا كل هذه الأمور في الاعتبار فلا مناص حينئذ لأمير المؤمنين عليه‌السلام من أن يوافق على زواج عمر من ابنته راغماً مكرَهاً.

ومما قلناه يتضح أن المسألة ليست مردَّدة بين الشجاعة والضعف حتى يصح ما قاله الكاتب من أن أمير المؤمنين عليه‌السلام هو أسد الله الغالب الذي لا يمكن قهره ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، بل المسألة مرددة بين حفظ مقام الإمامة وبين حفظ ابنته من تزويجها بعمر.

ولا بأس بنقل ما أفاده الشيخ المفيد قدس الله نفسه الزكية في هذه المسألة ، حيث قال في جواب المسائل السروية : إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه‌السلام ابنته من عمر لم يثبت ، وطريقه من الزبير بن بكار ، ولم يكن موثوقاً به في النقل ، وكان متَّهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين عليه‌السلام وغير مأمون ، والحديث نفسه مختلف ، فتارة يروى أن أمير المؤمنين تولى العقد له على ابنته ، وتارة يروى عن العباس أنه تولى ذلك

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣٤٦.

١٤٢

عنه ، وتارة يروى أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم ، وتارة يروى أنه كان عن اختيار وإيثار ، ثمّ بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولداً سماه زيداً ، وبعضهم يقول : إن لزيد بن عمر عَقِباً. ومنهم من يقول : إنه قُتل ولا عَقِب له. ومنهم من يقول : إنه وأمّه قُتلا. ومنهم من يقول : إن أمّه بقيت بعده. ومنهم من يقول : إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم. ومنهم من يقول : مهرها أربعة آلاف درهم. ومنهم من يقول : كان مهرها خمسمائة درهم. وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث.

ثمّ إنه لو صحَّ لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدِّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام : أحدهما : أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان ، والصلاة إلى الكعبة ، والإقرار بجملة الشريعة ، وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان ، ويكره مناكحة من ضم إلى ظاهر الإسلام ضلالاً يخرجه عن الإيمان ، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام كان مضطراً إلى مناكحة الرجل ، لأنه تهدده وتواعده ، فلم يأمنه على نفسه وشيعته ، فأجابه إلى ذلك ضرورة ، كما أن [مع] الضرورة يشرع إظهار كلمة الكفر ، وليس ذلك بأعجب من قول لوط هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ (١) ، فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفّار ضلّال ، قد أذن الله تعالى في هلاكهم ، وقد زوَّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام ، أحدهما عتبة بن أبي لهب ، والآخر أبو العاص بن الربيع ، فلما بُعث صلى‌الله‌عليه‌وآله فرَّق بينهما وبين ابنتيه (٢).

أقول : بعد ورود النصوص الصحيحة الدالة على وقوع هذا الزواج ، لا مناص من التسليم بوقوعه تبعاً لصريح النصوص ، ولهذا قال المجلسي قدس‌سره : إنكار المفيد رحمه‌الله

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٧٨.

(٢) رسائل المفيد ، ص ٦١ ـ ٦٣ (عن بحار الأنوار ٤٢ / ١٠٧).

١٤٣

أصل الواقعة إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم ، وإلا فبعد ورود ما مرَّ من الأخبار إنكار ذلك عجيب ...

إلى أن قال : والأصل في الجواب هو أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار ، ولا استبعاد في ذلك ، فإن كثيراً من المحرَّمات تنقلب عند الضرورة وتصير من الواجبات ، على أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم‌السلام كانوا قد أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يجري عليهم من الظلم ، وبما يجب عليهم فعله عند ذلك ، فقد أباح الله تعالى له خصوص ذلك بنص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا مما يسكّن استبعاد الأوهام ، والله يعلم حقائق أحكامه وحُجَجه عليهم‌السلام (١).

* * *

قال الكاتب : عند ما نقرأ في الروضة من الكافي ٨ / ١٠١ في حديث أبي بصير مع المرأة التي جاءت إلى أبي عبد الله تسأل عن (أبي بكر وعمر) فقال لها : تَوَلِّيهُمَا [كذا] ، قالت : فأقول لربي إذا لِقيتُه [كذا] انك أمرتني بولايتهما؟ قال نعم.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها معلى بن محمد ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، بل وصفه النجاشي بأنه مضطرب الحديث والمذهب (٢) ، ووصفه ابن الغضائري بأن حديثه يُعرَف ويُنكَر ، ويروي عن الضعفاء ، ويجوز أن يخرج شاهداً (٣).

فعليه تكون الرواية ساقطة من رأس ، فلا يصح الاحتجاج بها.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ / ١٠٩.

(٢) رجال النجاشي ٢ / ٣٦٥.

(٣) رجال ابن الغضائري ، ص ٩٦.

