مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

رجب البرسي

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

المؤلف:

رجب البرسي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6307-75-2
الصفحات: ٣٨٤

فصل

[الوجود المطلق والمقيّد]

الوجود قسمان : خاص ، وعام ، وجنس الوجود معول عليه ، وفصل الإمكان والوجوب فارق بينهما ومميّز لهما فالوجود المطلق وجود الحق سبحانه الذي وجوده عين ذاته ، ونفس حقيقته ، فهو لم يزل ، ولا يزال ، أحدا أبدا. ووجود ما عداه منه وبه وعنه ، فهو الوجود المقيّد ، وذات الحق سبحانه غير معلومة للبشر ، وإلّا لأحاط الممكن بالواجب ، وهو محال ، وأين التراب وربّ الأرباب ، فلم يبق إلّا معرفة الوجود المقيّد ، وحقيقته هي النقطة التي تبيناها وإليها معرفة العارفين ، وسلوك السالكين ، وهو عين اليقين ، وحق اليقين ، ولها اعتبارات : فهي النقطة ، وهي الفيض الأوّل ، وهي العقل ، وهي النور الأوّل ، وهي علّة الموجودات ، وحقيقة الكائنات ، ومصدر الحادثات ، دليل ذلك من القدسيات ، قوله : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لأعرف» (١).

فيا عجبا ممّن كان خفاؤه ولا شيء معه. فقوله : كنت كنزا مخفيا ، أي في سواتر الغيوب ؛ إذ ليس هناك خلق يعرفه ، وذاك إشارة إلى وحدة الذات ، كان الله ولا معه شيء.

وقوله : «فأحببت أن أعرف» إشارة إلى ظهور الصفات. قوله : «فخلقت الخلق لأعرف» إشارة إلى ظهور الأفعال ، وانتشار الموجودات ، التي كانتا رتقا في صحراء ففتقناهما.

قوله : «وهو الآن على ما كان» إشارة إلى أنّه أحد أبد ، لم يتكثّر بخلقه ، لأنّه هو هو ، فكما تجلّت ذاته المقدّسة في صفة من صفات الألوهية مدحت بها ، وللأفعال وجود بين عدمين ، والوجود بين العدمين في حيّز العدم إن كان من وجود فليس إلّا الله وحده ، ولذلك قال الحلاج : من لا حظ الأزلية والأبدية ، وغمض عينيه عمّا بينهما ، فقد أثبت التوحيد ، ومن غمض عينه عن الأزلية والأبدية ولا حظ بينهما ، فقد أتى بالعبادة ، ومن أعرض عن البين

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٧ / ١٩٩ ح ٦.

٤١

والطرفين ، فقد تمسّك بعروة الحقيقة.

فصل

والعالم أعراض وأجسام ، والأجسام مركّبة من الخط والسطح خطا ثم سطحا ثم جسما ، ومدار الكل على النقطة ، ومرجعه إليها ، والكلام أيضا على الحروف ، والحروف على الألف ، والألف على النقطة ، وكذلك بني آدم فإنّ كثرتهم منحصرة في وحدة آدم ، دليله قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (١) ؛ أي من صورة واحدة ، ومادة واحدة ، وذلك تنبيها للغافلين ، وإيجازا للعارفين ، وكثرة آدم راجعة في بستان الوحدة إلى النقطة ، وكذلك الأعداد فإنّ مرجعها إلى الواحد ، ومنبعها منه.

فصل

[معنى الواحد والألف]

واعلم أنّ سرّ العدد في النفوس مطابق لصور الموجودات ، وهو عنصر الحكمة ، ومبدأ المعارف والإكسير الأوّل ، والكيمياء الأكبر والعهد المأخوذ ، وأوّل الابتداع ، ابتدعه الربّ وجعله أصلا لخلقه ، وقبلة لعباده ووجهه ، وأطلعه من سرّه المكنون ، وعلمه المخزون ، على ما كان وما يكون ، وهو واحد العدد ، خلقه من نور جلاله ، وهو الإبداع المحض ، والأحد الذي ليس قبله شيء من العدد ، وهو أول موجود ، والواحد المبدع والأحد ، بإثبات الألف هو المبدع لأن الألف يتقدّم الحروف ففي الأحد هي الأحدية ، وفي الواحد هي الوحدانية ، والأحد لا حدّ له ولا يوصف بإشارة أبنية فهو الأحد المطلق والواحد الحق ؛ هو الذي تنبعث منه الآحاد وهو ينبوع الأزواج والأفراد ، فعلم العدد أوّل فيض العقل على النفس ، ولذلك صار مركوزا في قوّة النفس ، أول فيض العقل على النفس والعدد لسان ينطق بالتوحيد لأنّ لفظ الواحد متقدّم على الاثنين فالسبق للواحد ، وفي تقدّم أحد الاثنين على الآخر تأخّر

__________________

(١) الزمر : ٦.

٤٢

الثاني ، فصح بذلك التوحيد ، ولهذا قيل : من عرف طبيعة العدد عرف إتقان الحكمة ، وأمّا إبطال الاثنين والثلاثة فإنّ الواحد الحق لا يتجزّأ إذ لو تجزأ لا نقسم ، والمنقسم ليس بإله ، وأما الواحد الذي فاض عن الأحد المشار إليه بالعظمة الذي هو مبدأ كل موجود فهو العقل الأوّل ، فعلم العدد الدال على معرفة الواحد الأحد هو أصل العلوم ومبدأ المعارف ، وتقدّمه على سائر العلوم ، كتقدّم العقل على سائر الموجودات ، وكما أن جميع الأشياء موجودة في العقل بالقوّة فكذلك كل العلوم موجودة في العدد ، وصورتها مطابقة لصور الموجودات ، فله صورة البسائط بالقوة ، وصورة المركبات بالفعل ، فلذلك كان علم العدد من الإشارات العقلية لأنه يقود النفس إلى علم التوحيد والإقرار بالمبدع الأوّل فهو العقل الذي نزعت منه المقولات ، وهو شجرة اليقين ، ومبدأ الشرع والدين ، عليه ثبتت الصلاة ، ومنه عرفت العبادات ، وبه تعرف أدوار الزمان ، وهو هلال العارفين ومبدأ كل مقال ؛ أوّله مطابق لآخره ، وآخره مطابق لأوّله ، فأوّله الواحد الذي لا أوّل له فيعرف ، وآخره الواحد الذي لا نهاية له فيوصف.

