مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

رجب البرسي

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

المؤلف:

رجب البرسي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6307-75-2
الصفحات: ٣٨٤

بسيفي هذا ، أنا صاحب جبريل ، أنا تابع ميكائيل ، أنا شجرة الهدى ، أنا علم التقى ، أنا حاشر الخلق إلى الله بالكلمة التي بها يجمع الخلايق ، أنا منشىء (١) الأنام ، أنا جامع الأحكام ، أنا صاحب القضيب الأزهر والجمل الأحمر ، أنا باب اليقين ، أنا أمير المؤمنين ، أنا صاحب الخضر ، أنا صاحب البيضاء ، أنا صاحب الفيحاء ، أنا قاتل الأقران ، أنا مبيد الشجعان ، أنا صاحب القرون الأوّلين ، أنا الصدّيق الأكبر ، أنا الفاروق الأعظم ، أنا المتكلّم بالوحي ، أنا صاحب النجوم ، أنا مدبرها بأمر ربّي وعلم الله الذي خصّني به ، أنا صاحب الرايات الصفر ، أنا صاحب الرايات الحمر ، أنا الغائب المنتظر لأمر العظيم ، أنا المعطي ، أنا المبذل ، أنا القابض يدي على القبض ، الواصف لنفسي ، أنا الناظر لدين ربّي ، أنا الحامي لابن عمّي ، أنا مدرجة في الأكفان ، أنا والي الرحمن ، أنا صاحب الخضر وهارون ، أنا صاحب موسى ويوشع بن نون ، أنا صاحب الجنة ، أنا صاحب القطر والمطر ، أنا صاحب الزلازل والخسوف ، أنا مروع الألوف ، أنا قاتل الكفّار ، أنا إمام الأبرار ، أنا البيت المعمور ، أنا السقف المرفوع ، أنا البحر المسجور ، أنا باطن الحرم ، أنا عماد الأمم ، أنا صاحب الأمر الأعظم ، هل من ناطق يناطقني؟

أنا النار ، ولو لا أني أسمع كلام الله وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لوضعت سيفي فيكم وقتلتكم عن آخركم ، أنا شهر رمضان ، أنا ليلة القدر ، أنا أمّ الكتاب ، أنا فصل الخطاب ، أنا سورة الحمد ، أنا صاحب الصلاة في الحضر والسفر ، بل نحن الصلاة والصيام والليالي والأيام والشهور والأعوام ، أنا صاحب الحشر والنحر ، أنا الواضع عن أمّة محمد الوزر ، أنا باب السجود ، أنا العابد ، أنا المخلوق ، أنا الشاهد ، أنا المشهود ، أنا صاحب السندس الأخضر ، أنا المذكور في السّموات والأرض ، أنا الماضي مع رسول الله في السّموات ، أنا صاحب الكتاب والقوس ، أنا صاحب شيث بن آدم ، أنا صاحب موسى وإرم ، أنا بي تضرب الأمثال ، أنا السماء الخضر ، أنا صاحب الدنيا الغبراء ، أنا صاحب الغيث بعد القنوط.

ها أنا ذا فمن ذا مثلي ، أنا صاحب الرعد الأكبر ، أنا صاحب البحر الأكدر ، أنا مكلّم الشمس ، أنا الصاعقة على الأعداء ، أنا غوث من أطاع من الورى والله ربي لا إله غيره ، ألا وإن للباطل جولة وللحق دولة ، وإني ظاعن عن قريب فار تقبوا الفتنة الأموية والدولة الكسروية ، ثم

__________________

(١) في الأصل المطبوع : منشاء.

٢٦١

تقبل دولة بني العباس بالفرج والبأس ، وتبنى مدينة يقال لها الزوراء بين دجلة ودجيل والفرات ، ملعون من سكنها ، منها تخرج طينة الجبّارين ، تعلى فيها القصور ، وتسبل الستور ، ويتعلون بالمكر والفجور ، فيتداولها بنو العباس ٤٢ ملكا على عدد سني الملك ، ثم الفتنة الغبراء ، والقلادة الحمراء في عنقها قائم الحق ، ثم أسفر عن وجهي بين أجنحة الأقاليم كالقمر المضيء بين الكواكب ، ألا وإن لخروجي علامات عشرة ، أوّلها تحريف الرايات في أزقة الكوفة ، وتعطيل المساجد ، وانقطاع الحاج ، وخسف وقذف بخراسان ، وطلوع الكوكب المذنب ، واقتران النجوم ، وهرج ومرج وقتل ونهب ، فتلك علامات عشرة ، ومن العلامة إلى العلامة عجب ، فإذا تمّت العلامات قام قائمنا قائم الحق .. ثم قال : معاشر الناس نزهوا ربّكم ولا تشيروا إليه ، فمن حد الخالق فقد كفر بالكتاب الناطق ، ثم قال : طوبى لأهل ولايتي الذين يقتلون فيّ ، ويطردون من أجلي ، هم خزّان الله في أرضه ، لا يفزعون يوم الفزع الأكبر ، أنا نور الله الذي لا يطفى ، أنا السرّ الذي لا يخفى (١).

يؤيّد هذا الكلام والمقام ما ورد في الأمالي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يا معشر قريش ، كيف بكم وقد كفرتم بعدي ، ثم رأيتموني في كتيبة من أصحابي أضرب وجوهكم بالسيف ، أنا وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام.

فنزل جبرئيل مسرعا ، وقال : قل إن شاء الله (٢). (٣).

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ٣٨ / ٧٨ ح ١ و : ٣٩ / ٢٢٧ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ٣٢ / ٣٠٤ ح ٢٦٨ و : ٣٧ / ١١٣ ح ٦.

(٣) في البحار : قل : إن شاء الله أو علي.

