لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

الشيخ علي آل محسن

لله وللحقيقة - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7635-30-3
الصفحات: ٧١٧

ومنها : ما دلَّ على أن النبي في رأسه قمل ، وتفليه امرأة أجنبية : فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل على أم حَرَام بنت مِلحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه ... (١)

ومنها : ما دلَّ على أن النبي لا يغسل ثيابه من المني : فقد أخرج مسلم وغيره عن عائشة في المني قالت : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وفي رواية أخرى ، قالت : لقد رأيتني وإني لأحكُّه من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يابساً بظفري (٣).

وفي رواية ثالثة ، قالت : ثمّ كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصلي فيه (٤).

قال ابن حجر في تلخيص الحبير : حديث عائشة : (كنت أفرك المني من ثوب

__________________

باب الحراب والدرق يوم العيد ، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام ، ٤ / ٢٢٥ ، ط محققة ١ / ٢٩٥ ، ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٣ / ١٠٩٦. صحيح مسلم ٢ / ٦٠٧ ـ ٦٠٩. صحيح ابن حبان ١٣ / ١٨٦ ـ ١٨٩. سنن النسائي ٣ / ٢١٦ ، ٢١٨. صحيح سنن النسائي ١ / ٣٤٩. السنن الكبرى للبيهقي ١٠ / ٢١٨. السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٣٠٩.

(١) صحيح البخاري ٤ / ١٩ ، ط محققة ٢ / ٨٦٣ ، ٤ / ٢١٩٢. صحيح مسلم ٣ / ١٥١٨. صحيح ابن حبان ١٥ / ٥١. الموطأ ، ص ٢٣٧. سنن الترمذي ٤ / ١٧٨ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. سنن أبي داود ٣ / ٦. صحيح سنن أبي داود ٢ / ٤٧٢. مسند أبي عوانة ٤ / ٤٩٤. السنن الكبرى للبيهقي ٩ / ١٦٥. السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٢٧. سنن النسائي ٦ / ٣٤٧. صحيح سنن النسائي ٢ / ٦٦٧. الأدب المفرد ، ص ٢٥٧. حلية الأولياء ٢ / ٦١.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٢٤٠. سنن النسائي ١ / ١٧٢. صحيح سنن النسائي ١ / ٦١.

(٣) صحيح مسلم ١ / ٢٤٠.

(٤) صحيح مسلم ١ / ٢٣٨. سنن أبي داود ١ / ١٠١. صحيح سنن أبي داود ١ / ٧٥. صحيح ابن حبان ٤ / ٢١٧. السنن الكبرى للبيهقي ٢ / ٤١٧. مسند الشافعي ، ص ٣٤٥.

١٠١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فركاً فيصلي فيه) متفق عليه من حديثها ، واللفظ لمسلم ، ولم يخرج البخاري مقصود الباب ، ولأبي داود : (ثمّ يصلي فيه) ، وللترمذي : (ربما فركته من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصابعي) ، وفي رواية لمسلم : (وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يابساً بظفري). قوله : (وروي أنها كانت تفركه وهو في الصلاة) ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي من حديث محارب بن دثار عن عائشة قالت : (ربما حتته من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي). لفظ الدارقطني ولفظ ابن خزيمة : أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي. ولابن حبان أيضاً من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة قالت : لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي (١).

ومنها : ما دلَّ على أن النبي كلما أبطأ عنه الوحي عزم على قتل نفسه : فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما ، عن عائشة ـ في حديث طويل ـ قالت : وفَتَر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلَغَنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردَّى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذِروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل ، فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال مثل ذلك (٢).

هذا غيض من فيض ، ولو أردنا أن نستقصي ما روي في كتب أهل السنة من أمثال هذه الأحاديث الباطلة لطال بنا المقام ، ولخرجنا بذلك عن موضوع الكتاب ، إلا أن فيما ذكرناه غنىً وكفاية (٣).

__________________

(١) تلخيص الحبير ١ / ٣٢.

(٢) صحيح البخاري ٩ / ٣٨ ، ط محققة ٤ / ٢١٨٥. صحيح ابن حبان ١ / ٢١٦. مسند أحمد ٦ / ٢٣٣. تفسير القرآن العظيم ٤ / ٥٢٧. المصنف لعبد الرزاق ٥ / ٢١٦.

(٣) للاطّلاع على المزيد من أمثال هذه الأحاديث راجع كتاب (أبو هريرة) للسيد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه ، وكتاب (تأملات في الصحيحين) لمحمد صادق نجمي ، وكتاب (فاسألوا أهل الذكر) للدكتور محمد التيجاني السماوي.

١٠٢

* * *

قال الكاتب : كنا نقرأ أصول الكافي مرة مع بعض طلبة الحوزة في النجف على الإمام الخوئي ، فرد الإمام الخوئي قائلاً : انظروا إلى هذه المعجزة ، نوح سلام الله عليه يخبر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنبوَّته قبل ولادته بألوف السنين.

