لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)

سورة النحل : ١٠٥

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ، وبعد :

فقد صدر منذ مدة كتاب أسماه مؤلفه : (لله ثمّ للتاريخ : كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار) لكاتبه الذي أسمى نفسه : السيد حسين الموسوي ، ووُصف على ظهر الكتاب بأنه من علماء النجف.

وقد أثار هذا الكتاب ضجَّة كبيرة واهتماماً بالغاً في أوساط أهل السنة في بعض البلاد الإسلامية ، واعتبره بعضهم قاصماً لمذهب الشيعة الإمامية ، وفاضحاً لبعض مراجعهم المعروفين في الأوساط الشيعية.

ولكني عند ما تأمَّلت هذا الكتاب رأيت أنه كتاب ركيك متهافت ، لا يستحق أن يُرَدّ عليه ، ولا يستأهل أن يُعتنى بشأنه ، وخرجت منه بعدة ملاحظات مهمة ، سنذكرها في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

إلا أني لما رأيت اعتداد المخالفين به ، وكثرة تشدّقهم بحُجَجه ، واحتجاجهم على ضَعَفَة المؤمنين بما فيه من أباطيل وأكاذيب ، وإلحاح بعض المؤمنين في الرد عليه ،

٧

رأيت أنه لا بد من كشف زيفه ومغالطاته ، وبيان دسائسه وافتراءاته ، حتى لا يغتر به الجُهَّال ، ولا يكون حجّة لأهل الزيغ والضلال.

فكتبتُ هذا الرد مستقصياً فيه كل مزاعم هذا الكاتب ، وأدرجتُ كل كتابه بأخطائه وأغلاطه معقِّباً عليه بما يكشف زيفه ، ويبطل أكاذيبه ، مراعياً فيه الاختصار مهما أمكن ، إلا أنه صار بهذا الحجم ، لأن شبهاته وأباطيله وأكاذيبه كثيرة ، وهي تتطلب كشفها وبيان بطلانها.

وقد أسميته (لله وللحقيقة) (١) مريداً به وجه الله سبحانه وبيان الحق ، وسائلاً المولى سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يدحض به شبهات المغرضين وتشويش المشوِّشين ، وينفع به المؤمنين ، وينفعني به في يوم الفقر والفاقة ، إنه سميع الدعاء ، قريب مجيب ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يوم الأحد ١٥ / ٦ / ١٤٢٣ ه‍

علي آل محسن

__________________

(١) أردتُ بهذا العنوان بيان أني كتبتُ هذا الكتاب لله سبحانه الذي جعلتُه نصب عينيَّ في كل ما سطَّرتُه فيه ، كما أردتُ به بيان الحقيقة التي أراد الكاتب طمسها وتشويهها ، فكتبتُ ما أعتقد أنه هو الحق الذي لا مرية فيه ، وأشرتُ به إلى أن زعم الكاتب أنه كتب أباطيله (للتاريخ) غير نافع ولا مُجْدٍ ، لأن كثيراً مما كُتب للتاريخ كتبه أعوان السلاطين ، وأملتْه الأهواء والعصبيات ، وكان مجانباً للحقيقة.

وأشرت بالعطف بالواو بدلاً من العطف بثُمّ إلى أن الواو و (ثمّ) كلاهما يفيد التشريك في الحكم ، إلا أن الواو تفيد التشريك مطلقاً ، و (ثمّ) تفيد التشريك بتراخٍ ، فالعدول عن الواو إلى (ثمّ) لا ينفع في الفرار مما زعموه شِرْكاً.

٨

من هو السيد حسين الموسوي؟

عند ما نتأمَّل كتاب (لله ثمّ للتاريخ) ندرك أن كاتبه يكتب باسم مستعار ، وأن اسم (السيِّد حسين الموسوي) المذكور على الغلاف ليس اسماً صريحاً ، وقد ذكر الكاتب أنه أخفى نفسه لأنه يسكن في العراق ، وهو لا يتمكن من الإفصاح عن شخصيته بصراحة (١).