٢٦٢

فصل

[خطبة التطنجية]

ومن خطبة له عليه‌السلام تسمّى التطنجية ، ظاهرها أنيق ، وباطنها عميق ، فليحذر قارئها من سوء ظنّه ، فإن فيها من تنزيه الخالق ما لا يطيقه أحد من الخلائق ، خطبها أمير المؤمنين عليه‌السلام بين الكوفة والمدينة ، فقال : الحمد لله الذي فتق الأجواء وخرق الهواء ، وعلق الأرجاء وأضاء الضياء ، وأحيى الموتى وأمات الأحياء ، أحمده حمدا سطع فأرفع ، وشعشع فلمع ، حمدا يتصاعد في السماء إرساله ، ويذهب في الجو اعتداله ، خلق السّموات بلا دعائم ، وأقامها بغير قوائم ، وزيّنها بالكواكب المضيئات ، وحبس في الجو سحائب مكفهرات ، وخلق البحار والجبال على تلاطم تيار رفيق رئيق ، فتق رتجاها (١) فتغطمطت أمواجها ، أحمده وله الحمد ، وأشهد أن لا إله إلّا هو ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، انتجبه من البحبوحة العليا ، وأرسله في العرب ، وابتعثه هاديا مهديا حلاحلا (٢) طلسميا ، فأقام الدلائل ، وختم الرسائل ، بصّر به المسلمين ، وأظهر به الدين ، صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين.

أيّها الناس ، أنيبوا إلى شيعتي ، والتزموا بيعتي ، وواظبوا على الدين بحسن اليقين ، وتمسّكوا بوصي نبيّكم الذي به نجاتكم ، وبحبّه يوم الحشر منجاتكم ، فأنا الأمل والمأمول.

أنا الواقف على التطنجين ، أنا الناظر إلى المغربين والمشرقين ، رأيت رحمة الله والفردوس (٣) رأي العين ، وهو في البحر السابع يجري في الفلك في زخاخيره النجوم والحبك ، ورأيت الأرض ملتفة كالتفاف الثوب القصور ، وهي في خزف من التطنج الأيمن ممّا يلي المشرق والتطنجان ، خليجان من ماء كأنهما أيسار تطنجين ، وأنا المتولي دائرتها ، وما

__________________

(١) كذا والظاهر : رتاجها وفي الزام الناصب : ولجاها.

(٢) كذا بالأصل.

(٣) في الأصل أفردوس.

٢٦٣

الفردوس؟ وما هم فيه إلّا كالخاتم في الإصبع ، ولقد رأيت الشمس عند غروبها وهي كالطاير المنصرف إلى وكره ، ولو لا اصطكاك رأس الفردوس ، واختلاط التطنجين ، وصرير الفلك ، يسمع من في السّموات والأرض رميم حميم دخولها في الماء الأسود ، وهي العين الحمئة ، ولقد علمت من عجائب خلق الله ما لا يعلمه إلّا الله ، وعرفت ما كان وما يكون وما كان في الذر الأوّل مع من تقدّم من آدم الأول ، ولقد كشف لي فعرفت ، وعلمني ربي فتعلّمت ، ألا فعوا ولا تضجوا ولا ترتجوا فلولا خوفي عليكم أن تقولوا جن أو ارتد لأخبرتكم بما كانوا وما أنتم فيه وما تلقونه إلى يوم القيامة ، علم أو عز إلي فعلمت ، ولقد ستر علمه عن جميع النبيين إلّا صاحب شريعتكم هذه صلوات الله عليه وآله ، فعلّمني علمه ، وعلمته علمي ، ألا وإنّا نحن النذر الأولى ، ونحن نذر الآخرة والأولى ، ونذر كل زمان وأوان ، وبنا هلك من هلك ، وبنا نجا من نجا ، فلا تستطيعوا ذلك فينا ، فو الذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، وتفرّد بالجبروت والعظمة ، لقد سخرت لي الرياح والهواء والطير ، وعرضت عليّ الدنيا ، فأعرضت عنها ، أنا كاب الدنيا لوجهها فحنى ، متى يلحق بي اللواحق ، لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى ، وما تحت السابعة السفلى ، وما في السّموات العلى ، وما بينهما وما تحت الثرى.

كل ذلك علم إحاطة لا علم أخبار ، أقسم بربّ العرش العظيم ، لو شئت أخبرتكم بآبائكم وأسلافكم أين كانوا وممّن كانوا وأين هم الآن وما صاروا إليه ، فكم من آكل منكم لحم أخيه ، وشارب برأس أبيه ، وهو يشتاقه ويرتجيه.

هيهات هيهات ، إذا كشف المستور ، وحصل ما في الصدور ، وعلم أين الضمير ، وأيم الله لقد كوزتم كوزات ، وكررتم كرات ، وكم بين كرة وكرة من آية وآيات ، ما بين مقتول وميّت ، فبعض في حواصل الطيور ، وبعض في بطون الوحش ، والناس ما بين ماض وزاج (١) ، ورايح وغاد ، ولو كشف لكم ما كان منّي في القديم الأول ، وما يكون منّي في الآخرة ، لرأيتم عجائب مستعظمات ، وأمورا مستعجبات ، وصنايع وإحاطات ، أنا صاحب الخلق الأوّل قبل نوح الأول ، ولو علمتم ما كان بين آدم ونوح من عجائب اصطنعتها ، وأمم أهلكتها : فحق عليهم القول ، فبئس ما كانوا يفعلون. أنا صاحب الطوفان الأوّل ، أنا صاحب الطوفان الثاني ، أنا

__________________

(١) كذا بالأصل.

٢٦٤

صاحب سيل العرم ، أنا صاحب الأسرار المكنونات ، أنا صاحب عاد والجنات ، أنا صاحب ثمود والآيات ، أنا مدمّرها ، أنا مزلزلها ، أنا مرجعها ، أنا مهلكها ، أنا مدبرها ، أنا بانيها ، أنا داحيها ، أنا مميتها ، أنا محييها ، أنا الأوّل ، أنا الآخر ، أنا الظاهر ، أنا الباطل ، أنا مع الكور قبل الكور ، أنا مع الدور قبل الدور ، أنا مع القلم قبل القلم ، أنا مع اللوح قبل اللوح ، أنا صاحب الأزلية الأولية ، أنا صاحب جابلقا وجابرسا ، أنا صاحب الرفوف وبهرم ، أنا مدبر العالم الأول حين لا سماؤكم هذه ولا غبراؤكم.