فصل

[حقيقة النقطة وأنّها الفيض الأوّل]

وكذلك الأسماء الإلهية فإنّ مرجعها إلى الاسم المقدّس ، فهو جامع لشملها ، وشامل لجمعها ، متجلّ في أحدها ؛ ونهاية الحروف النقطة فتناهت الأشياء بأسرها إلى النقطة ودلّت عليها ، ودلّت النقطة على الذات ، وهذه النقطة هي الفيض الأوّل الصادر عن ذي الجلال المسمّى في أفق العظمة والجمال بالعقل الفعّال ، وذاك هو الحضرة المحمدية ؛ فالنقطة هي نور الأنوار ، وسرّ الأسرار ، كما قال أهل الفلسفة : النقطة هي الأصل والجسم حجابه ، والصورة حجاب الجسم ، والحجاب غير الجسد الناسوتي. دليله من صريح الآيات قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ) (١) ، معناه منوّر السّموات ، فالله اسم للذات والنور من صفات الذات ، والحضرة المحمدية صفة الله وصفوته ، صفته في عالم النور ، وصفوته في عالم الظهور ، فهي

__________________

(١) النور : ٣٥.

٤٣

النور الأوّل ، الاسم البديع الفتاح ، قوله الحق : «أوّل ما خلق الله نوري» (١) ، وقوله : «أنا من الله والكلّ منّي». وقوله ممّا رواه أحمد بن حنبل : «كنت وعلي نورا بين يدي الرحمن قبل أن يخلق عرشه بأربع عشرة سنة» (٢).

فمحمد وعلي حجاب الحضرة الإلهية ونوابها وخزّان أسرار الربوبية وبابها.

أمّا الحجاب فلأنّهم اسم الله الأعظم والكلمة التي تجلّى فيها الرب لسائر العالم لأن بالكلمة تجلّى الصانع للعقول ، وبها احتجب عن العيون ، سبحان من تجلّى لخلقه بخلقه حتى عرفوه ، ودلّ بأفعاله على صفاته حتى وحّدوه ، ودلّ بصفاته على ذاته حتى عبدوه.

وأما الولاية ، فلأنّهم لسان الله في خلقه ، نطقت فيهم كلمته ، وظهرت عنهم مشيئته ، فهم خاصّة الله وخالصته.

وأما الباب ، فلأنّهم أبواب المدينة الإلهية التي أودعها مبدعها نقوش الخلائق ، وأسرار الحقائق ، فهم كعبة الجلال التي تطوف بها المخلوقات ، ونقطة الكمال التي ينتهي إليها الموجودات ، والبيت المحرم الذي تتوجّه إليه سائر البريات لأنّهم أوّل بيت وضع للناس فهم الباب ، والحجاب ، والنوّاب ، وأمّ الكتاب ، وفصل الخطاب ، وإليهم يوم المآب ، ويوم الحساب ، فهم لا هوت الحجاب ، ونوّاب الجبروت ، وأبواب الملكوت ، ووجه الحي الذي لا يموت.

فصل

وإن قلت : معنى قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) يعني منوّر السّموات والأرض ، وهادي أهل السّموات والأرض ،

قلت : نعم هم الهداة والدعاة إلى الله عزوجل ، والنور المشرق من حضرة الأزل ولم يزل ،

__________________

(١) نظم المتناثر : ١٨٥ ح ١٩٤ ، وأخبار الدول : ٤ ، وبحار الأنوار : ١٥ / ٢٤ ، وينابيع المودة : ١ / ١٠.

(٢) رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة : ٢ / ٦٦٣ ح ١١٣٠ وفيه : قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام.

(٣) النور : ٣٥.

٤٤

والاسم الفتاح الذي أخرج بنوره الوجود من العدم ، فبهم بدا وبهم هدى ، وبهم ختم ، وهم المعاذ في المعاد للعباد عند زلّة القدم ، فهم مصابيح الظّلم ، ومفاتيح النّعم.

فصل

فإذا استقرينا الموجودات ، فإنّها تنتهي إلى النقطة الواحدة التي هي صفة الذات وعلّة الموجودات ، ولها في التسمية عبارات ، فهي العقل من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أوّل ما خلق الله العقل» (١) ، وهي الحضرة المحمّدية من قوله : «أوّل ما خلق الله نوري» (٢). ومن حيث إنّها أوّل الموجودات صادرة عن الله تعالى بغير واسطة سمّيت العقل الأوّل ، ومن حيث إن الأشياء تجد منه قوّة التعقيل سمّي العقل الفعّال ، ومن حيث إنّ العقل فاض منه إلى جميع الموجودات فأدركت به حقائق الأشياء سمّي عقل الكل ، فعلم بواضح البرهان أن الحضرة المحمدية هي نقطة النور وأوّل الظهور ، وحقيقة الكائنات ، ومبدأ الموجودات ، وقطب الدائرات ، فظاهرها صفة الله ، وباطنها غيب الله ، فهي ظاهر الاسم الأعظم ، وصورة سائر العالم ، وعليها مدار من كفر وأسلم ، فروحه صلى‌الله‌عليه‌وآله نسخة الأحدية في اللاهوت ، وجسده صورة معاني الملك والملكوت ، وقلبه خزانة الحي الذي لا يموت ، وذلك لأن الله تعالى تكلّم في الأوّل بكلمة فصارت نورا ، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا ، وأدخلها ذلك النور وجعلها حجابا فهي كلمته ونوره وروحه وحجابه ، وسريانها في العالم كسريان النقطة في الحروف والأجسام ، وسريان الواحد في الأعداد وسريان الألف في الكلام ، وسريان الاسم المقدّس في الأسماء ، فهي مبدأ الكل وحقيقة الكل ، فكل ناطق بلسان الحال والمقال ، فإنّه شاهد لله بالوحدانية الأوّلية ، ولمحمد وعلي بالأبوّة والملكية ، دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا وعلي أبوا هذه الامّة» (٣) ؛ وإذا كانا أبوي هذه الامّة دل بالتزام أن يكونا أبوي سائر الأمم لدلالة الخاص على العام ، والأعلى على الأدنى من غير عكس ، فلولاهما لم يكن خلق أبدا لاختصاصه ب

