مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

رجب البرسي

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

المؤلف:

رجب البرسي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6307-75-2
الصفحات: ٣٨٤

عرف نفسه عايدا إلى العارف فإنّه إذا عرف نفس الكلّ والروح المنفوخ منها في آدم فقد عرف نفسه ونفس الكل وحقيقة الوجودهم.

فصل

وإن كان الضمير في قوله «نفسه» راجعا إلى الله في قوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، فهم روح الله وكلمته ونفس الوجود وحقيقته فعلى الوجهين من عرفهم فقد عرف ربّه ، وكذا عند الموت إذا رأى عين اليقين فإنّه لا يرى إلّا محمدا وعليا لأن الإله الحق جل أن تراه العيون ، والميت عند موته إنّما يشهد حقيقة الحال والمقام فلا يرى عند الموت إلّاهم لأنه يرى عين اليقين. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا عين اليقين أنا الموت المميت.

دليله ما ورد في كتاب بصائر الدرجات عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما من ميّت يموت في شرق الأرض وغربها محب لنا أو مبغض إلّا ويحضره أمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبشّره أو يلعنه (١).

وكذا إذا نفخ في الصور وبعثر ما في القبور ، وعادت النفس إلى جسدها المحشور ، فإنّها لا ترى إلّا محمدا وعليا لأن الحي القيوم عزّ اسمه لا يرى بعين البصر ، ولكن يرى بعين البصيرة. وإليه الإشارة بقوله : «لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تراه العقول بحقائق الإيمان» (٢) ، ومعناه تشهد بوجوده لأنه ظاهر لا يرى وباطن لا يخفى.

__________________

(١) يراجع الكافي : ٣ / ١٢٨ ح ١ إلى ١٣ والبحار : ٦ / ١٧٣ ح ١ إلى ٥٦.

(٢) بحار الأنوار : ٣٦ / ٤٠٦ ح ١٦.

٣٠١

فصل

[معنى الرب في القرآن]

وبيان المدعى ما شهد به القرآن من قوله سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) فقال : إلى ربها ، ولم يقل : إلهها ، وذلك لأن الألوهية مقام خاص لا شركة فيه ، والربوبية مقام عام يقع فيه الاشتراك لعمومه ، ثم قال : (وَجاءَ رَبُّكَ) (٢) ولم يقل : وجاء إلهك ، ثم قال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (٣) ثم قال : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (٤) فخص النظر والرؤية والتجلّي والملاقاة بالرب دون الإله لأن الرؤية والتجلّي إنّما تكون من ذي الهيئة ، والمجيء إنّما يصدق على الأجسام والانتقال من حال إلى حال على الله محال ، فالمراد من النظر والرؤية ، والتجلّي هنا الرب اللغوي ، ومعناه المالك والسيّد والمولى ، ومحمد وعلي سادة العباد ومواليهم وملاك الدنيا والآخرة وما فيها ومن فيها ، والله ربهم بمعنى معبودهم وهذا خاص وهو رب السّموات والأرض وما فيهن ومن فيهن وربّ محمد وعلي ومولاهم الذي خلقهم واجتباهم واختارهم وولاهم ، فهو الرب والمولى والإله والسيد والمعبود والحميد والمحمود ، وهم الموالي والسادات العابدين لا المعبودين لكنّه سبحانه استعبد أهل السّموات والأرض ، من أطاعهم فهو عبد حر قد عتق مرّتين ، ومن عصاهم فقد أبق ـ ولد زنا قد أبق الكرتين ، وشاهد هذا الحق قوله الحق : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) صريح في ملاقة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله غدا والرجوع إليهم.

__________________

(١) القيامة : ٢٢.

(٢) الفجر : ٢٢.

(٣) البقرة : ٤٦.

(٤) الفجر : ٢٨.

٣٠٢

فصل

والقرآن نطق بتسمية المولى ربّا في حكايته عن يوسف عليه‌السلام في قوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) (١) وقوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) (٢) ، وقوله : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) (٣) ، فلو لم يكن ذاك جائزا لا متنع على المعصوم ذكره ، وكل هذا مقام لغوي ، فالسيد ومالك يوم البعث محمد وعلي منا من الله الربّ المعبود الخالق وتولية ورفعة وكرامة لأن الله سبحانه اصطفاهم وولاهم ، فهم موالي أهل الدنيا والآخرة ذلك الفضل من الله ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤). والمراد بالرب هنا الولي ، والموالي هم ، فهم المبدأ وإليهم المنتهى.

وإن كان المراد هنا حذف المضاف فمعناه إلى عدل ربك المنتهى ، وإلى حكم ربك وإلى عفو ربك وإلى رحمة ربك ، فهم عدل الله ورحمته ، ولطفه وأمره وحكمه ، فالمرجع إليهم والحساب عليهم.

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

(٢) يوسف : ٤٣.

(٣) يوسف : ٥٠.

(٤) النجم : ٢٣.

٣٠٣

فصل

[مناقب آل محمّد عليهم‌السلام]

فمحمد وعلي بالنسبة إلى حضرة الخلق موالي ومالكين وبالنسبة إلى حضرة الحق عبيدا مختارين وحججا مقرّبين ، وإليه الإشارة بقوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١) فالخلائق إذا حضروا الموقف ووقفوا في مقام العبودية فهناك يرى محمدا وآل محمد ينظرون إلى ما منّ الله به عليهم من الرفعة والكرامة والولاية العامة ، والخلق ينظرون رفعتهم وقرب منزلتهم وعظيم كرامتهم ، فيعولون في الشفاعة عليهم ويلجأون في وزن الأعمال إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢).