قال : فقام إليه ابن صويرمة فقال : أنت أنت يا أمير المؤمنين؟

فقال : أنا أنا لا إله إلّا الله ربّي ورب الخلائق أجمعين ، له الخلق والأمر ، الذي دبّر الأمور بحكمته ، وقامت السّموات والأرض بقدرته ، كأني بضعيفكم يقول ألا تسمعون إلى ما يدّعيه ابن أبي طالب في نفسه ، وبالأمس تكفهر عليه عساكر أهل الشام فلا يخرج إليها؟

وباعث محمد وإبراهيم! لأقتلن أهل الشام بكم قتلات وأي قتلات ، وحقي وعظمتي لأقتلنّ أهل الشام بكم قتلات وأي قتلات ، ولأقتلن أهل صفين بكل قتلة سبعين قتلة ، ولأردنّ إلى كل مسلم حياة جديدة ، ولأسلمن إليه صاحبه وقاتله ، إلى أن يشفى غليل صدري منه ، ولأقتلن بعمّار بن ياسر وبأويس القرني ألف قتيل أو لا يقال لا وكيف وأين ومتى وأنى وحتى ، فكيف إذا رأيتم صاحب الشام ينشر بالمناشير ، ويقطع بالمساطير ، ثم لأذيقنّه أليم العقاب ، ألا فابشروا ، فإليّ يرد أمر الخلق غدا بأمر ربي ، فلا يستعظم ما قلت ، فإنا أعطينا علم المنايا والبلايا ، والتأويل والتنزيل ، وفصل الخطاب وعلم النوازل ، والوقايع والبلايا ، فلا يعزب عنّا شيء.

كأني بهذا وأشار إلى الحسين عليه‌السلام قد ثار نوره بين عينيه ، فأحضره لوقته بحين طويل يزلزلها ويخسفها ، وثار معه المؤمنون في كل مكان ، وأيم الله لو شئت سمّيتهم رجلا رجلا بأسمائهم وأسماء آبائهم فهم يتناسلون من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، إلى يوم الوقت المعلوم.

ثم قال : يا جابر ، أنتم مع الحق ومعه تكونون ، وفيه تموتون ، يا جابر إذا صاح الناقوس ، وكبس الكابوس ، وتكلّم الجاموس ، فعند ذلك عجائب وأي عجائب ، إذا أنارت النار ببصرى ،

٢٦٥

وظهرت الراية العثمانية بوادي سوداء ، واضطربت البصرة وغلب بعضهم بعضا ، وصبا كل قوم إلى قوم ، وتحرّكت عساكر خراسان ، وتبع شعيب بن صالح التيمي من بطن الطالقان ، وبويع لسعيد السوسي بخوزستان ، وعقدت الراية لعماليق كردان ، وتغلبت العرب على بلاد الأرمن والسقلاب ، وأذعن هرقل بقسطنطينة لبطارقة سينان ، فتوقعوا ظهور مكلم موسى من الشجرة على الطور ، فيظهر هذا ظاهر مكشوف ، ومعاين موصوف ، ألا وكم عجائب تركتها ، ودلائل كتمتها ، لا أجد لها حملة ، أنا صاحب إبليس بالسجود ، أنا معذّبه وجنوده على الكبر والغرور بأمر الله ، أنا رافع إدريس مكانا عليا ، أنا منطق عيسى في المهد صبيا ، أنا مدين الميادين وواضع الأرض ، أنا قاسمها أخماسا ، فجعلت خمسا برا ، وخمسا بحرا ، وخمسا جبالا ، وخمسا عمّارا ، وخمسا خرابا.

أنا خرقت القلزم من الترجيم ، وخرقت العقيم من الحيم ، وخرقت كلّا من كل ، وخرقت بعضا في بعض ، أنا طيرثا ، أنا جانبوثا ، أنا البارحلون ، أنا عليوثوثا ، أنا المسترق على البحار في نواليم الزخار عند البيار ، حتى يخرج لي ما أعد لي فيه من الخيل والرجل ، فآخذ ما أحببت ، وأترك ما أردت ، ثم أسلّم إلى عمّار بن ياسر اثني عشر ألف أدهم على أدهم ، منها محب الله ولرسوله ، مع كل واحد اثنى عشر كتيبة ، لا يعلم عددها إلّا الله ، ألا فابشروا ، فأنتم نعم الإخوان ، ألا وإن لكم بعد حين طرفة تعلمون بها بعض البيان ، وتنكشف لكم صنايع البرهان ، عند طلوع بهرام وكيوان ، على دقائق الاقتران ، فعندها تتواتر الهزات والزلازل ، وتقبل رايات من شاطىء جيحون إلى بيداء بابل.

أنا مبرج الأبراج وعاقد الرياح ، ومفتح الأفراج وباسط العجاج ، أنا صاحب الطور ، أنا ذلك النور الظاهر ، أنا ذلك البرهان الباهر ، وإنما كشف لموسى شقص من شقص الذر من المثقال ، وكل ذلك بعلم من الله ذي الجلال.

أنا صاحب جنّات الخلود ، أنا مجري الأنهار أنهارا من ماء تيار ، وأنهارا من لبن ، وأنهارا من عسل مصفّى ، وأنهارا من خمر لذّة للشاربين ، أنا حجبت جهنّم وجعلتها طبقات السعير ، وسقير الجير ، والأخرى عمقيوس أعددتها للظالمين ، وأودعت ذلك كلّه وادي برهوت ، وهو والفلق ورب ما خلق ، يخلد فيه الجبت والطاغوت وعبيدهما ، ومن كفر بذي الملك

٢٦٦

والملكوت ، أنا صانع الأقاليم بأمر العليم الحكيم ، أنا الكلمة التي بها تمّت الأمور ودهرت الدهور ، أنا جعلت الأقاليم أرباعا ، والجزائر سبعا ، فإقليم الجنوب معدن البركات ، وإقليم الشمال معدن السطوات ، وإقليم الصبا معدن الزلازل وإقليم الدبور معدن الهلكات.