بقيت كلمات الإمام الخوئي تتردَّد في مسمعي مدة وأنا أقول في نفسي : كيف يمكن أن تكون هذه معجزة وفيها حمار يقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله [كذا] : بأبي أنت وأمي؟! وكيف يمكن لأمير المؤمنين سلام الله عليه أن ينقل مثل هذه الرواية؟!

لكني سكت كما سكت غيري من السامعين.

وأقول : هذا من أخطائه الفاضحة وسقطاته الواضحة ، فإنه ظن أن من ضمن مناهج الحوزة العلمية في النجف دراسة كتب الأحاديث التي من أهمها كتاب (أصول الكافي) ، قياساً على ما هو متعارف في المناهج الدينية السُّنّية التي يدرسون فيها كتب الأحاديث المشهورة مثل البخاري ومسلم وغيرهما.

وبهذا يتضح كذب الحادثة من أساسها.

هذا مع أن السيد الخوئي لا يمكن أن يقول ما نسبه إليه اعتماداً على رواية مرسلة لا سند لها ، فإن منهجه قدس‌سره معروف عند كل طلبة الحوزة ، وهو أنه لا يعوِّل على الأحاديث الضعيفة وإن عمل بها المشهور.

ومن سقطاته الطريفة في هذه القصة أنه ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الكيفية : (صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله) ، مع أن هذه الكيفية لا تصدر من شيعي ، فضلاً عن عالم قد بلغ هذا العمر المزعوم ، ولا تصدر إلا ممن لم يعتَدْ على الكيفية المتعارفة للصلاة عند الشيعة.

* * *

١٠٣

قال الكاتب : ونقل الصدوق عنِ الرضا رضي الله عنه في قوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتُخْفِي في نفسك ما الله مبْدِيه (الأحزاب / ٣٧) قال الرضا مفسراً هذه الآية : (إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده ، فرأى امرأته زينب تغتسل ، فقال لها : سبحان الذي خلقك) عيون أخبار الرضا ص ١١٣.

فهل ينظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى امرأة رجل مسلم ، ويشتهيها ، ويعجب بها ، ثمّ يقول لها : سبحان الذي خَلقك؟! أليس هذا طعناً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

وأقول : هذا الخبر ضعيف السند ، فإن من جملة رواته تميم بن عبد الله بن تميم القرشي ، فإنه وإن كان من شيوخ الإجازة للصدوق رحمه‌الله ، وأكثر الصدوق من الترضي عنه ، إلا أنه لم يثبت توثيقه في كتب الرجال ، بل ضعفه ابن الغضائري والعلَّامة الحلي وغيرهما.

ومن رواته والد الراوي السابق ، وهو مهمل في كتب الرجال.

وراوي هذا الحديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام هو علي بن محمد بن الجهم الذي قال عنه الصدوق بعد أن نقل الحديث المذكور بكامله :

هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم‌السلام (١).

وأما من ناحية متن الحديث فلم يرد فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتهى زوجة زيد بن حارثة ، ولا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُعجِب بها كما قال الكاتب ، وإنما قال لما رآها : (سبحان الذي خلقك) ، والتسبيح ذِكْر من أذكار الله سبحانه التي يثاب عليها قائلها.

ولا دلالة في الحديث على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رآها عارية ، بل رآها تغتسل ، ومن المستبعد أن تغتسل عاريةً ـ مع شدة صونها وعفافها ـ في مكان تكون عرضة لرؤية

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٢.

١٠٤

كل من يدخل إلى دارها ، وإنما كانت تغتسل في مكان لا يراها أحد ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم أنها تغتسل ، من دون أن يرى شخصها ، فقال : سبحان الله الذي خلقك ، وتنزَّه عن أن يكون له ولد يحتاج للاغتسال والتنظف.

وهذا المعنى الذي قلناه قد ورد في الحديث نفسه ، فقد جاء فيه :

فقال النبي لما رآها تغتسل : سبحان الذي خلقك أن يتَّخذ له ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال. فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله لها : (سبحان الذي خلقك!). فلم يعلم زيد ما أراد بذلك ، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها ، فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : يا رسول الله إن امرأتي في خلقها سوء ، وإني أريد طلاقها. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمسك عليك زوجك ، واتق الله. وقد كان الله عزوجل عرَّفه عدد أزواجه ، وأن تلك المرأة منهن ، فأخفى ذلك في نفسه ، ولم يبده لزيد ، وخشي الناس أن يقولوا : إن محمداً يقول لمولاه : (إن امرأتك ستكون لي زوجة) يعيبونه بذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) يعنى بالإسلام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) يعنى بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ، ثمّ إن زيد بن حارثة طلَّقها واعتدَّت منه ، فزوَّجها الله عزوجل من نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنزل بذلك قرآناً ، فقال عزوجل : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (١).

هذا مع أنه قد ورد في كتب أهل السنة ما هو أصرح من ذلك ، كرؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزينب وهي مكشوفة الشعر ، وأنها أعجبته فرغب في نكاحها ، فتزوجها من غير خطبة ولا شهادة.

فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير ، والبيهقي في السنن الكبرى ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، وابن عساكر في تاريخ دمشق عن زينب بنت جحش أنها قالت في

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ١٨١.