__________________

(١) تقدّم الحديث.

(٢) تقدّم تخريجه.

(٣) كمال الدين : ١ / ٢٦١ ، والبحار : ٣٦ / ٢٥٤.

٤٥

«لولاك لما خلقت الأفلاك» (١) فعلم أن صدور الأفعال عن الصفات ، وصدور الصفات عن الذات ، والصفة التي هي إمام الصفات في ظهور الموجودات ، هي الحضرة المحمّدية فهي عين الوجود وشرف الموجود وهي النقطة الواحدة التي هي صفة الأحد والجمال ، الصادرة عن الجلال ، والنور المبتدع من سحاب العظمة المشعشع من فيض قدس الرحمة وهي عرش النور والكتاب المسطور واللوح المحفوظ وأوّل الظهور ، وختم الأيام والدهور.

يؤيّد ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل : هل رأيت في الدنيا رجلا؟ فقال : رأيت رجلا وأنا إلى الآن أسأل عنه. فقلت له : من أنت؟

فقال : أنا الطين. فقلت : من أين؟

فقال : من الطين. فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى الطين. فقلت : من أنا؟

فقال : أبو تراب. فقلت : أنا أنت. فقال : حاشاك ، حاشاك ، هذا من الدين في الدين ، أنا أنا ، وأنا أنا ، أنا ذات الذوات ، والذات في الذوات الذات ، فقال : عرفت. فقلت نعم. فقال : فامسك.

فأقول : في حل هذا الرمز الشريف إشارة إلى خطاب عالم اللاهوت مع عالم الناسوت ، وهو الروح للجسد ليبيّن للناس الفرق بين هيكل قدسه وسرّ نفسه ، فقوله : رأيت رجلا ، وأنا أسأل إلى الآن عنه. وذلك لأن الروح لم تزل لها تعلّق بالجسد ونظر إليه لأنه بيت غربتها ، ومسكن كربتها ، ومركب سيرها ، وسرير تحصيلها ، والثاني أن العارف أبدا يجب عليه أن يعرف الفرق بين مقام التراب وسرّ ربّ الأرباب ، لأنّه إذا عرف نفسه عرف ربّه ، لأنّه إذا عرف نفسه بالحدوث ، والفقر ، والمسكنة ؛ عرف ربّه بالعزّة والكبرياء ، والعظمة. وقوله : أنا الطين ، إشارة إلى أن العارف ، لم يزل في مقام الفقر والإقرار بالحدوث والعجز. وقوله : من أنا؟ لما أقر الجسد بالمعرفة ، والحدوث والإمكان ، والموت ، والرجوع إلى عنصره ومعدنه ، وتلاشيه وتحلله بعد تركيبه.

وقوله : أنت أبو تراب ، يشير به إلى معنيين : خاص ، وعام. فالأوّل معناه أن المراد من الأب المربّي والمرشد ، والروح قيم هذا الجسد ومربيه ؛ والثاني أن أبا تراب هو الماء ، والمراد به :

__________________

(١) الفوائد المجموعة : ٣٢٦ ، وجامع الأسرار : ٣٨١ ح ٧٥٨.

٤٦

أنت أبو الأشياء ومبدأها وحقيقتها ومعناها ، لأنّ الكلمة الكبرى عنها برزت الموجودات ، وهي سرّ سائر الكائنات.

وقوله : فقلت له : أنا أنت. يعني أنا مثلك ميّت ومركّب. فقال : حاشاك ، حاشاك ، أنا أنا ، وأنا أنا ، يعني ابن التراب والنور.

وقوله : أنا ذات الذوات ، والذات في الذوات للذات ، صرّح بإظهار السرّ المكنون ، والكلمة المتعلّقة بطرفي «كن فيكون» ، وذلك أنه اسم الله الأعظم وحقيقة كل كائن وأنه ذات كل موجود لذات واجب الوجود لأنّه سرّه وكلمته وأمره ووليّه على كلّ شيء ، وذلك أمر خصّه الله به ؛ لأنّه هو هو ، بل إنه كلمة الله وآيته وسرّه.

فبان بحل هذا المبهم كفر الغالي والقالي ، وسلوك التالي والموالي ، ووصول العارف العالي ، فعلي سرّ الله في الكل ووليه على الكل ، لأن الربّ سبحانه سلم ما أوجده بإرادته ، وخلقه بقدرته ومشيئته ، إلى وليّه وكلمته ، فقد سلم ما صدر منه إليه لأن المولى الولي مقامه في الخلق مقام الربّ العلي وإليه الإشارة بقوله : «لا فرق بينهم وبينك إلّا انّهم عبادك وخلقك» (١).

وقوله في الدعاء : «جئت بك إليك» يعني جئت بصفاتك إلى ذاتك ، وبعدلك إلى عفوك.

وقوله له : فقال : عرفت ، فقلت نعم ، فقال : فامسك.

هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا عرف أن عليّا هو السرّ الخفي ، وجب عليه الإمساك لقبول (٢) العقول عن هذا الإدراك.

__________________

(١) الإنسان الكامل : ١٢٨ ، والرسائل الثمانية : ٨٨.

(٢) لنبو ـ خ ل.

٤٧

فصل

[الصفات الإلهية]

وذلك لأنّ الصفات الآلهية (٧) الحي وهو إمام الأئمة والعليم ، والمريد والقادر والمتكلّم والجواد والمقسط ؛ ولهذه الأسماء مظاهر فمظهر ركن الحياة إسرافيل ، ومظهر ركن العلم جبرئيل ، ومظهر ركن الإرادة ميكائيل ، ومظهر ركن القدرة عزرائيل ؛ ولهذه الاصول سبع مظاهر كوكبية تسمّى النيرات السبع ، وكل كوكب منها خدم لاسم من هذه الأسماء ، فمظهر تجلّي الحياة الشمس ، ومظهر تجلّي العلم المشتري ، ومظهر تجلّي القدرة المريخ ، ومظهر تجلّي الإرادة الزهرة ، ومظهر تجلّي الكلام القمر ، ومظهر تجلّي الإقساط عطارد ، ومظهر تجلّي الجود زحل ؛ والأسماء هي المؤثرة فيما تحتها من العوالم لكن بواسطة هذه المظاهر كما تقتضيه الحكمة الأزلية من ترتيب الأسباب على المسببات ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١).

فصل

[الأنبياء مظاهر أسماء الله]

وكذلك الأنبياء فإنّهم مظاهر أسماء الله فمن كان منهم مظهر اسم كلّي ، كانت شريعته كلية ؛ وجميع الأسماء ترجع إلى الاسم الجامع الذي هو الله ، وجميع الرسل والأنبياء ترجع إلى هذه الأسماء السبعة : آدم وإدريس وإبراهيم ويوسف وموسى وهارون وعيسى عليهم‌السلام ومرجع هذه السبعة إلى الاسم الجامع الواحد وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فآدم مظهر الاسم الناطق وللخالق فيه أثر تام ، ومحله فلك القمر وهو بيت العزّة ، وفيه جوامع الكلم الطيب.

__________________

(١) فصلت : ١٢.

٤٨

«وإدريس» مظهر الاسم الحي وفلكه الشمس التي هي منبع الحياة الحيوانية والنباتية ، ومن ثم أعطي العلم بأسرار المعادن والنبات.

«وإبراهيم» مظهر الاسم الجواد وللإله فيه أثر تام وفلكه زحل وهو أوّل من أطعم الضيف.

«ويوسف» مظهر الاسم المريد وللجميل فيه اثر عظيم وفلكه فلك الزهرة.

«وموسى» مظهر الاسم القادر وللقوي وللشديد فيه أثر ، وفلكه فلك المريخ.

«وهارون» مظهر الاسم العليم والآمر والناهي وفلكه فلك المشترى.

«وعيسى» مظهر الاسم المقسط وللحكيم فيه أثر ولذلك أبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى وفلكه فلك العطارد.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله له جملة هذه الأفلاك أو الأسماء والأعداد ، وهو مظهر الاسم الجامع وفلكه قاب قوسين أو أدنى ، وهو جامع الأسرار ، ومظهر الأنوار ، وجامع الكلم فهو كل الكل وجملة الجمال وخلاصة الأكوان ، وخاصة الرحمن وهو كما قيل :

فما أعجز الأفكار عن كنه وصفه

وما أقصر التفسير عن كل معناه

وعدد اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١٣٢) لأنه م ح م د وفيه ميم مدغمة واسمه أمين ، واشتقاق لفظ الأمين من الأمن ، وعدده خطا لا رسما (٩٢) وهو عدد يشير إلى اسمه م ل ك وامان ا م ان وهو (٩٢) كما قيل :

لاسم خير الرسل فضل

عند ذي الفضل متين

فهو في الخط أمان

وهو في اللفظ أمين

٤٩

فصل

[أسرار حروف اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله]

ومن أسرار اسمه الشريف وعدده (١٣٢) أنه يشير إلى اسمه تعالى وا ل م ل ك وهذا العدد الشريف من الأنماط الالهية اسمان جليلان وهما ح ي ع د ل ، وهذا العدد الشريف إذا قسّمت أجزاؤه فإنّه ينقسم بخمسة أقسام نصف وهو (٢٦) وربع وهو (٣٣) وثلث وهو (٤٤) وسدس وهو (١١) وهو عدد الاسم الأعظم باطنا ، وكل عدد فوقه فإنه يؤخذ منه وراجع إليه ، وهذه الأعداد مجموعها (١٦٦) فقد زادت على الأصل (٤٤) وهذه الزيادة له من الأسماء الأحد (ا ل ا ح د) فدل على أنه أحد الكونين وواحدها ، وأحمدها ومحمدها وأمانها وأمينها ومولاها وسيّدها ، النبي الكريم ، الرؤوف الرحيم ، الحبيب النجيب ، القريب المجيب ، البشير النذير ، السراج المنير ، العزيز الخبير ، الصادق الأمين ، طه وياسين ، الأوّل الآخر ، الباطن الظاهر ، الفاتق الراتق ، الفاتح الخاتم ، العالم الحاكم ، الشافع الراحم ، الهيكل العاصم ، الشاهد القاسم ، المؤيّد المنصور ، أبي القاسم فهو كما قيل :

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

فهو الدليل المبين.

فصل

وأما أسرار حروفه ، فأوّلها «م» وهو حرف ناري علوي صامت من حروف الدائرة وله عالمان لأنه م ي م وميمه الأول ميم الملك والآخر ميم الملكوت وعدده (٤٠) وهذا العدد افتتاح كل مغلق ولهذا افتتح باسمه الجود والوجود ، وإذا فصلت حروفه كانت (٥٠) وإذا اضيفت إليها عدده وهو (٤٠) كانت (٩٠) وهي حقايق اسم الميم ويظهر عنها بالضرب من الأسماء الإلهية (ا ل م ل ك ا ل س ي د ا ل س ل ا م انا ه وم ح م د).