ولعله يشير بذلك إلى أن سبب إخفاء اسمه هو خوفه من شيعة العراق الذين يَتوقع منهم أن يلحقوا به الأذى ، لأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما تضمَّنه الكتاب مما يرونه افتراءات مكشوفة وأكاذيب مفضوحة وتشهير واضح بعلماء الشيعة وبالحوزة العلمية النجفية.

هذا مع أن الأوساط العلمية الشيعية لا تعرف عالماً بهذا الاسم ، لا من أهل كربلاء ولا من غيرها ، رغم أن الكاتب قد ذكر في هذا الكتاب مراراً أنه تربطه علاقات وثيقة بمراجع الشيعة وعلمائهم ، إلا أن ذلك لم يزده إلا غموضاً وإبهاماً.

وصرَّح المؤلف بأنه كربلائي الأصل ، وأنه تلقَّى تعليمه في الحوزة العلمية في

__________________

(١) لله ثمّ للتاريخ ، ص ٦.

٩

النجف الأشرف ، ويظهر أن زعم المؤلف بأنه كربلائي غير صحيح ، لأنه لا يُعرف في الأوساط العلمية الشيعية عالم من كربلاء بهذا العمر ، وأهل كربلاء أنفسهم لا يعرفون عالماً كربلائياً مجتهداً متصفاً بالصفات التي وردت في الكتاب.

وأما عمره وسنة ميلاده فلم يصرِّح بهما الكاتب ، وكلامه الذي يمكن أن يستفاد منه ذلك مضطرب ومتهافت جداً.

فإنه صرَّح في ص ٧٤ أن الشاعر أحمد الصافي النجفي رحمه‌الله يكبره بثلاثين سنة أو أكثر ، وهذا يعني أن الكاتب وُلد في سنة ١٣٤٤ ه‍ ـ أو بعدها ، فيكون عمره لما صدر كتابه (لله وللتاريخ) في سنة ١٤٢٠ ه‍ ـ هو ستّاً وسبعين سنة أو أقل من ذلك ، لأن الصافي النجفي ولد سنة ١٣١٤ ه‍ ـ وتوفي سنة ١٣٩٧ ه‍ ـ (١).

وعليه فيكون عمر الكاتب لما نال درجة الاجتهاد ـ حسب قوله ـ أقل من ثلاثين سنة ، إذا قلنا إن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس‌سره أعطاه إجازة الاجتهاد في سنة وفاته وهي سنة ١٣٧٣ ه‍ ـ ، وأما لو قلنا إن الشيخ أعطاه الاجتهاد قبل وفاته بخمس سنين مثلاً ، فإن الكاتب يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد وعمره أقل من خمس وعشرين سنة ، وهذا نادر جداً يكاد يكون ممتنعاً في عصرنا ، ولم يُسمع بواحد من أهل كربلاء حصل على الاجتهاد في هذه السن.

وأما إذا قلنا : (إنه بلغ رتبة الاجتهاد قبل إعطائه الإجازة بها بسنين) كما هو المتعارف ، فإن الأمر يزداد إشكالاً وغرابة.

ومن جانب آخر فإن الكاتب ذكر أيضاً أنه عاصر زيارة السيِّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي قدس‌سره للنجف الأشرف ، وزيارة السيد للنجف كانت سنة ١٣٥٥ ه‍ ـ (٢) ، فلو فرضنا أن عمر الكاتب كان حينئذ عشرين سنة ، فإنه سيكون في سنة ١٤٢٠ ه‍ ـ خمسة وثمانين عاماً.

__________________

(١) معجم رجال الفكر والأدب في النجف ٢ / ٧٩٣.

(٢) ترجمة السيد شرف الدين المطبوعة في مقدمة كتاب النص والاجتهاد ، ص ٣٩.

١٠

في حين أن الكاتب قد ادَّعى في ص ١٠٧ لقاءه في الهند بالسيد دلدار علي صاحب كتاب (أساس الأصول) ، وأنه أهداه نسخة من كتابه المذكور ، مع أن السيد دلدار توفي سنة ١٢٣٥ ه‍ ـ كما ذكره آغا بزرك الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة (١) ، فلو فرضنا أن الكاتب لقيه في آخر سنة من وفاته ، وكان عمره عشرين سنة ، لكان عمر المؤلف وقت كتابة كتابه في سنة ١٤٢٠ ه‍ ـ مائتين وخمس سنوات ، وهذا عمر غير طبيعي ، يُجزَم معه بكذب هذه الرواية من أصلها.