١٤٤

قال الكاتب : فهل الذي يأمر بتولي عمر نتّهمه بأنه اغتصب امرأة من أهل البيت؟

وأقول : هذه العبارة ركيكة جداً ، وتدل على خلاف مراده ، فإن مراده هو : هل من أمرنا الإمام عليه‌السلام بتولِّيه ـ وهو عمر ـ نتهمه بأنه غصب امرأة من أهل البيت؟

وأما عبارته فمعناها : هل من يأمرنا بتولي عمر ، وهو أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ، نتّهمه بأنه اغتصب امرأة من أهل البيت؟

وكيف كان فلو ثبت أن هذه الرواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولا يعارضها غيرها ، وأنه أمر أم خالد بتولي أبي بكر وعمر من دون خوف ولا تقية ، فلا بد حينئذ من أن نحكم بأنهما إمامي هدى ، ويجب علينا أن نتولّاهما ، امتثالاً لأمر الإمام عليه‌السلام ، ولكن الشأن كل الشأن في ثبوت كل ذلك ، فإن الرواية ضعيفة ، ولو سلمنا بصحَّتها فهي محمولة على التقية لمعارضتها بما هو أشهر وأصح سنداً ، وأوضح دلالةً.

* * *

قال الكاتب : لما سألتُ الإمام الخوئي عن قول أبي عبد الله للمرأة بتولي أبي بكر وعمر ، قال : إنما قال لها ذلك تَقِيَّة!!

وأقول للإمام الخوئي : إن المرأة كانت من شيعة أهل البيت ، وأبو بصير من أصحاب الصادق رضي الله عنه ، فما كان هناك موجب للقول بالتقية لو كان ذلك صحيحاً ، فالحق أن هذا التبرير الذي قال به أبو القاسم الخوئي غير صحيح.

وأقول : لو صحَّت الرواية فهي محمولة على التقية قطعاً ، وذيل الرواية يدل على ذلك ، ولا بأس بنقل تمام الرواية ليتضح للقارئ العزيز صحة ما قلناه.

قال الكليني رحمه‌الله : عن أبي بصير قال : كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه ، فقال أبو عبد الله

١٤٥

عليه‌السلام : أيسرّك أن تسمع كلامها؟ قال : فقلت : نعم. قال : فأذن لها ، قال : وأجلسني معه على الطنفسة (١) ، قال : ثمّ دخلت فتكلمتْ فإذا امرأة بليغة ، فسألتْه عنهما ، فقال لها : تولّيهما؟ قالت : فأقول لربي إذا لقيته : إنك أمرتني بولايتهما؟ قال : نعم. قالت : فإن هذا الذي معك على الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما ، وكثير النوا يأمرني بولايتهما ، فأيهما خير وأحب إليك؟ قال : هذا والله أحب إليَّ من كثير النوا وأصحابه ، إن هذا يخاصم فيقول : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.)

قلت : إن قوله : (هذا والله أحب إليَّ من كثير النوا وأصحابه) ، دال بأتم دلالة على أن براءة أبي بصير منهما لم تحط من قدره ، وولاية كثير النوا وأصحابه لهما لم تعْل من شأنهم عند الإمام عليه‌السلام ، ولو كانا إمامَيْ هدى لكانت البراءة منهما قادحة ، ولكان مَن يتولاهما خيراً ممن يتبرّأ منهما ويدعو الناس إلى ذلك.

وتقرير الإمام عليه‌السلام لاستدلال أبي بصير بالآيات الثلاث مشعر باعتقاد الإمام عليه‌السلام أن أبا بكر وعمر لم يحكما بما أنزل الله ، فهما إما كافران أو ظالمان أو فاسقان ، وهو استدلال واضح لا يحتاج إلى مزيد إيضاح ، ولكن الإمام سلام الله عليه لم يستطع التصريح بذلك لهذه المرأة ، فاكتفى بالإشارة عن صريح العبارة.

وأما قول الكاتب : (إن أم خالد من الشيعة فكيف يتَّقي منها الإمام) ، فهو عجيب من مدَّعي الفقاهة والاجتهاد ، إذ كيف لا يعرف أن الإمام عليه‌السلام قد يتّقي من بعض شيعته خشية أن ينقلوا عنه كلامه لسلاطين الجور وأعوانهم مختارين أو مكرهين ، ولهذا قال الإمام عليه‌السلام في رواية الكشي : فلما خرجَتْ قال : إني خشيتُ أن تذهب فتخبر كثير النوا ، فتشهرني بالكوفة ، اللهم إني إليك من كثير النوا بريء في الدنيا والآخرة (٢).

__________________

(١) هي البساط الذي له خمل رقيق.

(٢) رجال الكشي ٢ / ٥١١. ونقله عنه في بحار الأنوار ٣٠ / ٢٤٢.

١٤٦

* * *

قال الكاتب : وأمّا الحسن رضي الله عنه ، فقد روى المفيد في الإرشاد عن أهل الكوفة أنهم : (شدوا على فسطاطه ، وانتهبوه حتى أخذوا مُصَلَّاه من تحته ، فبقي جالساً مُتَقَلِّداً السيفَ بغيرِ رداء) ص ١٩٠.

أيبقى الحسن رضي الله عنه بغير رداء مكشوف العورة أمام الناس؟ أهذه محبة؟

وأقول : عجيب من مدَّعي الفقاهة كيف لا يعرف معنى الرِّداء ، فإن الرِّداء يعرفه حتى عوام الناس ، وهو ما يوضع على الكتفين من الثياب ، ومنه ما يُسمَّى الآن بالعباءة.

قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث : هو الثوب أو البُرْد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه فوق ثيابه ، وقد كثر في الحديث (١).

ولو كان الكاتب قد درس كتاب الحج ، لعلم أن الحاج يلبس قطعتين من الثياب ، الأولى يستر بها عورته وهي الإزار ، والثانية يضعها على عاتقه وهي الرِّداء ، وأن الحاج يجوز له أن يضع رداءه أحياناً ، وهذا يُدرَس في بدايات الدراسة الحوزوية ، فكيف جهلها من حاز درجة الاجتهاد (بتفوق)؟

ثمّ إن أهل السنة رووا في كتبهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثب إلى عكرمة بن أبي جهل من غير رداء. فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب : أن أم حكيم بنت الحارث ابن هشام ، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل ، فأسلمت يوم الفتح ، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن ، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن ، فدعته إلى الإسلام فأسلم ، وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه ، فثبتا على نكاحهما ذلك (٢).

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٢١٧.

(٢) الموطأ ، ص ٢٨٧.

١٤٧

ورووا أن جابر بن عبد الله الأنصاري صلى من غير رداء ، بل إن البخاري قد عقد في صحيحه باباً بعنوان (باب الصلاة بغير رداء) ، وروى فيه بسنده عن محمد بن المنكدر قوله : دخلتُ على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحفاً به ، ورداؤه موضوع ، فلما انصرف قلنا : يا أبا عبد الله تصلي ورداؤك موضوع؟ قال : نعم ، أحببتُ أن يراني الجهَّال مثلكم ، رأيتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي هكذا (١).

ورووا أن ماعز بن مالك جيء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير رداء ، فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة قال : رأيتُ ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجل قصير أعضل ، ليس عليه رداء ، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلعلك. قال : لا ، والله إنه قد زنى الأَخِرُ (٢). قال : فرجمه ... (٣).

والأحاديث في ذلك كثيرة ، واستقصاؤها مضيعة للوقت وهدر للجهد.

والحاصل أن سلب الإمام عليه‌السلام رداءه لا يعني أنه بقي مكشوف العورة كما قاله الكاتب ، فيكون إشكاله الواهي قد تبخر سريعاً في الهواء.

* * *

قال الكاتب : ودخل سفيان بن أبي ليلى على الحسن رضي الله عنه وهو في داره فقال للإمام الحسن : (السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين! قال : «وما عِلْمُكَ بذلك»؟ قال : عَمَدْتَ إلى أمرِ الأُمةِ فَخَلَعْتَهُ من عنقك ، وقَلَّدْتَه هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله؟) رجال الكشي ص ١٠٣.

هل كان الحسن رضي الله عنه مُذلًّا للمؤمنين؟ أم أنه كان مُعِزّاً لهم لأنه حقنَ

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٣٧.

(٢) الأخر : هو الأرذل والأبعد ، وقيل : اللئيم. وقيل : الشقي. وقيل غير ذلك.

(٣) صحيح مسلم ٣ / ١٣١٩.

١٤٨

دمِاءَهم ، وَوَحَّدَ صفوفَهم بتصرفه الحكيم ، ونظره الثاقب؟

وأقول : هذه الرواية التي رواها الكشي ضعيفة بالإرسال وبعلي بن الحسين الطويل ، فإنه لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال المامقاني : روى النجاشي مسنداً عنه كتاب مصعب بن يزيد الأنصاري ، وليس له عنوان في كتب الرجال أصلاً (١).

هذا مع أنّا لم نجد له عنواناً أيضاً في الكتب الرجالية عند أهل السنة ، وذكروا أن صاحب هذه المقولة هو سفيان بن الليل (٢) ، ووصفه العقيلي بأنه غالٍ في الرفض (٣). وقال أبو الفتح الأزدي (٤) والألباني : مجهول (٥). وعدَّه ابن حبان في جملة الثقات (٦).

ولو سلَّمنا بصحة الخبر ، وأن سفيان بن أبي ليلى أو سفيان بن الليل كان شيعياً ، فلا ريب في أن الشيعة قاطبة يخطِّئون كل من اعترض على صلح الإمام الحسن السبط عليه‌السلام ، ويغلِّطون كل من قال ما يتنافى مع قداسة الإمام عليه‌السلام ، ويرون أن ما قام به الإمام عليه‌السلام هو الصحيح الموافق للحكمة ، وأن فيه المصلحة العظيمة للإسلام والمسلمين ، وقد كتب علماء الشيعة في إثبات ذلك كتباً عدة.

فلا ندري بعد هذا كيف سوَّغ الكاتب لنفسه أن يطعن في الشيعة كلهم من

__________________

(١) تنقيح المقال ٢ / ٢٧٨.

(٢) راجع المستدرك ٣ / ١٨٧ ، ١٩٢ ، ط حيدرآباد ٣ / ١٧١ ، ١٧٥. الفتن لنعيم بن حماد ١ / ١٦٤. سير أعلام النبلاء ٣ / ١٤٧. ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٧. لسان الميزان ٣ / ٥٣. الضعفاء للعقيلي ٢ / ٥٤٩. تهذيب الكمال ٦ / ٢٥٠. تاريخ بغداد ١٠ / ٣٠٥. الاستيعاب ١ / ٣٨٧ إلا أن فيه : سفيان بن ليلى.

