لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟ قال : نعم ، أوْ تدخلوا فيما دخل فيه الأمة ... (١).

ونظم هذا المعنى الشاعر المصري حافظ إبراهيم ، فقال :

وقولةٍ لعليٍّ قالَها عُمَرٌ

أكرِمْ بسامِعِها أعظِمْ بملقيها

حرَّقتُ دارَك لا أُبقي عليك بها

إنْ لم تبايِعْ وبنتُ المصطفى فيها

ما كانَ غيرُ أبي حفصٍ يَفُوهُ بها

أمامَ فارسِ عدنانٍ وحاميها (٢).

واعترف ابن تيمية بأن أبا بكر قد كبس بيت فاطمة سلام الله عليها ، إلا أنه علَّله بما يُضحك الثكلى ، فقال : نحن نعلم يقيناً أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى ، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلِّف عن بيعته أولاً وآخراً ، وغاية ما يقال : إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه ، وأن يعطيه لمستحقه ، ثمّ رأى أنه لو تركه لهم لجاز ، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء (٣).

ومن يتتبَّع كتب التاريخ يجد فيها الكثير مما دلَّ على كشف القوم لبيت فاطمة عليها‌السلام.

والعجيب أن الكاتب اعتبر كلمة أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) جُبناً وضعفاً ، مع أنها مقتبسة من كلمة نبي الله هارون عليه‌السلام حين عاتبه موسى عليه‌السلام بعد مجيئه من الميقات ، فلا ندري هل يعتبر الكاتب هارون عليه‌السلام جباناً أيضاً لما ترك منابذة السامري وأتباعه ، وخاف على نفسه من القتل؟!

* * *

قال الكاتب : وانظر وصفهم لأمير المؤمنين رضي الله عنه إذ قالت فاطمة عنه : (إن

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ / ٢١٩.

(٢) ديوان حافظ إبراهيم ، ص ٨٢.

(٣) منهاج السنة ٤ / ٣٤٣.

١٢١

نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دَحداح البطن ، طويل الذراعين ، ضخم الكراديس ، أنزع ، عظيم العينين ، لمنكبه مشاشاً كمشاش البعير ، ضاحك السن ، لا مال له) تفسير القمي ٢ / ٣٣٦.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن علي بن إبراهيم قال : ومن الرد على من أنكر خلقة الجنة والنار أيضاً ما حدثني أبي عن بعض أصحابه رفعه ، قال : كانت فاطمة عليها‌السلام لا يذكرها أحد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أعرض عنه ... الخ.

وهي رواية مرسلة مرفوعة ، لا يصح الاحتجاج بها في شيء ، وكان ينبغي من مدّعي الفقاهة والاجتهاد أن يلتفت إلى ضعف الرواية بدلاً من الاحتجاج بها على الشيعة ، ولكن يهوِّن الخطب أنه لا يميِّز بين الصحيح والضعيف ، ولا يعرف المرسل والمرفوع من غيرهما.

وأما من ناحية المتن ، فإن الخبر لو صحَّ فإن فاطمة سلام الله عليها كانت تقول : (إن نساء قريش تحدثني) ، ولم يكن هذا من مقالها هي سلام الله عليها ، ولعلها إنما قالت ذلك من أجل إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، لا من أجل كونها مصدِّقة به.

ولا بأس أن نأتي للصفات المذكورة ، فنستعرضها واحدة واحدة ، لنرى صفات الذم منها وغيرها ، فنقول :

المراد بدحداح البطن : واسِعُه.

قال ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث) : في حديث أسامة (كان له بطن مُنْدَحٌّ) أي متَّسع ... (١).

وهذه ليست صفة ذم في الرجال ، ولهذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يُسمَّى الأنزع البطين ، بل كان سلام الله عليه يفتخر بذلك.

قال عبد الباقي العمري :

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ٢ / ١٠٣.

١٢٢

وأنتَ ذاك البَطِينُ الممتلي حِكَماً

معشارُها فلَكُ الأفلاكِ ما وسِعا

وأنتَ ذاك الهِزَبْرُ الأنزعُ البطلُ

الذي بمخلبِه للشركِ قد نَزَعا (١)

وضخم الكراديس : قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : هي رءوس العظام ، واحدها كردوس. وقيل : هي ملتقى كل عظمين ضخمين كالركبتين والمرفقين والمنكبين ، أراد أنه ضخم الأعضاء (٢).

وهي أيضاً ليست صفة ذم ، فقد روى أهل السنة أنها من صفات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الترمذي في سننه بسنده عن علي رضي الله عنه قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطويل ولا بالقصير ، شثن الكفين والقدمين ، ضخم الرأس ، ضخم الكراديس ... (٣).

والأنزع : هو الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه ، وهذا لا يُعد عيباً ، وقد ورد في كتب أهل السنة وصف علي عليه‌السلام بأنه أصلع ، وهو أكثر من الأنزع.

وأما عِظَم العينين فهي صفة مدح ، وقد وُصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضخم الهامة ، عظيم العينين ، أهدب الأشفار ، مشرب العينين حمرة ، كث اللحية ، أزهر اللون ، إذا مشى تكفَّأ كأنما يمشي في صعد ، وإذا التفت التفت جميعاً ، شثن الكفين والقدمين (٤).