وهذا خطأ جسيم وقع فيه الكاتب ، أفقد الكتاب موضوعيته ، وأفقد المؤلف مصداقيته.

ولكن الكاتب قد أبدى نوعَ معرفةٍ بأسماء بعض علماء الشيعة المعاصرين وغيرهم ، كالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد الخوئي والسيد السيستاني وميرزا علي الغروي وغيرهم ، كما ذكر أسماء علماء ليسوا من هذه الطبقة ، ولكن لهم شأنهم في الأوساط الشيعية ، كالشيخ محمد جواد مغنية والسيد حسين الصدر والشيخ أحمد الوائلي وغيرهم.

إلا أن معرفة هذه الأسماء سهلة يسيرة يمكن تحصيلها بمجرد السماع أو بطرق أخرى ، ولا سيما أن الكاتب لم يذكر شيئاً من خصوصياتهم التي لم تشتهر عنهم.

وفي مقابل ذلك ذكر الكاتب أشخاصاً لا يُعرَفون ، كالسيِّد البروجردي الذي وصفه بأنه كان يشرف بنفسه على تنفيذ تعليمات الحوزة بنشر الفساد في مدينة الثورة ببغداد!! (٢)

وذكر السيد القزويني والطباطبائي والسيد المدني وأبا الحارث الياسري ، مع أن هؤلاء كلهم رجال مجهولون لا يُعرَفون ، لا على الصعيد الشعبي ولا في الوسط العلمي.

__________________

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢ / ٤.

(٢) ذكر ذلك في صفحة ١١٦.

١١

ويتَّضح من خلال قراءة كتاب (لله ثمّ للتاريخ) أن مؤلفه لم يكن شيعياً ولا واحداً من علماء الشيعة ، ولم يقضِ فترة من حياته ـ كما قال ـ في الحوزة العلمية النجفية ، لما سنبيّنه مفصَّلاً في آخر الكتاب بعونه تعالى.

والظاهر أنه انتحل شخصية شيعية غير معروفة لأمرين :

الأول : لإشعار أهل السُّنة بقوة مذهبهم وضعف مذهب الشيعة الإمامية الذي تركه وأقرَّ ببطلانه واحد من فقهاء المذهب الشيعي المعاصرين.

وبه يندفع ما يكرره الشيعة دائماً من أن المستبصرين الذين يتحوَّلون إلى المذهب الشيعي هم علماء أهل السنة ومفكِّروهم ، في حين أنه لا ينقلب إلى مذهب أهل السنة إلا البسطاء والجهَّال من الشيعة.

والثاني : ليتمكن الكاتب من سرد قضايا ووقائع قبيحة يدَّعي فيها المشاهدة والحضور ، فإن هذه الحوادث لن يكون لها أية قيمة لو كتبها رجل سُنّي ، لوضوح انتحالها حينئذ ، بخلاف ما لو نقلها واحد من علماء الحوزة ، فإنها ستكون من باب (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا).

وليس غريباً أن يكون كاتب هذا الكتاب رجلاً غير عراقي ، لأنه وإن ذكر في مطاوي كلامه أموراً تنم عن نوع معرفة بمدن العراق وأحيائها وعلمائها ، إلا أن معرفة كل ذلك قد تتأتّى لمن عاش في العراق أو تتبَّع الكتب التي يستقي منها ما ينفعه في الموضوعات التي كتب فيها.

هذا كل ما استقرأناه من سطور الكتاب حول شخصية مؤلّفه الذي أسمى نفسه (السيد حسين الموسوي) ، وسيأتي في آخر الكتاب مزيد بيان في تحقيق حال هذا الرجل إن شاء الله تعالى.

وعلى كل حال فإنا سننظر في محتوى الكتاب بغض النظر عن هوية الكاتب ، وعن كونه شيعيّا أو سُنّيّاً ، فلا تهمّنا شخصية الكاتب بقدر ما يهمّنا ما في الكتاب من مضامين.