ألا ويل لمداينكم وأمصاركم من طغاة يظهرون فيغيرون ويبدلون إذا تمالت الشدائد من دولة الخصيان ، وملكة الصبيان ، والنسوان ، فعند ذلك ترتج الأقطار بالدعاة إلى كل باطل ، هيهات هيهات ، توقعوا حلول الفرج الأعظم ، وإقباله فوجا فوجا ، إذا جعل الله حصباء النجف جوهرا ، وجعله تحت أقدام المؤمنين ، وتبايع به للخلاف والمنافقين ، ويبطل معه الياقوت الأحمر ، وخالص الدر والجوهر ، ألا وإن ذلك من أبين العلامات ، حتى إذا اتنهى ذلك صدق ضياؤه ، وسطع بهاؤه ، وظهر ما تريدون ، وبلغتم ما تحبّون ، ألا وكم إلى ذلك من عجائب جمّة ، وأمور ملمة ، يا أشباه الأعثام ، وبهام الأنعام ، كيف تكونون إذا دهمتكم رايات لبني كنام مع عثمان بن عنبسة من عراص الشام يريد بها أبويه ، ويزوج بها أميه ، هيهات أن يرى الحق أموي أم عدوي.

ثم بكى صلوات الله عليه ، وقال : واها للأمم ، أما شاهدت رايات بني عتبة مع بني كنام السائرين أثلاثا ، المرتكبين جبلا جبلا مع خوف شديد ، وبؤس عتيد ، ألا وهو الوقت الذي وعدتم به ، لأحملنّهم على نجائب ، تحفّهم مراكب الأفلاك ، كأني بالمنافقين يقولون نص عليّ على نفسه بالربانية ، ألا فاشهدوا شهادة أسألكم بها عند الحاجة إليها ، إن عليا نور مخلوق ، وعبد مرزوق ، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين.

ثم نزل وهو يقول : تحصنت بذي الملك والملكوت ، واعتصمت بذي العزّة والجبروت ، وامتنعت بذي القدرة والملكوت ، من كل ما أخاف وأحذر ، أيها الناس ما ذكر أحدكم هذه الكلمات عند نازلة أو شدّة إلّا وأزاحها الله عنه.

فقال له جابر : وحدها يا أمير المؤمنين ، فقال : نعم وأضيف إليها الثلاثة عشر اسما ، وضمّني ، ثم ركب ومضى (١).

__________________

(١) معجم أحاديث الإمام المهدي عليه‌السلام : ٣ / ٢٧.

٢٦٧

فصل

[أثار علي عليه‌السلام بالكون]

ومن خطبة له عليه‌السلام قال : أنا عندي مفاتيح الغيب ، لا يعلمها بعد رسول الله إلّا أنا ، أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأولى ، أنا صاحب خاتم سليمان ، أنا ولي الحساب ، أنا صاحب الصراط والموقف ، قاسم الجنة والنار بأمر ربّي ، أنا آدم الأوّل ، أنا نوح الأوّل ، أنا آية الجبّار ، أنا حقيقة الأسرار ، أنا مورق الأشجار ، أنا مونع الثمار ، أنا مفجّر العيون ، أنا مجري الأنهار ، أنا خازن العلم ، أنا طود الحلم ، أنا أمير المؤمنين ، أنا عين اليقين ، أنا حجّة الله في السّموات والأرض ، أنا الراجفة ، أنا الصاعقة ، أنا الصيحة بالحق ، أنا الساعة لمن كذّب بها ، أنا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ، أنا الأسماء الحسنى التي أمر أن يدعى بها ، أنا ذلك النور الذي اقتبس منه الهدى ، أنا صاحب الصور ، أنا مخرج من في القبور ، أنا صاحب يوم النشور ، أنا صاحب نوح ومنجيه ، أنا صاحب أيوب المبتلى وشافيه ، أنا أقمت السّموات بأمر ربّي ، أنا صاحب إبراهيم ، أنا سرّ الكليم.

أنا الناظر في الملكوت ، أنا أمر الحي الذي لا يموت ، أنا ولي الحق على سائر الخلق ، أنا الذي لا يبدل القول لديّ ، وحساب الخلق إليّ ، أنا المفوض إليّ أمر الخلائق ، أنا خليفة الإله الخالق ، أنا سرّ الله في بلاده ، وحجّته على عباده ، أنا أمر الله والروح ، كما قال سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١).

أنا أرسيت الجبال الشامخات ، وفجّرت العيون الجاريات ، أنا غارس الأشجار ، ومخرج الألوان والثمار ، أنا مقدّر الأقوات ، أنا ناشر الأموات ، أنا منزل القطر ، أنا منوّر الشمس والقمر والنجوم ، أنا قيّم القيامة ، أنا القيم الساعة ، أنا الواجب له من الله الطاعة ، أنا سر الله المخزون ، أنا العالم بما كان وما يكون ، أنا صلوات المؤمنين وصيامهم ، أنا مولاهم وإمامهم ، أنا صاحب النشر الأوّل والآخر ، أنا صاحب المناقب والمفاخر ، أنا صاحب الكواكب ، أنا عذاب الله

__________________

(١) الاسراء : ٨٥.