والنظر يومئذ إمّا إلى الرب صريحا أو إلى رحمته ونعمته ولطفه وفضله ، وهو حذف المضاف. فإن كان النظر إلى الرب فالوجوه هناك ناظرة إلى عظمة نبيّها ووليّها وهو مولاها في دنياها واخراها ، فهي ترقب الشفاعة من النبي والتنزيه من الولي بفضل الإله العلي ، وإن كان معناه أنها ناظرة إلى رحمة ربّها وفضل ربّها ، فالنعمة والرحمة والفضل أيضا محمد وعلي ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٣) والظاهرة يومئذ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه زين القيامة وصاحب الوسيلة وذو الكرامة ، فالوجوه يومئذ ناظرة إلى جماله وكماله وعلوّ مقامه ، والنعمة الباطنة علي ، والوجوه يومئذ ناظرة إلى حقيقة معناه فيرون حكمه النافذ في العباد بأمر الملك الذي يختار من عباده من يشاء ، شئت أنت أم لم تشأ.

يؤيّد ذلك : ما رواه سليم بن قيس الجواد : أن فلانا قال يوما : ما مثل محمد في أهل بيته إلّا نخلة نبتت في كناسة. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فغضب وخرج فأتى المنبر فجاءت الأنصار

__________________

(١) مريم : ٩٣.

(٢) القيامة : ٢٢.

(٣) لقمان : ٢٠.

٣٠٤

شاكة في السلاح ، فقال : ما بال قوم يعيرونني بأهل بيتي وقرابتي إذا قلت فيهم ما جمع الله فيهم من الفضل ألا وإن عليا منّي بمنزلة هارون من موسى ألا وإن الله خلق خلقه وفرّقهم فرقتين. وجعلني في خيرها فرقة ، ثم جعلها شعوبا وقبايل فجعلني في خيرها شعبا وقبيلة ، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرها بيتا ، أنا وأخي علي بن أبي طالب ، ألا وإنّ الله نظر إلى الأرض نظرة واختارني منها ، ثم نظر إليها نظرة أخرى فاختار أخي عليا وجعله وزيري وخليفتي وأميني ، وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي ، من والاه فقد والاني ، ومن عاداه فقد عاداني ، لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا كافر ، ولا يرتاب فيه إلّا مشرك ، وهو ربّ الأرض وسكنها ، وكلمة التقوى ، فما بال قوم يريدون أن يطفئوا نور أخي والله متمّ نوره؟

ألا وإنّ الله اختار لي أخا وأحد عشر سبطا من أهل بيتي هم خيار أمّتي ، مثلهم مثل النجوم في السماء ، كلّما غرب نجم طلع نجم ، هم قوام الله على عباده ، وحجّته في أرضه وبلاده ، وشهوده على خلقه ، هم مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه حتى يردا عليّ الحوض ، أبوهم علي وأمّهم فاطمة ، ثم الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين ، جدّهم لخير النبيين وأبوهم خير الوصيّين وأمّهم خير أسباط المرسلين وبيتهم خير بيوت الطاهرين ، ما لقي الله عبدا محبّا لهم موحّدا لربّه لا يشرك به شيئا إلّا دخل الجنة ، ولو كان عليه من الذنوب عدد الحصى والرمل وزبد البحر ، أيها الناس عظموا أهل بيتي وحبّوهم ، والتزموا بهم بعدي فهم الصراط المستقيم (١).

فصل

عدنا إلى البحث الأوّل. وأمّا قوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (٢) والتجلّي إنّما يكون من ذي الهيئة والجسم ، والرب المعبود ليس بجسم ، فالمراد تجلي نور ربّه والنور الأوّل نور محمد وعلي المتجلّي من كل الجهات ، والله الأحد الحق المتجلّي عن كل الجهات ، فبنور صفاته في الأشياء تجلّى وبجلال ذاته عن الجهات تجلّى ، وإليه الإشارة بقوله : أنا مكلّم موسى من الشجرة : أن يا موسى أنا ذلك النور.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٦ / ٢٩٤ ح ١٢٤ والحديث طويل اختصره المصنّف.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

٣٠٥

فصل

[معنى الحركة والسكون لله تعالى]

وأما قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) فالمجيء والحركة والسكون إنّما تقال على الأجسام ، وخالق الأجسام ليس بجسم ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، لا إله إلّا الله ، والمراد جاء أمر ربك والأمر يومئذ محمد وعلي فهم الأمر وإليهم الأمر ، والسيد والمولى في اللغة بمعنى واحد ، وأنت تدعو بذاك مرارا ولا تعقل وتقول : يا سيدي ومولاي يا الله يا محمد يا سيدي ومولاي ، يا علي يا سيدي ومولاي ، وقد ورد عن الحسن العسكري عليه‌السلام في عهده ودعائه أنه يقول : «يا من أتحفني بالإقرار بالوحدانية ، وحباني بمعرفة الربوبية ، وخلصني من الشك والعمى ، جئت بك إليك».