وأما قوله : (لمنكبه مشاش كمشاش البعير) ، فمعناه أنه عليه‌السلام عظيم المشاش ،

__________________

(١) الترياق الفاروقي ، ص ٩٦.

(٢) تحفة الأحوذي ١٠ / ٨١.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٥٩٨ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وانظر مسند أحمد ١ / ٩٦ ، ١١٦ ، ١١٧ ، ١٢٧ ، ١٣٤ ، والمستدرك ٢ / ٦٦٢ ، ط حيدرآباد ٢ / ٦٠٦ وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. ومسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢٥.

(٤) الطبقات الكبرى ١ / ٤١٠.

١٢٣

والمشاش هي رءوس العظام كالمرفقين والكفين والركبتين ، والمشاشة ما أشرف من عظم المنكب (١) ، وهي صفة مدح ، ولهذا وصف بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر أنه جليل المشاش.

فقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن إبراهيم بن محمد من ولد علي قال : كان علي إذا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لم يكن بالطويل الممغط ، ولا بالقصير المتردد ، كان رَبْعة من القوم ، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط ، كان جعداً رجلاً ، ولم يكن بالمطهَّم ولا المكلثم ، وكان في وجهه تدوير ، أبيض مشرب ، أدعج العينين ، أهدب الأشفار ، جليل المشاش والكتد ، أجرد ذا مسربة ، شثن الكفين والقدمين ... (٢).

والعجيب ممن يعيب الشيعة بمثل هذه الرواية الضعيفة ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة التي رواها أهل السنة ، وفيها وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفات غير حسنة.

منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسع الفم ، فيما رواه الترمذي بسنده عن جابر بن سمرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضليع الفم ، أشكل العينين ، منهوش العقب. قال شعبة : قلت لسماك : ما ضليع الفم؟ قال : واسع الفم ... (٣).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمش الساقين ، أي دقيقهما ، فقد أخرج الترمذي في سننه ، والحاكم في مستدركه عن جابر بن سمرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يضحك إلا تبسّماً ، وكان في ساقيه حموشة ... (٤).

وهي من صفات الذم عندهم.

__________________

(١) راجع لسان العرب ٦ / ٣٤٧.

(٢) الطبقات الكبرى ١ / ٤١١.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٦٠٣ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) سنن الترمذي ٥ / ٦٠٣ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. المستدرك ٢ / ٦٦٢ ، ط حيدرآباد ٢ / ٦٠٦ صحّحه الحاكم. وكذا في البداية والنهاية ٦ / ١٩.

١٢٤

قال ابن الأثير في النهاية : ومنه حديث هند ، قالت لأبي سفيان يوم الفتح : اقتلوا الحَمِيت الأحمش. هكذا جاء في رواية ، قالته له في معرض الذم (١).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عظيم الهامة ضخم الرأس ، وقد مرَّ فيما أخرجه ابن سعد.

وأخرج أحمد في المسند بسنده عن علي عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضخم الرأس عظيم العينين ... (٢).

ومنها : أن على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبوة ، وهو مثل بيضة النعامة ، فقد أخرج مسلم وغيره بسنده عن جابر بن سمرة ، قال : رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنه بيضة حمام (٣).

وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن السائب بن يزيد قال فيه : ثمّ قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه ، مثل زر الحجلة (٤).

وفسره في حاشية صحيح مسلم بأن الحجلة واحدة الحجال ، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرى. وقال : هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور. وقال بعضهم : المراد بالحجلة الطائر المعروف ، وزرها بيضها. وأشار إليه الترمذي ، وأنكره العلماء.

وفي حديث آخر رواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن سرجس ، جاء فيه : ثمّ دُرْتُ خلفه ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، عند ناغض كتفه اليسرى ، جُمعاً ، عليه خيلان ، كأمثال الثآليل.

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ١ / ٤٤١. ومثله في لسان العرب ٦ / ٢٨٨.

(٢) مسند أحمد ١ / ٨٩ ، ٩٦ ، ١٠١ ، ١٢٧. سنن الترمذي ٥ / ٥٩٨ وقال : هذا حديث حسن صحيح. المستدرك ٢ / ٦٦٢ ط حيدرآباد ٢ / ٦٠٦ وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. البداية والنهاية ٦ / ١٧.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ١٨٢٣. المستدرك ٢ / ٦٦٣ ، ط حيدرآباد ٢ / ٦٠٦ صحّحه الحاكم وقال : على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. الطبقات الكبرى ١ / ٤٢٥.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٨٦ ، ٤ / ١٨١٦. صحيح مسلم ٤ / ١٨٢٣.

١٢٥

وفسّره في الحاشية بأنه كجمع الكف بعد أن تُجمع الأصابع وتُضَم ، وعليه خيلان وهي الشامات في الجسد ، كأمثال الثآليل ، وهي حبيبات تعلو الجسد.

وفي صحيح ابن حبان عن جابر بن سمرة أنه قال : فرأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة النعامة يشبه جسده (١).

وعن ابن عمر ، قال : كان خاتم النبوة في ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل البُنْدقة من لحم ، عليه مكتوب : محمد رسول الله (٢).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشرب العينين حمرة ، وقد مرَّ فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ، وأخرج كذلك قول الحبر فيه : في عينيه حمرة (٣).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كثير العَرَق ، فقد أخرج ابن سعد بسنده عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضخم القدمين ، كثير العَرَق ، لم أرَ بعده مثله (٤).

