الملل والنحل

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي

الملل والنحل

المؤلف:

عبدالقاهر بن طاهر البغدادي


المحقق: الدكتور ألبير نصري نادر
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المشرق
الطبعة: ٣
ISBN: 2-7214-8039-1
الصفحات: ١٨٤

ذكر الثّومنيّة منهم

هؤلاء اتباع ابي معاذ الثّومني الذي قال ان الايمان ما عصم من الكفر ، وهو اسم لخصال اذا تركها التارك او ترك خصلة منها كفر ، ومجموع تلك الخصال التي تكفر بترك واحدة منها ايمان ، ولا يقال للخصلة منها انها ايمان ، ولا بعض ايمان. ـ وزعم ان تارك الفريضة التي ليست بايمان يقال له فسق ، ولا يقال له فاسق على الاطلاق ، اذا لم يتركها جاحدا لها. ـ ففارق اليونسية والغسانية والثوبانية في هذا لان هؤلاء سموه فاسقا (١). ـ / وزعم ابو معاذ ان من لطم نبيا او قتله كفر ، لا من اجل لطمه وقتله ، ولكن من اجل عداوته وبغضه له واستخفافه به وبحقه.

ذكر المريسية منهم

هؤلاء اتباع بشر بن غياث المريسي (٢) ، عارفا في المذهب ، في الفقه على رأي ابي يوسف. غير انه لما اظهر بدعته في خلق القرآن اكفرته الصفاتية. ولما اظهر موافقة الصفاتية في ان الله عزوجل خلق اعمال العباد ، وفي ان الاستطاعة مع الفعل اكفرته المعتزلة في ذلك. ـ وقال في الايمان بقول ابن الراوندي ، وهو انه التصديق بالقلب واللسان ، وان الكفر هو الجحد والانكار. ـ وزعم ان السجود للصنم ليس بكفر لكنه دلالة على الكفر. ـ فهذه فرق المرجئة المكفرة بعضها البعض.

__________________

(١) هذا الفرق بين الثومنية وباقي فرق المرجئة غير وارد في كتاب «الفرق».

(٢) هو بشر بن غياث المريسي ، مبتدع ضال ، تفقه اوّل امره على قاضي القضاة ابي يوسف صاحب ابي حنيفة ، وأتقن علم الكلام ، ثم جرد القول بخلق القرآن ، وناظر عليه ، ولم يدرك الجهم بن صفوان ولكنه اخذ مقالته ، واحتج لها. ودعا إليها ، واخذ في ايام دولة الرشيد ، وأوذى لأجل مقالته ، وحدث البويطي قال : سمعت الشافعي يقول : ناظرت المريسي في القرعة ، فذكرت له فيها حديث عمران بن حصين ، فقال : هذا قمار ، فأتيت أبا البختري القاضي فحكيت له ذلك ، فقال : يا أبا عبد الله ، شاهد آخر وأصلبه. ومات بشر في سنة ٢١٨ ه‍ وهو من ابناء السبعين («ميزان الاعتدال» للذهبي رقم ١٢١٤ ، ابن خلكان ، الترجمة رقم ١١٢ ، تاريخ بغداد ٧ / ٥٦).

١٤١

ذكر فرق الضلال من النجارية

/ هؤلاء اتباع الحسين بن محمد النجار (١). ويجمعهم القول بنفي صفات الله عزوجل ، كما نفته المعتزلة ، واحالة رؤية الله تعالى ، كما احالته القدرية ، والقول بحدوث كلام الله تعالى ، والقول بان الجسم اعراض مجتمعة ، وان القرآن اذا كتب فهو جسم ، واذا قرئ فهو عرض.

فاكفرهم اصحابنا في هذه الاصول.

ووافقوا اصحابنا في ان الله عزوجل خالق أكساب العباد ، وفي انه لا يكون الا ما شاء الله عزوجل. وفي ان الاستطاعة مع الفعل ، وفي باب الوعيد والوعد. فاكفرتهم المعتزلة في ذلك.

وقالوا في الايمان انه هو المعرفة بالله عزوجل ، وبرسله وبفرائضه المجمع عليها ، والخضوع له ، والاقرار باللسان. فمن جهل شيئا من ذلك وقد قامت به الحجة عليه ، او عرفه ، ولم يقر به ، فقد كفر. ـ وقالوا انما ضممنا الخضوع الى الاقرار والمعرفة / لان ابليس عرف الله ، واقر به ، وانما كفر باستكباره (٢).

وقالوا : كل خصلة من خصال الايمان طاعة ، وليست بايمان ، ومجموعها ايمان ، وليست خصلة منها عند الانفراد ايمانا ولا طاعة. ـ وقالوا ان الايمان يزيد ولا ينقص.

__________________

(١) هو ابو عبد الله ، الحسين بن عبد الله ، النجار ، كان حائكا في طراز العباس بن محمد الهاشمي ، وهو من متكلمي المجبرة ، وقيل انه كان يعمل الموازين ، وكان اذا تكلم سمع له صوت كصوت الخفاش ؛ وله مع النظام مجالس ومناظرات ؛ وسبب موته انه تناظر يوما مع النظام فأفحمه النظام ، فقام محموما ومات عقب ذلك. وقد ذكر ابن النديم هذه المناظرة وذكر له عدة كتب. (الفهرست ص ٢٥٤ طبعة مصر ١١٤٨ ه‍).

وجاء في مختصر «الفرق بين الفرق» للرسعني ص ١٢٦ : «هؤلاء اتباع ابي الحسين النجار المصري» اما في طبعة بدر ص ١٩٥ ، وط. الكوثري ص ١٢٦ وط. عبد الحميد ص ٢٠٧ جاء : «هؤلاء اتباع الحسين بن محمد النجار».

(٢) هذا التوضيح ابتداء من «وانما ضممنا الخضوع الى الاقرار ... باستكباره» غير وارد في مختلف طبعات كتاب «الفرق» (انظر ط. بدر ص ١٢٦ ، الكوثري ص ١٢٦ ، عبد الحميد ص ٢٠٨).