(٣) كتاب الضعفاء ٢ / ٥٤٩ ، ونقله عنه الذهبي في ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٧. وابن حجر في لسان الميزان ٣ / ٥٣ وغيرهما.

(٤) ميزان الاعتدال ٣ / ٢٤٨. لسان الميزان ٣ / ٥٤. كنز العمال ١٣ / ٥٨٩.

(٥) تعاليق الألباني على كتاب السنة لابن أبي عاصم ، ص ٣٣٤ حديث ٧٤٨.

(٦) كتاب الثقات ٤ / ٣١٩.

١٤٩

أجل قولٍ صدر من قائل أكثر ما يقال عنه إنه شيعي ، مع أن كلمتهم قد تطابقت على تصحيح الصلح وأهدافه؟!

* * *

قال الكاتب : فلو أن الحسن رضي الله عنه حارب معاوية وقاتله على الخلافة لأُرِيق بحر من دماء المسلمينَ ، ولَقُتِلَ منهم عددٌ لا يُحصيه إلا الله تبارك وتعالى ، ولَمُزِّقَتْ الأُمة تمزيقا ، ولَمَا قامت لها قائمة من ذلك الوقت.

وللأسف فإن هذا القول يُنْسَبُ إلى أبي عبد الله رضي الله عنه ، وو الله إنه لَبَريءٌ من هذا الكلام وأمثاله.

وأقول : لقد قلنا : إن صلح الإمام الحسن عليه‌السلام جرى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، ولا ريب في أن فوائده كثيرة ، ومنافعه جليلة ، وليس هذا محل بيانها ما دام الخلاف فيها غير موجود بيننا.

وأما زعم الكاتب نسبة هذا القول إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فهو وهم فاحش ، لأنه إن أراد أن الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قد قال هذا الكلام ، وهو : (يا مُذلّ المؤمنين) ، فهذا هراء وهذيان ، ولا أظنه يزعم ذلك ، إلا إذا أصيب في عقله ، ولا سيما أن رواية سفيان بن أبي ليلى في رجال الكشي مروية عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، لا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام.

وأما إن أراد بذلك أن الشيعة نسبوا إلى الإمام الصادق عليه‌السلام أن سفيان بن أبي ليلى قال ذلك للإمام الحسن عليه‌السلام ، فهذا كسابقه ، لأن الرواية كما مرَّ قد رُويتْ عن الباقر عليه‌السلام ، مضافاً إلى أنّا قلنا فيما تقدَّم : (إن هذه الرواية ضعيفة السند) ، ولا يلزم من وجود رواية عن الإمام عليه‌السلام نسبة محتواها إليه ، ولا سيما إذا كانت ضعيفة السند.

ثمّ ما هو المحذور في أن يخبر الإمام عليه‌السلام بهذا الخبر المروي في كتب أهل السنة

١٥٠

بأسانيد أخرى؟!

فقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك ، والطبراني في معجمه الكبير ، وابن أبي شيبة في مصنَّفه ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، وغيرهم عن أبي العريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفاً ، تقطر أسيافنا من الحدة على قتال أهل الشام ، وعلينا أبو العمر طه ، فلما أتانا صلح الحسن بن علي ومعاوية كأنما كُسرتْ ظهورنا من الحرد والغيظ ، فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قام إليه رجل منا يُكنى أبا عامر سفيان بن الليل ، فقال : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. فقال الحسن : لا تقل ذلك يا أبا عامر ، لم أُذِلَّ المؤمنين ، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك (١).

فتحصَّل مما قلناه أن الكاتب أراد أن يُعيب الشيعة بأنهم نسبوا هذه الرواية للإمام عليه‌السلام ، مع أنها ضعيفة السند ، وهي بعينها مروية في كتب أهل السنة ، وقد رواها جملة من أعلامهم كما مرَّ.

* * *

قال الكاتب : وأما الإمام الصادق فقد ناله منهم شتى أنواع الأذى ، ونسبوا إليه كل قبيح ، اقرأ معي هذا النص :

عن زرارة قال : (سألتُ أبا عبد الله رضي الله عنه عن التشهد .. قلت : التحيات والصلوات .. فسألته عن التشهد فقال كمثله ، قال : التحيات والصلوات ، فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيتِه ، وقلتُ : لا يفلح أبداً) رجال الكشي ص ١٤٢.

حق لنا أن نبكي دماً على الإمام الصادق رضي الله عنه ، نعم .. كلمة قذرة كهذه تقال في حق الإمام أبي عبد الله؟؟ أيضرط زرارة في لحية أبي عبد الله رضي الله عنه؟! أيقول عن

__________________

(١) المستدرك ٣ / ١٧٥. المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٧٦. كنز العمال ١١ / ٣٤٩ ، ١٣ / ٥٨٩. ذخائر العقبى ، ص ٢٤٠. تاريخ بغداد ١٠ / ٣٠٥. تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٧٩ ، ٥٩ / ١٥١. البداية والنهاية ٨ / ٢٠ ، ١٣٤.