فالواحد المعدود ، والرب لا معدود ، صفة الإله الأحد الذي لا يحدّ ولا يعدّ ، فمن عرف من الحكمة هذا القدر فقد عرف مبدأه ومعاده ، لأن المبدأ ظهور من الحق إلى الخلق ، والمعاد عود من الخلق إلى الحق ، ومن عرف المبدأ والمعاد وحقيقة الوعد والإيعاد ، فقد تيقّن النجاة وعرف عين الحياة ، وأمن الممات ، لأن المؤمن حي في الدارين.

يتمّم هذا الإسرار قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) (١) ، والوحي والرسول يوم القيامة مرتفع ، فلم يبق إلّا التكلّم من وراء الحجاب ، وأقرب الناس مقاما من حضرة الربوبية الاسمان الأعليان الحبيب والولي الكلمة العليا التي تكلّم بها في الأزل فصارت نورا ، والكلمة الكبرى التي تكلّم بها فكانت روحا ، وأسكنها ذلك النور نور محمد وعلي فهما حجاب رب الأرباب ، فالإذن إذن لهم والحكم لهم ، والأمر إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٢) يعني لولي الله لأنّهما عالمان بأعمال العباد من

__________________

(١) الشورى : ٥١.

(٢) الانفطار : ١٩.

٣٠٦

غير سؤال وليس في الخلائق من له هذه المقامات إلّا هم ، لكن الناس فيهم ، كما قال الله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (١) أي إيمانه غير متمكن في القلب لأن الحرف هو الطرف. وذاك بغير برهان ولا يقين ، فإن أصابه خير يعني إن سمع ما يلائم عقله الضعيف اطمأن به وركن إليه ، وإن أصابته فتنة ـ وهو سماع ما لم يحط به خبرا ـ فهناك لا يوسعك عذرا بل يبيح منك محرما ويتهمك كفرا ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام : لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله. وقيل لكفّره (٢) ؛ لأن صدر أبي ذر ليس بوعاء لما في صدر سلمان من أسرار الإيمان وحقائق ولي الرحمن ، ولذاك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعرفكم بالله سلمان.

وذلك لأن مراتب الإيمان عشرة ، فصاحب الإيمان لا يطلع على الثانية وكذا كل مقام منها لا ينال ما فوقه ، ولا يزدري من تحته ، لأن من فوق درجته أعلى منه ، وغاية الغايات منها معرفة علي بالإجماع وإنما قال : «لقتله» لأن أبا ذر كان ناقلا للأثر الظاهر ، وسلمان عارفا بالباطن ، ووعاء الظاهر لا يطيق حمل الباطن ، وقد علم كل أناس مشربهم.

__________________

(١) الحج : ١١.

(٢) بحار الأنوار : ٢٥ / ٣٤٦ وأصول الكافي : ١ / ٤٠١ والدر المنثور للشهيد الثاني : ١ / ٤٧ ، وغرر الفوائد : ٤١٩.

٣٠٧

فصل

[معنى الرب بالقرآن]

قد علمت أن الرب لفظ مشترك ، فتارة يأتي بالقرآن بمعنى المالك والسيد ، وتارة يأتي بمعنى المعبود ، ولا مشركة فيه ، وذاك مثل قوله سبحانه : (رَبُّ السَّماواتِ) (١) ، و (رَبِّ الْأَرْضِ) (٢) ، (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) ، فهو ربّهم وخالقهم ومالكهم ومولاهم ، وأما اسم الإله إذا جاء من هذا الباب فإنه لا يكون إلّا بمعنى حذف المضاف لا غير ، وذلك مثل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (٤) ، ومعناه أمر الله ، وقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (٥) معناه أمر الله من حيث لم يشعروا.

فصل

سرّ النجاة بالإيمان ، ولا إيمان إلّا ببرهان ، وإليه الإشارة بقوله : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (٦) ، وصاحب البرهان على بيّنة من ربه ، وحق اليقين لا شك بعده ، وليس بعد الهدى إلّا الضلال ، فالمؤمن الموقن كشارب الترياق لا يضرّه سم أبدا ، والمقلّد إيمانه لعقة على لسانه فلا يعرف الحق حتى يتبعه ، ولا يقدر على عرف الباطل فيمنعه ، فهو كالمطعون كلّما ازداد علاجا ازداد مرضا ، أو كشارب ماء البحر كلّما ازداد شربا ازداد عطشا ، وكذلك المرتاب في فضل علي لا يصبو لحسن ما تجلّى عليه من عرايسه ، ولا ترتاح نفسه لسماع نفايسه ، فكلّما تليت

__________________

(١) مريم : ٦٥.

(٢) الجاثية : ٣٦.

(٣) الجاثية : ٣٦.

(٤) البقرة : ٢١٠.

(٥) الحشر : ٢.

(٦) البقرة : ١١١.

٣٠٨

عليه آياته ، ولّى مدبرا ، وصدّ مستكبرا ، لأنه لم يؤمن بها من الأزل ولم يزل ، فلذلك لم يؤمن بها اليوم ، ولم ينقد مع القوم ، وكيف يعرفها في عالم الأجسام والأشباح؟ وقد أنكرها في عالم الأرواح ، فهو في عالم الأجساد ممسوخ ، ومن عالم الأرواح مفسوخ ، وفي سجين مرسوخ ، لأن الجسد تابع للأرواح وإليه الإشارة بقوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) لأن الإيمان من ذلك اليوم.

