مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

رجب البرسي

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

المؤلف:

رجب البرسي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6307-75-2
الصفحات: ٣٨٤

العلم الظاهر والباطن ، وأمر أن ينطق ينطق منه بالظاهر لا غير لئلا يتهموه بالكهانة والسحر وقد اتهم ، والولي أمر عن الله وعن رسوله أن ينطق بالظاهر والباطن .. وإليه الإشارة بقوله : علّمني رسول الله ألف باب من العلم ففتح الله لي من كل باب ألف باب (١).

وهذا إشارة إلى علم الظاهر والباطن ، فمثال النبي والولي في علم الظاهر والباطن كمثل ملك اختار من عبيده عبدين فجعل أحدهما له سفيرا والآخر نائبا ووزيرا ، وخزن عندهما علم المملكة وولّاهما حكمها ، ثم أمر الملك سفيره أن لا يحكم بما وصل إليه وفوّض إليه إلّا بالظاهر من حكم الأديان لئلا يتّهمه أهل المملكة بالأخذ عن الكهان ، وأمره أن يوصل علم الظاهر والباطن إلى النائب الذي هو الوزير ، وجعل له الحكم المطلق وذلك لأن حكم الملك والسلطان قد وصلا إليه على الإطلاق ، فهو مطلق العنان فيهما ، فعلم أن قوله : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. له معنيان ، الأوّل أنه أعلى الموجودات لأنه قسيم النور الواحد الفائض عن الأحد فما فوقه إلّا ذات رب البريات ، وسائر العوالم تحته من المخلوقات ، وكيف يخفى الأدنى على ما هو منه؟ إلّا علي فمعناه لو كشف الغطاء وهو الحجاب عن هذا الجسد الترابي أو الغطاء من الجسم الفلكي ما ازددت يقينا على ما علمته في العالم النوراني من قبل خلق العرش والكرسي.

وأما معناه الثاني فهو سرّ بديع فهو يقول عليه‌السلام : «من عرفني من شيعتي بسرائر معرفتي» ، وأنني اسم الله العظيم ووجهه الكريم وحجابه في هذا الهيكل الترابي والعالم البشري ، وانني في الجسد المركب آية الله وكلمته في خلقه فإنه غدا إذا رآني لا يزداد في معرفتي يقينا لأنه لم يرتب فيّ من وراء الحجاب ، فكيف يرتاب عند كشف الحجاب؟

وبيان هذا أن المخاطب بالقرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد به الأمة كذلك الولي هو الناطق والمراد به عارفيه لأن الأمة مضافة إلى النبيين ، والتابعين مضافين إلى الولي ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه حكاية عن مؤمن آل فرعون : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢) فهو المتكلّم والمراد به قومه لأنهم مضافين إليه ، فقوله ما ازددت يقينا تكلّم عليه‌السلام بلسان

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢٢ / ٤٦٢ ح ١٣.

(٢) يس : ٢٢.

٢٨١

عارفيه من أوليائه أنهم لا تتخالجهم الشكوك فيه فهم كالتبر المسبوك ، والنضار المحكوك ، في حبه ومعرفته لا يزدادون فيه على الحك والسبك إلّا خلاصا ورفعة ، فمن عرف مولى الأنام وولي يوم القيامة بهذا المقام ، وجب عليه هجر الأنام وحبس الكلام ، عن اللئام والعوام ، لأن العارف بهذا المقام إن قال لا يصدّق وإن قيل له لا يستمع ، فحظّه في العزلة وسلامته في الوحدة ، لأن من عرف الله كلّ لسانه.

٢٨٢

فصل

[علي عليه‌السلام حاكم يوم الدين]

ولما وعى سمع الدهر ما صحت قواعده ووضحت شواهده ، ولاح نوره وابتسمت ثغوره ، مما وقر في الآذان والأذهان ، وأن عليا مالك يوم الدين وحاكم يوم الدين وولي يوم الدين ، وأنه قد جاء في الأحاديث القدسية أن الله يقول : عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي ، وهبتك الدنيا بالإحسان والآخرة بالإيمان.

وإذا كانت الأشياء بأسرها خلقت لكل إنسان فما ظنّك بإنسان الإنسان ومن لأجله خلق الإنسان ، وبه كان الكون والمكان ، وذلك أن كل ما هو لله ممّا خلق وممّا أوحي فهو لمحمد ، وما هو لمحمد من الفضل والمقام والشرف والاحتشام فهو لعلي إلّا المستثنى. والدنيا والآخرة وما في الدنيا والآخرة لمحمد وعلي ، فالقيامة بأسرها لمحمد وعلي. فللنبي منها حكم الظاهر وهو مقام الكرامة ، كما قال : أنا زين القيامة والشهادة على الخلائق ، وإليه الإشارة بقوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) والشفاعة لأهل البوائق ، وإليه الإشارة بقوله : «أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (٢) وللولي حكم الباطن وهو وقوفه على النار ، وقوله : «هذا لك وهذا لي (٣) ، خذي هذا وذري هذا». فيوم القيامة ليس إلّا شفيع وحاكم وشافع وقاسم ، فالإله هو الله والملك المرفوع في القيامة محمد والحاكم المتصرّف عن أمر الملك والمالك هو علي ، لأنه وال هناك عن أمر الله وأمر محمد. فملك يوم الدين وحكم يوم الدين ، والتصرّف في ذلك اليوم مسلم إلى خير الوصيين وأمير المؤمنين ، رغما على كيد المنافقين وغيظ المكذّبين ، فعند ذلك أقبل الناس إليّ يزفون وبعرائس الجهل يزفون ، وبي يتعرّضون وعن ودّي يعرضون ، وبمقتي يعرضون ولما قلت ينكرون ، وبنعمة الله يكفرون ، ولما صدقته آراؤهم يصدقون ، ولما صعب عليهم علمه ومعرفته يطرحون ، وبه

__________________

(١) النساء : ٤١.