١٥١

الصادق رضي الله عنه : لا يفلح أبداً؟؟

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإنها مرسلة من أولها ، وذلك لأن الكشي يرويها عن يوسف ، وهو يوسف بن السخت بقرينة وروده في روايات الكشي ، تارة بلا واسطة كما في هذه الرواية (رقم ٢٦٥) ، ورقم ٣١٢ ، وتارة بواسطة محمد بن مسعود وهو العياشي شيخ الكشي ، كما في رقم ٨٤٠ ، ١٠٣٨ ، ١١٢٩ ، وتارة بواسطة علي كما في رقم ٢٦٨ ، وتارة بواسطة النضر ، كما في رقم ١٠٠٨ ، وتارة بواسطة محمد بن مسعود ، عن علي بن محمد القمي ، عن محمد بن أحمد ، كما في رقم ١١٣٠.

ويوسف بن السخت لم يدركه الكشي لتصح روايته عنه ، وذلك لأنه من أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام المتوفى سنة ٢٥٦ ه‍ ـ ، والكشي من طبقة جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى سنة ٣٦٩ ه‍ ـ ، إلا أنه توفي قبله بسنين (١) ، فكيف يصح أن يروي عنه هذه الرواية؟!

هذا مع أن يوسف بن السخت نفسه لم يثبت توثيقه ، بل ضعَّفه ابن الغضائري ، حيث قال : ضعيف مرتفع القول ، استثناه القميون من نوادر الحكمة (٢).

وضعَّفه العلّامة الحلي في الخلاصة ، وابن داود في رجاله ، والمجلسي في الوجيزة والرجال ، والمامقاني والخوئي وغيرهم (٣).

ويوسف هذا قد روى الخبر عن علي بن أحمد بن بقاح ، عن عمِّه ، وهما مجهولان ليس لهما عنوان في كتب الرجال.

فهذه الرواية ضعيفة السند جداً ، إذ أنها مرسلة من أولها ، ورواتها إلى زرارة إما

__________________

(١) طبقات أعلام الشيعة (نوابغ الرواة في رابعة المئات) ، ص ٢٩٥. وذكر الزركلي في الأعلام ٦ / ٣١١ أن وفاة الكشي كانت نحو ٣٤٠ ه‍ ـ.

(٢) رجال ابن الغضائري ، ص ١٠٣.

(٣) رجال العلامة ، ص ٢٦٥. رجال ابن داود ، ص ٢٨٥. الوجيزة ، ص ٢٠١. رجال المجلسي ، ص ٣٤٤. تنقيح المقال ٣ / ٣٣٥. معجم رجال الحديث ٢٠ / ١٦٨.

١٥٢

ضعيف أو مهمل.

وأما متن الرواية ، فهو لا يدل على ما قاله الكاتب ، ولا بأس بنقل تمام الرواية ليتضح معناها جيداً.

قال الكشي : يوسف قال : حدثني علي بن أحمد بن بقاح ، عن عمِّه عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التشهد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قلت : التحيات والصلوات؟ قال : التحيات والصلوات. فلما خرجت قلت : إن لقيته لأسألنَّه غداً. فسألته من الغد عن التشهد ، فقال كمثل ذلك ، قلت : التحيات والصلوات؟ قال : التحيات والصلوات. قلت : ألقاه بعد يوم فلأسألنَّه غداً. فسألته عن التشهد فقال كمثله ، قلت : التحيات والصلوات؟ قال : التحيات والصلوات. فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيته ، وقلت : لا يفلح أبداً.

قال الميرداماد في شرح الحديث : قوله : (التحيات والصلوات) ظن زرارة أن تقريره عليه‌السلام إياه على التحيات من باب التقية ، مخافة أن يروي عنه زرارة أنه ينكر التحيات في التشهد ، فقال : لئن لقيته غداً لأسألنَّه ، لعله يفتيني بالحق من غير تقية. فلما سأله من الغد وأجابه بمثل ما قد كان أجابه وقرَّره أيضاً على التحيات كما قد كان قرَّره ، حمل زرارة ذلك أيضاً على التقية ، وقال : سألقاه بعد اليوم فلأسألنَّه عن ذلك مرة أخرى ، فلعله يترك التقية ، ويجيبني على دين الإمامية. فلما سأله من الغد ثالثاً وأجابه عليه‌السلام وقرَّره على قوله والتحيات بمثل ما قد أجابه وقرَّره بالأمس وقبل الأمس ، علم أنه ليس يترك التقية مخافة منه. وقال : فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيته فقلت : لا يفلح أبداً. والضمير عائد إلى مَن يعمل بذلك ويعتقد صحَّته ، أي في لحية من يعتقد لزوم التحيات في التشهد كما عند المخالفين من العامة ، ويعمل بذلك ويحتسبه من دين الإمامية ، لا يفلح من يأتي بذلك على اعتقاد أنه من الدين أبداً (١).

__________________

(١) شرح ميرداماد على اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٧٩.