دليله قوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) (٢) في ولاية علي الذي أخذ عليهم عهدها في الأزل وقوله : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (٣) يعني يصلون حبّ الله بحب محمد ، وحب محمد بحب علي ، وحب علي بحب فاطمة ، وحب فاطمة بحب عترتها.

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) في ترك الولاية (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) لمن لم يؤمن بآل محمد.

دليل ذلك أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّي أحبّك.

فقال له : كذبت إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم عرض عليّ المطيع منها والعصاة فما رأيتك يوم العرض في المحبين ، فأين كنت؟ (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أعداؤنا مسوخ هذه الأمّة (٥).

ومن أنكر فضل آل محمد عليهم‌السلام فهو عدوّهم ، وإن كثر صومه وصلاته فإن عبادة إبليس أعظم وأكثر ، فإن ذلك ضاع عند عصيانه وخلافه ، ولا فرق بين عصيان الرب وعصيان الإمام.

__________________

(١) الأنعام : ١١٠.

(٢) الرعد : ٢٠.

(٣) الرعد : ٢١.

(٤) نهج السعادة : ٤٠٩ / ٧ ، ومناقب آل أبي طالب : ٢ / ٩٦ بتفاوت.

(٥) تقدّم الحديث.

٣٠٩

فصل

[أثر إنكار فضل الآل عليهم‌السلام]

ما أنكر فضل آل محمد من الأمم السالفة إلّا مسخ (١) ، ولا رد فضلهم إلّا من خبث أصله ورسخ ، فمن أنعم الله عليه بحب علي والإقرار بفضله ووجد روحه بين جنبيه ، ووجد صدره منشرحا عند وصول أسراره إليه ، ولم يجد الشكوك تنازعه ، ولا يد الإنكار تمانعه ، فقد طاب مولده وعنصره ، وزكى محتده ومخبره ، وإليه الإشارة بقول أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : «لا تدعوا الناس إلى ما أنتم عليه ، فو الله لو كتب هذا الأمر على رجل لرأيته أسرع إليه من الطير إلى وكره ، وأسبق من السيل إلى جوف الوادي».

ولذلك قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لو ضربت خيشوم المؤمن على أن يبغضني ما فعل ، ولو صببت الدنيا على المنافق على أن يحبّني ما فعل ، وبذلك أخذ الله لي العهد في الأزل ولم يزل» (٢).

ولذلك قال للرجل : فما رأيتك في المحبّين فأين كنت؟ فعليه عرضت الأرواح ، وعليه تعرض الأعمال في عالم الأجسام ، وعليه تعرض عند الممات ، ويعلم مقامها بعد الوفاة ، ويعلم ما يصير إليه الرفات ، وإليه عودها عند القيام ، وهو وليها في ذلك المقام ، وقاسمها إلى النعيم أو الانتقام ، من فضل الله رب الأنام ، وولاية من ذي الجلال والإكرام.

فعليّ ولي الأشباح ، وولي الأديان وولي الإيمان وولي الحياة وولي الممات ، وولي

__________________

(١) المسخ المتقدّم في رواية الإمام الصادق عليه‌السلام أعم من المسخ في الدنيا والآخرة والمراد في الآخرة ما يسمّى بتجسّد الأعمال من حشر بعض الناس على شكل الحيوانات. والمراد في الدنيا ما جاء في بعض روايات الإمام الصادق عليه‌السلام من إراءة الإمام الناس لأبي بصير على حقيقتهم قردة وخنازير.

أقول : وإنّما قلنا ذلك لما نشاهده من أعدائهم في الحياة الدنيا على طبيعتهم الإنسانية ولما ثبت من رحمة أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم المسخ.

(٢) بحار الأنوار : ٣٩ / ٢٩٦ ح ٩٩.

٣١٠

الحساب وولي النعيم وولي العذاب ، وولي للمكذب والمرتاب.

الذين لفضل علي ينكرون ، ولما خصّه الله به من الآيات يجحدون ، وعن آياته يستكبرون ، وفي علو مقاماته يرتابون ويستعظمون ، وبها يكذبون وفيها يلحدون ، أولئك في العذاب محضرون ، وعن الرحمة مبعدون.

فلو أن أحدهم عمّر في الدنيا ما دارت الأفلاك وسبحت الأملاك ، وحج ألف حجّة ، وكان في أيامه مقبلا على الصيام والقيام ، وكان له من الحسنات بعدد ورق الأشجار ، ومن الطاعات بوزن رمل القفار ، ومن المبرّات بعدد قطر الأمطار ، ومن الخيرات بعدد ما في القرآن حرفا حرفا ، وبعدد كل حرف ألفا ألفا ، وقرأ كل كتاب نزل ، وفهم كل خطاب من العلم والعمل ، ورافق النبيين وصحب المرسلين ، وأقام في الصافين ، وقتل شهيدا بين الركن والمقام ، ثم أنكر من فضل علي حرفا ، وارتاب في فضله وأخفى ، لم ير في بعثه سعدا ، ولم يزدد من رحمة الله إلّا بعدا.