١٠٥

حديث : فطلقني فبَتَّ طلاقي ، فلما انقضت عدَّتي لم أشعر إلا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مكشوفة الشعر ، فقلت : هذا أمر من السماء؟! وقلت : يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال : الله المزوِّج ، وجبريل الشاهد (١).

وأخرج الطبراني في الكبير أيضاً بسنده عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بيت زيد بن حارثة ، فاستأذن فأذنت له زينب ولا خمار عليها ، فألقت كُمَّ درعها على رأسها ، فسألها عن زيد فقالت : ذهب قريباً يا رسول الله. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله همهمة ، قالت زينب : فاتبعته فسمعته يقول : (تبارك مصرِّف القلوب). فما زال يقولها حتى تغيب (٢).

وقال الطبري في تفسيره : يقول تعالى ذكره لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاباً من الله له : وَاذكر يا محمد إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بالهداية ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فأُلقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيِّه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها ، وَاتَّقِ اللهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها ، والله مبدٍ ما تخفي في نفسك من ذلك ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمَرَ رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها ، والله أحق أن تخشاه من الناس (٣).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٢٤٧. المعجم الكبير للطبراني ٢٤ / ٤٠. السنن الكبرى ٧ / ١٣٧. تاريخ مدينة دمشق ٥٠ / ٢٣٠ ، ٢٣١.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٢٤ / ٤٤. مجمع الزوائد ٩ / ٢٤٧.

(٣) تفسير الطبري ٢٢ / ١٠ ـ ١١.

١٠٦

وقال ابن الجوزي في زاد المسير : فلما زوَّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيداً مكثتْ عنده حيناً ، ثمّ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى منزل زيد فنظر إليها ، وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش ، فوقعت في قلبه ، فقال : (سبحان مقلِّب القلوب). وفطن زيد فقال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال بعضهم : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزل زيد ، فرأى زينب فقال : (سبحان مقلب القلوب). فسمعت ذلك زينب ، فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ، فعلم أنها قد وقعت في نفسه ، فأتاه فقال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال ابن زيد : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى باب زيد ، وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فرأى زينب ، فلما وقعت في قلبه كرهت إلى الآخر ، فجاء فقال : يا رسول الله أريد فراقها. فقال له : اتق الله. وقال مقاتل : لما فطن زيد لتسبيح رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها ، فإن فيها كِبْراً ، فهي تَعَظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله. ثمّ إن زيداً طلَّقها بعد ذلك (١).

وقال القرطبي في تفسيره : واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين ، منهم الطبري وغيره ، إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش ، وهي في عصمة زيد ، وكان حريصاً على أن يطلِّقها زيد فيتزوجها هو ، ثمّ إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ، ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر ، وأذى باللسان وتعظُّماً بالشرف ، قال له : (اتق الله ـ أي فيما تقول عنها ـ وأمسك عليك زوجك). وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها ، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف.

وقال مقاتل : زوَّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش من زيد ، فمكثت عنده حيناً ، ثمّ إنه عليه‌السلام أتى زيداً يوماً يطلبه ، فأبصر زينب قائمة ، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش ، فهويها وقال : (سبحان الله مقلب القلوب!). فسمعت زينب بالتسبيحة ، فذكرتها لزيد ، ففطن زيد فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في طلاقها ، فإن

__________________

(١) زاد المسير ٦ / ٢٠٩.

١٠٧

فيها كِبْراً ، تَعَظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها. فقال عليه‌السلام : (أمسك عليك زوجك واتق الله). وقيل : إن الله بعث ريحاً ، فرفعت الستر وزينب متفضلة (١) في منزلها ، فرأى زينب فوقعت في نفسه ، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لما جاء يطلب زيداً ، فأخبرته بذلك ، فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال ابن عباس : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) الحب لها ، (وَتَخْشَى النَّاسَ) أي تستحييهم ، وقيل : تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت : طلِّقْها. ويقولون : أمَرَ رجلاً بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلقها. وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ في كل الأحوال. وقيل : والله أحق أن تستحي منه ، ولا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك ، فعاتبه الله على جميع هذا (٢).

وكأنما شقَّ على ابن كثير نسبة كل ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال في تفسيره : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف ، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً ، لعدم صحَّتها فلا نوردها (٣).

فهل بعد هذا كله يحق للكاتب أن يتَّهم الشيعة بأنهم يطعنون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد كل ما رووه وقالوه في هذه القضية؟

* * *

قال الكاتب : وعن أمير المؤمنين أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده أبو بكر وعمر قال : (فجلستُ بينه وبين عائشة ، فقالت عائشة : ما وجدتَ إلا فخذي وفخذ رسول

__________________

(١) قال ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر ٣ / ٤٥٦ : تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها ، أو كانت في ثوب واحد. وقال ابن منظور في لسان العرب ١١ / ٥٢٦ : الفضلة : الثياب التي تبتذل للنوم ، لأنها فضلت عن ثياب التصرف.

(٢) تفسير القرطبي ١٤ / ١٨٩.