٥٠

الثاني من حروف اسمه (ح) وهي حرف مائي نوراني علوي ومحل الحاء الكرسي وهو الثامن لأنّ حقيقتها الثمانية وهي من حملة العرش.

الرابع من حروفه (د) وهو حرف مائي مظلم وله حقيقة الدوام وعنه ظهر اسمه الدائم وله دوام الملك والنور.

فصل

[باطن الأسماء الإلهية]

واعلم أن لكل اسم من الأسماء الإلهية صورة باطنة في العالم تسمّى الصورة العينية ، ولكل اسم من الأسماء رب هي مربوبة له ، والحقيقة المحمدية هي صورة الاسم الجامع الإلهي الذي منه استمرار جميع الأشياء. تلك الحقيقة هي التي ترب صور العالم بالرب الظاهر فيها وهو رب الأرباب لأنّها هي الظاهرة في تلك المظاهر ، فبصورتها الظاهرة التي هي مظهر الاسم الأعظم المتناسبة لصور العالم ترب العالم ، وبباطنها ترب باطن العالم لأنه صاحب الاسم الأعظم وله الربوبية المطلقة.

فعلم بهذا الكشف التام من هو روح العالم وممن يستمد الحياة ، ولذلك قال وقوله الحق : «خصصت بفاتحة الكتاب وخواتيم البقرة واعطيت جوامع الكلم» (١) ؛ وهي مصدرة بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وهذا مجمع الأرواح والأجساد والعوالم فعلم من هذا الكشف الظاهر أنه هو روح العالم لأنّ الروح الظاهر يسري في الصور كضوء الشمس في جسم الهواء. فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو سرّ الوجود ظاهرا وباطنا ، فسبحان من دلّ على ذاته بتجليه في صفاته.

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ١ / ١٧٠ باب ٣ فصل ١ بتفاوت ، والفضائل لابن شاذان : ٥.

٥١

فصل

[نشوء الحروف من الألف]

واعلم أن الكلام تناهى إلى الحروف ، والحروف إلى النقطة ، وهي الألف المفقود وينشأ عنه (٢٨) حرفا كما مرّ وهي الصورة الإلهية القائمة بذات الله ، وهي قسمان جلال وجمال ، وحروف الجلال قسم واحد وهي الحروف النارية ، وحروف الجمال ثلاثة أقسام وليس في الحروف حرف إلّا وهو صادر عن الألف وهو شهادة الوجود والموجود بوحدانية الربّ المعبود ، وهي محيطة بكل شيء وهو بكل شيء محيط كما قيل :

ففي كل شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

فصل

[تركيب الأسماء من سرّ الحروف]

ومن سرّ الحروف تتركّب الأسماء ، ولكل كلمة ظاهر وباطن ، والظاهر لأهل التقليد ، والباطن لأهل التحقيق والتجريد ، لأنّ الظاهر جسم الروح وقشوره ، والباطن روح الجسم ولبابه ، والناس على أربعة أقسام : قسم لهم حظّ من الظاهر والباطن ، وهم الراسخون في العلم ، وقسم ليس لهم حظّ في الظاهر والباطن وهم الكفّار ، وقسم ليس لهم حظ في الظاهر دون الباطن وهم المحجوبون في الظلمة المقرون بالنبوّة دون الإمامة ، وقسم ليس لهم حظ من الباطن دون الظاهر وهم عقلاء المجانين.

وروى ابن عباس في قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١) قال : معناه شرحناه شرحا بيّنا بحساب الجمل فهم من فهم وهذا هو العلم الذي أسرّه الله إلى نبيّه ليلة المعراج

__________________

(١) الاسراء : ١٢.

٥٢

وجعله عند أمير المؤمنين عليه‌السلام في عقبه إلى آخر الدهر وهي (٨) كلمات و (٢٨) حرفا وكل حرف منها يتضمّن اسم محمد وعلي ظاهرا وباطنا يخرجه من له وقوف على أسرار علم الحروف وأعدادها.

فصل

[معاني القرآن في أربعة أحرف]

وبهذه الحروف نزل القرآن ، وهي ترجمان ذات الرب سبحانه ، والقرآن له ظاهر وباطن ، ومعانيه منحصرة في أربعة أقسام ، وهي أربعة أحرف وعنها ظهر باقي الكلام وهي (ا ل ل ه) والألف واللام منه آلة التعريف ، فإذا وضعت على الأشياء عرفتها أنّها منه وله ، وإذا أخذ منه الألف بقي لله ، ولله كل شيء. وإذا أخذ منه ل بقى إله وهو إله كل شيء ، وإذا اخذ منه ألف واللام بقي له وله كل شيء ، وإذا أخذ منه الألف واللامان بقي هو ، وهو هو وحده لا شريك له ، والعارفون يشهدون من الألف ويهيمون من اللام ويصلون من الها.