١٢

رد ما جاء في مقدمة الكتاب

قال الكاتب : وُلدت في كربلاء ، ونشأت في بيئة شيعية في ظل والدي المتديِّن.

درستُ في مدارس المدينة حتى صرت شابّا يافعاً ، فبعث بي والدي إلى الحوزة العلمية النجفية أم الحوزات في العالم لأنهل من علم فحول العلماء ومشاهيرهم في هذا العصر ، أمثال سماحة الإمام السيد محمد آل الحسين كاشف الغطاء [كذا].

وأقول : إن ذهاب المؤلف يافعاً إلى الحوزة العلمية النجفية وحصوله على درجة الاجتهاد حسب زعمه من أستاذه كاشف الغطاء قدس‌سره ، لا يسوِّغان له عند أحد أن يكون جاهلاً بكون أستاذه سيِّداً أو شيخاً ، وأن اسمه محمد آل الحسين كاشف الغطاء كما ذكره في كلمته ، أو الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء كما هو الصحيح الذي يعرفه حتى عوامّ الناس في النجف وغيرها.

وقد تكرَّر منه بعد ما يقل عن صفحتين نفس الخطأ في وصف (أستاذه) بأنه سيِّد ، إلا أنه أصاب في الاسم ، وسيتكرر منه ذلك كثيراً في كتابه ، ونحن سنلفت نظر القارئ الكريم بذكر كلمة [كذا] بين قوسين معقوفين ، حذراً من تكرار التنبيه على ذلك كثيراً.

١٣

ومن الواضح أن هذا دليل كافٍ في بطلان ما زعمه من تتلمذه على الشيخ كاشف الغطاء ، وحصوله على درجة الاجتهاد منه.

* * *

قال الكاتب : ويَسَّرَ الله تعالى لي الالتحاق بالدراسة وطلب العلم ، وخلال سنوات الدراسة كانت تَرِدُ عليّ نصوصٌ تستوقفني ، وقضايا تشغل بالي ، وحوادث تحيرني ، ولكن كنت أَتهم نفسي بسوء الفهم ، وقلة الإدراك.

وأقول : هذا الكلام يدل على أن الرجل لا يعرف مناهج الحوزة ولم يدرس فيها ، وإلا لعَلِم أن طالب العلم في الحوزة العلمية يقضي شطراً من سنواته الأولى في دراسة النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفقه غير الاستدلالي ، ثمّ يدخل في دراسة علمي الأصول والفقه الاستدلالي ، وهذه كلها لا تحتوي على نصوص تستوقف الطالب ، ولا تحتوي على قضايا تشغل باله ، لأنها مناهج معروفة ، وكل ما فيها من نصوص غيرُ خفي على أي طالب.

وهو يظن أن طالب العلم في الحوزة العلمية يدرس علم الحديث الذي سيفتح عينيه على الأحاديث المنكَرة الضعيفة التي ذكر كثيراً منها في كتابه.

كما أنه يظن أن طالب العلم يدرس علم الرجال أو تاريخ وسير الأئمة عليهم‌السلام وأمثال هذه العلوم التي تحتوي على أمور ينكرها السني أو لا يحتملها.

ولو كان هذا الكاتب طالب علم حقيقة لَعَلِمَ أن علماء الشيعة قدَّس الله أسرارهم قد بيَّنوا مشكلات الأخبار وأوضحوها ، وميَّزوا غثّها من سمينها ، وسليمها من سقيمها ، ودفعوا شبهات الخصوم وزيَّفوها ، حتى لم يبقَ لخصم حجة ، ولا لمخالف على مذهب الحق مغمز.

وبهذا يتضح أنه لا عذر لطالب العلم في الحوزة العلمية أن يصدر منه مثل هذا

١٤

الكلام فضلاً عمن يدَّعي بلوغه مرتبة الاجتهاد ، ولا سيما أن كل من بلغ هذه المرحلة لا بد أن يكون قادراً على التمييز بين الصحيح والضعيف ، ومتمكِّناً من دفع كل شبهات الخصوم وحُجَجهم.