(٣) تفسير القرآن العظيم ٣ / ٤٩١.

١٠٨

الله؟ فقال : مه يا عائشة) البرهان في تفسير القرآن ٤ / ٢٢٥.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند جداً ، فإنها مشتملة على مجموعة من المجاهيل : منهم أبو محمد الفحام ، وعمّه (وهو عمر بن يحيى) ، وإسحاق بن عبدوس ، ومحمد بن بهار بن عمار.

وأما متن الحديث فلا دلالة فيه على ما ساقه الكاتب لأجله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام لم يسئ الأدب في حضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يفعل ما يشينه أو يشين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجلوسه بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين عائشة لا يدلّ بأية دلالة على ضيق المكان بينهما وملامسة جسمه لجسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لجسم عائشة ، وكلام عائشة لا قيمة له ، لأنه ناشئ من غيرتها من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن ضيقها من جلوسه بينها وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أكثر من ذلك ولا أقل.

ومن الطريف أن الكاتب الذي ساق هذا الحديث للتدليل على أن الشيعة يطعنون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد ذكر صدر الحديث ، وبتر ذيله ولم يكمله ، لأنه قد ساءه ما جاء في ذيله من مدح أمير المؤمنين عليه‌السلام وذم عائشة ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه يا عائشة ، لا تؤذيني في علي ، فإنه أخي في الدنيا ، وأخي في الآخرة ، وهو أمير المؤمنين ، يجلسه الله يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أولياءه الجنة ، وأعداءه النار.

فلا ندري بعد هذا كيف استفاد الكاتب اشتمال هذا الحديث على الطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

* * *

قال الكاتب : وجاء مرة أخرى فلم يجد مكاناً ، فأشار إليه رسول الله : هاهنا ـ يعني خلفه ـ وعائشة قائمة خلفه وعليها كساء : فجاء علي رضي الله عنه فقعد بين رسول الله وبين عائشة ، فقالت وهي غاضبة : (ما وجدتَ لاسْتِكَ ـ دُبُرَكَ أو مُؤَخِّرَتِكَ ـ مَوْضعاً غير حجري؟ فغضبَ رسولُ الله ، وقال : يَا حُميراء ، لا تؤذيني في أخي) كتاب

١٠٩

سليم بن قيس ص ١٧٩.

وأقول : هذا الحديث كسابقه لا يدل على الطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأية دلالة ، وكل ما فيه هو ما قالته عائشة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بداعي غيرتها منه عليه‌السلام كما قلنا في الحديث السابق ، وإلا فلا دلالة في الحديث على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام مسَّ عائشة ، أو فعل ما يتنافى مع الأدب ، وإنما كان ممتثلاً لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اختيار المكان الذي جلس فيه.

وقد ساء الكاتب هنا أيضاً أن يكمل الحديث ويذكر ما فيه من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا يكشف عن دخيلته السُّنّية التي يسوؤها ذكر أي منقبة لأهل البيت عليهم‌السلام عامة ، ولأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة.

وتكملة الحديث هي : وقال : مه يا حميراء ، لا تؤذيني في أخي علي ، فإنه أمير المؤمنين ، وسيِّد المسلمين ، وصاحب لواء الحمد ، وقائد الغُرِّ المحجَّلين يوم القيامة ، يجعله الله على الصراط ، فيقاسم النار ، فيُدخل أولياءه الجنة ، ويُدخل أعداءه النار.

والطريف أنه حرف الحديث أي تحريف ، فحذف جملة : (والبيت غاصٌّ بأهله ، فيهم الخمسة أصحاب الكتاب ، والخمسة أصحاب الشورى) ، وحذف دفع عائشة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحذف الأوصاف التي وصف بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام.

فتأمل رحمك الله في هذه التحريفات المقصودة التي تنم عما في نفس الرجل نحو أمير المؤمنين عليه‌السلام.

* * *

قال الكاتب : وروى المجلسي أن أمير المؤمنين قال : (سافرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس له خادم غيري ، وكان معه لحاف ليس له غيره ، ومعه عائشة ، وكان رسول الله ينام بيني وبين عائشة ليس علينا ثلاثتنا لحاف غيره ، فإذا قام إلى الصلاة ـ صلاة الليل ـ يحط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف

١١٠

الفراش الذي تحتنا) بحار الأنوار ٤٠ / ٣.

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، لأنها مروية في كتاب الاحتجاج مرسلة عن كتاب سليم بن قيس.

وهي كما سبقها لا تدل على طعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الكاتب توهَّم أن الفراش كان ضيِّقاً حتى صار أمير المؤمنين عليه‌السلام قريباً من عائشة ، مع أن الحديث لا يدل على ذلك ، ويدل على سعة اللحاف أنه من غير المحتمل أن ينام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فراش وهو ملتصق بجسم عائشة ومعهما رجل آخر.

ومنه يتضح أن اللحاف كان واسعاً ، وأن الفاصلة بين علي عليه‌السلام وبين عائشة كانت واسعة ، وترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي وعائشة على الحال الموصوفة في الحديث لا محذور فيه ولا غضاضة ، فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يُتَّهم باختلاس سمع ولا نظر ، ولا أحد أحرص منه على رعاية جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيانة عرضه ، وكل ما يقال بعد هذا فهو من فضول الكلام الذي لا نفع فيه.