* * *

قال الكاتب : (أدخلني أبي المسجد يوم الجمعة ، فرفعني فرأيت علياً يخطب على المنبر شيخاً ، أصلع ، ناتئ الجبهة ، عريض ما بين المنكبين في عينه اطرغشاش (يعني لين في عينه) مقاتل الطالبين [كذا].

فهل كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين رضي الله عنه؟؟

وأقول : كل الصفات التي ذكرت في هذا الحديث ليست من صفات الذم كما تصوَّرها الكاتب.

__________________

(١) صحيح ابن حبان ١٤ / ٢٠٦.

(٢) نفس المصدر ١٤ / ٢١٠.

(٣) الطبقات الكبرى ١ / ٤١٢.

(٤) المصدر السابق ١ / ٤١٤.

١٢٦

والاطرغشاش هو البرء والاندمال كما ذكره ابن منظور في لسان العرب (١) ، ولعل المراد هو أن عليها آثار البرء.

ولعلها آثار برء الرمد الذي أصاب عين علي عليه‌السلام لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطي الراية لرجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله.

فأبقى الله سبحانه (الاطرغشاش) من أجل الإبقاء على هذه الفضيلة التي تدل بأوضح دلالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام على غيره.

فلا ندري بعد هذا ما هو وجه العيب فيها؟!

ومن الواضح أن (مقاتل الطالبيين) ـ بياءين لا بياء واحدة كما كتبها مدَّعي الاجتهاد ـ ليس من كتب الشيعة ، وإنما هو كتاب أبي الفرج الأصفهاني الأموي ، فيا عجباً من هذا العالم النحرير الذي لا يعرف حال أبي الفرج الأصفهاني!!

ثمّ إن هذه الصفات التي ظن الكاتب أنها من صفات الذم قد ذكرت أيضاً في كتب أهل السنة في وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فقد أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد في باب صفة أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أبي إسحاق قال : خرجت مع أبي إلى الجمعة وأنا غلام ، فلما خرج علي فصعد المنبر قال لي أبي : قم أي عمر ، فانظر إلى أمير المؤمنين. قال : فقمت فإذا هو قائم على المنبر ، فإذا هو أبيض اللحية والرأس ، عليه إزار ورداء ، ليس عليه قميص. قال : فما رأيته جلس على المنبر حتى نزل عنه. قلت لأبي إسحاق : هل قنت؟ قال : لا. وفي رواية : لم أره خضب لحيته ، ضخم الرأس. رواه الطبراني بأسانيد ، ورجاله رجال الصحيح.

وعن شعبة قال : سألت أبا إسحاق : أنت أكبر من الشعبي؟ قال : الشعبي أكبر مني بسنة أو سنتين. قال : ورأى أبو إسحاق عليّا ، وكان يصفه لنا عظيم البطن ، أجلح ، قال شعبة : وكان أبو إسحاق أكبر من أبي البختري ، ولم يدرك أبو البختري

__________________

(١) لسان العرب ٦ / ٣١١.

١٢٧

عليّا ولم يره. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

وعن أبي رجاء العطاردي قال : رأيت عليّا سمتاً أصلع الشعر ، كأن بجانبه إهاب شاة. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ...

وعن الواقدي قال : يقال كان علي بن أبى طالب آدم ، ربعة ، مسمناً ، ضخم المنكبين ، طويل اللحية ، أصلع ، عظيم البطن ، غليظ العينين ، أبيض الرأس واللحية. رواه الطبراني ورجاله إلى الواقدي ثقات (١).

وعن أبي إسحاق : أن عليّا لما تزوج فاطمة قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زوَّجتَنيه أُعَيْمِش عظيم البطن. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد زوجتُكه وإنه لأول أصحابي سِلْماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً.

قال الهيثمي : رواه الطبراني ، وهو مرسل صحيح الإسناد (٢).

فما ذا يقول مدعي الفقاهة والاجتهاد بعد كل ما نقلناه؟! ألا يرى أن كل تلك الصفات مذكورة بعينها في كتب أهل السنة؟! فهل يسلِّم بأن أهل السنة يطعنون في أمير المؤمنين عليه‌السلام ويعيبونه؟! أو أنه يرى أن باء أهل السنة تجر ، وباء الشيعة لا تجر؟!

* * *

قال الكاتب : نكتفي بهذا القدر لننتقل إلى روايات تتعلق بفاطمة سلام الله عليها :

روى أبو جعفر الكليني في أصول الكافي أن فاطمة أخذت بتلابيب عمر ، فجذبته إليها ، وفي كتاب سليم بن قيس (أنها سلام الله عليها تقدَّمت إلى أبي بكر وعمر في قضية فَدَك ، وتشاجرت معهما ، وتكلمت في وسط الناس وصاحت ، وجمع

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٠٠.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٠١. المصنف لعبد الرزاق ٥ / ٣٤١. المعجم الكبير للطبراني ١ / ٩٤.

١٢٨

الناس لها) ص ٢٥٣.

فهل كانت عرمة (١) حتى تفعل هذا؟

وأقول : أما رواية الكليني المذكورة فهي ضعيفة السند ، فإن راويها هو عبد الله ابن محمد الجعفي ، وهو ضعيف ضعَّفه النجاشي في رجاله (٢).