٣١١

فصل

[صفات الله تعالى]

إن الله تعالى في جلال كبريائه وعظمته ليس كمثله شيء ، وهذا من مقتضيات الربوبية ، والحضرة المحمدية في كمال رفعتها وتقدّمها على المخلوقات ليس كمثلها شيء ، لأنها الخلق الأول والولاية سرّ عظمتها في تصرفها في الكائنات ، وعهدها المأخوذ على سائر البريات من قبل برء النسمات ليس كمثله شيء ، لأنها احتوت على سر الحضرة الإلهية وسر النبوة المحمدية التي ليس كمثلها شيء ، وسرّ من ليس كمثله شيء ليس كمثله شيء ، والعارف بهذه الأسرار ، والمجتني لهذه الثمار ، المقتبس لهذه الأنوار ، المجتنب للتكذيب والإنكار ليس كمثله شيء في سرّه إلى الله ومعرفته بالهداة الأبرار.

فصل

سبحان الملك النور الذي تجلّى في الأشياء فظهر ، وتجلّى عنها فغاب واستتر ، تقدّس عن الزمان والمكان ، وتعالى عن الحدوث والحدثان ، تنزّه عن الحلول والانتقال والصورة والمثال ، تجلّى بجماله من كل الجهات فظهر ، وتجلّى بكماله عن كل الجهات فاستتر ، فهو غيب ظهر ، ثم غاب حين ظهر.

٣١٢

فصل

[اختلاف الناس في الإمام]

نبوّة وإمامة ، وفي الإمامة وقع الاختلاف ، وإليه الإشارة بقوله : «ما اختلفوا في الله ولا فيّ وإنّما اختلفوا فيك يا علي» (١) ، فالإسلام والإيمان نعمتان مشكورة ومكفورة ظاهر وباطن ، فالاختلاف وقع في الإمامة ، فالعدو عن ظاهر أنوارها معرض ، والولي عن خفي أسرارها متقاصر ، فأعداؤه بفضله يكذبون ، وأولياؤه لأسراره ينكرون ، والعارفون به لسفن النجاة راكبون ، وأهل التوفيق والتحقيق لرحيق حبّه ينتهلون ، سكارى وهم صاحون ، واسمهم العالون وهم العالون ، وسكرهم أنهم عرفوا أن عليا مولى الأنام ، وأن له الحق على الرب والسلام ، وعلى السيد الإمام ، وعلى البيت الحرام ، وعلى الشرع والأحكام ، وعلى الرسل الكرام ، وعلى الملائكة العظام ، ومن المؤمنين في القيام وعلى الجنة ودار الانتقام ، وعلى الخاص والعام.

فإن كبر عليك هذا المقام ؛ فقد ورد في صحيح الأخبار عن الأئمة الأبرار ، الذين حبّهم النور الأكبر أن حق المؤمن عند الله أعظم من السّموات والأرض ، ومن الكبريت الأحمر. وإذا كان هذا حق المؤمن فكيف حق أمير المؤمنين عليه‌السلام؟

أما حقّه على الله فأنّ بساعده وصارمه قامت قناة الدين ، ودان به الناس لرب العالمين ، وإليه الإشارة بقوله : «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» (٢).

فهذه ضربة واحدة بسيفه في الله قاومت أعمال الجن والإنس.

وأمّا حقّه على الرسول فإنّه ساواه بنفسه وواساه بمهجته ، وخاض دونه الغمرات وكشف عن وجهه الكربات ، فهو أسده الباسل وليثه الحلاحل.

وأما حقّه على الإسلام فإنّه به اعشوشب واديه ، واخضوضر ناديه ومدّت في الآفاق أياديه ، وأما حقّه على الشرع والأحكام فبه وضحت الدلائل وحقّقت المسائل ، وأقمرت

__________________

(١) تقدّم الحديث.

(٢) الفردوس : ٣ / ٤٥٥ ح ٥٤٠٦ ، والمستدرك : ٣ / ٣٢.

٣١٣

الدجنات وحلّت المشكلات.

وأمّا حقه على البيت الحرام فإن إبراهيم رفع شرفه وعلي رفع شرفه ، وأين رفع الشرف من رفع الشرف. وأما حقه على الرسل الكرام فإنّهم به كانوا يدينون وبحبّه كانوا يشهدون ، وبه دعوا عند القيام والظهور وسرّهم في الأصلاب والظهور.

وأما حقّه من المؤمنين فإنّ بحبّه تختم الأعمال وتبلغ الآمال.

وأمّا حقّه على الملائكة المقرّبين فإنّه هو النور الذي علّمهم التسبيح وأوقد لهم في رواق القدس من الذكر المصابيح ، وأمّا حقه على جنّات النعيم ودركات الجحيم ، فإنّه يحشر أهل هذه اليها ويلقي حطب هذه عليها.

وأمّا حقّه على الخاص والعام من سائر الأنام ، فإنّه لولاه لما كانوا ؛ لأنّه العلّة في وجودهم ، والفضل عند موجودهم.

يؤيّد هذا التأويل ما روي عن عائشة من كتاب المقامات قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي إذ طرق الباب ، فقال لي : قومي وافتحي الباب لأبيك يا عائشة.