على أن أهل السنة قد رووا في كتبهم ما يشبه هذه الحادثة ، فقد أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه وصحَّحه ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة وغيرهما ، بسندهما عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غداة باردة ، فأتيته وهو مع بعض نسائه في لحافه ، فأدخلني في اللحاف ، فصرنا ثلاثة.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي (١).

وأخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن الزبير قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة باردة أو في غداة باردة ، فذهبت ثمّ جئت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه بعض نسائه في لحاف ، فطرح عليَّ طرف ثوبه أو طرف الثوب (٢).

* * *

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٤١٠ ، ط حيدرآباد ٣ / ٣٦٤. كتاب السنة ٢ / ٥٩٧.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٥٢. مسند البزار ٣ / ١٨٣.

١١١

قال الكاتب : هل يرضى رسول الله أن يجلس علي في حجر عائشة امرأته؟ ألا يغار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على امرأته وشريكة حياته إذا تركها في فراش واحد مع ابن عمه الذي لا يُعْتَبَرُ من المحارم؟ ثمّ كيف يرتضي أمير المؤمنين ذلك لنفسه؟!

وأقول : إن الأحاديث السابقة لا دلالة فيها على أن عليّا عليه‌السلام جلس في حجر عائشة ، حتى تأتي غيرة النبي عليه‌السلام كما قال الكاتب.

وأما تركهما بالحالة المذكورة في الحديث فليس تركاً لهما في فراش واحد ، وإنما كان اللحاف واسعاً ، وكانت بينهما فاصلة واسعة كما أوضحناه فيما تقدم.

وأمير المؤمنين عليه‌السلام وإن لم يكن من محارم عائشة إلا أنه لا يُتَّهم معها بسوء ، وهذا كاف في تجويز وقوع مثل هذا الفعل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتَّهم عائشة ولا أمير المؤمنين عليه‌السلام بأية تهمة ، فما هو المحذور حينئذ؟

* * *

قال الكاتب : قال السيد [كذا] علي غروي أحد أكبر العلماء في الحوزة : (إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بد أن يدخل فَرْجُه النار ، لأنه وَطِئَ بعضَ المشركات) يريد بذلك زواجه من عائشة وحفصة ، وهذا كما هو معلوم فيه إساءة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه لو كان فَرْجُ رسولِ الله يدخل النار فلن يدخل الجنة أحدٌ أبداً.

وأقول : إن الميرزا علي الغروي قدَّس الله نفسه الزكية لا يصدر منه هذا الهذيان.

وإذا كان الكاتب لا يدري أن الميرزا علي الغروي شيخ أو سيّد فكيف يوثق في نقله ويؤخذ بشهادته؟

ونحن تشرفنا بالحضور مدّة في درسه الشريف ، وكان يخصّنا بأمور كثيرة ، ولم نسمع منه أمثال هذه الأباطيل المفضوحة التي لا يتفوَّه بها جاهل فضلاً عن عالم

١١٢

فاضل ، ولو قالها لاشتهرت عنه حال حياته ، لما فيها من الجرأة العظيمة على مقام النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما فيها من المخالفات الواضحة لإجماعات المسلمين كافة ، إذ كيف يتحقق دخول الفرج وحده في النار من دون سائر الجسد؟

وكيف يعاقَب خصوص الفرج مع أن الملامسة في النكاح تحصل بالبدن كله؟!

وكيف تستوجب ملامسة الكافرة دخول العضو الملامس لها في النار مع جواز وطء الكتابيات بنكاح أو ملك يمين؟

مضافاً إلى أن لازم العقاب بإدخال الفرج في النار ـ لو تعقَّلناه ـ هو تحقق الذنب العظيم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنافي لعصمته المسلَّمة بين المسلمين.

* * *

قال الكاتب : أكتَفي بهذه الروايات الست المتعلقة برسول الله صلوات الله عليه لانتقلَ الى غيرها. فقد أوردوا روايات في أمير المؤمنين رضي الله عنه هذه بعضها :

عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال : (أتى عمر بامرأة قد تعلقت برجل من الأنصار كانت تهواه ، فأخذت بيضة وصَبَّت البياض على ثيابها وبين فخذيها ، فقام علي فنظر بين فخذيها ، فاتَّهَمَها) بحار الأنوار ٤ / ٣٠٣.

ونحن نتساءل : هل ينظر أمير المؤمنين بين فخذي امرأة أجنبية؟ وهل يُعْقَلُ أن ينقل الإمام الصادق هذا الخبر؟ وهل يقول هذا الكلام رجل أحبَّ أهل البيت؟

وأقول : المذكور في الحديث هو : فنظر أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بياض على ثوب المرأة وبين فخذيها ، فاتهمها أن تكون احتالت لذلك ، قال : ائتوني بماء حار قد غَلى غلياناً شديداً ، ففعلوا ، فلما أُتي بالماء أمرهم فصبّوا على موضع البياض ، فاشتوى ذلك البياض ، فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام فألقاه في فيه ، فلما عرف طعمه ألقاه من فيه ، ثمّ أقبل على المرأة حتى أقرَّت بذلك ، ودفع الله عزوجل عن الأنصاري

١١٣

عقوبة عمر (١).