ومن رواة هذا الخبر صالح بن عقبة ، وهو لم يثبت توثيقه ، بل ضعَّفه ابن الغضائري ، حيث قال : صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، غالٍ كذاب لا يُلتفت إليه (٣).

فإذا كانت الرواية بهذا الحال فكيف يصح لمدَّعي الفقاهة والاجتهاد أن يحتج بها على الشيعة؟!

ثمّ ما باله حذف من الرواية كل ما يمس القوم ، فجاء بها مبتورة هكذا؟! ولا بأس بنقل الرواية كاملة ، ليعلم القارئ ما أصاب الرواية من التحريف والتزوير.

فقد رواها الكليني بسنده عن عبد الله بن محمد الجعفي ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : إن فاطمة عليها‌السلام ـ لما أن كان من أمرهم ما كان ـ أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها ، ثمّ قالت : أما والله يا ابن الخطاب لو لا أني أكره أن يصيب البلاء مَنْ لا ذنب له ، لعلمت أني سأقسم على الله ثمّ أجده سريع الإجابة (٤).

وأما أخذ الزهراء عليها‌السلام بتلابيب عمر فقد أفاد المجلسي قدس‌سره في مرآة العقول أنه إنما كان للضرورة الملحّة ، من أجل إنقاذ حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام من أيدي القوم المجتمعين عليه ، وهو واجب على كل الخلق ...

وأما ما نقله عن كتاب سليم بن قيس من أن الزهراء سلام الله عليها تشاجرت

__________________

(١) أي شَرِسة.

(٢) رجال النجاشي ، ص ١٥٩ ط حجرية. وراجع معجم رجال الحديث ١٠ / ٣١٤.

(٣) الرجال لابن الغضائري ، ص ٦٩.

(٤) الكافي ١ / ٤٦٠.

١٢٩

مع أبي بكر وعمر ، وتكلَّمت في وسط الناس وصاحت ، فهو تحريف للكلام عن مواضعه. وإليك نصه :

قال : قالت فاطمة عليها‌السلام لهما ـ حين أراد انتزاعها وهي في يدها ـ : أليست في يدي وفيها وكيلي ، وقد أكلتُ غلَّتها ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حي؟ قالا : بلى. قالت : فلمَ تسألني البينة على ما في يدي؟ قالا : لأنها فيء المسلمين ، فإن قامت بيِّنة وإلا لم نمضها. قالت لهما ـ والناس حولهما يسمعون ـ : أفتريدان أن تردَّا ما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟ أيها الناس ، اسمعوا ما ركباها ، أرأيتما إن ادَّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم ، أتسألونني البينة أم تسألونهم؟ قالا : بل نسألك. قالت : فإن ادَّعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني؟ فغضب عمر وقال : إن هذا فيء للمسلمين وأرضهم ، وهي في يدي فاطمة تأكل غلَّتها ، فإن أقامت بينة على ما ادَّعتْ أن رسول الله وهبها لها من بين المسلمين ـ وهي فيئهم وحقهم ـ نظرنا في ذلك. فقالت : حسبي! أنشدكم بالله أيها الناس ، أما سمعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة؟ قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قالت : أفسيدة نساء أهل الجنة تدَّعي الباطل ، وتأخذ ما ليس لها؟ أرأيتم لو أن أربعة شهدوا عليَّ بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدِّقين عليَّ؟ فأما أبو بكر فسكت ، وأما عمر فقال : نعم ، ونوقع عليك الحد. فقالت : كذبت ولؤمت ، إلا أن تقر أنك لستَ على دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حدًّا لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن مَن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً لا تجوز عليهم شهادة ، لأنهم معصومون من كل سوء ، مطهَّرون من كل فاحشة. حدِّثْني ـ يا عمر ـ مَنْ أهلُ هذه الآية؟ لو أن قوماً شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرءون منهم ويحدُّونهم؟ قال : نعم ، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء. قالت : كذبت وكفرت ، ما هم وسائر الناس في ذلك سواء ، لأن الله عصمهم ، ونزل عصمتهم

١٣٠

وتطهيرهم ، وأذهب عنهم الرجس. فمن صدَّق عليهم فإنما يُكذِّب الله ورسوله. فقال أبو بكر : أقسمتُ عليك ـ يا عمر ـ لمَّا سكتَ (١).

هذا ما جاء في كتاب سليم بن قيس من احتجاج سيِّدة نساء العالمين عليها‌السلام على أبي بكر وعمر في شأن فدك ، فأين المشاجرة المكذوبة؟ وأين الصياح المزعوم؟!

* * *

قال الكاتب : وروى الكليني في الفروع أنها سلام الله عليها ما كانت راضية بزواجها من علي رضي الله عنه إذ دخل عليها أبوها عليه‌السلام وهي تبكي ، فقال لها : ما يُبكيكِ؟ فو الله لو كان في (أهلي) خير منه ما زَوَّجْتُكِه ، وما أنا زَوَّجتُكِ ولكنَّ اللهَ زَوَّجَكِ.