٢٦٨

الواصب ، أنا مهلك الجبابرة الأول ، أنا مزيل الدّول ، أنا صاحب الزلازل والرجف ، أنا صاحب الكسوف والخسوف ، أنا مدمّر الفراعنة بسيفي هذا ، أنا الذي أقامني الله في الأظلة ودعاهم إلى طاعتي ، فلما ظهرت أنكروا ، فقال الله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ، أنا نور الأنوار ، أنا حامل العرش مع الأبرار ، أنا صاحب الكتب السالفة ، أنا باب الله الذي لا يفتح لمن كذب به ولا يذوق الجنة ، أنا الذي تزدحم الملائكة على فراشي ، وتعرفني عباد أقاليم الدنيا ، أنا ردّت لي الشمس مرّتين ، وسلّمت عليّ كرتين ، وصلّيت مع رسول الله القبلتين ، وبايعت البيعتين ، أنا صاحب بدر وحنين ، أنا الطور ، أنا الكتاب المسطور ، أنا البحر المسجور ، أنا البيت المعمور ، أنا الذي دعا الله الخلائق إلى طاعتي ، فكفرت ، وأصرّت ، فمسخت ، وأجابت أمة فنجت ، وأزلفت ، أنا الذي بيدي مفاتيح الجنان ، ومقاليد النيران ، كرامة من الله ، أنا مع رسول الله في الأرض وفي السماء ، أنا المسيح حيث لا روح يتحرّك ولا نفس يتنفّس غيري ، أنا صاحب القرون الأولى ، أنا الصامت ومحمد الناطق ، أنا جاوزت بموسى في البحر ، وأغرقت فرعون وجنوده ، وأنا أعلم هماهم البهائم ، ومنطق الطير ، أنا الذي أجوز السّموات السبع والأرضين السبع في طرفة عين ، أنا المتكلّم على لسان عيسى في المهد ، أنا الذي يصلّي عيسى خلفي ، أنا الذي أنقلب في الصور كيف شاء الله ، أنا مصباح الهدى ، أنا مفتاح التقى ، أنا الآخرة والأولى ، أنا الذي أرى أعمال العباد ، أنا خازن السّموات والأرض بأمر رب العالمين ، أنا القائم بالقسط ، أنا ديّان الدين ، أنا الذي لا تقبل الأعمال إلّا بولايتي ، ولا تنفع الحسنات إلّا بحبّي ، أنا العالم بمدار الفلك الدوّار ، أنا صاحب مكيال وقطرات الأمطار ، ورمل القفار بإذن الملك الجبّار ، ألا أنا الذي أقتل مرّتين وأحيى مرّتين وأظهر كيف شئت ، أنا محصي الخلائق وإن كثروا ، أنا محاسبهم بأمر ربي ، أنا الذي عندي ألف كتاب من كتب الأنبياء ، أنا الذي جحد ولايتي ألف أمة فمسخوا ، أنا المذكور في سالف الأزمان والخارج في آخر الزمان ، أنا قاصم الجبّارين في الغابرين ، ومخرجهم ومعذّبهم في الآخرين ، يغوث ويعوق ونسرا عذابا شديدا ، أنا المتكلّم بكل لسان ، أنا الشاهد لأعمال الخلائق في المشارق والمغارب.

أنا صهر محمد ، أنا المعنى الذي لا يقع عليه اسم ولا شبه ، أنا باب حطة ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٩ / ٣٤٧ ح ٢٠.

٢٦٩

فصل

[كلام الإمام إمام الكلام]

قال الصادق عليه‌السلام : الآيات السبع التي ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام هي أسماء الأئمة من ذرية الحسين عليه‌السلام وإن هذا الأمر يصير إلى من تلوى إليه أعنة الخيل من الآفاق ، وهو المظهر على الدين كله ومالك قافاتها وكافاتها ودالاتها ، وهو المهدي عليه‌السلام.

قال : وشرح ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام على الاختصار قال : أنا دحوت أرضها معناه أنه وعترته تسكن الأرض ، وقوله : أنا أرسيت جبالها معناه إنه وعترته الأمان من الغرق وأنهم الجبال الرواسي ، وقوله : أنا فجّرت عيونها لأنّ الأئمة من عترته هم ينابيع العلم والحكم ، وقوله : أينعت ثمارها إشارة إلى عترته ، وقوله : أنا غرست أشجارها إشارة إلى أن الأئمة من عترته هم شجرة طوبى وسدرة المنتهى ، وقوله : أنا أنشأ سحابها إشارة إلى عترته ، لأنهم الغيث الهامل ، وقوله : أنا أسمعت رعدها معناه أنا أنبت العلم ، وقوله : أنا نوّرت برقها لأن عترته نور العباد والبلاد ، وقوله : أنا البحر الزاخر معناه بالعلم ، وقوله : أنا شيّدت أطوارها معناه شيدت الدين ، وقوله : أنا قتلت مردة الشياطين يعني أهل الشام ، وقوله : أنا أشرقت قمرها وشمسها وأجريت فلكها ، المراد الأئمة فهم الشموس والأقمار وسفن النجاة ، وقوله : أنا جنب الله يعني حق الله وعلم الله ، وقوله : أنا دابة الأرض ، معناه أفرّق بين الحق والباطل ، وقوله : وعلى يدي تقوم الساعة إشارة إلى المهدي عليه‌السلام يحكم في الأرض زمانا طويلا ، وإذا مات قامت الساعة ، وقوله : فيّ يرتاب المبطلون ، أي : من جحد ولايتي هلك. ومن أقرّ بها نجا. قال : وإنّما فسّر الإمام منها على مقدار عقل السائل (١).

__________________

(١) راجع ما ذكره المجلسي عن الإمام الباقر في تفسيرها : ٣٩ / ٣٥٠.

٢٧٠

فصل

[أثر اسم علي عليه‌السلام]

ومن ذلك ما رواه صاحب عيون الأخبار قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّ في طريق فسايره خيبري فمرّ بواد قد سال فركب الخيبري مرطه وعبر على الماء ثم نادى أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا هذا لو عرفت كما عرفت لجريت كما جريت ، فقال له أمير المؤمنين : مكانك ، ثم أو مأ إلى الماء فجمد ومر عليه. فلما رأى الخيبري ذاك أكبّ على قدميه وقال : يا فتى ما قلت حتى حولت الماء حجرا؟ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : فما قلت أنت حتى عبرت على الماء؟ فقال الخيبري : أنا دعوت الله باسمه الأعظم ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام وما هو؟

قال : سألته باسم وصي محمد ، فقال أمير المؤمنين : أنا وصي محمد ، فقال الخيبري : إنك ، الحق. ثم أسلم. (١)

ومن ذلك ما رواه عمّار بن ياسر قال : أتيت مولاي يوما فرأى في وجهي كآبة فقال : ما بك؟ فقلت : دين أتى مطالب به ، فأشار إلى حجر ملقى وقال : خذ هذا فاقض منه دينك ، فقال عمّار : إنه الحجر ، فقال له أمير المؤمنين : ادع الله بي يحوّله لك ذهبا. فقال عمّار : فدعوت باسمه فصار الحجر ذهبا فقال لي : خذ منه حاجتك ، فقلت : وكيف تلين؟ فقال : يا ضعيف اليقين ادع الله بي حتّى تلين فإن باسمي ألان الله الحديد لداود عليه‌السلام ، قال عمّار :

فدعوت الله باسمه فلان فأخذت منه حاجتي ، ثم قال : ادع الله باسمي حتى يصير باقيه حجرا كما كان (٢).