(٢) صحيح الترمذي ح ٢٤٣٥ كتاب صفة القيامة.

(٣) تقدّم الحديث.

٢٨٣

يكذّبون وبآيات الله يستهزئون وهم له من طريق آخر يصدقون ويعتقدون ، وبه يتعبّدون ولا يشعرون ، كلا سوف يعلمون ، ثم كلا سوف يعلمون.

فصل

وجاء أهل الشك والريب ومن ليس له حظّ من نفحات الغيب ، يجادلون في الله بغير الحق وجعلوا يجذبون ذيل الخلاف والاختلاف بيد الانحراف والاقتراف ، ويرمقوني بأطراف الأطراف ويدعوني غالبا إذ أصبحت بما اصطبحت عاليا (١) ناظر تصحيفهم العالي بالغالي ، ومن تصحيف عليه نقط الخط وقاك الله من الخلط (٢) وهو كما قيل :

إذا لم تكن للمرء عين سليمة

فلا غرو (٣) أن يرتاب والصبح مسفر

فقلت لهم : يا معشر الإخوان من أهل الولاء والإيمان ، وزبدة الأخيار ، لا تسبقوا إلى التكذيب والإنكار ، وانظروا في سرائر الأخبار ، فربّ غريبة هي أقرب من قريبة ، فاعتبروا هذه الكلمة بنظر المصنّف وعارضوها بالكتاب والسّنة فإن وافقت وإلّا اطرحوها ، أليس شاهدها في الكتاب من قوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٤) وقد روى المفضل ابن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في شرح هذه الآية فإنّه قال : سألته من هم؟ فقال : يا مفضّل من ترى هم؟ نحن والله هم إلينا يرجعون ، وعلينا يعرضون وعندنا يقفون ، وعن حبّنا يسألون.

فصل

[مناقب لأمير الخلق]

ومن ذلك ما رواه البرقي في كتاب الآيات عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا علي أنت ديّان هذه الأمة والمتولي حسابها ، وأنت ركن الله الأعظم يوم

__________________

(١) في الأصل المطبوع أصبحت غاليا.

(٢) في الأصل المطبوع : فداك الله عن الخلط.

(٣) في الأصل المطبوع فلا ثمرو ان.

(٤) الغاشية : ٢٥ ـ ٢٦.

٢٨٤

القيامة ، ألا وإن المآب إليك والحساب عليك والصراط صراطك ، والميزان ميزانك والموقف موقفك (١).

يؤيّد هذا ما رواه شريح بإسناده عن نافع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يا علي أنت نذير أمّتي وأنت هاديها ، وأنت صاحب حوضي وأنت ساقيه ، وأنت يا علي ذو قرنيها وكلا طرفيها ، ولك الآخرة والأولى فأنت يوم القيامة الساقي ، والحسن الذائد والحسين الآمر وعلي بن الحسين الفارض ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السائق ، وموسى بن جعفر المحصي للمحب والمنافق ، وعلي بن موسى مرتب المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة منازلهم ، وعلي بن محمد خطيب أهل الجنة ، والحسن بن علي جامعهم حيث يأذن الله لمن يشاء ويرضى (٢).

يؤيّد هذا ما رواه أبو حمزة الثمالي في كتاب الأمالي عن جعفر بن محمد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة يؤتى بك على عجلة من نور على رأسك تاج من النور له أربعة أركان على ركن ثلاثة أسطر لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله ، ثم يوضع لك كرسي الكرامة وتعطى مفاتيح الجنة والنار ، ثم يجمع لك الأوّلون والآخرون في صعيد واحد ، فيأمر بشيعتك إلى الجنّة وبأعدائك إلى النار ، فأنت قسيم الجنة والنار ، وأنت في ذلك اليوم أمين الله (٣).

ومن ذاك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : يا علي إذا كان يوم القيامة جيء بك على نجيب من نور ، وعلى رأسك تاج يكاد نوره يخطف الأبصار ، فيقال لك : أدخل من أحبّك الجنّة ، ومن أبغضك النار (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار عن البرقي في كتاب الآيات : ٢٤ / ٢٧٢ ح ٥٤.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٩٤ الفصل السادس ، ومائة منقبة : ٤٨ المنقبة الخامسة والبحار : ٣٦ / ٢٧٠.

(٣) بحار الأنوار : ٧ / ٣٣٩ ح ٣٠.