١٤٢

فهذا ما اجمعت عليه النجارية من اصولهم. ـ وافترقوا بعد ذلك في خلق القرآن اكثر من عشر فرق ، تكفر بعضها بعضا. ومعظمها ثلاث فرق ، وهي البرغوثية ، والزعفرانية الاولى (١) ، والمستدركة من الزعفرانية (٢).

ذكر البرغوثية منهم

هؤلاء اتباع محمد بن عيسى ، الملقب ببرغوث ، وهو على اصول النجار ؛ يقول (٣) برغوث : ان المكتسب ليس بفاعل على الحقيقة ، وفي دعواه ان المتولدات فعل الله عزوجل بايجاب الطبيعة ، على معنى ان الله تعالى طبع / الحجر طبعا يذهب اذا وقع ، وطبع الحيوان طبعا يألم اذا ضرب. فالنجار مع اصحابنا في ان الله عزوجل خلق المتولدات اختراعا بلا طباع الاجسام (٤).

ذكر الزعفرانية منهم

هؤلاء نجارية الذين ينتسبون الى الزعفراني الذي كان يقول ان كلام الله عزوجل وكل ما هو غيره مخلوق (٥) ، ثم يقول مع ذلك «ان الكلب خير ممن يقول ان كلام الله مخلوق». ـ وقال يوما في دعاية على منبره «يا رب القرآن اهلك من يقول : القرآن مخلوق (مولود)» ، فناقض بآخر كلامه اوله (٦).

__________________

(١) لم يرد لفظ «الأولى» في كتاب «الفرق».

(٢) ما ورد هنا عن «النجارية» متفق اجمالا مع ما جاء في كتاب «الفرق» (انظر المراجع المذكورة في رقم ٢ من الصفحة السابقة) الا ان في كتاب «الفرق» جاء رأي النجارية في الجسم والعرض وهو غير وارد هنا.

(٣) لم يرد «يقول» في المخطوط اضفناها لاستقامة المعنى.

(٤) الكلام هنا عن البرغوثية متفق مع ما جاء في كتاب «الفرق» (ط. الكوثري ص ١٢٦ ـ ١٢٧ ، عبد الحميد ص ٢٠٩ ، ط. بدر ص ١٢٧).

(٥) هنا الكلام مضطرب وقد ورد واضحا في كتاب «الفرق» ، اذ جاء : «ان كلام الله تعالى غيره ، وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق» (ط. بدر ص ١٢٧ ، الكوثري ص ١٢٧ ، عبد الحميد ص ٢٠٩).

(٦) قوله هذا «يا رب القرآن ... أوله» غير وارد في كتاب «الفرق».

١٤٣

ذكر المستدركة منهم

هؤلاء يقال لهم بالفارسية (دربا قتلنر) (١) يوهمون انهم استدركوا ما خفي على اسلافهم. وذلك ان اسلافهم امتنعوا من تسمية القرآن مخلوقا ، وقال المستدركة منهم بانه مخلوق.

ثم افترقت المستدركة / فيما بينها فرقتين ، زعمت احداهما ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كلام الله مخلوق ، بهذه اللفظة ، على ترتيب حروفها. ومن لم يقل ان الذي قال ذلك فهو كافر. فزعمت الفرقة الثانية منها ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يقل ان القرآن مخلوق بهذه اللفظة ، لكنه دل على انه مخلوق بما يدل عليه. ومن زعم انه قال ان ذلك مخلوق بهذه اللفظة فهو ضال. ـ

وقوم منهم يزعمون ان كلام مخالفيهم كله كذب وان كان خبر المخالفة على وفق مخبره.

قال الاستاذ الامام ابو منصور (٢) ، صاحب الكتاب ، رضي الله عنه : رأيت بالري رجلا من اصحابنا يقول لواحد من هذه الطائفة : اخبرني عن قولي لك انك انسان عاقل ، فاضل ، مولود من نكاح / صحيح ، هل هو صدق أم كذب؟ ـ فقال هو كذب منك. فقال له صاحبنا : صدقت. فسكت خجلا.

__________________

(١) هذا التوضيح غير وارد في كتاب «الفرق» (ط. بدر ص ١٢٧ ، الكوثري ص ١٢٧ ، عبد الحميد ص ٢١٠).

(٢) جاء في كتاب «الفرق» (بدر ص ١٢٨ ، الكوثري ص ١٢٧ ، عبد الحميد ص ٢١٠) : «قال عبد القاهر ـ ويعرف عبد القاهر البغدادي باسم : ابي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (انظر عنوان الكتاب ومؤلفه في ط الكوثري ، وفي مختضر الفرق للرسعني) والرواية المذكورة هنا وردت في كتاب «الفرق» (ط. بدر ص ١٢٨ ؛ الكوثري ص ١٢٧ ، عبد الحميد ٢١٠ ـ ٢١١) والكلام هنا صريح للغاية للدلالة على ان الكتاب هو للامام ابي منصور عبد القاهر البغدادي ، وفي مختصر «الفرق» للرسعني ص ١٢٧ جاء : قال مصنف الكتاب عبد القاهر. ثم يأتي ذكر ما دار من حديث بين عبد القاهر واحد هذه الطائفة (المستدركة) بالريّ كما ورد في كتاب «الفرق» وفي المخطوط هنا.

١٤٤

ذكر فرق الضلالة من الجهمية

هؤلاء اتباع جهم بن صفوان (١) الترمذي الذي قال بالاجبار والاضطرار الى الاعمال ، ونفي الاستطاعات كلها. وكان يظهر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويخرج بالسلاح على السلطان. وقتل بمرو ، وقتله سلم بن احوز (٢) المازني من مازن تميم في آخر ايام بني مروان.

واكثر اتباعه بترمذ (٣) ونواحيها.