ومعنى الحديث واضح ، فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام نظر إلى البياض الذي كان على ثياب المرأة عند فخذيها ، وليس المراد أنه عليه‌السلام نظر إلى نفس الفخذين كما زعمه مدَّعي الفقاهة والاجتهاد ، وإلا فلا بد أن يقال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد كشف عن فخذيها فنظر إليهما! أو أنها كانت مكشوفة الفخذين ، فنظر إليهما! وكلا الأمرين لا يدل عليهما الحديث ، ولا يصح حمله عليهما.

* * *

قال الكاتب : وعن أبي عبد الله رضي الله عنه قال : قامت امرأة شنيعة إلى أمير المؤمنين وهو على المنبر ، فقالت : هذا قاتِل الأحِبَّةِ ، فنظر إليها ، وقال لها : (يا سلفع ، يا جريئة ، يا بذية ، يا مذكرة ، يا التي لا تحيض كما تحيض النساء ، يا التي على هَنِهَا شيء بينٌ مدليَ) البحار ٤١ / ٢٩٣.

فهل يتلفظ أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام البذيء؟ هل يخاطب امرأة بقوله : يا التي على هنها شيء بين مدلي؟ وهل ينقل الصادق رضي الله عنه مثل هذا الكلام الباطل؟ لو كانت هذه الروايات في كتب أهل السنة لأقمنا الدنيا ولم نُقعدها ، ولفضحناهم شرَّ فضيحة ، ولكن في كتبنا نحن الشيعة!

وأقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من رواها عن الصادق عليه‌السلام بكار بن كردم ، وهو مهمل في كتب الرجال ، فلم يُذكَر لا بمدح ولا بقدح. وعيسى بن سليمان وهو مجهول الحال.

وروى الخبر عنهما عمر بن عبد العزيز ، وهو إمامي مخلط كما قال النجاشي في

__________________

(١) الكافي ٧ / ٤٢٢. تهذيب الأحكام ٦ / ٣٠٤. وسائل الشيعة ١٨ / ٢٠٦. بحار الأنوار ٤٠ / ٣٠٣.

١١٤

رجاله (١) ، وروى الكشي عن الفضل بن شاذان أنه يروي المناكير (٢).

وأما من ناحية متن الرواية فلا يخفى أن أمثال هذه العبارات الواردة في الحديث لا غضاضة فيها على قائلها ، لأنها ليست من الفحش في شيء ، وإنما كنّى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الفرج بالهن ، وذكر أن عليه شيئاً بَيِّناً مُدَلًّى ، والكناية من الأساليب المتعارفة في الكلام العربي التي لا يُعاب بها البلغاء والمتكلمون وإن كانت معانيها لا يحسن التصريح بها ، وقد ورد في القرآن كنايات بأجمل الأساليب عن الفرج والجماع واللواط وقضاء الحاجة وغيرها ، كما ورد في السنة النبوية كثير من أمثال هذه الأمور التي لا تخفى على أحد.

هذا مع أن هذه الحادثة مروية في كتاب (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني ، وهو من حفَّاظ الحديث عند أهل السُّنة ، فقد رواها بسنده عن جابر ، عن أبي جعفر قال : بينما أمير المؤمنين في مسجد الكوفة إذ أتته امرأة تستعدي على زوجها ، فقضى لزوجها عليها ، فغضبت فقالت : والله ما الحق فيما قضيت ، ولا تقضي بالسوية ، ولا تعدل في الرعية ، ولا قضيتك عند الله بالمرضية! فنظر إليها مليّاً ، ثمّ قال : كذبتِ يا بَذِيَّة يا بذية ، يا سلقلقة ـ أو يا سلقى ـ. فولَّت هاربة ، فلحقها عمرو بن حريث فقال : لقد استقبلتِ عليّا بكلام ، ثمّ إنه نزعك بكلمة فوليتِ هاربة؟ قالت : إن عليّا والله أخبرني بالحق وشيء أكتمه من زوجي منذ ولي عصمتي. فرجع عمرو إلى أمير المؤمنين فأخبره بما قالت ، وقال : يا أمير المؤمنين ما نعرفك بالكهانة. فقال : ويلك إنها ليست بكهانة مني ، ولكن الله أنزل قرآناً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ، فكان رسول الله هو المتوسِّم ، وأنا من بعده ، والأئمة من ذريتي بعدي هم المتوسِّمون ، فلما تأمَّلتُها عرفتُ ما هي بسيماها (٣).

__________________

(١) رجال النجاشي ٢ / ١٢٧.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٤٨.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٣٢٣.

١١٥

ولئن استعظم الكاتب رواية مثل ذلك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واعتبره طعناً فيه ، فإنهم رووا عن علي عليه‌السلام ما هو أفحش من هذا ، فقد قال ابن الأثير في البداية : وفي حديث علي : عارضه رجل من الموالي ، فقال : (اسكت يا ابن حمراء العِجَان) ، أي يا ابن الأمة ، والعِجَان ما بين القُبُل والدبر ، وهي كلمة تقولها العرب في السب والذم (١).