(٤) بحار الأنوار : ٧ / ٢٣٢ ح ٣ ، ولسان الميزان : ٢ / ٤٨٥ بتفاوت.

٢٨٥

فصل

[إذا شئنا شاء الله]

ومن ذلك : ما رواه جابر بن عبد الله عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : يا جابر عليك بالبيان والمعاني ، قال : فقلت : وما البيان والمعاني؟

فقال عليه‌السلام : أمّا البيان فهو أن تعرف أن الله سبحانه ليس كمثله شيء فتعبده ولا تشرك به شيئا ، وأما المعاني فنحن معانيه ونحن جنبه وأمره وحكمه ، وكلمته وعلمه وحقّه ، وإذا شئنا شاء الله (١) ، ويريد الله ما نريده ، ونحن المثاني التي أعطى الله نبيّنا ، ونحن وجه الله الذي

__________________

(١) ورد في النصوص الشريفة «لا يشاؤون إلّا ما يشاء الله» «نحن إذا شئنا شاء الله وإذا كرهنا كره الله». «فإذا شاء شئنا» (بحار الأنوار : ٢٤ / ٣٠٥ ، و : ٢٦ / ٧ باب نادر في معرفتهم ، والهداية الكبرى : ٣٥٩).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله تعالى : «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد» (بحار الأنوار : ٥ / ٤٩ ـ ٦٥ ـ ٧٥ ح ٩٧ ـ ٩٩ ـ ١٠٤ من كتاب العدل والمعاد).

وقال الإمام الخميني (قدس‌سره) في الآية : قوة العبد ظهور قوة الحق (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فجميع الذوات والصفات والمشيئات والإرادات والآثار والحركات من شؤون ذاته ، وظل صفة مشيئته وإرادته ، وبروز نوره وتجليه وكل جنوده ، ودرجات قدرته ، والحق حق والخلق خلق ، وهو تعالى ظاهر فيها وهي مرتبة ظهوره :

ظهور تو بمن است ووجود من از تو

ولست تظهر لولاي لم اكن لولاك

(شرح دعاء السحر : ١١٤).

وقال قدس سرّه : إن سلسلة الوجود ومنازل الغيب ومراحل الشهود من تجليات قدرته تعالى ودرجات بسط سلطنته ومالكيته ، ولا ظهور لمقدرة إلّا مقدرته ، ولا إرادة إلّا إرادته ، بل لا وجود إلّا وجوده ، فالعالم كما أنه ظلّ وجوده ومرشحة جوده ، ظلّ كمال وجوده (شرح دعاء السحر : ١٢٣ ـ ١٢٢).

وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

٢٨٦

ينقلب في الأرض بين أظهركم ، فمن عرفنا فأمامه اليقين ، ومن جهلنا فأمامه سجين ، ولو شئنا خرقنا الأرض وصعدنا السماء ، وإنّ إلينا إياب هذا الخلق ، ثم إنّ علينا حسابهم (١).

__________________

«عن الله أروي حديثي أن الله يقول : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد» (التوحيد للصدوق : ٣٤٤ باب ٥٥ ح ١٣ باب المشيئة والإرادة).

ـ وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر طويل جاء فيه : «يا سلمان ويا جندب : أنا أحيي وأميت بإذن ربي ، وأنا عالم بضمائر قلوبكم والأئمة من أو لادي يعلمون ويفعلون هذا إذا أحبوا وأرادوا ، لأنّا كلنا واحد أولنا محمد آخرنا محمد وأوسطنا محمد وكلنا محمد ، فلا تفرقوا بيننا ، ونحن إذا شئنا شاء الله ، وإذا كرهنا كره الله ، الويل كل الويل لمن انكر فضلنا وخصوصيتنا وما أعطانا الله ربنا لأن من أنكر شيئا مما أعطانا الله فقد أنكر قدرة الله عزوجل ومشيته فينا» (بحار الأنوار : ٢٦ / ٦ ـ ٧ باب نادر في معرفتهم بالنورانية من كتاب الإمامة ح ١).

وقد فصلنا ذلك في كتاب الولاية التكوينية.

(١) بحار الأنوار : ٧ / ٢٠٢ ح ٨٨ و : ٢٤ / ١١٤ ح ١ و ٣.

٢٨٧

فصل

[علي عليه‌السلام صاحب الجنان وقسيم الميزان]

ومن ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يا علي أنت صاحب الجنان وقسيم الميزان ، ألا وإنّ مالكا ورضوان يأتيان غدا عن أمر الرحمن فيقولان لي : يا محمد هذه هبة الله إليك فسلّمها إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأدفعها إليك.

مفاتيح لا تدفع إلّا إلى الحاكم المتصرّف.

وإليه الإشارة بقوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) (١). يؤيّد هذا التفسير ما رواه ابن عباس من الحديث القدسي عن الربّ العلي أنّه يقول : لو لا علي ما خلقت جنّتي (٢) ، فله جنة النعيم ، وهو المالك لها والقيم ، لأن من خلق الشيء لأجله فهو له وملكه.