ومن بدعة قوله بان الجنة والنار تفنيان. وزعم ان الايمان هو المعرفة بالله تعالى فقط ، وان الكفر هو الجهل به فقط. ـ وزعم ان الناس انما يضاف إليهم الافعال على المجاز ، كما يقول تحركت الشجرة ، ودارت الرحا ، وزالت / الشمس ، من غير ان يكون لهذه الاشياء استطاعة على الفعل المضاف إليها. ـ وزعم أيضا ان علم الله محدث. وقال : لا اقول ان الله شيء ، ولا انه لا شيء ، ولا اقول انه موجود ، حي ، ولكني اقول انه موجود محيي. ـ وقال : لا اصفه بصفة يجوز وصف غيره بها ، ووصفه بانه فاعل ، خالق ، لان هذين الوصفين خاصان بالله عزوجل عنده. فاكفره اصحابنا في نفيه الصفات الازلية ، وقوله تفنى الجنة والنار. واكفرته المعتزلة في نفي الاستطاعة ، وخلق الله تعالى اعمال العباد.

__________________

(١) جهم بن صفوان ، هو ابو محرز جهم بن صفوان الراسبي. قال عنه الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (رقم ١٥٨٤) «الضال المبتدع ، رأس الجهمية ، هلك في زمان صغار التابعين ، وما علمته روى شيئا ، ولكنه زرع شرا عظيما» وقال الطبري عنه : انه كان كاتبا للحارث بن سريج الذي خرج من خراسان في آخر دولة بني أمية. (انظر حوادث سنة ١٢٨) وكان جهم هذا تلميذا للجعد بن درهم الزنديق الذي كان اوّل من ابتدع القول بخلق القرآن. وفيه يقول الذهبي في «ميزان الاعتدال» (رقم ١٤٨٢) : الجعد بن درهم عداده في التابعين ، مبتدع ضال ، زعم ان الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر».

(٢) جاء في المخطوط : ابن أخو ؛ وهذا خطأ ـ وهو سلم بن أحوز ، كان قائدا من قواد نصر بن سيار في خراسان في أواخر بني مروان (انظر «مقالات الاسلاميين» ١ : ١٣١ والتبصير في الدين ص ١٨ ، ٦٤).

(٣) جاء في كتاب «الفرق» : واتباعه اليوم بنهاوند (ط. الكوثري ص ١٢٨ ، عبد الحميد ص ٢١٢ ط. بدر ص ٢٠٠).

١٤٥

ذكر البكرية المبتدعة منهم

هؤلاء اتباع بكر ابن اخت عبد الواحد بن زيد. وكان يوافق النظام على ان الانسان هو الروح. ووافق اصحابيا في ابطال التولد ، وفي ان الله عزوجل هو / المخترع للألم عند الضرب (١). واجاز وقوع الضربة من غير حدوث الم بعدها. وانفرد بقوله ان الله يرى في القيامة بصورة يخلقها ، ويكلم الناس في تلك الصورة. ـ وزعم ان الكبائر من اهل القبلة نفاق ، وان صاحب الكبيرة منافق وعابد للشيطان ، وان كان من اهل الصلاة. وزعم ان مع كونه منافقا يكذب لله تعالى في خبره ، جاحدا له ، وانه في الدّرك الاسفل من النار ، ومخلدا فيها ان مات على ذلك ، وانه مع ذلك مسلم مؤمن. ـ ثم انه قال في علي وطلحة والزبير ان ذنوبهم كانت كفرا وشركا ، غير انهم مغفور لهم ، لان الخبر ورد بان الله عزوجل اطّلع على اهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم. ـ وزعم أيضا ان الاطفال في المهد لا يألمون وان قطعوا وحرقوا ، واجاز ان يكونوا في وقت العذاب / متلذذين ، وان اظهروا البكاء والضجيج. ـ وقال : لو خلق الله الالم فيهم بلا جرم لكان ظالما لهم (٢). ـ وزعم أيضا ان الله لا يؤلم البهائم ، لانه ليس لها ذنوب ، واجاز ان يسيء بعض البهائم الى بعض ، فقيل له : بما ذا تعلم المسيء انه مسيء؟ قال : بخجله واعتذاره وهربه ، كالعقربة (٣) اذا لسعت هربت من خوف القتل. وهذا دليل انها عالمة بانها جانية. فقيل له : اذا كان العالم بانه جاني عندك ، مستحقا للخلود في النار ، وكان شرا من عابد وثن ، لزمك ان يكون العقرب بهذه الصفة (٤). ـ وابدع في الفقه قوله بتحريم اكل الثوم والبصل. واوجب الوضوء من قرقرة البطن. وتكفيره واجب في جميع بدعه.

__________________

(١) في المخطوط : عند الضرورة ؛ والأصح : عند الضرب.

(٢) هذا القول : «لو خلق الله ... لهم» غير وارد في كتاب «الفرق».

(٣) في المخطوط : العقرب اذا لسعت ... فالاصح : العقربة.

(٤) هذا الزعم «بان الله لا يؤلم البهائم ... الصفة» غير وارد في كتاب «الفرق».

١٤٦

ذكر الضرارية الضالة

هؤلاء اتباع ضرار بن عمرو (١) الذي وافق اصحابنا في ان الله تعالى / خالق اكساب العباد ، وفي ابطال التولد. ووافق المعتزلة في ان الاستطاعة قبل الفعل. لكنه زعم انها بعض المستطيع. ووافق النجار في قوله ان الجسم اعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة ونحوها من الاعراض التي لا يخلو الجسم منها. واجاز ان يفعل الانسان للطول والعرض والعمق وان كانت ابعاضا للجسم. (٢) ـ وزعم أيضا ان الله تعالى يرى في القيامة بحاسة (٣) سادسة يرى بها المؤمنون ماهية الاله. ووصفه بالماهية ، كما قاله ابو حنيفة (٤) وحفص الفرد (٥). ـ وانكر حرف ابن مسعود (٦) ،

__________________

(١) ظهر ضرار بن عمرو في ايام واصل بن عطاء. وقد وضع بشر بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار سماه «كتاب الرد على ضرار» ؛ وذكر صاحب «الانتصار» نقلا عن الراوندي ان له كتابا سماه «التحريش» ذكر فيه مستند كل فرقة فيما هي عليه من كلام الرسول (ص) ولا بد انه قد اختلق فيه ووضع ، وضب في الباطل ووضع («الانتصار» للخياط ص ١٣٦) وانظر أيضا «ميزان الاعتدال» ٢ : ٣٢٨ الترجمة رقم ٣٩٥٣).