وأقول : هذا الحديث لا يدل على عدم رضا سيّدة النساء عليها‌السلام بزواجها من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولعل بكاءها سلام الله عليها لفراق بيت والدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لما سيصيبها من الشدائد والمصائب التي ستشارك فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أو أنها سلام الله عليها بكت ليلة زفافها حياء ، كما دلَّت على ذلك بعض الأخبار ، فقد أخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنَّفه بسنده عن ابن عباس في حديث طويل قال : فأقبلت [فاطمة عليها‌السلام] فلما رأت عليّا جالساً إلى جنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خفرت (٢) وبكت ، فأشفق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون بكاؤها لأن عليّا لا مال له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ فما ألوتُك في نفسي ، وقد طلبتُ لك خير أهلي ، والذي نفسي بيده لقد زوجتكه سعيداً في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين (٣).

فهذا الحديث يوضح ما هناك ، ولهذا لا نجد في كلماتها سلام الله عليها ما يدل

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ، ص ٢٢٦.

(٢) أي استحيت أشد الحياء.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ٥ / ٣٤٠ ، ط أخرى ٥ / ٤٨٨.

١٣١

على أنها كانت كارهة لزواجها من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو متبرِّمة منه.

وكلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت من أجل التسرية عنها ، ببيان أن عليّا عليه‌السلام هو خير الناس بعده ، وأن الله سبحانه هو الذي اختاره لها.

وستأتي أحاديث أخر رواها أهل السنة بهذا المضمون ، فانتظر.

* * *

قال الكاتب : ولما دخل عليها أبوها صلوات الله عليه ومعه بريده : لمَا أَبصرتْ أباها دمعت عيناها ، قال ما يبكيك يا بنيتي؟ قالت : (قِلَّةُ الطعم ، وكثرةُ الهَمِّ ، وشِدَّةُ الغَمِّ) ، وقالت في رواية : (والله لقد اشتد حزني ، واشتدت فاقَتِي ، وطال سقمي) كشف الغمة ١ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

وأقول : أما الحديث الأول فقد أخرجه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة ، بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم بنا يا بريدة نعود فاطمة. قال : فلما أن دخلنا عليها أبصرت أباها ودمعت عيناها. قال : ما يبكيك يا بنية؟ قالت : قلة الطعم ، وكثرة الهم ، وشدة السقم. قال : أما والله لما عند الله خير مما ترغبين إليه ، يا فاطمة أما ترضين أني زوَّجتك أقدمهم سِلْماً ، وأكثرهم عِلماً ، وأفضلهم حِلماً؟ والله إن ابنيك لمن شباب أهل الجنة (١).

وأما الحديث الثاني فقد أخرجه أحمد بن حنبل في المسند ، والطبراني في المعجم الكبير بسندهما عن معقل بن يسار قال : وضأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال : هل لك في فاطمة نعودها؟ فقلت : نعم. فقام متوكئاً عليَّ ، فقال : أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ، ويكون أجرها لك. قال فكأنه لم يكن عليَّ شيء ، حتى دخلنا على فاطمة عليها‌السلام ، فقال : كيف نجدك؟ فقالت : والله لقد اشتد حزني ، واشتدت فاقتي ، وطال سقمي. قال عبد الله وجدت في كتاب أبي بخط يده في هذا الحديث قال : أما ترضين أن أزوِّجك أقدم

__________________

(١) فضائل الصحابة ٢ / ٧٦٤.

١٣٢

أمتي سِلْماً ، وأكثرهم عِلْماً ، وأعظمهم حِلْماً (١).

وأود أن ألفت النظر إلى أن الإربلي أورد هذين الحديثين في كتابه (كشف الغمة) ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، وصرَّح بنقل الحديث الأول عن مناقب الخوارزمي ، والحديث الثاني عن مسند أحمد. فلا أدري كيف سوَّغ الكاتب لنفسه أن يكذب على القارئ ، ويوهمه بأن هذين الحديثين من مرويات الشيعة في كتبهم التي طعنوا بها في سيِّدة النساء؟!

هذا مع أن فاطمة سلام الله عليها إنما كانت تشكو لأبيها الفاقة والهم والسقم ، وهذا لا ارتباط له بأمير المؤمنين سلام الله عليه ، ولا دلالة في كلامها سلام الله عليها على عدم رضاها بزواجها منه بأية دلالة.

* * *

قال الكاتب : وقد وصفوا علياً رضي الله عنه وصفاً جامعاً فقالوا : (كان رضي الله عنه أسمر مربوعاً ، وهو إلى القصر أقرب ، عظيم البطن ، دقيق الأصابع ، غليظ الذراعين ، خمش [كذا] الساقين ، في عينه لين ، عظيم اللحية ، أصلع ، ناتئ الجبهة) مقاتل الطالبين [كذا] ص ٢٧.

فإذا كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين كما يقولون ، فكيف يمكن أَن ترضى به؟

وأقول : لقد قلنا فيما تقدم أن كتاب (مقاتل الطالبيين) ليس من كتب الشيعة ، كما أوضحنا فيما مرَّ أن كل تلك الأوصاف ليست عيوباً تقتضي كراهية التزويج ، فراجع.

هذا مع أن أهل السنة قد رووا كل تلك الصفات في كتبهم ، وقد مرَّ ذكر

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٦. المعجم الكبير للطبراني ٢٠ / ٢٢٩. مجمع الزوائد ٩ / ١٠١ ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ، وفيه خالد بن طهمان ، وثقه أبو حاتم وغيره ، وبقية رجاله ثقات.