يؤيّد ذلك : ما رواه المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا كان عليّ يدخل الجنّة محبّه والنار عدوّه فأين مالك ورضوان إذا؟ فقال : يا مفضل أليس الخلائق كلّهم يوم القيامة بأمر محمد؟ قلت : بلى ، قال : فعلي يوم القيامة قسيم الجنّة والنار بأمر محمد ، ومالك ورضوان أمرهما إليه ، خذها يا مفضل فإنّها من مكنون العلم ومخزونه (٣).

ومن ذلك ما ورد عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة أمر شيعتنا فما كان عليهم لله فهو لنا ، وما كان لنا فهو لهم ، وما كان للناس فهو علينا (٤).

وفي رواية ابن جميل «ما كان عليهم لله فهو لنا ، وما كان للناس استوهبناه ، وما كان لنا

__________________

(١) النور : ٦١.

(٢) تقدّم الحديث.

(٣) بحار الأنوار : ٢٧ / ٣١٣ ح ٩.

(٤) بحار الأنوار : ٢٧ / ٣١٣ ح ١٠.

٢٨٨

فنحن أحق من عفا عن محبيه» (١).

وفي رواية أن رجلا من المنافقين قال لأبي الحسن الثاني عليه‌السلام : إن من شيعتكم قوما يشربون الخمر على الطريق ، فقال : الحمد لله الذي جعلهم على الطريق فلا يزوغون عنه ، واعترضه آخر فقال : إنّ من شيعتك من يشرب النبيذ ، فقد قال : كان أصحاب رسول الله يشربون ، فقال الرجل : ما أعني ماء العسل؟ وإنّما أعني الخمر قال : فعرق وجهه الشريف حياء ثم قال : الله أكرم أن يجمع في قلب المؤمن بين رسيس الخمر وحبّنا أهل البيت ثم صبر هنيهة وقال : فإن فعلها المنكوب منهم فإنه يجد ربّا رؤوفا ونبيّا عطوفا وإماما له على الحوض عروفا وسادة له بالشفاعة وقوفا ، وتجد أنت روحك في برهوت ملهوفا (٢).

فعلم أن حساب شيعتهم إليهم ومعولهم في وزن الأعمال عليهم ، وإليه الإشارة بقوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (٣) قال الصادق عليه‌السلام : إبراهيم من شيعة علي (٤) ، وإن كان الأنبياء من شيعته وحساب شيعته عليه فحساب الأنبياء إليه وتعويلهم بالشهادة والتبليغ عليه ، ومفاتيح الجنة والنار بيده والملائكة يومئذ ممتثلين لأمره ونهيه ، بأمر خالقه ومرسله ، وقد روى ابن عباس أن الله يوم القيامة يولي محمدا حساب النبيين ، ويولي عليا حساب الخلائق أجمعين.

فصل

ومن ذلك ما رواه محمد بن سنان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن الله أباح لمحمد الشفاعة في أمّته وإن الشفاعة في شيعتنا وإن لشيعتنا الشفاعة في أهاليهم (٥) ، وإليه الإشارة بقوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) قال : والله لتشفعن شيعتنا في أهاليهم حتى يقول شيعة

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢٧ / ٣١٤ ح ١١.

(٢) بحار الأنوار : ٢٧ / ٣١٤ ح ١٢.

(٣) الصافات : ٨٣.

(٤) البحار : ٣٦ / ١٥٢ ح ١٣١.

(٥) البحار : ٢٤ / ٢٧٢ ح ٥٥.

٢٨٩

أعدائنا (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١).

فصل

[حاجة الخلائق لآل محمّد عليهم‌السلام]

فما للمكذّبين بيوم الدين ، لفضل علي ينكرون ، ولحكمه يوم القيامة يجحدون ، وعمّا نالته أذهانهم يصدقون ، ولما صعب عليهم فهمه يرفضون ، فويل لهم يوم يبعثون ، وعلى صاحب الحوض يعرضون ، وكيف يرجون؟ إنهم للعذاب ينهلون وهم للعذاب يتعرّضون ، ألم يسمعهم الذكر المبين؟ (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢) يعني ينكرون يوم القيامة وإن صدقوا به ، ينكرون أن عليا واليه وحاكمه ثم قال : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (٣) ، أي ما يكذب بأن حكم يوم الدين مسلّم إلى علي إلّا كل معتد أثيم ، معتد بقوله أثيم في اعتقاده ، فياويله من خبث الزاد ليوم المعاد ، ألم يعلم أن الخلائق يوم القيامة يحتاجون إلى محمد وآل محمد من وجوه؟

الأول أنّهم لو لا هم لما خلقوا فلهم عليهم حق (٤).

الثاني أن علّة الوجود أب للموجود فلهم على الناس حق الأبوّة ، وإليه الإشارة بقوله : أنا وعلي أبوا هذه الأمّة (٥) ، فمحمد وعلي أبوا سائر الخلائق ولو لا وجود الأبوين لما كان ولد قط.

__________________

(١) الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) المطففين : ١١.

(٣) المطففين : ١٢.

(٤) كمال الدين : ١ / ٢٥٤ ، والبحار : ٢٦ / ٣٣٥.

(٥) تقدّم الحديث.

٢٩٠

الثالث أنّهم الوسيلة (١) إلى الله لكل مخلوق من الأزل وإلى الأبد لهم الولاء وبهم الدعاء وإن كل علم ظهر إلى الخلائق فمنهم وعنهم.