(٢) الكلام من «واجاز ان يفعل ... للجسم» غير وارد في كتاب «الفرق».

(٣) ورد في المخطوط : مماسة / ولكن في كتاب «الفرق» (ط. الكوثري ص ١٣٠ ، عبد الحميد ص ٢١٤) ورد : «بحاسة سادسة» وهو الاصح.

(٤) ورد هذا الاسم في المخطوط غير منقوط.

(٥) حفص الفرد ، قال عنه ابن النديم : «من المجبرة ، ومن اكابرهم ، نظير النجار ، ويكنى أبا عمرو ، وكان من اهل مصر ، قدم البصرة فسمع بابي الهذيل واجتمع معه وناظره ، فقطعه ابو الهذيل ، وكان أولا معتزليا ثم قال بخلق الافعال ، وكان يكنى أبا يحيى ، ثم ذكر له عدة كتب (الفهرست ص ٢٥٥).

(٦) المراد القراءة التي كان يقرأ بها الصحابي ابن مسعود بعض آيات القرآن (مختصر الفرق ، طبعة فيليب حتّى ، هامش ص ١٣٠) ـ ابن مسعود ، هو صاحب رسول الله وأحد السابقين الاولين واحد كبار البدريين واحد نبلاء الفقهاء والمقرءين : ابو عبد الرحمن عبد الله بن أم عبد ، الهذلي ، كان يحتري في الاداء ، ويتشدد في الرواية ، ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ. وقد أسلم قبل اسلام عمر بن الخطاب ، وحفظ من رسول الله سبعين سورة. وفي شأنه يقول رسول الله : «من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد».

١٤٧

وحرف ابي بن كعب (١) في القرآن. وشهد بأن الله تعالى لم ينزلهما. ونسب ابيا وابن مسعود الى الضلال في مصحفيهما.

ثم انه شك في عامة المسلمين ، وقال : لا ادري ، لعل سرائر العامة كلها شرك ، فكفر (٢) ، وفي هذا شرك منه / فيما اجمعت الامة عليه ، لان الاجماع انما يكون حجة اذا صدر عن أمه فيها فرقة معصومة عن الخطأ. وكان يزعم ان معنى وصف الله تعالى بانه حي ، عالم ، قادر ، هو انه ليس بميت ، ولا جاهل ، ولا عاجز. ويلزمه على هذا ان يكون. ـ فهذا قول ضرار بن عمرو المبتدع. وليس هو ضرار بن (فرد) (٣) الفقيه الفرضي المقدسي ، المكنى بابن نعيم (٤).

__________________

وبالجملة فقد كان من سادة الصحابة ، وأوعية العلم ، وأئمة الهدى ، وله قراءات وفتاوى ينفرد بها وهي مذكورة في كتب العلم («تذكرة الحفاظ» رقم ٥ ، و «مشاهير علماء الأمصار» رقم ٢١).

(١) هو ابو المنذر ، ابي بن كعب بن قيس ، الانصاري ، الخزرجي النجاري ، كان أقرأ الصحابة وسيد القراء ، شهد بدر والمشاهد كلها ، وقرأ القرآن على النبي (ص) وجمع بين العلم والعمل ، وكان عمر بن الخطاب يكرم ابيا ويهابه ويستفتيه ، ولما مات ابي قال عمر : اليوم مات سيد المسلمين ، وكانت وفاته في سنة ١٩ وقيل في سنة ٢٢ ه‍ («تذكرة الحفاظ» رقم ٦ ، و «مشاهير علماء الأمصار» رقم ٣١).

(٢) جاء في كتاب «الفرق» (ط. بدر ص ٢٠٢ ، ط. الكوثري ص ١٣٠ ، ط. عبد الحميد ص ٢١٥) : شرك وكفر ـ وباقي الكلام هنا من «وفي هذا شرك ... من الخطأ» غير وارد في كتاب «الفرق».

(٣) كلمة (فرد) غير واضحة في المخطوط.

(٤) هذا التوضيح عن ضرار بن عمرو غير وارد في كتاب «الفرق».

١٤٨

ذكر الضلال من الكرّامية (١)

اعلموا ان الكرامية بخراسان ثلاث فرق يقال لها الحقاقية (٢) والاسحاقية والطرائقية ، لكنها على اختلافها لا تكفر بعضها بعضا ، ويكفرها مخالفوها. فلذلك عددناها فرقة واحدة (٣).

فمن فضائحهم في باب التوحيد ، قولهم ان الله جسم ، له حد ونهاية من جهة السفل ، وجائز عليه ملاقاة الاجساد التي تحته. فشاركوا / المشبهة في التجسيم ، وشاركوا الثنوية في التحديد من جهة واحدة ، لان الثنوية زعمت ان النور له نهاية من جهة السفل ، ولا نهاية له من خمس جهات.

وقال زعيمهم ابن كرّام في خطبة كتابه المعروف «بعذاب القبر» : «ان الله تعالى أحديّ الذات ، احديّ الجوهر» ، فسماه جوهرا ، كما سمته النصارى جوهرا (٤). وامتنع اصحابه في معنى الاستواء على العرش ، فمنهم من زعم ان كل العرش مكان له ولو خلق بإزاء العرش. فمنهم من زعم ان كل العرش مكان ،

__________________

(١) نسبة الى ابي عبد الله ، محمد بن كرام السجستاني ، الزاهد ، شيخ الطائفة الكرامية ، وكان من عباد المرجئة (العبر ١ / ١٠) ويختلف العلماء في ضبط كرام ، والاكثرون على انه بفتح الكاف وتشديد الراء (انظر اللباب ٣ / ٣٢ ـ لسان الميزان ٥ / ٣٥٣ والقاموس المحيط).