فقمت وفتحت له فجاء فسلّم وجلس فردّ السلام ولم يتحرّك له ، فجلس قليلا ثم طرق الباب فقال : قومي وافتحي الباب لعمر ، فقمت وفتحت له فظننت أنه أفضل من أبي ، فجاء فسلّم وجلس فردّ عليه ولم يتحرّك له ، فجلس قليلا فطرق الباب. فقال : قومي وافتحي الباب لعثمان فقمت وفتحت له ، فدخل وسلّم فردّ عليه ولم يتحرّك له ، فجلس فطرق الباب فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفتح الباب فإذا علي بن أبي طالب عليه‌السلام فدخل وأخذ بيده وأجلسه وناجاه طويلا ، ثم خرج فتبعه إلى الباب ، فلمّا خرج قلت : يا رسول الله دخل أبي فما قمت له ، ثم جاء عمر وعثمان فلم توقرهما ولم تقم لهما ، ثم جاء علي فوثبت إليه قائما وفتحت له الباب ، فقال : يا عائشة لما جاء أبوك كان جبرائيل بالباب فهممت أن أقوم فمنعني فلما جاء علي وثبت الملائكة تختصم على فتح الباب إليه ، فقمت وأصلحت بينهم ، وفتحت الباب له ، وأجلسته وقرّبته عن أمر الله ، فحدّثي بهذا الحديث عنّي ، واعلمي أن من أحياه الله متبعا للنبي ، عاملا بكتاب الله ، مواليا لعلي ، حتى يتوفاه الله ، لقي الله ولا حساب عليه ، وكان في الفردوس الأعلى مع النبيين والصدّيقين (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٨ / ٣١٣ ح ١٧.

٣١٤

فصل

[سرّ آل محمد عليهم‌السلام صعب مستصعب]

اعلم أن سرّ آل محمد صعب مستصعب كما ذكره ، فمنه ما يعلمه الملائكة والنبيون ، وهو ما وصل إليهم بالوحي ، ومنه ما يعلمه هم ولم يجر على لسان مخلوق غيرهم ، وهو ما وصل إليهم بغير واسطة ، وهو السرّ الذي ظهرت به آثار الربوبية عنهم ، فارتاب لذلك المبطلون ، وفاز العارفون ، فكفر به فيهم من أنكر ، وفرّط من غلا فيهم وأفرط ، وفاز من أبصر فتبع النمط الأوسط.

فصل

وأما السرّ الذي فيه للمؤمن نصيب ، فهو أيضا صعب مستصعب ، وأشدّ صعوبة وإغماضا المتشابه بالوجوه القابل للتأويل ، الذي يخالف ظاهره باطنه ، وأمثلته في القرآن والأحاديث والأخبار والأدعية كثير ، فمن ذلك من القرآن قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١) و (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ، وهذا في الظاهر تناقض لأنه أمر أن يقفوهم ويسألوهم ، ثم أخبر أنهم لا يسألون ، وبيان ذلك : أن العباد لا يسألون يوم القيامة إلّا عمّا عهد الله إليهم من حبّ علي ، فعنه (وعنه خ ل) يسأل إذ يبعثون ، وشيعة علي لا يسألون عن ذنوبهم لأنّهم وفوا. بالعهد ، فلا ذنب عليهم ، وقوله : (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٢) ، هذا لفظ عام ، ومعناه خاص ، لأن معناه لا يسأل عن ذنبه يوم القيامة إنس ولا جان من شيعة علي ، لأن الله أخذ عليهم عهد الإيمان بعلي ، وضمن لهم بذلك الجنّة ، فإن وفوا بالعهد وجبت لهم في رحمته للوفاء بالعهد ، وقد وفوا بعهدهم ، فلا ذنب عليهم يسألون عنه إذن ، لأن حب علي هو

__________________

(١) الصافات : ٢٤.

(٢) الرحمن : ٣٩.

٣١٥

الحسنات ، فإذا كان في الميزان فأين السيئات ، وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١) ، وأكبر الحسنات حبّ علي ، بل هو الحسنات ، فإذا كان في الميزان فلا ذنب معه ، وأين ظلمة الذنب مع تلألؤ نور الرب ، لأن ولاية علي هي نور الرب ، وأين ظلمة الليل عند ضياء البدر المنير ، أم مس السيئات عند خالص الإكسير ، ومن ذلك قوله : (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) والتناقض لازم له في الظاهر من غير تأويل ، لأن من لا مثل له من أين له يدان مبسوطتان؟ ومن له يد مبسوطة كيف يكون بلا شبه ولا مثل؟ هذا واضح لمن عرف الاستعارة اللغوية.

فصل

[ليس كمثله شيء]

أما قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، فحق لأنّ الإله الحق لا مثل له لأنه مسلوب عنه الأضداد والأنداد ، وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فذلك أيضا حق لأنّه أراد القدرة والرزق وعبّر عنهما باليد ، لأن البسط يليق باليد والقدرة أيضا. فلفظ اليد هنا استعارة لأن قدرته ورزقه لم يزل ولا يزال ، فله الأيادي على سائر خلقه والإنعام ، وأما عند الباطن فاليدان المبسوطتان محمد وعلي ، وهما النعمة والقدرة نعمة النبوّة وقدرة الولاية ، ومن ذلك قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) ، وقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٤) ، فالذي لا تدركه الأبصار كيف تراه الوجوه؟ والذي لا تراه الوجوه ، كيف لا تدركه الأبصار؟ هذا نفي وإثبات ، والنفي والإثبات لا يجتمعان.