__________________

(١) مدينة المعاجز : ١ / ٤٣٠.

(٢) مدينة المعاجز : ١ / ٤٣١.

٢٧١

فصل

لعلّك أيّها الشاك في دينه ، المرتاب في يقينه ، تقول : كيف صار الحجر ذهبا؟

أما عرفت أن القدرة في يد القادر ، والمراد من الأشياء غاياتها وغاية الحجر أن يصير ذهبا ، وإنّما يطلب الأمر الأعظم بالأعظم والعظيم من العظيم يرجى ، وغاية الغايات ونهاية النهايات ، وأعظم الأسماء وأقربها إلى حضرة الألوهية محمد وعلي ، والولاية مبتدأ النبوّة ونهايتها وبها تكمل أيام دولتها ، وإليه الإشارة بقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (١) ، لأنه لما اتخذه نبيا لم يطلب ذاك لذريته ، ولما ألبسه خلعة الحلة ورفعه إلى رتبة الرسالة لم يطلب ذاك لذريته لعلّه ينسخ الشرائع ويغيرها ، فلما قال له (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) طلب ذاك لذريته ، لأن الإمامة لم ينلها نسخ فهي غاية الغايات لأنها ختم الدين ونقطة اليقين ، فهي سر السرائر ونور النور والاسم الأعظم ، فالدعاء باسم علي يحوّل التراب تبرا والأحجار جوهرا ودرا ، والظلمة نورا ، وتجعل في الشجر اليابس ثمرا ، ويعيد الأعمى بصيرا.

فصل

[فضائل لآل محمد عليهم‌السلام]

اعلم أن إسرافيل عليه‌السلام لقّنه الله كلمة بها ينفخ في الصور فيصعق أهل السّموات والأرض ، وهي الاسم الذي قامت به السّموات والأرض ، ثم يناديهم بها فيقوم بها الأموات ويحيي الرفات ويجمع الشتاب من العظام الدارسات وتعود بادرة كما ناداها الجبّار في الأزل فأجابت بالكلمات التامة التي لها التفريق والجمع والموت والحياة ، وهي رموز مستورة في

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

٢٧٢

القرآن :

أما عرفت أن الله بريء عن الصورة المثلى وأنه الحيّ الكريم المتعال وأن باسمه وقدرته وأمره يوجد الأشياء ويعدمها إذا شاء ، وأنه ليس هناك جوارح تفعل ولا حركات ولكنها رموز مبهمات وكلمات تامات ، وإليه الإشارة بقوله : «خمرت طينة آدم بيدي» (١) أي بقدرتي ، ومثله : «أن الله خلق آدم على صورته» (٢) أي على الصورة التي كان عليها من الطين لم ينتقل من العلقة إلى المضغة ، بل يقول : (كُنْ فَيَكُونُ) ، فلو اطلعت على السر المصون في قوله (كُنْ فَيَكُونُ) لعرفت ما بين القلم والنون.

روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه استدعى يوما ماء وعنده أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فشرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ناوله الحسن فشرب ، فقال له النبي : هنيئا مريئا يا أبا محمد ، ثم ناوله الحسين ، فقال له النبي : هنيئا مريئا يا أبا عبد الله ، ثم ناوله الزهراء فشربت ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : هنيئا مريئا يا أم الأبرار الطاهرين ، ثم ناوله عليا فلما شرب سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما رفع رأسه قال له بعض أزواجه : يا رسول الله شربت ثم ناولت الماء للحسن ، فلما شرب قلت له هنيئا مريئا ، ثم ناولته الحسين فشرب فقلت له كذلك ، ثم ناولته فاطمة فلما شربت قلت لها ما قلت للحسن وللحسين ثم ناولته عليا فلما شرب سجدت فما ذاك؟

فقال لها : إنّي لما شربت الماء قال لي جبرائيل والملائكة معه هنيئا مريئا يا رسول الله ، ولما شرب الحسن قالوا له كذلك ولما شرب الحسين وفاطمة قال جبرائيل والملائكة : هنيئا مريئا ، فقلت كما قالوا ، ولما شرب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال الله له : هنيئا مريئا يا وليّي وحجّتي على خلقي ، فسجدت لله شكرا على ما أنعم عليّ في أهل بيتي (٣).

فلما وقر هذا في سمعه ووعاه لم يحمله عقله ، وقال : يقول الله لعلي هنيئا مريئا؟.

أما سمعت ما صرّح به القرآن من كلام الرحمن (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٤ / ٩٨.

(٢) الكافي : ١ / ١٣٤.

(٣) بحار الأنوار : ٤٣ / ٣١١ ح ٧٣.

٢٧٣

هَنِيئاً مَرِيئاً) (١) ، وإذا قال الله لعامة خلقه هنيئا مريئا فكيف تستعظم قوله لوليّه وعليّه هنيئا مريئا؟

ثم قلت له : أنت في اعتقادك في ولي معادك كمنافق مرّ في طريق فوافقه مؤمن فذكر عليا فقال المؤمن : صلى الله عليه ، فغاظ ذاك المنافق وقال : لا يجوز الصلاة إلّا على النبي ، فقال له المؤمن : فما تقول في قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) (٢) فهذه الصلاة على من؟ قال : على أمة محمد ، فقال المؤمن : فكيف يجوز الصلاة على أمة محمد ولا يجوز الصلاة على آل محمد؟ فبهت الذي كفر.

فانظر أيّها المؤمن كيف يستعظم المنافق سجود النبي عند تعظيم الله لعلي ، وإليه أشار القرآن بقوله (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بعلي (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٣) والألف واللام في الذكر هنا للتخصيص ، ومعناه أن كل آية تتضمن اسم محمد وعلي ظاهرا أو باطنا فإنّها أعظم ما في القرآن ذكرا ، وإذا سجد هناك كان سجوده لله شكرا إذ عرّفه أعظم الآيات ذكرا وأعلاها عنده قدرا.