توفي ابن كرّام سنة ٢٥٦ ه‍ وتعاليمه مجسمة اي ان لله جسما واعضاء وهو يتحرك ويجلس ، واتخذ ابن كرّام بعض آيات القرآن في وصف الله بمعناها الحرفي ، فهو غالى في الصفات ، ويمثل حركة رد فعل ضد المعتزلة ... ومن اتباعه محمود الغزنوي ٣٨٨ ـ ٤٢١ ه‍ غازي الهند وصديق البيروني والفردوسي وابن سينا. وكان لم يزل لكرامية في ايام المقدسي (٩٨٥) خوانق ومجالس ببيت المقدس على ما ذكر في «احسن التقاسيم» ص ١٧٩ (انظر هامش ص ١٣١) «مختصر الفرق» للرسعني.

(٢) جاء في كتاب «الفرق» (ط. الكوثري ص ١٣٠ ، ط. عبد الحميد ص ٢١٥ ط. بدر ص ٢٠٣) : حقائقية.

(٣) الى هنا الكلام متفق مع ما جاء في كتاب «الفرق» انظر «الفرق» ط. بدر ص ٢٠٢ ، الكوثري ص ١٣٠ ، عبد الحميد ص ٢١٥) ولكن جاء بعد ذلك في كتاب «الفرق» إيضاح عن زعيم الكرامية محمد بن كرّام وعن نشر دعوتهم.

(٤) هذا التوضيح غير وارد في كتاب «الفرق» (انظر ط. بدر ص ٢٠٣ ، الكوثري ص ١٣١ ، عبد الحميد ص ٢١٦).

١٤٩

ولو خلق عرشا آخر او عروشا كثيرة لصار الجميع مكانا له. وهذا يوجب ان يكون العرش المعروف كبعض الاله في عرضه. ومنهم من قال : لو خلق بإزاء العرش عرشا آخر كان العرش الاول مكانا له دون الثاني. وهذا يوجب ان عرضه / كعرض العرش المعروف الآن.

ثم انهم قالوا بقول ان الله له حد ونهاية واحدة ، ولا نقول انه محدود ، متناه لنفينا عنه الحد والنهاية في خمس جهات. ـ وقالوا ان الله محل الحوادث ، يحدث عنه اعراض كثيرة وهي اقواله وارادته (وادراكاته) (١) المرئيات (وادراكاته) (٢) للمسموعات ومماساته لما تحته من العرش.

وزعموا انه لا يحدث في العالم جسم ولا عرض الا بعد حدوث اعراض كثيرة في ذات الاله ، منها قوله لذلك «كن موجودا» ، وكل حرف من هذا القول عرض حادث فيه. ومنها ارادته بحدوث ذلك الحادث. فاذا حدث القول والإرادة فيه ، حدث المراد المقول له «كن». وعند حدوث هذا المراد تحدث في الله تعالى رؤية له ، وان كان الحادث كلاما او صوتا حدث في الله / استماع له ، ولو لم يحدث منه الادراك له لم يكن له رائيا ولا سامعا. وقد نعقوا بهذه البدعة على انفسهم دلالة الموحدين على حدوث الاجسام ، لانهم استدلوا على حدوث الاجسام بحلول الاعراض الحادثة فيها ، وقالوا : ما كان محلا للحوادث لم يخل من الحوادث ، ولم يسبقها ، وما لم يسبق الحوادث كان محدثا. فاذا زعمت الكرامية ان معبودها محل الحوادث فانه سابق لها ، صاروا الى مثل قول اهل الهيولى الذين زعموا ان هيولى العالم الآن محل الحوادث ، وهو سابق لها.

وزعمت الكرامية أيضا ان الله كما لا يخلق في العالم شيئا الا بعد حدوث اعراض كثيرة فيه ، كذلك لا يعدم من العالم شيئا الا بعد حدوث اعراض فيه ، منها ارادته لفناء ذلك الفاني. ـ ومنها قوله : «افن» او «كن معدوما» ، فصارت الحوادث في العالم كله. ـ وزعم اكثرهم ان الحوادث / فيه عندهم اضعاف جميع الحوادث التي تحدث في الله عزوجل ، لا يجوز عدمها. وهذا

__________________

(١) في المخطوط : والراية.

(٢) في المخطوط : والداماته.

١٥٠

تحقيق كون الاله قادرا على شيء لا يقدر على اقراره.

وقالوا في باب التعديل والتجوير ان الله لو علم انه لو خلق الخلق لم يؤمن به احد منهم لكان خلقه لهم عبثا منه ، وانما حسن منه احداث الخلق بعلمه بان بعضهم يؤمن به ، فحجروا على ربهم احداث الكفرة على الانفراد ، مع علمهم بان كفر الكافرين لا يضره كما لا ينفعه ايمان المؤمنين.

وزعم قوم منهم ان اوّل خلق يخلقه الله عزوجل يجب ان يكون حيا ، يصح منه الاعتبار ، وانه لو بدأ بخلق الجمادات لم يكن حكيما. وزادوا في هذا على القدرية الذين قالوا لا بد من ان يكون في جملة الخلق من يصح منه الاعتبار مع جواز الابتداء بالجمادات ، وقد صح الخبر بان الله بدأ باحداث اللوح والقلم ، ثم اجرى / القلم على اللوح بما هو كائن الى يوم القيامة.

وزعموا أيضا انه لا يجوز في حكمة الله تعالى اخترام الطفل الذي يعلم انه لو بلغ لآمن ، ولا الكافر الذي في علمه انه لو زاد في عمره لآمن ، الا ان يكون في اخترامه اياه قبل وقت ايمانه صلاح لغيره. وهذا قول اكثر القدرية.

وقلنا للكرامية : اذا لم توجبوا على الله ان يفعل بالعبد ما هو اصلح له ، فكيف اوجبتم عليه ان يفعل به الاصلح بغيره؟

وزعموا ان النبوة والرسالة صفتان قائمتان بالنبي الرسول سوي الوحي إليه وسوي ارساله اياه.