بل إن بعض أحاديث أهل السنة نسبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفحش ما يجب تنزيهه عنه :

منها : ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن أُبَي رضي الله عنه أن رجلاً اعتزى فأَعَضَّه أُبَي بِهَنِ أبيه (٢) ، فقالوا : ما كنت فحَّاشاً. قال : إنا أُمِرْنا بذلك (٣).

ومنها : ما أخرجه أحمد في المسند أيضاً بسنده عن أبي بن كعب أن رجلاً اعتزى بعزاء الجاهلية ، فأَعَضَّه ولم يُكْنِه ، فنظر القوم إليه ، فقال للقوم : إني قد أرى الذي في أنفسكم ، إني لم أستطع إلا أن أقول هذا ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا إذا سمعتم من يتعزى بعزاء الجاهلية فأَعِضُّوه ولا تَكْنُوا.

وعن أبي بن كعب قال : رأيت رجلاً تعزى عند أبي بعزاء الجاهلية ، افتخر بأبيه فأعضه بأبيه ولم يُكْنِه. ثمّ قال لهم : أما إني قد أرى الذي في أنفسكم ، إني لا أستطيع إلا ذلك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : مَن تعزَّى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تَكْنُوا.

وعن الحسن عن عتي أن رجلاً تعزى بعزاء الجاهلية ، فذكر الحديث ، قال أبي : كنا نؤمر إذا الرجل تعزى بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا (٤).

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ١ / ٤٤٠.

(٢) أي قال له : اعضض بأَيْر أبيك. ولم يُكَنِّ عن الأير بالهن ، تنكيلاً له وتأديباً. انظر النهاية في غريب الحديث ٣ / ٢٥٢ ، ولسان العرب ٧ / ١٨٨.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ١٣٣.

(٤) نفس المصدر ٥ / ١٣٦. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٩٨ ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٣ : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

١١٦

فهل يتعقَّل الكاتب أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالتلفظ بالفحش بدون كناية مع إمكان النهي عن المنكر بلفظ لا فحش فيه ، أو بفحش بالكناية؟!

* * *

قال الكاتب : وفي الاحتجاج للطبرسي أن فاطمة سلام الله عليها قالت لأمير المؤمنين رضي الله عنه : (يا ابن أبي طالب ، ما اشتملت شيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين).

وأقول : مع التسليم بصحة الخبر فإن فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت تستنصر بأمير المؤمنين عليه‌السلام لينصرها على من ابتزها نحلتها بعد وفاة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقولها عليها‌السلام : (يا ابن أبي طالب) خطاب منها له تحثّه به على نصرتها ، إذ تذكِّره بأبيه سلام الله عليه الذي لم يألُ جهداً ولم يدَّخر وسعاً في نصرة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبضه الله إليه.

وقولها عليها‌السلام : (اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنّين) معناه : أنك جلست في منزلك مشتملاً كاشتمال الجنين ، لا حول لك ولا طول بسبب قلة الأنصار ، وقعدت عن طلب حقي كقعود الضعيف المتَّهم.

وقولها عليها‌السلام : (نقضتَ قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل) (١) معناه أنك نازلت الأبطال ، وخضت الأهوال ، ولم تبالِ بكثرة الرجال ، حتى نقضت شوكتهم ، واليوم غُلبتَ من هؤلاء العُزَّل الضعفاء ، وسلَّمت لهم الأمر ولم تنازعهم.

وقولها عليها‌السلام : (هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نُحَيْلة أبي ، وبُلْغة ابنيَّ ، لقد أجهر في

__________________

(١) قوادم الطير مقاديم ريشه ، والأجدل هو الصقر. والأعزل : الذي لا سلاح عنده.

١١٧

خصامي ، وألفيته ألدّ في كلامي) (١) معناه : وهذا أبو بكر قد سلبني ما وهبني أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه ـ تعني بذلك : فدكاً ـ التي يتبلَّغ ويكتفي بها ولداي الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ولقد وجدتُ أبا بكر قد أعلن في مخاصمتي وتجاهر بها ، واشتد في الكلام معي.

وقولها عليها‌السلام : (حتى حبستني قيلةُ (٢) نصرَها ، والمهاجرةُ وصلَها ، وغضَّتِ الجماعةُ دوني طرفَها ، فلا دافع ولا مانع) معناه : أن بني قيلة وهم الأنصار حبسوا نصرهم عن فاطمة سلام الله عليها ، والمهاجرين منعوها عونهم لها ، وغضَّ المسلمون طرفهم دونها ، فلم يقوموا لها بما يجب عليهم نحوها من النصرة ، فلا دافع لما حصل عليها من الظلم ، ولا مانع للقوم من ابتزاز نحلتها منها.

وقولها عليها‌السلام : (خرجتُ كاظمةً وعدتُ راغمة) معناه : أني خرجتُ من بيتي كاظمة غيضي ، ومتجرعته وصابرة عليه ، وعدتُ إلى بيتي راغمة منكسرة ، لم أجد فيهم ناصراً ولا معيناً.