الرابع أن الأنبياء ينتظرونهم يوم القيامة إذا كذبتهم الأمم حتى يشهدوا لهم بالتبيلغ.

الخامس أن الخلائق يوم القيامة محتاجون إلى الحوض ليردوه والحوض لهم (٢).

السادس أن الخلائق يوم الفزع الأكبر تزول عقولهم من هول المطلع إلّا من أحبّهم فانّه آمن من أهوال يوم القيامة ، وإليه الإشارة بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (٣) وهذا خاص لشيعتهم.

السابع أن مفاتيح الجنّة والنار يوم القيامة في أيديهم (٤).

الثامن أنهم غدا رجال الأعراف فلا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه ، وإليه الإشارة بقوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٥) والمراد هنا آل محمّد عليهم‌السلام (٦).

التاسع أن لواء الحمد بأيديهم والأنبياء يستظلّون بظلّه (٧).

العاشر أنه لا يدخل الجنة إلّا من كان معه براءة بحبّهم.

الحادي عشر أن الصراط عليه ملائكة غلاظ شداد عدتهم تسعة عشر ، كما قال الله عز اسمه : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٨) فلا يجوز أحد منهم إلّا من عرف الخمسة الأشباح وذريّتهم (٩) ، وأن حروف أسمائهم بعدد ملائكة الصراط.

الثاني عشر أن الجنّة محرّمة على الأنبياء (١٠) والخلائق حتى يدخلها النبي والأوصياء من

__________________

(١) الاحتجاج : ١ / ٨٨.

(٢) ينابيع المودة : ١ / ٢٥ ، وجواهر العقدين : ٣٤٣ ، وتاريخ المدينة : ١ / ٣٨.

(٣) الأنبياء : ١٠٣.

(٤) الكامل لابن عدي : ٧ / ١٤١ رقم ٢٠٥٣.

(٥) الأعراف : ٤٦.

(٦) ينابيع المودّة : ١ / ١١٨.

(٧) فضائل الصحابة لأحمد : ٢ / ٦٦١ ، ومسند أبي يعلى : ٣ / ٤٨١ ح ٧٤٩٣.

(٨) المدثر : ٣٠.

(٩) مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٣٩.

(١٠) نوادر الأصول للترمذي : ١ / ٣٤٠ أصل ٦٧.

٢٩١

عترته وشيعتهم من خلافهم ، ومن خلاف شيعتهم الأنبياء ، فهم سادة الأوّلين والآخرين ، فالكل لهم وإليهم وعنهم وبهم ، فلذا لا يبقى يوم القيامة ملك مقرّب ولا نبي مرسل إلّا وهو محتاج إليهم ، ولم يشرك معهم أحد إلّا شيعتهم ، فالداران ملكهم والوجودان ملكهم ، والعبد في نعمة سيده يتقلّب وآل محمد هم النعمة الظاهرة والباطنة ، دليله قوله سبحانه : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (١) فمن سكن هذه المملكة ولم يشكر لآل محمد لم يشكر الله ، ومن لم يشكر الله كفر ، فمن لم يشكر لآل محمد عليهم‌السلام فقد كفر ، وإليه الإشارة بقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (٢) وإذا وجب شكر أبوي الولادة والشهوة والطبع وجب بطريق الأولى شكر أبوي الإيجاد والهداية والعقل والشرع ، فويل للمنكرين لفضلهم ، الجاحدين لنعمتهم ، المكذّبين بعلوّ درجتهم إذا جاؤوا إلى حوضهم غدا ليردوه ، وكيف يردوه وقد أنكروا أمرهم وردوه؟

وإلى هذه المقامة أشار ابن طاوس فقال : اشكر لمن لو لا هم لما خلقت ، فهم (صلّى الله عليهم) مشكاة الأنوار الإلهية ، وحجاب أسرار الربوبية ولسان الله الناطق في البرية ، والكلمة التي ظهرت عنها المشية وصفات الذات المنزّهة عن الأينية والكيفية ، فمن صلّى عليهم فقد سبّح الله وقدّسه ، لأن في ذكر الصفات تنزيه الذات ، وهم جمال الصفات المنزّهة التي تجلّى فيها جلال الذات المقدّسة ، وإليه الإشارة بقوله : بالكلمة تجلّى الصانع للعقول ، وبها احتجب عن العيون :

سلام على جيران ليلى فإنّها

أعز على العشاق من أن تسلما

فإنّ ضياء الشمس نور جبينها

نعم وجهها الوضاح يشرق حيثما

فصل

وتصحيح هذه الدلايل قد صرّح بذكره القرآن فمنه قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما

__________________

(١) لقمان : ٢٠.

(٢) لقمان : ١٤.

٢٩٢

آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) فقد دلّ الرب القديم الرحمن الرحيم سبحانه أن كل فضل فاض إلى الوجود والموجود فهو من نعمة الله ، وفضل آل محمد لأنّهم هم السبب في وجودها ووصولها ، فما بال أهل الزمان يخالفون العقل والنقل وينكرون سرائر القرآن الناطقة بفضل آل محمد؟ ويؤولونها بحسب آرائهم ، ويسمون من أظهر شيئا من هذا مغاليا ويرفضونه ويهجرونه ولا يعرفونه ، ثم يدعون بعد هذا معرفة علي ومحبّته ويزعمون أنهم من شيعته ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لأنهم اليوم في ريبتهم يتردّدون فأنّى يبصرون.