 وزعموا ان من حصل فيه تلك الصفة وجب على الله عزوجل ارساله. وزعموا انه لا يجوز من الله تعالى عزل الرسول عن رسالته قبل موته. ـ وزعموا انه يصح من النبي كل ذنب لا يوجب حدا ، ولا يسقط عدالته ، واجاز بعضهم عليه الخطأ في التبليغ / وزعم ان نبينا صلى الله وسلم اخطأ في سورة «والنجم» حتى جرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتها ترتجى» (١). وقال اصحابنا : ذلك من القاء الشيطان في خلال تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واوجبوا عصمة الأنبياء عليهم‌السلام عن الذنوب بعد النبوة ، وتأولوا ما ذكر في القرآن من ذنوبهم على وقوعها قبل نزول الوحي عليهم ، وحجرته الكرامية على ربها

__________________

(١) مسألة «الغرانيق» اخلوقة ساقطة (انظر ط الكوثري ص ١٣٥ هامش رقم ١ و ٢).

١٥١

للاقتصار على رسول واحد. وقال اصحابنا : لو دام شرع الرسول الاول الى يوم القيامة جاز ، كما ادام شريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى يوم القيامة. ولو وجب تواتر الرسل عليهم‌السلام ، لم يجز وقوع فترة بين رسولين (١).

واجازت الكرامية كون امامين واكثر في وقت واحد من وقوع القتال له. وزعموا ان عليا ومعاوية كانا امامين يجب على الناس اتباع كل واحد منهما طاعته غير ان عليا كان إماما على / السنة ، ومعاوية على خلاف السنة.

وزعموا ان يزيد بن معاوية كان هو الامام في وقته ، وان الحسين بن علي رضي الله عنه كان خارجا عليه ، ولم يكن في قتاله معذورا (٢).

وزعموا ان الايمان هو القول السابق في ذكر الاول ، وهو قولهم يلي بعد قول الله عزوجل : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ ٧ / ١٧٢). ـ وزعموا ان المنافق المعتقد للكفر (مؤمن) (٣) على الحقيقة. ـ وزعموا ان القائلين بهذا القول متساوون في الايمان اذ ان ايمان المنافقين كايمان الأنبياء وساير المؤمنين.

ثم ان زعيمهم ابن كرام خاض في الفقه ، فزعم ان المسافر تكفيه من صلاة الخوف تكبيرتان ، ولم يرض بقول اهل العراق انه يؤخر الصلاة الى وقت الامكان ، فلا يقول الشافعي انه يصلي كما يمكنه بإيماء وغيره ، ولا يقول من قال يكفيه في الخوف ركعة واحدة ، كما ذهب / إليه إسحاق بن راهويه ، وخالف الامة باقتصاره على تكبيرتين.

وسمع ابن كرام من اصحاب الرأي الرخصة في الصلاة على الارض التي اصابها البول ، وخفت بالشمس ، والصلاة في الثوب الذي عليه قدر الدرهم من النجاسة ، فزاد عليهم في الرخصة واجاز الصلاة في الثوب وان كان جميعه مغرقا في النجاسة.

وسمع قولا ذكر في ان صوم رمضان يصح بغير نية ، وقول ابي حنيفة ان الوضوء والغسل يصحان بغير نية ، فزاد في هذه الرخصة ، فزعم ان الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما يصح كلها بغير نية ، ويكفيه فيهما النية الاصلية ، يريد

__________________

(١) الآراء الواردة هنا وهي آراء الكرامية ، مذكورة في كتاب «الفرق» ولكن على ترتيب آخر.

(٢) ما يتعلق بيزيد بن معاوية والحسين بن علي غير وارد في كتاب «الفرق».

(٣) في المخطوط ساقط «مؤمن» واضيفت الكلمة على الهامش.

١٥٢

بها نية قبول الاسلام بفرائضه عند اسلامه ، واوجبوا النية في النوافل. ثم انه احدث صلوات منها صلاة السّبوع ومنها صلاة شهر ، واجاز الخروج منها الاكل والشرب وساير الاشغال ، ثم البناء عليها (١).

وكان من اتباعه / بنيسابور رجل يعرف بابراهيم بن مهاجر يزعم ان اسماء الله تعالى اعراض فيه ، وان الله غير الرحمن والرحمن غير الرحيم ، والخالق غير الرازق ، وكذلك كل اسم له عرض غير الاسم الآخر ، وكلها اعراض حالة فيه. وكذلك قال في اسماء الناس ، فمن سرق فزنا عنده ، فان السارق الذي فيه غير الزاني وكل واحد منها عرض فيه. ـ وكان منهم آخر يقال له ابو يعقوب الجرجاني (٢) يزعم ان لله تعالى علوما كثيرة ؛ وزعم بعضهم ان الله تعالى عليم يعلم باحدهما معلوما به ويعلم بالاهدا العلم (٣). فزعم المعروف منهم بابي جعفر (٤) ان لله قدرا بعدد انواع مقدوراته في ذاته بزعمه.

وقد استقصينا فضائح الكرامية في كتاب مفرد (٥) ، وفيما ذكرنا منها في هذا الكتاب كفاية. وقد وفينا بما وعدنا في اوّل الكتاب من ذكر فضائح اثنين وسبعين فرقة من ذكر الأهواء المنتسبة / الى الاسلام ، ولم نذكر الباطنية (٦) فيهم لانها لم تتمسك بشيء من اصول الاسلام ولا بشيء من فروعه ، وانما هم دعاة المجوس

__________________

(١) ذكر هذه الصلوات غير وارد في كتاب «الفرق».

(٢) لم يرد ذكر ابي يعقوب الجرجاني في كتاب «الفرق». وورد في المخطوط : «الجرجاني».

(٣) الكلام هنا مضطرب. ربما المقصود : يعلم باحدها معلوماته ويعلم بالاخرى العلم.

(٤) لم يرد ذكر ابي جعفر هذا في كتاب «الفرق».

(٥) لم يأت ذكر هذا الكتاب ولا عنوانه في «الفرق بين الفرق» بل جاء في «الفرق» ان عبد القاهر (صاحب الكتاب) ناظر ابن مهاجر (من الكرامية) في مجلس ناصر الدولة ابي الحسن محمد بن ابراهيم بن سيمجور صاحب جيش السامانية في سنة سبعين وثلاثمائة (٣٧٠) في هذه المسألة (مسألة اسماء الله) والزمه فيها ... ان يكون معبوده عرضا ... الخ. (انظر الفرق ط. بدر ص ٢١٣ ، الكوثري ص ١٣٧ ، ط. عبد الحميد ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥).