__________________

(١) النساء : ٤.

(٢) الأحزاب : ٤٣.

(٣) الانشقاق : ٢١.

٢٧٤

فصل

[الصلاة على آل محمد عليهم‌السلام وأثرها]

وأما الصلاة فإنّ الله قد صلّى على المؤمنين عامة ، وخص أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده بصلوات فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (١) ، وتفسير هذا الفضل العظيم ، والمقام الكريم ، ما رواه ابن عباس أن حمزة حين قتل يوم أحد وعرف بقتله أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، فنزلت (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٢) فكان هذا المقام لعلي عليه‌السلام.

فصل

يؤيّد هذا قوله سبحانه : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٣) ، قال المفسّرون : معناه تذكر إذا ذكرت ، وإذا وجب ذكر النبي وجب ذكر الله ، لما ورد عنه أن الصلاة عليه لا تقبل إلّا بذكر الله ، فالصلاة على محمد وآل محمد لازمة لذكر الله ، وذكر الله واجب ولازم واللازم واجب ولازم ، فالصلاة على محمد وآله واجبة على كل حال بيّنة ، وإشارة ذكر محمد وآله ذكر الله لأن معرفة الله وذكره بغير معرفتهم وذكرهم لا تنفع بل هو عقاب ووبال ، لأن المشروط لا يتم ولا يقبل إلّا بشرطه ، كالصلاة بغير وضوء ، فالوضوء شرطها فهي بغير شرطها لا تنفع ولا ترفع ، بل هي استهزاء ووبال ، وكذا الذاكر لله مع إنكاره لمحمد وآله فإنه غير ذاكر فهو ملعون على كل حال.

دليله ما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لما خلق الله العرش خلق سبعين ألف ملك ، وقال لهم :

__________________

(١) البقرة : ١٥٧.

(٢) البقرة : ١٥٧.

(٣) الشرح : ٤.

٢٧٥

طوفوا بعرش النور وسبّحوني واحملوا عرشي ، فطافوا وسبحوا وأرادوا أن يحملوا العرش فما قدروا ، فقال الله لهم : طوفوا بعرش النور وصلوا على نور جلالي محمد حبيبي واحملوا عرشي ، فطافوا بعرش الجلال وصلوا على محمد وحملوا العرش فأطاقوا حمله ، فقالوا : ربنا أمرتنا بتسبيحك وتقديسك ثم أمرتنا أن نصلّي على نور جلالك محمد فتنقص من تسبيحك وتقديسك ، فقال الله لهم : يا ملائكتي إذا صلّيتم على حبيبي محمد فقد سبحتموني وقدستموني وهللتموني (١).

يؤيّد هذا الحديث ما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة ولم يبق رطب ، ولا يابس إلّا وصلّى على ذلك العبد لصلاة الله عليه (٢).

فما لك أيّها الهائم مع البهائم كلّما أبصرتك زاد عماك؟ وكلّما بشرتك زادت غمّاك؟ وما لي أراك كالبوم يرى الليل نهارا لضعف بصره؟ فهلا كنت كالهدهد يرى الماء من تحت الصخرة لقوة نظره ، فلو كنت هدهدا اهتديت.

فصل

ومن العجب أنّهم يسمّون عليا مجهول القدر ، وهو تحت مرتبة النبي لأنه نائبه وابن عمّه ووزيره وزوج ابنته ، لاختلاف العقول في عظمته. فقوم جحدوه وقوم عبدوه وقوم تبعوه ، وكلّهم ما عرفوه لأن الذين عبدوه كفروا بعبادته ، لأن المعبود واجب الوجود هو الله خالق الخلق ولا إله إلّا هو ، والذين جحدوه أيضا ما عرفوه وكفروا بجحوده ، وكيف يجحدون مولاهم ومعناهم ونهج هداهم؟ والذين تبعوه أيضا ما عرفوه إذ لو عرفوه ما ارتابوا في فضله وأنكروه وأنزلوه عن رفيع قدره وصغروه ، فهم في معرفته كسائر إلى مرام فخبته الظلام فرأى ضياء قد لاح فيممه فما أدركه حتى طلع الصباح ، فهو السرّ الخفي الذي حارت في وصفه العقول ممّا يقول :

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢٧ / ٢٥٨ ح ٨.

(٢) بحار الأنوار : ٢٧ / ٢٥٩ ح ٩.

٢٧٦

ماذا أقول وقد جلت مناقبه

عن الصفات وأضحى دونه الشرف

هذا الذي جاز عن حد القياس علا

فتاهت الناس في معناه واختلفوا

غال وتال وقال عنده وقفوا

وكلّهم وصفوا وصفا وما عرفوا

أو كما قيل :

هذا هو السر والمعنى الخفي ومن

لولاه ما كانت الدنيا ولا الفلك

ولا تكوّن هذا الكون من عدم

إلى الوجود وهذا المالك الملك

هذا الذي ظهرت آياته عجبا

للناس حتى لديه يسجد الملك

فصل

وانظر إلى العارفين بعلي عليه‌السلام كيف وصفوه في حين أعداؤه قد وصفوه بأوصاف لو وصفه اليوم بها أحد من عار فيه بين أوليائه ومحبيه لكفروه ، ومحقوه ، وقتلوه ، فمن ذلك قول أبي عبد الله بن الحجاج :

لو شئت مسخهم في دارهم مسخوا

أو شئت قلت لها يا أرض انخسفي

وإن أسماءك الحسنى إذا تليت

على مريض شفي من سقمه وكفي (١)

ومن ذاك قول الصاحب بن عباد :

إذا أنعمت روحي فمنك نعيمها

وإن شقيت يوما فأنت رحيمها

بأسمائك الحسنى أروح مهجتي

إذا فاض من قدس الجلال نسيمها

ومن ذلك قول ابن الفارض المغربي :

ولو رسم الراقي حروف اسمها على

جبين مصاب جن أبرأه الرسم

وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها

لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم

فانظر إليهم فلا لحروف الاسم يعرفون ، ولا للاسم يدركون ، ولا بما قال شاعرهم يشعرون ، ولمن آتاه الله من فضله يحسدون ، وله لذاك يمقتون ويكفرون ، قاتلهم الله أنهم يؤفكون ، ولم لادعى الناس ابن الحجاج بقوله وابن عباد كافرا ومغاليا إذ جعلا القدرة

__________________

(١) الغدير : ٤ / ٨٩ و ١٢ / ٩٠.