فما آمن بعلي من أنكر حرفا من فضله وإن بعد عن عقله العديم وخفي على ذهنه السقيم ، فليرده إلى قولهم : أمرنا صعب مستصعب (٢) ، وليتل هناك (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، وليسلك نفسه في سلك قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، ولا يندرج في لفيف قوم قاموا في آيات الله يلحدون ، ولها يجحدون وعنها يصدون ومنها يصدفون ، وهم يحسبون أنّهم يحسنون فتراهم لم يقبلوا على الحق برهانا ، ولم يصغوا لسماع قول : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٣) ولا طلع لهم في سماء التصديق نجم ، ولا نجم لهم طلع ، ولا أسفر لهم في دجنة التوفيق بدر ، ولا بدر لهم أسفر ، وكان هذا الكتاب محكا حك شكّهم حكّا ، وأظهر مسّهم حين مسهم فجاؤوا بالباطل يكذبوني ، ويلفون بالحسد في ديني إذ أخلجوا في السبق دوني.

فصل

ولما كان أهل الدنيا شأنهم بعض من وصلت إليهم من الله نعمة فتراهم يدلون به إلى الحكّام ، ويجعلونه غرضا لسهام الانتقام ، ويتوقعون سلب دولته وذهاب نعمته ، وهذا شأن الحسود ومتى يسود ، وكذا أهل الدعوى الذين سمّوا أنفسهم مؤمنين وهم عن التذكرة

__________________

(١) التوبة : ٥٩.

(٢) الأصول الأصيلة : ١٦٩.

(٣) الأنفال : ٢.

٢٩٣

معرضون ، وللناطق بها مبغضون ومكذّبون ، فإذا استنشقوا روايح العرفان ، من عبد أنعم الله عليه توجّهوا إلى تكذيبه وإنكاره وإبعاده ، وحذّروا الناس من اعتقاده وصدّوهم عن حبّه ووداده ، ورشقوه بسهام الحسد ، وسبب ذلك الجهل وحب الرياسة ، فاعلم الآن أنه قد ثبت بما بيّناه من الدلالات ، وأوضحناه من البيانات ، أن عليّا مالك يوم الدين وحاكم يوم الدين ، وولي يوم الدين ، منّا من رب العالمين ، وفضلا من الصادق الأمين ، فهو ولي الحسنات بنص الكتاب (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١).

فصل

هذا صحيح النقل ، وأما صريح العقل فإنّ الله سبحانه جلّ أن تراه العيون ، وهذا اعتقاد أهل الإيمان والتحقيق والإيقان والتصديق ، لأن السلطان كلّما عزّ منه الجناب عظم دونه الحجاب ، فكيف جوزت على ربّ الأرباب ، أنّك تراه يوم الحساب ، قد جلس لخلقه. بغير حجاب ، تعالى الله عن ذلك وليس ربنا المعبود كذلك وإنما حسابك في بعثك ومآلك ، إلى من جعله الله الولي والحاكم والمالك ، ومن اعتقد غير ذلك فهو [في] بعثه هالك.

فصل

[آل محمّد عليهم‌السلام حكّام العباد]

فالمالك في المعاد والحاكم يوم التناد ، والولي على أمر العبادهم آل محمد صلّى الله عليهم الذين جعلهم الله في الدنيا قوام خلقه ، وخزّان سرّه وفي الآخرة ميزان عدله وولاة أمره ، وذلك لأن الصفات مآلها الذات ومرجع الأفعال إلى الصفات ، وآل محمد صفوة الله وصفاته فالأفعال بسرّهم ظهرت ، وعنهم بعثت وإليهم رجعت ، «بدؤها منك وعودها إليك» فهم المنبع وإليهم المرجع ، فمرجع الخلق إليهم وحسابهم عليهم.

__________________

(١) ص : ٣٩.

٢٩٤

فصل

[أقسام الأولياء]

وذلك لأن الولاة قسمان : الأنبياء والأولياء ، والأنبياء ليس عليهم حساب بنصّ الكتاب ، دليله قوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) فالأنبياء شهود على الأمم فتعيّن أن الموقف للأولياء ، وإليه الإشارة بقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (٢) ، والدفاتر بأسرها مرفوعة إلى صاحب الجمع الأكبر الذي له الولاية من البداية إلى النهاية ، وذاك أمير المؤمنين بنص الكتاب المبين فهو ولي يوم الدين ، وحاكم يوم الدين ومالك يوم الدين ، وبأمر الله فيه يدين ، ويوم الدين يوم الجزاء ومقاماته اللواء ، وعلي حامله ، والحوض وعلي ساقيه ، والميزان وعلي واليه ، والصراط وهو رجال الأعراف عليه ، والجنة والنار ومفاتيحها بيده وأمرها إليه ، فاعلم أن يوم القيامة منوط بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فاللواء لهم والحوض لهم والوسيلة لهم ، والميزان لهم والصراط لهم ، والشفاعة لهم ، فهم الذادة والقادة والسادة والولاة والحماة والهداة والدعاة ، والمنزلة لهم ، والولاية لهم ، وأهل الجنة والنار لهم ، وإليهم وعليهم ، ووقوف الخلق في مقام (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) لهم ، وشهادة الأنبياء على أممهم بالتبليغ لهم وحشر الخلائق إليهم وحسابهم عليهم ، وخطاب الله يوم القيامة لهم والدرجة العليا لهم ، ومالك ورضوان ممتثلان لأمرهم مأموران بطاعتهم ، لأنّهم حجج الله على أهل السّموات والأرضين ، وإليهم أمر الخلائق أجمعين ، منّا من ربّ العالمين ، وويل للمنكرين ، عند طلوع شمس اليقين.