والألف من هذا الاسم إشارة إلى الهوية التي لا شيء قبلها ولا بعدها ، وله الروح واللام وسطا ، وهو إشارة إلى أن الخلق منه وبه وإليه وعنه ، وله العقل. وهو الأوّل والآخر ، وذلك لأنّ الألف صورة واحدة في الخط وفي الهجاء. فالعدد إما زوج أو فرد ضرورة فهذه ثلاثة ، وهي في الضرب تسعة ، وهي العدد المكتوم ، والثلاثة هي مواد سائر الأعداد وموضوعاتها ، والتسعة هي العدد الطيار كما مرّ المنقسم بالأفراد وفيها مجمع الأزواج والأفراد وحرفها الطاء ، وهي الحرف الاكال وإذا اعيد إلى التسعة الزوج الال ظهر الاسم الخفي والسرّ الذاتي وهو (ه وو ه وه و) به سائر الموجودات ، فظهرت الهاء الخفية وأصلها الضمة وهي الواو وإذا ضربت (١١) في الهاء وهي خمسة كان العدد خمسة وخمسين فظهر اسمه تعالى م ج ي ب ، ولما كان أصل الهاء الضمة وهو الواو ولها الجهات الستة وإذا ضربت الستة في (١١) كان العدد (٦٦) وهو الاسم المقدّس الله جل جلاله وهو اسم الذات وصفة الصفات ، وموضوع الأسماء ؛ وإذا ضربت ستة وستون في ستة كان العدد ثلاثمائة وستة وتسعين ، وإذا ضربت ستة وستون في إحدى عشر كان العدد سبعمائة وستة وعشرين ، وإن ضربت ست

٥٣

وستون في خمسة كان العدد ثلثمائة وثلاثين ، ومنبع الأسرار الهاء المضمومة التي هي قيوم الحروف والطبيعة الخامسة الفعالة والهاء باطن كل موجود وحقيقة كل شهود ، فإذا قدح زناد الهاء بصوان الألف خرجت الطاء الاكالة ، وإذا ضربت الهاء في نفسها كان العدد خمسا وعشرين ، فهي لا تظهر إلّا نفسها لأنّ خمسة وعشرين خمس خمسات ، وإذا ضربت خمس وعشرون في نفسها كان العدد ستمائة وخمسا وعشرين ، والهاء من حروف المريخ ، ومن عرف كيف النطق بها أهلك عدوّه ولكن ذاك مودع في الصدور لا في السطور ، ونطقها على سبيل الرمزها يابيل أو هو يا هو مذل يا منتقم يا فعال أنت هو.

فصل

[شرف لفظة : ـ هو ـ ودلالتها]

(١) اعلم أن الاسم إما مشتق ، أو علم ، أو إشارة ؛ والاسم المشتق كلّي لا يمنع من وقوع الشركة فيه ، والاسم العلم قائم مقام الإشارة فهو فرع عليها ، والإشارة أصل والأصل أعظم من الفرع ، فقولك : هو أشرف الأسماء كلّها يعني :

(٢) أن الحق سبحانه فرد مجرّد لا يمكن نعته بصفة زايدة وإلّا لانتفت الفردانية ، والإخبار عنه بعين ذاته محال ، فجميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الإنباء عن ذاته المقدّسة. وأما لفظ هو فإنه ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأ عن جميع جهات الكثرة ، فاسم هو لوصوله إلى كنه الصمدية أشرف الأسماء.

(٣) أن الصفات المشتقة لا تعرف إلّا دالة على الصفات ، والصفات لا تعرف إلّا بالإضافة إلى المخلوقات ، وأما لفظ هو فإنّه يدل عليه من حيث هو هو ، وهذا الاسم يوصل إلى الحق ويقطع عن الخلق.

(٤) أن الأسماء المشتقة دالّة على الصفات ، ولفظ هو دال على الموصوف ، والموصوف أشرف من الصفة ، وذلك لأن ذات الباري سبحانه ما كملت بالصفات بل هي لغاية الكمال استلزمت صفات الكمال ؛ فلفظ هو يوصل إلى ينبوع العزّة.

(٥) أن لفظ هو مركّب من حرفين (ه و) والهاء أصل الواو فهو حرف واحد يدل على

٥٤

الواحد الحق سبحانه.

(٦) أن الهاء أوّل المخارج والواو آخرها فهو الأوّل والآخر ، والهاء باطن المخارج وباطن الأشياء والواو ظاهر سائر المخارج فهو الأوّل والآخر والباطن والظاهر.

(٧) أن هذا الحرف الذي وضع لتعريف ذات الحق غير معلوم بالحقيقة ، وذات الحق أولى بالتنزيه عن الكيفية ، فمنه إليك قوله هو ومنك إليه قولك هو.

فصل

[مراتب حروف الجلالة]

وحروف الجلالة لها أربع مراتب : الذات ، والعقل ، والنفس ، والروح ؛ ولها أربع ملائكة : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ؛ وهي منزلة على أربعة أنبياء : إبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم‌السلام ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وهي تتم بأربع حقائق : الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ؛ وهي منزلة في أربع كتب : المصحف ، والتوراة ، والزبور ، والفرقان ، فالمصحف صورة القلب ، وهي الألف الأوّل ، والتوراة صورة العقل ، وهي اللام الاولى ، والإنجيل صورة الروح ، وهي اللام الثانية ، والفرقان صورة النفس وصورة الحق في عالم الظاهر والباطن ، وحرفها الهاء.

فصل

[الباء ظهور الوجود والنقطة تميز للعابد والمعبود]

واعلم أن الفيض الأوّل عن حضرة الأحدية هي النقطة الواحدة ، وعنها ظهر ألف الغيب (القلب خ ل) وامتد حتى صار خطه ، وهو مركب من ثلاث نقط واحدة وواحدة وواحدة ، فالواحدة لها العلم والعقل وروح القدس ، وحرفها الألف ، ومنها تبتدىء الموجودات وإليها تنتهي ، والنقطة الواحدة وهي روح الله ونفخت فيه من روحي ، وحرفها الباء وهي الحجاب وهو ظاهرة النقطة الواحدة وجسدها ، ولها الحكم الظاهر وحقيقتها النبوّة وعنها ظهرت الموجودات وباطنها النقطة الواحدة.