١٣٣

بعضها ، وقد أخرج الطبراني وصفاً جامعاً في معجمه الكبير بسنده عن الواقدي ، قال : يقال : كان علي بن أبي طالب آدم ، ربعة ، مسمناً ، ضخم المنكبين ، طويل اللحية ، أصلع ، عظيم البطن ، غليظ العينين ، أبيض الرأس واللحية (١).

ونحن قد تكلمنا في أوصاف أمير المؤمنين عليه‌السلام آنفاً ، فلا حاجة للإعادة والتكرار ، وأوضحنا فيما مرَّ أن تلك الأوصاف كلها قد رواها أهل السنة في كتبهم ، وأما ما روي من طريق الشيعة فإما أنه ضعيف السند ، فلا يعول عليه ، وإما أنه من المحاسن المعروفة ، فراجع ما قلناه.

ولئن كان أمير المؤمنين عليه‌السلام متصفاً ببعض تلك الصفات كالصلع وبياض شعر الرأس واللحية ، فإن ذلك إنما كان في أخريات أيّامه عليه‌السلام ، لا في أوان شبابه ووقت تزويجه بسيِّدة النساء عليها‌السلام.

* * *

قال الكاتب : ونكتفي بهذه النصوص حرصاً على عدم الإطالة ، وكانت الرغبة أن ننقل ما ورد من نصوص بحق كل واحد من الأئمة عليهم‌السلام ، ثمّ عَدلْنا عن ذلك إلى الاكتفاء بخمس روايات وردت بحق كل واحد ، ثمّ رأينا أن الأمر أيضاً يطول إذ نقلنا خمس روايات وردت بحق النبي صلوات الله عليه ، وخمساً أخرى بحق أمير المؤمنين ، وخمساً أخرى بحق فاطمة سلام الله عليها ، فاستغرق ذلك صفحات عديدة ، لذلك سنحاول أن نختصر أكثر حتى نَطَّلعَ على خفايا أكثر.

نقل الكليني في الأصول من الكافي : أن جبريل نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا محمد ، إن الله يبشرك بمولود يُولَد من فاطمة ، تقتله أُمَّتُكَ من بعدك فقال : «يا جبريل ، وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود يُولَدُ من فاطمة تقتله أمتي من بعدي» ، فعرج ثمّ هبط فقال مثل ذلك : «يا جبريل وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ١ / ٩٤.

١٣٤

من بعدي» ، فعرج جبريل إلى السماء ، ثمّ هبط فقال : يا محمد إن ربك يُقرِئُكَ السلام ، ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فقال : إني رضيت. ثمّ أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يُولَدُ لك تقتلُه أمتي من بعدي ، فأرسلتْ إليه أن لا حاجة لي في مولود تقتله أُمَّتُك من بعدك ، وأرسل إليها أن الله عزوجل جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فأرسلت إليه : إني رضيت. فحملته كُرْهاً .. ووضعَتْه كرهاً ، ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها‌السلام ولا من أنثى ، كان يُؤْتَى (١) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيضع إبهامه في فيه فيمص ما يكفيه اليومين والثلاث.

أقول : هذا الحديث ضعيف السند بالإرسال ، فإن الكليني رحمه‌الله رواه عن محمد بن يحيى ، عن علي بن إسماعيل ، عن محمد بن عمرو الزيات ، عن رجل من أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

فهل يُتوقَّع من فقيه حاز رتبة الاجتهاد ألا يلتفت لضعف هذا الحديث مع وضوح إرساله حتى لصغار طلبة العلم؟!

* * *

قال الكاتب : ولست أدري هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يَرُدُّ أمراً بَشَّرَهُ الله به؟ وهل كانت الزهراء سلام الله عليها ترد أمراً قد قضاه الله وأراد تبشيرها به ، فتقول (لا حاجة لي به)؟ وهل حملت بالحسين وهي كارهة له ، ووضعته وهي كارهة له؟ وهل امتنعت عن إرضاعه حتى كان يُؤْتَى بالنبي [كذا] صلوات الله عليه ليرضعه من إبهامه ما يكفيه اليومين والثلاثة؟

وأقول : بعد أن تبين ضعف الحديث فالكلام فيه كله فضول ، ولكنا مع ذلك نجيبه على سؤاله الأول بأن الحديث لا دلالة فيه على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردَّ أمراً قضاه الله وقدَّره ، ولعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم أن الأمر لم يكن حتمياً ، أو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبَّ أن تتدخل

__________________

(١) في المصدر : يؤتى به النبي.

١٣٥

القدرة الإلهية لمنع ولادة ذلك المولود ، أو أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان عظم ألَمِه بما سيجري على الحسين عليه‌السلام ، أو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد إيضاح أن مولوداً يقتله الناس لا حاجة له فيه ، فلما أُخبر بأن الأئمة عليهم‌السلام سيكونون من ذرّيته رضي ، وعلم أنه مولود مبارك.

قال المجلسي قدس‌سره : والظاهر أن الإرسال والتبشير من الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانا على وجه التخيير لا الحتم ، حتى يكون ردّهما ردّاً على الله (١).

وكل ما قلناه في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي بعينه في قول الزهراء عليها‌السلام حرفاً بحرف.