__________________

(١) النساء : ٤١.

(٢) الاسراء : ٧١.

(٣) الصافات : ٢٤.

٢٩٥

فصل

[معنى الحساب]

والحساب يوم القيامة عبارة عن النظر في الصحايف ، وإليه الإشارة بقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (١) وهي آخر آية نزلت.

والصحائف في الدنيا تعرض على النبي والولي ، وفي الآخرة يختص بحكمها الولي موهبة من الربّ العلي ، فمن كبر عليه هذا العطاء ، واستكبر هذه النعماء ، فليمدد بسبب إلى السماء.

فصل

والحساب هو تعيين أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار ، وذلك في صحيفة آل محمد قد عرفوه في عالم الأجساد والأشباح ، والأصلاب والأنساب ، وإليهم عوده ومآبه يوم الحساب بنصّ الكتاب ، دليله قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢) هكذا بلفظ التثنية ، وهو أمر لمن له الحكم في ذلك اليوم ، وقد أجمع المفسّرون وفيهم أبو حنيفة في مسنده رواية عن الأعمش عن أبي سعيد الخدري أنه إذا كان يوم القيامة قال الله : يا محمد يا علي قفا بين الجنة والنار ، وألقيا في جهنّم كلّ كفّار كذّب بالنبوّة (٣) ، وعنيد عاند في الإمامة ، فتعيّن أن عليا حاكم يوم الدين بأمر رب العالمين.

يؤيّد هذا قوله سبحانه : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (٤) وهي يوم الرجعة ويوم القيامة ، ويوم

__________________

(١) البقرة : ٢٨١.

(٢) ق : ٢٤.

(٣) بحار الأنوار : ٣٦ / ٧٤ ح ٢٧ و : ٢٤ / ٧٣ ح ٥٨.

(٤) إبراهيم : ٥.

٢٩٦

القائم ، فيوم الرجعة حكمه لهم ، ويوم القائم حكمه لهم ، فهذه الثلاثة أيام لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فصل

وهذا هو الإيمان بالغيب ، وإليه الإشارة بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١) ومعناه يصدّقون بأيام آل محمد فمدح من آمن بها ، فمن آمن بها آمن بالله ، ومن لم يؤمن بها لم يؤمن بالله.

__________________

(١) البقرة : ٣.

٢٩٧

فصل

[مناقب الكرّار بلسان المختار عليهما‌السلام]

بيان وصل : علي ناصر محمد ومعاونه ، وأبوه كافل النبي ومربّيه ، وهو حامل رايته في كل موطن ومساويه ، وباذل نفسه دونه ومساويه ومفديه ، وروحه على جسده «أنت روحي التي بين جنبيّ» ومستودع علمه «ما أفرغ جبرائيل في صدري حرفا إلّا وقد أمرت أن أفرغه في صدر علي» وساعده المساعد وسيفه الضارب ، وأسده الغالب ، أدعوا لي فارس الحجاز «أين الكاشف عن وجهي الكربات» (١).

فهو إن شككت صنوه وأخوه «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» (٢) وصاحب ميراثه ونسبه «أنت أنا وأنا أنت» (٣) ، وشقيق نفسه وصاحب دعوته «أنت منّي وأنا منك لحمك لحمي ودمك دمي ومقامك مقامي» (٤) «أنت الخليفة بعدي وإمام أمّتي من والاك فقد والاني ، ومن عاداك فقد عاداني» (٥) ، [أنت] كذلك منّي في كل مقام إلّا النبوّة وإني لا أستغني عنك في الدنيا ولا في الآخرة ، وإنك في يوم القيامة تحيى إذا حييت ، وتكسى إذا كسيت ، وترضى إذا رضيت ، وإن حساب الخلق عليك وعودهم إليك ، ولك الكوثر والسلسبيل غدا وأنت الصراط السوي لمن اهتدى ، ولك الشفاعة والشهادة ، ولك الأعراف وأنت المعرّف ، ولك الجواز على الصراط ودخول الجنة ونزول المساكن والقصور ، وأنت تدخل أهل الجنة إليها وأنت تجيز أهل النار إليها وأنت تلقي حطبها عليها ولواء الحمد في يديك ، وهو سبعون شقة كل شقة وسع ما بين الشمس إلى القمر ، وآدم ومن دونه تحت لوائك والأنبياء من شيعتك يوم القيامة ، ولا يدخل الجنّة إلّا من عرفته وعرفك ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرته وأنكرك (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٥ / ٣٩ ح ٣٨ ضمن حديث طويل.