إلى آخر ما قالته سلام الله عليها في حث أمير المؤمنين عليه‌السلام على نصرتها ودفع الظلم عنها ، والعمل على استرجاع ما سُلب منها.

وتشبيه قعود أمير المؤمنين باشتمال الجنين وقعود الظنين لا تريد به ذمّه عليه‌السلام أو تقريعه على ترك مجابهة القوم ، لأنها عارفة بما آلت إليه الأحوال ، وصارت إليه الأمور ، ولكنها نفثة مصدور ، وشقشقة مكلوم.

* * *

قال الكاتب : وروى الطبرسي في الاحتجاج أيضاً كيف أن عمر ومن معه

__________________

(١) يبتزني : أي يأخذ مني ذلك بالقهر والغلبة. والنحيلة : تصغير نِحلة ، وهي الهبة والعطية بطيب نفس. والبُلْغة : هي ما يُكتفى به من العيش. وابنيَّ : المراد بهما الحسنان. وألفيته : أي وجدته. والألد : هو الشديد.

(٢) قيلة : اسم أم قبيلتي الأنصار ، والمراد بنو قيلة ، وهم الأنصار. ووصلها : عونها.

١١٨

اقتادوا أمير المؤمنين رضي الله عنه والحبل في عنقه وهم يجرونه جراً حتى انتهى به إلى أبي بكر ، ثمّ نادى بقوله : ابن أُم ، إن القوم استضعفوني وكادوا يَقْتُلونَنِي!!

ونحن نسأل يا ترى أكان أمير المؤمنين جباناً إلى هذا الحد؟

وأقول : وهل عدم محاربة القوم ، والصبر على ما صدر منهم من أذى يُعَدُّ ضعفاً وجُبناً؟! أو يعتبر تعقُّلاً وحكمة.

لقد كان الحال يدور بين أمرين : إما أن يحاربهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيفنيهم ويستأصل شأفتهم ، أو يترك محاربتهم ويصبر على ما يترتب على ذلك من تبعات.

وبما أنه عليه‌السلام كان يعلم ما سيترتب على الحرب من ذهاب الإسلام وضياع أحكامه ، فإن الحكمة كانت تقتضي ترك منابذتهم ، والتسليم لهم ، فإن ذلك أخف الضررين ، ولهذا قال عليه‌السلام في خطبته الشقشقية : (فرأيتُ أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً).

ومما قلناه يتبيَّن أن ما وقع من جرِّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بحمائل سيفه لم يكن عن جبن منه عليه‌السلام ، ولا عن خوف أو ضعف عن منازلة القوم كما ذكره الكاتب في كلامه.

هذا مع أن هجوم القوم على بيت فاطمة عليها‌السلام وكشفه قد اعترف به أبو بكر عند وفاته كما جاء في بعض الأخبار ونص عليه بعض المؤرخين.

فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف أن أبا بكر قال في مرضه الذي توفي فيه : أما إني لا آسي على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددتُ أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددتُ أني فعلتهن ، وثلاث وددتُ أني سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهن ، فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن ، فوددتُ أني لم أكن كشفتُ بيت فاطمة ، وتركتُه وإن أغلق عليَّ الحرب ... الحديث (١).

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ١ / ٦٢. مجمع الزوائد ٥ / ٢٠٢. الأحاديث المختارة ١ / ٨٨ وقال الضياء المقدسي : وهذا حديث حسن عن أبي بكر ، إلا أنه ليس فيه شيء من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كنز العمال ٥ / ٦٣١ وقال : إنه حديث حسن ، إلا أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تاريخ مدينة دمشق ٣٠ / ٤١٨ ـ ٤٢٣. تاريخ الطبري ٢ / ٦١٩. الإمامة والسياسة ، ص ١٨. مروج الذهب ٢ / ٣٠١.

١١٩

وذكر هجوم القوم على بيت فاطمة عليها‌السلام أيضاً جملة من أعلام أهل السنة :

فقد قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : وإن أبا بكر رضي الله عنه تفقَّد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ، وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجُنَّ أو لأحرقنَّها على من فيها. فقيل له : يا أبا حفص ، إن فيها فاطمة! فقال : وإن. فخرجوا فبايعوا إلا عليًّا.

إلى أن قال : ثمّ قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب ، فلما سمعتْ أصواتهم نادتْ بأعلى صوتها : يا أبتِ يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ... وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليّا ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايِع. فقال : إن أنا لم أفعل فَمَهْ؟ قالوا : إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله؟ قال عمر : أما عبد الله فنَعَم ، وأما أخو رسوله فلا. وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أُكْرِهُه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه. فلحق علي بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصيح ويبكي ، وينادي : يا بن أُمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (١).

وقال أبو الفداء في تاريخه : ثمّ إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومَن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها ، وقال : إن أبَوا عليك فقاتلهم. فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار ، فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت : إلى أين يا ابن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ، ص ١٢ ، ١٣.

١٢٠