(٦) لقد خصص عبد القاهر البغدادي فصلا كاملا للباطنية في كتاب «الفرق» وهو الفصل السابع عشر من الباب الرابع من الكتاب ، ويستهل هذا الفصل بقوله : «اعلموا اسعدكم الله ان ضرر الباطنية على فرق المسلمين اعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم ...»

١٥٣

الى تأويل اركان شريعة الاسلام على وجوه يؤدي الى المجوسية. واختلف اصحابنا فيهم : فمنهم من قال : حكمهم حكم المجوس ، ويجوز وضع الجزية عليهم مع تحريم ذبائحهم ، ونكاح نسائهم. ـ ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين وان تابوا والا قتلوا. ـ وقال مالك : لا يقبل توبة الباطني والزنديق بعد العثور عليه ، وانما يقبل التوبة اذا ابتدأ بها قبل العلم للعلم. وهذا هو الاحوط في الباطنية والزنادقة.

الباب الرابع من هذا الكتاب

بيان التحقيق لنجاة أهل السنة والجماعة

قد ذكرنا في اوّل باب من هذا الكتاب قول / النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سئل عن الفرقة الناجية : ما انا عليه واصحابي. ـ وليس اليوم فرقة على ما كان عليه اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اهل السنة من فقهاء الامة ومتكلميهم الصفاتية دون اهل الاهواء من القدرية والرافضة والخوارج والجهمية والنجارية والمجسمة.

وكيف يكون القدرية على سيمات الصحابة ، وقد شك زعيمهم واصل في شهادته عدا له اخيار الصحابة ، مثل علي واصحابه ، ومثل طلحة والزبير واتباعهما. وشك في شهادتهم معه عمرو بن عبيد ، وبذلك قال ابو الهذيل والنظام واكثر القدرية ، فطعن النظام في ابن مسعود وفي كل من حكم في اصحابه في فرع من الفروع باجتهاده ، وابطل الحجة من اجماع الصحابة ومن بعدهم ، واجاز اجتماعهم على الخطأ ، ورد اكثرهم الاخبار المروية / عن الصحابة في احكامهم بعلة انها اخبار آحاد. ففي اي يتبعون آثار الصحابة بعد هذا / ثم انهم حكموا بالوعيد ، وهم افسق خلق الله عزوجل ، وكذلك قال فيهم شاعرنا (١) :

__________________

(١) جاء في «الفرق» (ط. بدر ص ١٧٧ ، الكوثري ص ١١٥ ، عبد الحميد ص ١٩١) : «حتى قال فيهم بعض المرجئة».

١٥٤

يعيب القول بالارجاء حتى

يرى بعض الرّجاء من الجرائر

واعظم من ذوي الأرجاء جرما

وعيديّ أصرّ على الكبائر

فاما الخوارج كلها اكفرت عليا وابن عباس وأبا أيوب الانصاري والحسن والحسين وسائر اتباع علي من الصحابة ، واكفرت عثمان وطلحة والزبير وعائشة واصحاب الجمل ، ولا يكون على سمت الصحابة. وهم لا يقبلون شيئا من الآثار المروية عنهم لقولهم بتكفير رواة الحديث كلهم ، وكيف يكون على آثارهم من لا يرى اجماعهم ، ولا اجماع من بعدهم حجة.

واما الروافض فان الكاملية منهم يكفرون جميعهم ، ويكفرون عليا معهم ، وجمهورهم الاكبر من الامامية يزعمون ان / الصحابة كفروا الا ستة منهم. والجارودية من الزيدية يكفرون اكثر الصحابة ، والامامية منهم يقولون لا حجة الا في قول الامام ، ولا يقبلون الروايات في احكام الصحابة وآثارهم. فكيف يصح اقتداؤهم بهم؟ بل هي اليوم من دينهم في النية الى ان يظهر امامهم.

وغلاة الروافض من اشباه المغيرية والمنصورية والخطابية كفرة بدعواهم الإلهية الأئمة ، وتشبيههم الصانع بصورة الانسان ، وتكفيرهم اخيار الصحابة. فلا يقتدي بهم من يكفرهم.

وكذلك النجارية والجهمية ، لا يصح منها الاقتداء بآثار الصحابة ، لقولهم بتكفير الناقلين لآثار الصحابة واحكامهم ، فلا يعرفون حينئذ من آثارهم شيئا ، وليس فيهم امام في نقل الحديث والآثار ، فلم يكونوا قط على سمت الصحابة.

وكذلك البكرية والضرارية لا يصح منها الاقتداء بالصحابة / مع تكفيرها نقلة اقوال الصحابة وآثارهم فردها ما روى عنهم على الرواة عنهم ، وانما يقتدي بهم من يحيى آثارهم ويراهم القدوة في فريقي الرأي والحديث دون من يشتري لهم الحديث (١).

__________________

(١) ما جاء في اوّل هذا الباب الرابع هنا ما هو الا مراجعة خاطفة لما جاء ذكره سابقا عن مختلف هذه الفرق التي يستعرضها المؤلف. اما ما جاء في الباب الرابع من كتاب «الفرق» فهو اوسع بكثير فيما يتعلق بعرض موقف الفرق العديدة التي انتسبت الى الاسلام وليست منه (انظر «الفرق» الباب الرابع ط. بدر ص ٢٢٠ ـ ٢٩٩ ، الكوثري ص ١٤١ ـ ١٨٨ ، عبد الحميد ص ٢٣٠ ـ ٣١٢).

١٥٥

ومما يؤكد هذا الذي قلنا ما عرفته الخاصة من ائمة الدين من اهل السنة ، وقد عرفوا جميعا انه لم يكن قط في الخوارج ولا في الروافض ولا في القدرية ولا في النجارية ولا في الجهمية ولا في الجسمية الكرامية امام صار صاحب مطلب في الفقه ، ولا امام مقبول للرواية في الحديث ، ولا امام في القرآن ، ولا امام يقتدى به في التفسير ، ولا في الوعظ والتذكير ، ولا امام في النحو واللغة. ـ وائمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من اهل السنة والجماعة ، كمالك والشافعي وابي حنيفة والاوزاعي والثوري واحمد وإسحاق وابي ثور واقرانهم في الفقه ، وكشعبة والثوري / ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وعلي ابن المديني ومحمد بن اسماعيل ومسلم بن الحجاج ، واقرانهم في حفظ الحديث ، ومعرفة الحرج والتعديل ، وكالقرّاء السبعة واقرانهم في القرآن.