٥٥

قال عليه‌السلام : عن الباء ظهر الوجود ، وبالنقطة تبين العابد عن المعبود (١) ؛ وقال حكيم : بالباء عرفه العارفون ، وما من شيء إلّا والباء مكتوبة عليه (٢) ، فإذا قلت «الله» ، فقد نطقت بسائر الأسماء ، وإذا كتبت الألف فقد كتبت سائر الحروف ، وإذا نطقت بالواحد فقد ضمنت سائر الأعداد ، وإذا قلت النقطة فقد حصرت سائر العوالم ، وإذا قلت النور فقد ضمنت الوجود من العدم ، وإذا قلت نور النور فقد نطقت بالاسم الأعظم ، لمن كان يدري ويفهم ، إذ لا حظّ للأصم من طيب النغم ، ولا فرق عند الأكمه من الليل إذا أظلم ، والصبح إذا تبسّم ؛ وقال العارف هذا :

ألف الحروف هو الحروف جميعها

والفاء دائرة عليه تطوف

وقال الآخر :

يا رب بالألف التي لم تعطف

وبنقطة هي سرّ كل الأحرف

وبقافها الجبل المحيط وصادها

البحر الذي بظهوره لا يختفي

ثبت عليّ هداي واتمم نوره

يا من به أصبحت عنّي مكتفي

الثالث النقطة الواحدة وهي روح الأمر ، وعنها نور أن الوجود في عالم الصور ، وهي إشارة إلى ظهور الأفعال ، لأن الواحد الحق سبحانه يوجد الأشياء وليس فيها وإلّا لكان محدودا ، ولا منها وإلّا لكان معدودا ، لكنه متجلّ فيها بنور جماله ، متخل عنها بكمال جلاله ، دان إليها بكبريائه ، قائم بها ، قيوم عليها ، لأن الأحد الحق سبحانه لا يتجزّى فيعد ، ولا يتكثّر فيحدّ ، فالوحدة لازمة له.

فصل

[معنى الأحد والواحد]

أحد وواحد ووحدانية ، فالأحد اسم الذات مع سلب تعدّد الصفات ، والواحد اسم الذات مع إثبات تعدّد الصفات ، والوحدانية صفة الواحد ؛ والواحد صفة الأحد ، صلى

__________________

(١) جامع الأسرار : ٥٦٣ ح ١١٦٣ وشرح دعاء السحر : ٦٤ وفيه تميز بدل تبيّن ونسبه إلى ابن عربي.

(٢) جامع الأسرار : ٧٠١ ونسبه لبعض العارفين بلفظ : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت ...».

٥٦

الأحد على الواحد ، الواحد سر لأحد الواحد ، صفة الأحد الواحد نور الأحد الواحد ، ظاهر الأحد الواحد أوّل العدد الأحد ، باطن الواحد الأحد ، معنى الواحد الفائض عن حقيقة الأحد هو معنى الموجودات ، الأحد ذو الجلال ، الواحد هو العقل الفعّال ، جل الأحد الحق في أحديته التي لا تحد تعالى الواحد المطلق في وحدانيته ، التي لا تعد تقدس الصمد في صمدانيته التي ليس لها قبل ولا بعد ، جلّ المعبود الحق في ألوهيته التي كلها ملك ومملوك وعبد.

٥٧

فصل

[أوّل الخلق نور محمّد وعلي عليهما‌السلام]

ظهر الواحد عن الأحد ، وفاض عن الواحد سائر العدد ، وذاك كما ظهر الخط عن النقطة ، والسطح عن الخط ، والجسم عنهم ، والحروف عن النقطة ، والكلام عن الحروف ، والمعاني عن الكلام ، والكل من واحد ، منه المبدأ وإليه المعاد ، بدؤها منك وعودها إليك ، فالنقطة الواحدة هي حقيقة الموجودات ، ومبدأ الكائنات ، وقطب الدائرات ، وعالم الغيب والشهادة ، وظاهرها النبوّة ، وباطنها الولاية ، وهما نور واحد في الظاهر والباطن ، ولكن الولاية من النبوّة وعنها لأنهما الاسمين الأيمنين اللذين جمعا فاجتمعا ، ولا يصلحان إلّا معا ، يسمّيان فيفرقان محمد وعلي ، ويوصفان فيجتمعان نبي وولي ، وتمامهما في تمام أحدهما ، تمام الولي من النبي ، لأن القمر يستمد من الشمس ، فإذا كمل صار بدرا فإذا غابت الشمس كان الحكم للبدر (١).

__________________

(١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«يا عمر بن الخطاب أتدري من أنا؟! انا الذي خلق الله أول كل شيء

نوري ، فسجد له فبقي في سجوده سبعمائة عام ، فاول كل شيء سجد له

نوري ولا فخر. يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله العرش من

نوري والكرسي من نوري واللوح والقلم من نوري ، والشمس والقمر

من نوري ، ونور الأبصار من نوري والعقل الذي في رؤوس الخلائق من

نوري ، ونور المعرفة في قلوب المؤمنين من نوري ولا فخر»

(شرح الشمائل المحمدية : ١ / ٤٩ ، ولوامع أنوار الكوكب الدري : ١ / ١٣).

وفي حديث مستفيض : «كنت أول الأنبياء [الناس] في الخلق وآخرهم في البعث» (كنز العمال : ١١ / ٤٥٢ ح ٣٢١٢٦ ، والجامع الصغير : ٢ / ١٦٢ ، والطبقات الكبرى : ١ / ١١٩ ، والفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٢٨٢ ح ٤٨٥٠ ، والوفا بأحوال المصطفى : ٣٦١ ، وينابيع المودة : ١ / ٢٢٠ و ١٨ ، والخصائص الكبرى : ١ / ٣ الباب الأول).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «كنت وليّا وآدم بين الماء والطين» (جامع الأسرار : ٣٨٢ ـ ٤٦٠ ح

٥٨

__________________

٧٦٣ ـ ٩٢٧ ، والإنسان الكامل : ٧٧ ، والمراقبات : ٢٥٩.).