وجواب سؤاله الثاني هو أن سيّدة النساء سلام الله عليها حملت بالحسين عليه‌السلام ووضعته وهي كارهة ما سيجري عليه من القتل ، لا أنها كانت كارهة له سلام الله عليه ، فبين الأمرين فرق واضح.

ولعل المراد بأن فاطمة سلام الله عليها حملت بالحسين عليه‌السلام كرهاً ووضعته كرهاً هو عين ما يصيب النساء من مشقة الحمل والوضع.

قال ابن كثير في تفسيره : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحم وغثيان وثقل وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، (وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدَّته (٢).

وأما السبب الذي من أجله لم ترضع فاطمة الزهراء سلام الله عليها ولدها الحسين عليه‌السلام فهو أمر لم نحط به ولا نعرفه ، ولعل هناك حكمة اقتضت ذلك نحن لا نعلم بها ، فليس كل خبر وصل إلينا.

ولعل الحكمة في ذلك هو أن الله سبحانه أراد أن ينبت لحم الحسين عليه‌السلام ويشتد عظمه من بركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا مع أن أهل السنة رووا أن التي أرضعت الحسن أو الحسين عليهما‌السلام هي أم

__________________

(١) مرآة العقول ٥ / ٣٦٤.

(٢) تفسير القرآن العظيم ٤ / ١٥٧.

١٣٦

الفضل ، فقد أخرج ابن ماجة وأحمد والحاكم وغيرهم بأسانيدهم عن قابوس ، قال : قالت أم الفضل : يا رسول الله رأيت كأن في بيتي عضواً من أعضائك. قال : خيراً رأيتِ ، تلد فاطمة غلاماً فترضعيه. فولدت حسيناً أو حسناً ، فأرضعته بلبن قُثَم ... (١).

وأخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس عن أم الفضل رضي الله عنها ، قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أرضع الحسين بن علي بلبن ابنٍ كان يقال له قُثَم. قالت : فتناوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فناولته إياه فبال عليه ، قالت : فأهويتُ بيدي إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزرمي ابني. قالت : فرشَّه بالماء (٢).

وأما إعطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إصبعه للحسين عليه‌السلام ليرضع منه فإن ذلك ـ لو سلَّمنا بصحة الحديث ـ إنما وقع بنحو الإعجاز والكرامة للحسين عليه‌السلام لينبت لحمه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لا محذور فيه ، ولا سيما أن أهل السنة جوَّزوا نبوع الماء من بين أصابع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى سقى جيشاً يبلغ ألفاً وخمسمائة رجل.

فقد أخرج البخاري في صحيحه وغيره بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : عطش الناس يوم الحديبية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه ركوة فتوضأ ، فجهش الناس نحوه ، فقال : ما لكم؟ قالوا : ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة ، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون ، فشربنا وتوضأنا. قلت : كم كنتم؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة (٣).

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ بسندهما عن أنس بن مالك ، أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالزوراء (قال : والزوراء بالمدينة عند

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ١٢٩٣. مسند أحمد ٦ / ٣٣٩ ، ٣٤٠. المعجم الكبير للطبراني ٣ / ٥ ، ٢٥. ٩ / ٢٥ ـ ٢٧. وراجع المستدرك ٣ / ١٩٤ ، ط حيدرآباد ٣ / ١٧٦. مسند أبي يعلى ٦ / ١٤٠. الطبقات الكبرى لابن سعد ٨ / ٢٧٨ ، ٢٧٩.

(٢) المستدرك ٣ / ١٩٤.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ١١٠٥. صحيح ابن خزيمة ١ / ٦٦. صحيح ابن حبان ١٤ / ٤٨٠.

١٣٧

السوق والمسجد فيما ثمة) ، دعا بقدح فيه ماء ، فوضع كفَّه فيه ، فجعل ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ جميع أصحابه ، قال : قلت : كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال : كانوا زهاء الثلاثمائة (١).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بإناء من ماء ، فأُتِيَ بقدح رَحْرَاح (٢) فيه شيء من ماء ، فوضع أصابعه فيه ، قال أنس : فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس : فحَزَرْتُ مَن توضَّأ ما بين السبعين إلى الثمانين (٣).

والأحاديث في ذلك كثيرة جداً رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم ، ولا حاجة لنقلها بعد رواية البخاري ومسلم لها (٤).

بل إن القوم رووا أن الناس أكلوا من بين أصابعه الشريفة ، فقد أخرج الطبراني في الكبير وأبو عوانة في سننه وغيرهما ، عن أنس في حديث طويل قال : فقال [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : اجمعوا ما عندكم ، ثمّ قرِّبوه. وجلس مَن معه بالسدة ، فقربنا ما كان عندنا من خبز وتمر ، فجعلناه على حصيرنا ، فدعا فيه بالبركة ، ثمّ قال : أَدخِل عليَّ ثمانية. فأدخلنا عليه

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ١١٠٤. صحيح مسلم ٤ / ١٧٨٣.

(٢) هو القدح الواسع القصير الجدار.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٨٨.