* * *

قال الكاتب : وحاولت مرة أن أطرح شيئاً من ذلك على أحد السادة من أساتذة الحوزة العلمية ، وكان الرجل ذكيا إذ عرف كيف يعالج في هذه الأسئلة : فأراد أن يُجْهزَ عليها في مَهْدها بكلمات يسيرة ، فقال لي : ما ذا تدرس في الحوزة؟

قلت له : مذهب أهل البيت طبعاً.

فقال لي : هل تشك في مذهب أهل البيت؟!

فأجبته بقوة : معاذ الله.

فقال : إذن أبْعِد هذه الوساوس عن نفسك ، فأنت من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وأهلُ البيت تَلقّوْا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومحمد تَلَقَّى من الله تعالى.

سكَتُّ قليلاً حتى ارتاحت نفسي ، ثمّ قلتُ له : بارك الله فيك شفيتني من هذه الوساوس. ثمّ عدتُ إلى دراستي ، وعادت إليّ تلك الأسئلة والاستفسارات ، وكلما تقدمت في الدراسة ازدادت الأسئلة ، وكثرت القضايا والمؤاخذات.

وأقول : إن هذا الكلام أيضاً يدل على أن كاتبه لا يعرف مناهج الحوزة العلمية ، وهو بعيد عنها كل البعد ، حيث إنه زعم أنه يدرس مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، مع أن الطالب كما قلنا يقضي سنين من حياته يدرس علوم اللغة والمنطق والفلسفة ، وهي لا ترتبط بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنها مقدمات تؤهِّل الطالب لفهم المطالب العالية.

وبعد تلك السنين يقضي الطالب أيضاً سنين أخرى يدرس فيها علم الأصول

١٥

الذي كثير منه نظريات عقلية قابلة للأخذ والرد.

وأما ما يرتبط بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام فهو علم الفقه الذي يدرسه الطالب ابتداءً ب ـ (تبصرة المتعلمين) للعلامة الحلي ، ومروراً بكتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي ، و (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني ، وانتهاءً بكتاب (المكاسب) للشيخ الأنصاري قدَّس الله أسرارهم.

وهذه الكتب مطبوعة ومعروفة ، وليس فيها ما ينتج عنه شكوك ومؤاخذات في نفس الطالب على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنها إما كتب مشتملة على الفتاوى المجردة كالكتابين الأولين ، أو فيها إشارة إلى الدليل كالكتاب الثالث ، أو مشتملة على بيان الأدلة التفصيلية في المكاسب والتجارات كالكتاب الأخير.

فلا أدري ما هو مصدر تلك الشكوك التي انتابت الكاتب ، وما هو منبع الإشكالات المزعومة مع ما أوضحناه من منهج الحوزة ، ولا سيما في السنين الأولى التي يدرس فيها المقدمات التي لا ترتبط بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام في شيء؟!

وبذلك يتضح أن الحادثة التي ذكرها كلها مبتنية على جهل الكاتب بمنهج الحوزة ، فلفَّق هذه القصة بناءً على مرتكزاته في منهج الدراسة السُّنّية.

* * *

قال الكاتب : المهم أني أنهيت الدراسة بتفوق ، حتى حصلتُ على إجازتي العلمية في نيل درجة الاجتهاد من أوحد زمانه سماحة السيد [كذا] محمد الحسين آل كاشف الغطاء زعيم الحوزة.

وأقول : في كلام الكاتب عدة ملاحظات :

الأولى : أنه يعتقد أن منهج الدراسة الحوزوية مشابه لمنهج الدراسة الجامعية ، ينتهي عند حد نيل درجة الاجتهاد ، وبعدها يكون الحاصل على هذه الإجازة قد

١٦

أنهى دراسته.

والحال أن الأمر ليس كذلك ، فإن الدراسات الحوزوية لا تنتهي بذلك ، وكل من عاش في حوزة النجف في هذا العصر يعلم أن جمعاً من الفقهاء المسلَّم اجتهادهم كانوا يحضرون درس زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف سماحة آية الله العظمى السيِّد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس الله نفسه الزكية.

الثانية : أنه ظن أن نيل درجة الاجتهاد حاله حال نيل درجة الدكتوراة في الجامعات ، بأن يكون بتفوق أو بدرجة امتياز أو دون ذلك.