وأخرج المسعودي وسبط ابن الجوزي بسنده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال بعد حمد الله : «لما أراد الله أن ينشىء المخلوقات ويبدع الموجودات أقام الخلايق في صورة قبل دحو الأرض ورفع السّموات ، ثم أفاض نورا من نور عزه فلمع قبسا من ضيائه وسطع. ثم اجتمع في تلك الصورة وفيها هيئة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له تعالى : أنت المختار وعندك مستودع الأنوار وأنت المصطفى المنتخب الرضا المنتجب المرتضى ، من أجلك أضع البطحاء وأرفع السماء وأجري الماء وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار ، وأنصب أهل بيتك علما للهداية ، وأودع أسرارهم من سرّي بحيث لا يشكل عليهم دقيق ، ولا يغيب عنهم خفي ، وأجعلهم حجتي على بريتي والمنبهين على قدري والمطلعين على أسرار خزائني ....

ثم بيّن لآدم حقيقة ذلك النور ومكنون ذلك السر ، فلما حانت أيامه أودعه شيئا ، ولم يزل ينتقل من الأصلاب الناضرة إلى الأرحام الطاهرة إلى أن وصل إلى عبد المطلب ثم إلى عبد الله ، ثم إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعا الناس ظاهرا وباطنا وندبهم سرا وعلانية واستدعى الفهوم إلى القيام بحقوق ذلك السر اللطيف وندب العقول إلى الإجابة لذلك المعنى المودع في الذر قبل النسل ، فمن وافقه قبس من لمحات ذلك النور واهتدى إلى السر وانتهى إلى العهد المودع في باطن الأمر وغامض العلم ، ومن غمرته الغفلة وشغلته المحنة استحق البعد.

ثم لم يزل ذلك النور ينتقل فينا ويتشعشع في غرايزنا ، فنحن أنوار السّموات والأرض وسفن النجاة ، وفينا مكنون العلم وإلينا مصير الأمور وبمهدينا تقطع الحجج ، فهو خاتم الأئمّة ومنقذ الأمة ومنتهى النور وغامض السر ، فليهن من استمسك بعروتنا وحشر على محبتنا» (تذكرة الخواص : ١٢١ ـ ١٢٢ الباب السادس ـ المختار من كلام علي ـ خطبة في مدح النبي والائمة ، ومروج الذهب : ١ / ١٧ ذكر المبدأ وشأن الخليقة ، ونزهة المجالس : ٢ / ٩٦ مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مختصرا)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن الله خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام حين لا سماء مبنية ، ولا أرض مدحية ، ولا ظلمة ولا نور ، ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار».

فقال العباس : كيف كان بدء خلقكم يا رسول الله؟

فقال : «يا عم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نورا ، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ، ثم مزج النور بالروح ، فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين ، فكنا نسبحه حين لا تسبيح ، ونقدسه حين لا تقديس ، فلما أراد الله تعالى أن ينشىء خلقه فتق نوري فخلق منه العرش ، فالعرش من نوري ، ونوري من نور الله ، ونوري أفضل من العرش.

ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة ، فالملائكة من نور علي ونور علي من نور الله وعلي أفضل من الملائكة. ثم فتق نور ابنتي فخلق منه السّموات والأرض ، فالسّموات والأرض من نور ابنتي فاطمة ، ونور ابنتي فاطمة من نور الله ، وابنتي فاطمة أفضل من السّموات والأرض.

٥٩

فصل

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (١) وإلى هذا المعنى أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوّل ما خلق الله نوري ، ثم فتق منه نور علي ، فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثم خلق الخلايق من نورنا فنحن صنايع الله ،

__________________

ثم فتق نور ولدي الحسن فخلق منه الشمس والقمر فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ونور الحسن من نور الله ، والحسن أفضل من الشمس والقمر.

ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين ، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين ، ونور ولدي الحسين من نور الله ، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين» (بحار الأنوار : ١٥ / ١٠ ـ ١١ باب بدء خلق النبي ح ١١.).

إلى أن قال : «فتكلم الله بكلمة فخلق منها روحا ... ثم نورا فأزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة» (الأنوار النعمانية : ١ / ١٧ ـ ١٨ مع تفاوت عما في بحار الأنوار ليس بيسير رواه عن ابن مسعود).

وعن الإمام علي عليه‌السلام : «ألا أني عبد الله وأخو رسوله وصديقه الأول قد صدقته وآدم بين الروح والجسد ، ثم إني صديقه الأول في أمتكم حقا ، فنحن الأولون ونحن الآخرون» (بحار الأنوار : ١٥ / ١٥ ح ١٩.).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يا جابر كان الله ولا شيء غيره ، لا معلوم ولا مجهول ، فأوّل ما ابتدأ من خلقه أن خلق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته ، فأوقفنا أظلة خضراء بين يديه حيث لاسماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر» (بحار الأنوار : ١٥ / ٢٣ ح ٤١). وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار الذي نوّرت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نوّرت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمدا وعليا ، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شيء كون قبلهما» (بحار الأنوار : ١٥ / ٢٤ ح ٤٦.).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «كان الله ولا شيء معه ، فأول ما خلق نور حبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسّموات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء» (بحار الأنوار : ١٥ / ٢٧ ـ ٢٨ ح ٤٨.).

* أقول : ذكر المجلسي في بحاره والجزائري في الأنوار وغيرهما عدة روايات أخرى في أنهم أول الخلق اقتصرنا على ما يكفي لإقناع الناصبي فضلا عن غيره (بحار الأنوار : ١٥ / ٢ إلى ٥٠ ح ٢ إلى ٤٨ باب بدء خلق النبي من كتاب تاريخ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإرشاد القلوب : ٢ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥ و ٤١٥ ـ ٤١٦ ـ ٤٢١ ، والأنوار النعمانية : ١٤ ـ ١٥ ـ ١٧ ـ ١٨ ـ ٢٢)

(١) فصلت : ٩.

٦٠