(٤) راجع سنن الترمذي ٥ / ٥٩٦ ، ٥٩٧. مسند أحمد ١ / ٤٦٠ ، ٣ / ١٠٦ ، ١٣٢ ، ١٣٩ ، ١٤٧ ، ٢١٥ ، ٢٨٩ ، ٣٢٩ ، ٣٥٣ ، ٣٦٥. سنن النسائي ١ / ٦٤ ، ٦٥. ط أخرى ١ / ٦٠ ، ٦١. سنن الدارمي ١ / ١٨ ـ ٢٠. صحيح ابن حبان ١٤ / ٤٧٦ ـ ٤٨٤. الموطأ ، ص ٢٤. الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ١٨٢ ، ٢ / ٩٨. صحيح ابن خزيمة ١ / ٦٥ ، ٧٤ ، ١٠٢. مسند أبي عوانة ٤ / ٤٢٨ ، ٥ / ١٣٧. السنن الصغرى للبيهقي ١ / ٣٤. مجمع الزوائد ٨ / ٢٩٩ ـ ٣٠٢ ، ٩ / ٩. السنن الكبرى للبيهقي ١ / ٣٠ ، ٤٣. سنن الدارقطني ١ / ٧١. السنن الكبرى للنسائي ١ / ٨٠ ، ٨١. المعجم الأوسط للطبراني ٢ / ١٢١. مسند الطيالسي ، ص ٢٣٩. وغيرها كثير.

١٣٨

ثمانية ، وجعل كفَّه فوق الطعام وقال : كلوا وسمُّوا الله. فأكلوا من بين أصابعه حتى شبعوا ، ثمّ أمرني أن أُدخِل عليه ثمانية ، وقام الأولون ففعلت ، ودخلوا عليه فأكلوا حتى شبعوا ... الحديث (١).

فإذا جاز كل ذلك وتكرَّر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً ونحن لا نمنعه ، فما المحذور في أن يتفجَّر من بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يغتذي به ولده الحسين عليه‌السلام؟

* * *

قال الكاتب : إن سيِّدنا ومولانا الحسين الشهيد سلام الله عليه أجل وأعظم من أن يقال بحقه مثل هذا الكلام ، وهو أجل وأعظم من أن تكره أُمّه حملَه ووضعَه. إن نساء الدنيا يتمنين أن تلد كل واحدة منهن عشرات الأولاد مثل الإمام الحسين سلام ربي عليه ، فكيف يمكن للزهراء الطاهرة العفيفة أن تكره حمل الحسين ، وتكره وَضْعَه ، وتمتنع عن إرضاعه؟؟

وأقول : لقد أجبنا على ذلك بما فيه الكفاية ، فلا حاجة للتكرار ، ولكن أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن لفظة (سيِّدنا الحسين) ليست من الألفاظ المتعارفة عند الشيعة ، بل هي من الألفاظ المتعارفة عند أهل السنة ، وصدق مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب الذي يُحمِّل النصوص ما لا تحتمل من المعاني السيِّئة والمحامل الباطلة ، فلا أدري من أي عبارة في الحديث فهم أن الزهراء سلام الله عليها امتنعت من إرضاع ولدها الحسين عليه‌السلام؟ فإن الحديث ظاهر في أن الحسين عليه‌السلام لم يرضع من فاطمة عليها‌السلام ولا من أية أنثى ، ولا يدل على امتناع الزهراء سلام الله عليها عن إرضاعه عليه‌السلام كما هو واضح.

__________________

(١) المعجم الكبير ٢٥ / ١١٠. مسند أبي عوانة ٥ / ١٨١.

١٣٩

* * *

قال الكاتب : في جلسة ضمت عدداً من السادة وطلاب الحوزة العلمية تحدث الإمام الخوئي فيها عن موضوعات شتى ثمّ ختم كلامه بقوله : قاتل الله الكفرة ، قلنا : مَن هم؟ قال : النواصب ـ أهل السنة ـ يسبون الحسين صلوات الله عليه بل يسبون أهل البيت!!

ما ذا أقول للإمام الخوئي؟!

وأقول : مع ثبوت عدم وثاقة الناقل فإن كل القضايا التي لا مصدر لها إلا مجرد ادِّعاء المشاهدة لا قيمة لها عندنا.

هذا مع أن ما نقله عن السيد الخوئي قدَّس الله نفسه الشريفة بعيد عن أسلوبه وطريقة بحثه ، بل هو بعيد عن صريح فتاواه بأن أهل السنة مسلمون ، وهذا يعرفه كل تلامذته وكل من اطلع على آثاره وفتاواه.

فهل نترك ما نعلمه باليقين لمثل هذه النقولات التي لا يُعرف هوية ناقلها؟!

ثمّ إن السيد الخوئي لم تجر له عادة بأن يعقد أية جلسة خاصة بالسادة وطلاب الحوزة ، وهذا أمر معروف عند كل من درس في الحوزة العلمية النجفية ، إلا أن مدعي الفقاهة والاجتهاد ظن أن السيد الخوئي ـ باعتبار أنه زعيم الحوزة ـ لا بد أن يعقد مثل هذه الجلسات ليعطي تعليماته لتلاميذه وطلاب الحوزة ، وهو وهم فاحش وخطأ فادح.

ثمّ ما علاقة هذه الحادثة وما تقوَّله على السيِّد الخوئي بالموضوع الذي يتحدَّث فيه الكاتب ، وهو طعن الشيعة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام ، ليسوغ له أن يحشر هذه الحادثة المكذوبة في البَيْن؟!

١٤٠