١٥٣

قلت : ولعل قوله : (التحيات والصلوات) إنما كان إنكاراً ، أي كيف تقول : التحيات والصلوات؟! لا أنه وارد على نحو التقية من زرارة.

وتكرار زرارة السؤال إنما كان من أجل التأكد من عدم جواز الإتيان بمثل هذه الصيغة في التشهد ، فلما علم أن الإمام عليه‌السلام ينكر على من يأتي بها قال : فضرطت بلحية من يأتي بها وقلت : إن من يأتي بها لا يفلح أبداً ، لأنه ضيَّع التشهد الذي هو واجب مفروض عليه في الصلاة ، وأتى بغيره مما لا يصح.

والخلاصة أن هذه الرواية ساقطة سنداً ، وقاصرة دلالة على ما قاله من طعن زرارة في الإمام الصادق عليه‌السلام.

* * *

قال الكاتب : لقد مضى على تأليف كتاب الكشي عشرة قرون ، وتداولته أيدي علماء الشيعة كلهم على اختلاف فِرَقِهِم ، فما رأيت أحداً منهم اعترض على هذا الكلام ، أو أنكره أو نَبَّهَ عليه.

وأقول : لقد أوضح ميرداماد (المتوفى سنة ١٠٤١ ه‍ ـ) معنى هذه الرواية في شرحه على كتاب اختيار معرفة الرجال كما مرَّ بما يزيل اللبس ، ويرفع الشبهة.

وأنكر الحديث من رأس الشيخ حسن صاحب المعالم قدس‌سره (المتوفى سنة ١٠١١ ه‍ ـ) في كتابه (التحرير الطاووسي) ، حيث علق على هذا الحديث بقوله : والحديث الذي أشار إليه هو الحديث المتضمن للسؤال عن التشهد ، ورائحة الكذب تفوح منه (١).

وقال المامقاني (المتوفى سنة ١٣٥١ ه‍ ـ) : وفي حاشية المنهج لمؤلِّفه معلِّقاً على ذيل خبر التشهد المذكور هكذا : معلوم أن مثل ذلك لا يكون من زرارة ، ولو كان مردوداً

__________________

(١) التحرير الطاووسي ، ص ١٢٨.

١٥٤

بالنسبة إليه عليه‌السلام كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بحال الرجال ، بل الأوضح كونه موضوعاً وافتراءً وقرينة على وضع كثير مما روي فيه [أي في زرارة] من الطعن ، ولو لا ذلك لما كان يليق ذكره ولا إيراده ، بل لا يحل كما لا يخفى (١).

هذا ما عثرنا عليه في هذه العجالة مع قصور اليد عن كثير من الكتب الرجالية التي تنفع في هذه المسألة ، وبه يتضح بطلان مزاعم الكاتب من أن هذا الحديث لم ينكره أحد من علماء الشيعة أو ينبِّهوا عليه.

* * *

قال الكاتب : وحتى الإمام الخوئي ، لما شرع في تأليف كتابه الضخم (معجم رجال الحديث) فإني كنتُ أحدَ الذين ساعدوه في تأليف هذا السِّفْر ، وفي جمع الروايات من بطون الكتب ، ولما قرأنا هذه الرواية على مسمعه أطرق قليلاً ، ثمّ قال : لكل جواد كَبْوَةٌ ، ولكل عالم هَفْوَةٌ ، ما زاد على ذلك ، ولكن أيها الإمام الجليل ، إن الهفوة تكون بسبب غفلة ، أو خطأ غير مقصود ، إن قوة العلاقة بك إِذْ كنتُ لك بمنزلة الولد للوالد ، وكنتَ مني بمنزلة الوالد لولده تُحَتِّمُ عليَّ أن أحمل كلامك على حسن النية ، وسلامة الطوية ، وإلا لَمَا كنتُ أرضى منك السكوت على هذه الإهانة على الإمام الصادق أبي عبد الله رضي الله عنه.

وأقول : يَرُدُّ ما قاله الكاتب المدَّعي قُربه من السيد الخوئي قدس‌سره أن السيد الخوئي ردَّ هذه الرواية في كتابه معجم رجال الحديث سنداً ومتناً ، فقال بعد ذكرها :

أقول : لا يكاد ينقضي تعجبي كيف يذكر الكشي والشيخ هذه الرواية التافهة الساقطة غير المناسبة لمقام زرارة وجلالته والمقطوع فسادها ، ولا سيما أن رواة الرواية بأجمعهم مجاهيل (٢).

__________________

(١) تنقيح المقال ١ / ٤٤٥.

(٢) معجم رجال الحديث ٧ / ٢٣٨.

١٥٥

فهل يريد الكاتب بعد هذا أن نصدق نُقولاته في الوقائع المختلفة ، وهذه واحدة قد أكذبها السيد الخوئي في معجمه بحمد الله وفضله؟!

هذا مع أن الذين استعان بهم السيد الخوئي في معجمه قد ذُكرتْ أسماؤهم في مقدمة الطبعة الأولى من المعجم ، ومما جاء في المقدمة :

وقد أنيط أمر هذا السفر الجليل ـ بعد إعداده ـ إلى جملة من الأفاضل لتعمل على :

أ ـ تنظيم المتفرقات من الرواة.