(٢) مسند أحمد : ١ / ١٧٠ ط. م و : ٢٧٧ ح ١٤٦٦ ط. ب ، والطرائف : ١ / ٧٠ ح ٤٥ وما بعده.

(٣) مزار الشهيد الأول : ٢٣٦.

(٤) بحار الأنوار : ٣٨ / ٢٤٨ ح ٤٢ ضمن حديث طويل.

(٥) بحار الأنوار : ٢٣ / ١٢٥ ح ٥٣ و : ٢٦ / ٣٤٩ ح ٢٣.

(٦) بحار الأنوار : ٣٨ / ١٣٩ ح ١٠١ و : ٣٩ / ٢١٤ ح ٥ ضمن حديث طويل.

٢٩٨

فصل

[مفتاح الجنّة بيد علي عليه‌السلام]

وإذا استوى أهل الجنة في الجنّة وأهل النار في النار ، قيل لك : يا علي أغلق عليها أبوابها ، وناد بين الجنة والنار : يا أهل الجنة خلود خلود ، ويا أهل النار خلود خلود ، فويل للمكذّبين بفضلك المنكرين لأمرك.

فصل

[من عرف نفسه عرف ربّه]

يقول الرب الجليل في الإنجيل : اعرف نفسك أيّها الإنسان تعرف ربّك ، ظاهرك للفناء وباطنك أنا.

وقال صاحب الشريعة : أعرفكم بربّه أعرفكم بنفسه (١).

وقال إمام الهداية : من عرف نفسه فقد عرف ربّه (٢).

فصل

ومعرفة النفس هو أن يعرف الإنسان مبدأه ومنتهاه ، من أين وإلى أين ، وذلك موقوف على معرفة حقيقة الوجود المقيد ، وهو معرفة الفيض الأوّل الذي فاض عن حضرة ذي الجلال ، ثم فاض عنه الوجود والموجود بأمر واجب الوجود ، ومفيض الجود والجواد الفياض ، وذاك هو النقطة الواحدة التي هي مبدأ الكائنات ونهاية الموجودات ، وروح الأرواح ونور الأشباح ، فهي كما قيل :

__________________

(١) روضة الواعظين : ٢٠.

(٢) بحار الأنوار : ٦٠ / ٣٢٤.

٢٩٩

قد طاشت النقطة في الدائرة

فلم تزل في ذاتها حائرة

محجوبة الإدراك عنها بها

منها لها جارحة ناظرة

سمت على الأسماء حتى لقد

فوّضت الدنيا مع الآخرة

وهي أوّل العدد وسرّ الواحد الأحد ، وذلك لأن ذات الله غير معلومة للبشر فمعرفته بصفاته والنقطة الواحدة هي صفة الله ، والصفة تدل على الموصوف ، لأن بظهورها عرف الله ، وهي لألاء النور الذي شعشع عن جلال الأحدية في سيماء الحضرة المحمدية ، وإليه الإشارة بقوله : «يعرفك بها من عرفك» (١) يعضد هذا القول أيضا قولهم : لو لانا ما عرف الله ، ولو لا الله ما عرفنا (٢).

فهم النور الذي أشرقت منه الأنوار ، والواحد الذي ظهرت عنه الأجساد ، والسرّ الذي نشأت عنه الأسرار ، والعقل الذي قامت به العقول ، والنفس التي صدرت عنها النفوس ، واللوح الحاوي لأسرار الغيوب والكرسي الذي وسع السّموات والأرض ، والعرش العظيم المحيط بكل شيء ، عظمة وعلما ، والعين التي ظهرت عنها كل عين ، والحقيقة التي يشهدها بالبدء كل موجود كما شهدت هي بالأحدية لواجب الوجود.

فغاية عرفان العارفين الوصول إلى محمد وعلي بحقيقة معرفتهم ، أو بمعرفة حقيقتهم ، لكن ذلك الباب مستور بحجاب (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٣) ، وإليه الإشارة بقولهم :

«إن الذي خرج إلى الملائكة المقرّبين من معرفة آل محمد قليل من كثير» ، فكيف إلى عالم البشرية ، وعن هذا المقام عنوا بقولهم «أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله نبي مرسل ولا ملك مقرّب» ، فمن اتصل بشعاع نورهم فقد عرف نفسه لأنه إذ قد عرف عين الوجود وحقيقة الموجود ، وفردانية الرب المعبود ، فمعرفة النفس هي معرفة حقيقة الوجود المقيد ، وهي النقطة الواحدة التي ظاهرها وباطنها النبوة والولاية ، فمن عرف النبوة والولاية بحقيقة معرفتها فقد عرف ربّه ، فمن عرف محمدا وعليا فقد عرف ربّه ، وإن كان الضمير في قوله

__________________

(١) البحار : ٩٥ / ٣٩٣.

(٢) نور البراهين للجزائري : ٢ / ١٢١.

(٣) الاسراء : ٨٥.

٣٠٠