٢٧٧

المطلقة والتصرف وتفويض الأمور إلى علي فهو كفعل الله لكنه بقدرة الله وكرامة الله له ، ولو أن عارفا قال اليوم عند بعض أهل الدعوى ، يا علي بحق قدرتك وأمرك النافذ في الأسماء وأسمائك الحسنى وتفويض الأمور إليك ، خذ بيدي لكان السامع لهذا القول منه أعظم شيء عنده ثوابا قتله وتكفيره ، فيالله من أهل الدعوى الذين لم تنجل عليهم بوارق المعنى.

٢٧٨

فصل

[سبب إخفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعلم الربّاني]

في تأويل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلّا ما علّمني ربّي» (١) ، وقول علي : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٢) ، وقوله : «سلوني عن طرق السّموات (٣) ، سلوني عمّا دون العرش» (٤) ، (٥).

__________________

(١) تقدّم الحديث.

(٢) لعلّه تقدّم : وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٧ / ٢٥٣ الخطبة ١١٣ والأنوار النعمانية : ١ / ٢٦ ، والبحار : ٤٠ / ١٥٣ ، وكشف الغمة : ١ / ١٧٠.

(٣) نهج البلاغة : ٢٨٠ الخطبة ١٨٩.

(٤) وفي حديث : سلوني عن علم لا يعرفه جبرائيل. نزهة المجالس : ٢ / ١٢٩.

(٥) قد وردت روايات عن آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تنص على إخفاء العلوم الصعبة نحو ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «والله لو أن على أفواههم أوكية لأخبرت كل رجل منهم ما لا يستوحش إلى شيء ، ولكن فيكم الإذاعة ، والله بالغ أمره» (بحار الأنوار : ٢٦ / ١٤١ ح ١٣ باب أنه لا يحجب عنهم شيء).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : «لو كان لألسنتكم أوعية لحدثت كل امرىء بما له وعليه» (بحار الأنوار : ٢٦ / ١٤٩ ح ٣٤ باب أنه لا يحجب عنهم شيء).

وقال الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

(الأصول الأصيلة : ١٦٧ ، وغرر البهاء الضوي : ٣١٨ ، ومشارق أنوار اليقين : ١٧ ، وجامع الأسرار : ٣٥ ح ٦٦.)

وتقدم من المصنف قول الإمام الصادق : «هيهات ، والله لو أخبرتك بكنه ذلك لقمت عنّي وأنت تقول إن جعفر بن محمد كاذب في قوله أو مجنون».

وقال عليه‌السلام : «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان (الأصول الأصيلة : ١٦٩).

٢٧٩

هذا لفظه الظاهر يوهم تفضيل الولي على النبي عليهما‌السلام ، والعقل المحض عكسه لأن رتبة الولي وإن علت فهي تحت رتبة النبي ، وإن تطاولت ، وذلك لأن سر الأوّلين والآخرين أودع في النبي ، ثم أحصر في الإمام الولي ، فمنه فاض إليه وبه دلّ عليه ، وسائر الأسرار إلى الوجود منهما وعنهما وهما من الله وعنه ، فما من غيب وصل إلى النبي بالوحي والخطاب الإلهي إلّا وقد وصل إلى الولي ظاهره وباطنه ، فالنبي إليه الإنذار والتنزيل ، والولي إليه الإهداء والتأويل .. وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) يا محمد (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١) وهو علي.

فالنبي أمر أن ينطق من الغيب بعلم الظاهر عند الإذن من الله لأنه صاحب الشرع .. وإليه الإشارة بقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٢) فالنبي أوتي من الله

__________________

وقال عليه‌السلام : «لا تذيعوا سرّنا ولا تحدّثوا به عند غير أهله فإن المذيح سرّنا أشدّ علينا من عدوّنا» (الخرايج والجرايح : ٢٦٧ باب ٧).

وقد بيّن الإمام العسكري عليه‌السلام علّة عدم إخبارهم بالامور الغيبية بقوله لموسى الجوهري : «ألسنا قد قلنا لكم لا تسألونا عن علم الغيب ، فنخرج ما علمنا منه إليكم ، فيسمعه من لا يطيقه استماعه فيكفر» (الهداية الكبرى : ٣٣٤ باب ١٣).

والظروف التي كان يعيشها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقليل من الأئمّة كانت مختلفة فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بداية الدعوة الإسلامية وقريب عهد بالجاهلية.

وإذا أردنا أن نبرم هذا الكلام فلا بأس بنقل كلام لسماحة الشيخ محمد الحسين المظفر يصلح أن يكون جوابا عن هذا المطلب : قال بعد أن ذكر توقف الرسالة على علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكل الأشياء : فعلم الرسول بالعالم وإحاطته بما يحدث فيه وقدرته على تعميم الإصلاح للداني والقاصي والحاضر والباد ؛ من أسس تلك الرسالة العامة وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة.

غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يظهر للامّة تلك القوى القدسية والعلم الربّاني الفيّاض. وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غضّ جديد ، والناس لم تتعرّف تعاليم الإسلام الفرعية بعد؟! فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة العظمى وتطمئن إلى الإيمان بذلك العلم. بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت لوائه من ذوي الإيمان الراسخ ، وما خضع البعض منهم للسلطة النبوية إلّا بعد اللتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب» (علم الإمام : ٩ ـ ١٠).

نعم فقد أفصح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لخاصة أصحابه عن كنه حقيقته وحقيقة علمه ليس هنا محل ذكرها.

(١) الرعد : ٧.

(٢) طه : ١١٤.

٢٨٠