ب ـ التأكد من سلامة النقل وملاحظة الأرقام.

ج ـ تنظيم الإرجاعات الكاشفة في الأسماء المترابطة.

د ـ ملاحظة التنسيق والإخراج.

ه ـ الاستنساخ.

و ـ مقابلة الاستنساخ.

ز ـ الإشراف على التصحيح.

لجنة الضبط والتصحيح :

١ ـ الشيخ محمد المظفري : لتنظيم المتفرقات من الرواة.

٢ ـ الشيخ حيدر علي هاشميان : لتنظيم المتفرقات من الرواة.

٣ ـ الشيخ يحيى الأراكي : للتأكد من سلامة النقل وملاحظة الأرقام.

٤ ـ السيد مرتضى النخجواني : للاستنساخ.

٥ ـ السيد عبد العزيز الطباطبائي : للتصحيح.

٦ ـ السيد جواد اني : للإشراف على التصحيح.

٧ ـ الشيخ محمد كاظم الخوانساري : لتدقيق التصحيح.

١٥٦

٨ ـ الشيخ فخر الدين الزنجاني : لمقابلة الاستنساخ.

٩ ـ الشيخ محمد التبريزي : لمقابلة الاستنساخ.

١٠ ـ الشيخ غلام رضا الرحماني : لمقابلة الاستنساخ.

١١ ـ السيد مرتضى الحكمي : للإخراج والإرجاعات الرجالية الكاشفة (١).

هذه هي اللجنة المشرفة على إخراج معجم رجال الحديث ، ومن الواضح أنه ليس فيهم كربلائي واحد ، وكلهم فضلاء معروفون ، فأين كان موقع الكاتب المدَّعي لدخوله في اللجنة المذكورة؟

* * *

قال الكاتب : وقال ثِقَةُ الإسلام الكليني (حدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال : قلت في نفسي : شيخٌ لا عِلمَ له بالخصُومةِ ـ والمراد إمامه ـ).

وقد كتبوا في شرح هذا الحديث :

إن هذا الشيخ عجوز لا عقلَ له ، ولا يحسنُ الكلام مع الخصم

فهل الإمام الصادق (لا عَقْلَ له)؟

إن قلبي ليَعْتَصرُ أَلماً وحزناً ، فإن هذا السباب وهذه الشتائم وهذه الجرأة لا يستحقها أهل البيت الكرام ، فينبغي التأدب معهم.

وأقول : نص هذا الحديث كما رواه الكليني قدس‌سره في الكافي :

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج عن زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يدخل النار مؤمن؟ قال : لا والله. قلت : فما يدخلها إلا كافر؟ قال : لا ، إلا من شاء الله. فلما رددت عليه مراراً قال لي : أي زرارة إني أقول : لا ، وأقول : إلا من شاء الله. وأنت تقول : لا ، ولا تقول : إلا من شاء الله.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١ / ل. طبعة أخرى ١ / ١٨.

١٥٧

قال : فحدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال : قلت في نفسي : شيخ لا علم له بالخصومة. قال : فقال لي : يا زرارة ما تقول فيمن أقرَّ لك بالحكم (١) أتقتله؟ ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟ قال : فقلت : أنا والله الذي لا علم لي بالخصومة (٢).

قال المولى محمد صالح المازندراني :

الشرح : قوله : (عن عبد الرحمن بن الحجاج عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يدخل النار المؤمن؟ قال : لا والله. قلت : فما يدخلها إلا كافر؟ قال : لا إلا من شاء الله) أي لا يدخلها أحد غير كافر إلا من شاء الله أن يدخلها ، وهذا وسط بين المؤمن والكافر لما ستعرفه ، خلافاً لزرارة حيث ينفي الوسط بينهما ، وكأنه تمسَّك بقوله تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) ، وبقوله تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير) ، وفي دلالتهما على ذلك منع. قال : (فلما رددت عليه مراراً قال لي : أي زرارة إني أقول : لا ، وأقول : إلا من شاء الله. وأنت تقول : لا. ولا تقول : (إلا من شاء الله) المفهوم من قوله عليه‌السلام : (إلا من شاء الله) أن غير الكافر قد يدخل النار ، وقد فُهم من قوله عليه‌السلام : (لا والله) أن المؤمن لا يدخل النار ، فقد فُهم منهما أن هذا الغير ليس بمؤمن ولا كافر ، فهو وسط بينهما ، وإنما لم يأتِ عليه‌السلام بعد قوله : (لا والله) بالاستثناء ، ولم يقل : (إلا ما شاء الله) لعدم احتماله ، إذ المؤمن لا يدخل النار قطعاً ، بخلاف قوله : (لا) في السؤال الثاني ، فإنه يجوز فيه الاستثناء ، فإن المستثنى منه المقدَّر في قول زرارة (فما يدخلها إلا كافر؟) ، وهو أحد يصدق بعد استثناء الكافر على المؤمن وغيره ، وغيره قد يدخل النار ، فلذلك استثناه بقوله : (إلا من شاء الله) ، وجوز دخوله في النار بمشيئة الله تعالى ، وأما زرارة فلما خصَّ المستثنى منه بالمؤمن ، ترك الاستثناء ولم يقل : (إلا ما شاء الله). ومما قرَّرنا ظهر أن مناط الفرق بين القولين هو هذا الاستثناء وتركه ، فإن الأول يوجب ثبوت الواسطة ، والثاني عدمه. (قال :

__________________

(١) في حاشية الكافي : أي يقول : أنا على مذهبك ، كلُّ ما حكمت عليَّ أنا أعتقده وأدين الله به.