ومن ذلك قوله خطابا لسيّد المرسلين : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٥)

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) القيامة : ٢٢.

(٤) الأنعام : ١٠٣.

(٥) الفتح : ٢.

٣١٦

وقوله : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) ، فالذي له ذنب من أين له طهارة؟ والممدوح في الطهارة بالصدر من أين له ذنب ، أما قوله يطهّركم تطهيرا فحق ، لأنّهم خلقوا من نور الجلال ، واختصوا بالعصمة والكمال ، فالمعصوم الكامل من أين له ذنب؟

أما مثل هذا في الدعوات ، فمنه قول زين العابدين عليه‌السلام وهو سيّد من عبد وابن سيّد من عبد من الأوّلين والآخرين في دعائه : «ربي ظلمت وعصيت وتوانيت» ، فإذا كان ظلوما جهولا كيف يكون سيّدا معصوما ، وهو سيّد معصوم فكيف يكون ظلوما جهولا؟

أقول : معنى قوله عليه‌السلام إنه يقول : ربي إن شيعتنا لما خلقوا من فاضل طينتنا ، وعجنوا بماء ولا يتنا ، رضونا أئمة ، ورضينا بهم شيعة ، يصيبهم مصابنا ، وتنكبهم أو صابنا ويحزنهم حزننا ، ونحن أيضا نتألّم لتألمهم ، ونطلع على أحوالهم ، فهم معنا لا يفارقونا (٢) ، لأن مرجع العبد إلى سيده ومعوله على مولاه ، فهم يهجرون من عادانا ، ويجهرون بمدح من والانا.

وصدّق ما دللت عليه ما أورده ابن طاووس في كتاب مهج الدعوات ، حكاية عن خليفة الله قائم آل محمد وخاتمهم ما هذا معناه ، قال : ولقد سمعته سحرا بسر من رأى يدعو فيقول من خلف الحائط : اللهمّ أحي شيعتنا في دولتنا ، وأبقهم في ملكنا ومملكتنا ، وإن كان شيعتهم منهم وإليهم وعنايتهم مصروفة إليهم ، فكأنه عليه‌السلام قال : اللهمّ إن شيعتنا منّا ومضافين إلينا ، وإنهم قد أساءوا وقصروا وأخطأوا في العمل ، رأونا صاحبا لهم رضا منهم ، قد تقبلنا عنهم ذنوبهم ، وتحمّلنا خطاياهم ، لأن معولهم علينا ورجوعهم إلينا ، فصرنا لا ختصاصهم بنا واتكالهم علينا كأنا نحن أصحاب الذنوب ، إذ العبد مضاف إلى سيّده ، ومعول المماليك على مواليهم ، وملاذ شيعتنا إلينا ومعولهم علينا ، اللهم فاغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبنا ، وطمعا في ولايتنا ، وتعويلا على شفاعتنا ، ولا تفضحهم بالسيئات عند أعدائنا ، وولنا أمرهم في الآخرة كما وليتنا أمرهم في الدنيا ، وإن أحبطت السيئات أعمالهم فثقّل موازينهم بولايتنا وارفع درجاتهم بمحبتنا ، وهذا خيره كثير للمؤمن الموقن المصدق بأسرارهم (٣).

ولو لم يكن في كتابي هذا غير هذا لكفاك أن امتلأت من درر الاعتقاد كفاك ، وإلّا دراك ،

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) بحار الأنوار : ٥٣ / ٣٠٢.

(٣) راجع بحار الأنوار : ٥٣ / ٣٠٢.

٣١٧

فإن الشيطان يطلع على قلب المؤمن في كل يوم ٣٢٠ مرة بالوسواس والإضلال ، فجعل الله شهبا من نور الولاية رجوما للشياطين بعدد تلك النظرات ، ليمحو من قلبه ما ران الشيطان ، لأن من خالجته الشكوك في قلبه ، وطئته الشياطين بمناسمها ، أيّها المنكر لفضائل علي ، إلى متى تلبس من الشك المنسوج على الجسد الممسوخ ، والروح المفسوخ ، وحتى متى كلما طبت ظنيت ، وكلما بصرت عميت ، وكلما رويت عطشت ، أما رأيت ملكا اختار عبدا من عبيده وأقامه على سرّه وولّاه أمره ، وقربه نجيا وألبسه خلعة صفاته ورفعه على سائر مخلوقاته وسلم إليه قلم العدل ودفتر البذل ، وسيف القهر وزمام الأمر ، وأمره على جميع مخلوقاته وإنه أعلم حيث يجعل رسالاته فقام بالسياسة والعدل والعصمة والبذل ، يفعل ما يريد الرب ، ويريد الرب ما يفعل ، لأنه موضع أمره ويده الباسطة على جميع الملائكة ، لأنه يد الله وجنبه ، وله التصرّف المطلق ، وبصره طاف في أقطار السّموات والأرض ، لأنه عين الله الناظرة في عباده وبلاده ، وهو في مقام الرفعة والتأييد عبد المولى ومولى العبيد :

العقل نور وأنت معناه

والكون سرّ وأنت مبداه

والخلق في جمعهم إذا جمعوا

الكل عبد وأنت مولاه

أنت الولي الذي مناقبه

ما لعلاها في الخلق أشباه

يا آية الله في العباد ويا

سر الذي لا إله إلّا هو

كفاك فخرا وعزّة وعلا

أن الورى في علاك قد تاهوا

فقال قوم بأنه بشر

وقال قوم بأنه الله

يا صاحب الحشر والحساب ومن

مولاه حكم أمر العباد ولّاه

يا قاسم النار والجنان غدا

أنت ملاذ الراجي وملجاه

كيف يخاف الولي حرلظى

وليس في النار من تولاه (١)

يا منبع الأنوار يا سرّ المهيمن في الممالك

يا قطب دائرة الوجود وعين منبعه كذلك

والعين والسرّ الذي منه تلقنت الملائك

ما لاح صبح للهدى إلّا وأسفر عن جمالك

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٦ / ٤٦٧.