والحال أن درجة الاجتهاد لا تُعطى للفقيه تارة بتفوق وتارة من دون تفوق ، وذلك لأن درجات الدكتوراة أو غيرها تُعطى للدارسين بعد تقديم رسالة يناقشها أساتذة الجامعة ، وبعدها تقرر لجنة المناقشة منح هذا الطالب درجة الدكتوراة أو عدم منحه ، بدرجة امتياز أو غيرها حسب قوة الرسالة وتمكن الطالب من اجتياز المناقشة بنجاح.

وأما درجة الاجتهاد فلا تُعطى بهذه الطريقة ، وإنما يعطيها الفقيه لبعض تلامذته عند قناعته باجتهاده ومقدرته على استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المقرَّرة.

وعادة ما تُعطى بشكل فردي جداً ، بعيداً عن الأضواء ، ولا تكون في حفل علني ، أو تكون مقرونة ببيان التفاضل حتى يُعرف المتفوق من غير المتفوق من الطلبة الحاصلين على هذه الإجازة.

الثالثة : أن الكاتب يعتقد أن إجازات الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدَّس الله نفسه لها أهمية كبرى نظراً لمكانته العلمية ، وهو توهم باطل ، وذلك لأن الشيخ كاشف الغطاء قدس‌سره قد أعطى إجازات اجتهاد لجماعات كثيرة كانت غير مؤهلة للاجتهاد ولا متَّصفة بالفضل ، بسبب الظروف التي كانت تحتِّمها تلك الفترة العصيبة.

١٧

فإن رضا شاه بهلوي حاكم إيران الأسبق ، أصدر أمراً بمنع لبس العمامة إلا بإجازة من الحكومة الإيرانية ، ولا يُستثنى من ذلك إلا الفقيه المجتهد.

وهذا الإجراء جعل جماعات من طلبة العلم يضطرون إلى نزع العمامة لعدم حصولهم على إجازةِ لُبْسها من الحكومة الإيرانية.

وفي هذا الظرف صار جمع من أعلام المذهب كالسيِّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء يمنحون الكثير من طلبة العلم إجازات اجتهاد ، من أجل الحفاظ على كيان الحوزات العلمية وبقائها.

هذا مضافاً إلى أن الحكومة الإيرانية كانت تلزم طلبة العلم بالانخراط في التجنيد الإجباري ، ولا تستثني أحداً أيضاً إلا من كان مجتهداً.

وقد حدَّثني الشهيد السعيد آية الله العظمى الميرزا علي الغروي قدَّس الله نفسه الزكية أن كثيراً من الطلبة في ذلك الوقت كانوا يذهبون إلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس‌سره ، لطلب إجازة الاجتهاد للتخلص من التجنيد الإجباري ، وكان يجيزهم بالاجتهاد لهذا الغرض مع عدم أهلية بعضهم.

وبما قلناه يتبيَّن أن إجازات الشيخ كاشف الغطاء قدس‌سره لا تنبئ عن أية فضيلة علمية فضلاً عن بلوغ رتبة الاجتهاد.

* * *

قال الكاتب : وعند ذلك بدأت أفكر جِدّياً في هذا الموضوع ، فنحن ندرس مذهب أهل البيت ، ولكن أجدُ فيما ندرسه مطاعن في أهل البيت عليهم‌السلام ، ندرس أمور الشريعة لنعبد الله بها ، ولكن فيها نصوصاً صريحة في الكفر بالله تعالى.

أي ربي ، ما هذا الذي ندرسه؟! أيمكن أن يكون هذا هو مذهب أهل البيت حقاً؟!

١٨

إن هذا يسبب انفصاماً في شخصية المرء ، إذ كيف يعبد الله وهو يكفر به؟! كيف يقتفي أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يَطْعَنُ به؟!

كيف يتبعُ أهل البيت ويحبهم ويدرس مذهبهم ، وهو يسبهم ويشتمهم؟! رحماك ربي ولطفك بي ، إن لم تدركني برحمتك لأكونن من الضالين ، بل من الخاسرين.