(٢) الكافي ٢ / ٣٨٥.

١٥٨

فحدثني هشام بن الحكم وحماد ، عن زرارة قال : قلت في نفسي : شيخ لا علم له بالخصومة) قال زرارة : (النار لا يدخلها إلا كافر) صادق بدون الاستثناء ، ولا يثبت الحاجة إليه إلا بإبطال قوله وبيان فساده ، ولما تكرر الكلام ولم يبين عليه‌السلام فساده ، أساء زرارة وأضمر بأنه شيخ لا علم له بالخصومة والمناظرة ، إذ لا بد في مقام المناظرة وإثبات المدَّعى من إبطال قول الخصم وبيان فساده ، فلما علم عليه‌السلام ما أضمره تصدى لبيان فساد قوله بمقدمة مسلَّمة عنده ، وهي أن ضعفاء المسلمين الذين ليس لهم معرفة بالدين ، وهم مُقِرّون بحكمه ، مندرجون تحت يده وقدرته ، وأن خدمه وأهليه المستضعفين غير مؤمنين عنده ولا كافرين ، لأنه لا يجوز قتلهم ، ولو كانوا كافرين لجاز ، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، وهو كفر هؤلاء ، يستحقون النار بزعمه ، فلزم من ذلك أن النار لا يدخلها إلا كافر على الإطلاق ليس بصحيح ، بل لا بد من التقييد بالاستثناء كما ذكره عليه‌السلام ، وهذا ما نقله زرارة عنه عليه‌السلام. (قال : فقال لي : يا زرارة ما تقول فيمن أقرَّ لك بالحكم أتقتله؟) إشارة إلى القسم الأول ، (ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟) إشارة إلى القسم الثاني ، والهمزة للإنكار ، ويحتمل أن يكون (ما تقول في خدمكم) بياناً لما قبله ، والغرض على التقديرين تقريره بأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا كافرين. (قال : فقلت : أنا والله الذي لا علم لي بالخصومة) قال ذلك لصيرورته مغلوباً بما لديه ، ومخصوماً بما عنده وهو عليه (١).

قلت : ومنه يتضح أن قول زرارة : (إن الإمام لا علم له بالخصومة) إنما كان مجرد خاطر في ذهنه ، وهو من الخواطر التي قد تخطر في الذهن لسبب ما وتزول بسرعة ، ولا يؤاخذ عليها ، فلما أوضح الإمام عليه‌السلام لزرارة وجه المسألة ، عرف زرارة أنه هو الذي لا علم له بالخصومة ، فلا إشكال في الحديث ، ولا وجه للطعن في زرارة بسبب أمثال هذه الخواطر.

أو لعل ذلك قد صدر من زرارة في أول ملاقاة له مع الإمام الباقر عليه‌السلام وقبل

__________________

(١) شرح المازندراني ١٠ / ٥٩.

١٥٩

أن يقر بإمامته ويعترف بعصمته.

ومن المضحكات أن الكاتب جاء بهذا الحديث لبيان أن الشيعة يطعنون في الإمام الصادق عليه‌السلام ، مع أن المذكور في الحديث هو الإمام الباقر عليه‌السلام لا الإمام الصادق عليه‌السلام ، وعذر مدَّعي الاجتهاد أنه ظن أن (أبا جعفر) هو الإمام الصادق عليه‌السلام!!

* * *

قال الكاتب : وأما العباس وابنه عبد الله ، وابنه الآخر عبيد الله ، وعقيل عليهم‌السلام جميعاً فلم يسلموا من الطعن والغمز واللَّمز ، اقرأ معي هذه النصوص :

روى الكشي أن قوله تعالى فَلَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العَشِير ، نزلت فيه ـ أي في العباس ـ رجال الكشي ص ٥٤.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها : أبو محمد بن عبد الله ابن محمد اليماني ، والظاهر أنه أبو محمد عبد الله بن محمد اليماني بقرينة رواية حمدان بن سليمان عنه ، فإنه يروي عن عبد الله بن محمد اليماني (١) ، وهو مجهول الحال ، لم يُذكر في كتب الرجال بمدح ولا ذم.

ومن جملة رواة هذا الخبر : الحسين بن أبي الخطاب ، وهو مجهول الحال أيضاً ، لم يوثَّق في كتب الرجال.

قال المامقاني : لم أقف فيه على توثيق أو مدح (٢).

ومن جملة رواة هذا الخبر : طاوس ، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية ساقطة سنداً ، فلا يصح الاحتجاج بها في شيء.

__________________

(١) راجع معجم رجال الحديث ١٠ / ٣١٩.

(٢) تنقيح المقال ١ / ٣١٧.

١٦٠