٣١٨

يا ابن الأطايب والطواهر والفواطم والعواتك

أنت الأمان من الردى أنت النجاة من المهالك

أنت الصراط المستقيم قسيم جنات الأرائك

والنار مفزعها إليك وأنت مالك أمر مالك

يا من تجلّى بالجمال فشق بردة كل حالك

صلّى عليك الله من هاد إلى خير المسالك

والحافظ البرسي لا يخشى وأنت له هنالك (١)

وإذا كانت مناقب علي لا تحصى عددا وفضايله لا تبلغ أمدا فالسّموات تضيق عن رقمها وسجلها والبحران ينفدان بمدها ، والثقلان يعجزان عن إملائها والعقول تذهل أن تدركها والجبال تأبى أن تحملها لثقلها ، وقد شهد بذلك الكتاب المنزل والنبي المرسل ، وأنت بقصور الفهم ووفور الوهم تخالف الرب العلي والنبي الأمي بأذاك لمولاك ، وقد أسمعك القرآن اللعن بالطعن وناداك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ) (٢) فمن أبغض عليا لفضله الذي آتاه الله فقد آذاه ، ومن آذى ولي الله فعليه لعنة الله وحسبه من الخزي يوم يلقاه. فيا أيّها الحائر المذبذب والجاهل المركب والعارف المعذب ، مالك لا تراقب الله وتتأدّب ، فإلى متى تتمسّك بأذيال التكذيب ، وكلما رد عليك مما لاق بذهنك الجامد ، ورأيت ما يصدقه عقلك الفاسد ، قلت هذا مقام الولي وما لا تناله أنامل الإدراك من طبعك العكوس ناديت عليه بلسان التكذيب والإنكار ، فيا من يقف بأبواب المغني ، من أين لك مشاهدة أنوار المغني ممّا هو الفرق بين العالي والغالي؟ وكيف عرفت الشيعي من الموالي؟ والمحب من التالي؟ فها أنا مورد لك من الملل والنحل ، فضلا يشفي شرابه العلل من العلل ويبين اختلاف الفرق ويؤمن من الغرق ممّا راق عذبه ورق ، ويعلم به الحق من الزهق ممّا لا نصب بعده ولا رهق ، وما أظنّك بعد هذا الإطراب والإطناب والإكثار والإسهاب ، إلّا كارها للصواب وساريا في السراب ، حتى تلاقي في التراب أبا تراب.

__________________

(١) الغدير : ٧ / ٤٥.

(٢) الأحزاب : ٥٧.

٣١٩

فصل

[افتراق الامم بعد الأنبياء عليهم‌السلام]

في بيان افتراق الأمم بعد الأنبياء ممّا شهدت به السّنة والكتاب ، فمن ذاك قال الله سبحانه مخبرا عن قوم موسى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) ، وقال تعالى حكاية عن النصارى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (٢) ، وقال حكاية عن الأميين : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٣) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «افترقت أمّة أخي موسى على سبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة ، وافترقت أمّة أخي عيسى على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة ، وستفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة ، وهي التي تبعت ما أنا عليه وأهل بيتي» ، وفي رواية ما عليه وأصحابي (٤).

وهذا بيان وتأكيد أنّ الناجي من تبع الآل لأن الآل هم الأصحاب ، وليس الأصحاب هم الآل ، فأين كان الآل كان الأصحاب من غير عكس ، ولهذا يقال أهل الله ولا يقال أصحاب الله. فآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه وليس أصحابه آله ، وفي الحديث : «أهل القرآن أهل الله وخاصّته» ، لأنّهم حملة سرّه ، فأين كان الأهل كانت النجاة ، لأن الأهل أولى بالشرف والفضل ، وأحق بالميراث ، وأقرب إلى العلم ، ومنهم نبع الذكر ، وعنهم سمع ، فالأصحاب تبع الآل لأنّهم سكان السلطنة والحكم ، والأصحاب سكان التبع فكيف يقتدى بالتابع ولا يقتدى بالمتبوع؟ ألا فهم الملاذ والمنجى ، ونهج الهدى وجنّة المأوى وسدرة المنتهى ، والأصحاب قوم تبصروا بنور الآل فأبصروا ، ثم أعماهم دخان الحسد فأنكروا ، وإليه الإشارة بقوله : بينا أنا

__________________

(١) الأعراف : ١٥٩.

(٢) الحديد : ٢٧.

(٣) آل عمران : ١٤٤.

(٤) سنن أبي داود : ح ٤٥٩٧ كتاب السنّة ، وسنن الدارمي : ح ٢٤٠٦ كتاب السير.

٣٢٠