وأقول : إن الكاتب قد أفرغ في كتابه هذا كل ما في جعبته من النصوص التي يزعم وجودها في كتب الشيعة ، والتي يزعم أنها كفر بالله ، أو أنها تقتضي الطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي أهل بيته عليهم‌السلام ، وسيلاحظ القارئ الكريم أن ما زعمه هذا الكاتب كله سراب وهباء ، وأنه لا توجد نصوص صحيحة من هذا القبيل في كتب الشيعة بحمد الله ونعمته.

هذا مع أنا أوضحنا فيما مرَّ منهج الدراسة الحوزوية ، وقلنا : إنه خالٍ من أمثال هذه النصوص المزعومة. فلا تغفل عما قلناه.

* * *

قال الكاتب : وأعود وأسأل نفسي : ما موقف هؤلاء السادة والأئمة وكل الذين تقدموا من فحول العلماء ، ما موقفهم من هذا؟ أما كانوا يرون هذا الذي أرى؟ أما كانوا يدرسون هذا الذي درستُ؟! بلى ، بل إن الكثير من هذه الكتب هي مؤلفاتهم هم ، وفيها ما سَطَّرَتْهُ أقلامهم ، فكان هذا يُدِمي قلبي ، ويزيده ألماً وحسرة.

وأقول : إن موقف العلماء من كل ما هو مسطور في كتب الشيعة معروف ، وطالب العلم لا يُعقَل أن يقع في حيرة لمعرفة ذلك ، ولا سيما أن كتب علماء الشيعة بين يديه ، وأنه يتمكن من سؤال الأساطين في الحوزة.

وإنما يمكن أن يقع في أمثال هذه الادعاءات الجاهل الصرف الذي لا يفقه من العلم شيئاً ، والذي نُقل له بعض ما يراد به إلقاء الشبهات عليه.

١٩

وادِّعاء الكاتب أن ما أثار شكوكه مذكور في مناهج الدراسة الحوزوية واضح البطلان ، وسيرى القارئ الكريم أن كل النصوص التي نقلها الكاتب في كتابه مأخوذة من كتب غير دراسية جمعتْ بين الصحيح والضعيف والغث والسمين ، مثل كتاب رجال الكشي والأنوار النعمانية وبحار الأنوار وغيرها.

ومن الواضح أن الكاتب إنما زعم أن في مناهج الحوزة ما أثار شكوكه باعتبار أنه كان يظن أن طلبة العلم في الحوزة العلمية يدرسون كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة كالكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه ، كما هو المتعارف في الدراسات السُّنّية ، مع أن الكتب المذكورة وغيرها وإن كانت لها أهميتها في مقام الاستنباط إلا أنها ليست كتباً تُدرَس كما هو معروف حتى عند صغار طلبة العلم.

* * *

قال الكاتب : وكنت بحاجة إلى شخص أشكو إليه همومي ، وأَبُثُّ أحزاني ، فاهتديت أخيراً إلى فكرة طيبة وهي دراسة شاملة أعيد فيها النظر في مادتي العلمية ، فقرأت كل ما وقفت عليه من المصادر المعتبرة وحتى غير المعتبرة ، بل قرأت كل كتاب وقع في يدي ، فكانت تستوقفني فقرات ونصوص كنت أشعر بحاجة لأن أُعَلِّقَ عليها ، فأخذت أنقل تلك النصوص وأُعلق عليها بما يجول في نفسي ، فلما انتهيت من قراءة المصادر المعتبرة ، وجدت عندي أكداساً من قصاصات الورق ، فاحتفظت بها عسى أن يأتي يوم يقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً.

وأقول : إن ادِّعاء قراءة كل الكتب الشيعية ، وكل المصادر المعتبرة منها وغير المعتبرة من الادعاءات المعلوم بطلانها ، فإن كتب الشيعة تُعَد بآلاف الكتب والمجلدات ، التي تُصرَف الأعمار دون التمكن من قراءتها فضلاً عن فهمها والتدبر فيها.

وعلى كل حال ، فسواء قرأ الكاتب كل تلك الكتب أو لم يقرأها فليست هذه قضية مهمة نتنازع معه فيها ، ولكن إن صحَّ زعمه فالحجة عليه أتم ، لأنه يُقِر بأنه قد

٢٠