وكالخليل وابي عمرو بن العلاء ، والاخفش ، وسيبويه ، والفراء ، والزجاج ، وسائر ائمة النحو في علم النحو.

كل هؤلاء من اهل السنة والجماعة (١).

وانما نسب المبرد النحوي الى القدر لانه شان نفسه بمجالسة الجاحظ ومعاشرته.

ومما تحقق الهداية والنجاة لاهل السنة قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (سورة العنكبوت ، مكية ٦٩). والجهاد جهادان ، احدهما بالجدل مع اهل الزيغ لاظهار الحق وتحقيقه ، وابطال الباطل وتزهيقه. وهذا الجدل ظاهر في اهل السنة في علم الفقه وفي علم الكلام والاصول معا ، وجدال / خصومهم ، كما قال الله تعالى : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (٤٠ / ٥) ـ والجهاد الثاني بالقتال في ثغور الاسلام مع اصناف الكفرة في الاطراف (٢). ـ ولم يكن

__________________

(١) ما يذكره هنا المؤلف في هذا الباب الرابع جاء في الباب الخامس من كتابه «الفرق بين الفرق» (ط. بدر ص ٢٩٩ ـ آخر الكتاب ؛ الكوثري ص ١٨٨ ـ ٢٢٣ ، عبد الحميد ص ٣١٢ ـ آخر الكتاب) وهكذا يكون كتاب «الملل والنحل» للبغدادي محلولة أولى عرض فيها مواقف اهم الفرق ثم توسع كثيرا في كتاب «الفرق بين الفرق» واضاف أيضا الكثير من الفرق التي لم يأت ذكرها في «الملل والنحل».

(٢) في كتاب «الفرق بين الفرق» صنف البغدادي اهل السنة والجماعة ثمانية اصناف

١٥٦

في فرقة من فرق اهل الضلالة قط حسر عن بلاد الكفر ، وليس لهم ثغر ينسب إليهم بالفتح. وقد حرموا الجهاد مع أمراء اهل السنة لتكفيرهم اياهم. وانما الجهاد في الثغور من اهل السنة. ـ وبان بذلك تحقيق الهداية فيهم لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢٩ / ٦٩) ـ وما خرج قط من اهل الاهواء جيش الا على المسلمين في دار الاسلام ، كخروج الخوارج على علي ، عليه‌السلام ، بالنهروان ، وخروج الازارقة بنواحي الاهواز وفارس وكرمان ، وخروج النجدات باليمامة ، وخروج العجاردة بنواحي سجستان وفهمسان ، وخروج المنصورية بما وراء النهر على المسلمين ، / وخروج القدرية مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن ابن الحسين بن علي بالبصرة على المنصور حتى لحق ابراهيم شومهم فقتل معهم ، وخرجوا أيضا مع برز الناقض بعد ان اغروه بالقدرة ، فلحقه شومهم ، فكان على بني امية اشام من التشويش ، واشام من الداحس والغبراء على العرب.

وما خص الله تعالى به اهل السنة انه عصمهم من تكفير بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ، لانهم لم يختلفوا في اصول التوحيد ، ولا في اصول الوعد والوعيد ، وانما اختلفوا في شيء من احكام الحلال والحرام ، والخلاف فيها لا يوجب تكفيرا ولا تضليلا. ومن اعتبر وجوه الخلاف لهنّ متكملي اهل السنة كالحارث المحاسبي ، وعبد الله بن سعيد ، والحسين بن الفضل ، وعبد العزيز المكي ، والقلاتي والاشعري ، واقرانهم ، لم نجد فيما بينهم خلافا يوجب / تكفيرا. وكذلك فقهاؤهم ، كمالك ، والشافعي ، وابن حنيفة واتباعهم ، يختلفون في فروع ليس فيها تضليل ولا تكفير. ووجدنا الروافض فرقا تكفر بعضها بعضا ، كتكفير الزيدية والامامية الغلاة منهم ، ولا تكفر بعض الغلاة بعضا ، وفرق الخوارج ان تزيح الناس بعضها لبعض. ـ ووجدنا القدرية مسرعة الى تكفير بعضها بعض ، وحسبك

__________________

ويتكلم عن الصنف السابع منهم فيقول : «قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة ، يجاهدون اعداء المسلمين ، ويحمون حمى المسلمين ...» (ط. بدر ص ٣٠٣ ، ط. الكوثري ص ١٩٠ ، ط. عبد الحميد ص ٣١٧). ولكن هذا التقسيم غير وارد هنا في كتاب «الملل والنحل» بل جاء ذكر الجهاد بالقتال في ثغور الاسلام. والآية المذكورة هنا (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ... سُبُلَنا) هي التي يحتج بها أيضا البغدادي في كتاب «الفرق».

١٥٧

من ذلك تكفير الجبائي ابنه ، وتكفير الابن اباه. وتكفير البغداديين منهم. وكل زعيم منهم يكفر غيره منهم ، كتكفير النظام لابي الهذيل ، وتكفير ابي الهذيل للنظام ، والمردار منهم كتب في تكفير ابي الهذيل والنظام ، وكعلي بن عيسى النخعي منهم في عصرنا كتابا في تكفير ابي هاشم بن الجبائي ، ذكر فيه ان أبا هاشم ادخل النصرانية في الاعتزال. ـ ووجدنا النجارية بالري اكثر من عشر فرق تكفر بعضها بعضا ، والجهمية والضرارية ، والبكرية كل فرقة منها تكفر سائرها ، وتكفرها سائر الامة (١).

وهم يقولون في سائر / الاهواء انهم مؤمنون حقا لأنهم قد اتوا بالشهادتين ، ويرون خلاص جميع المبتدعة من هذه الامة من النار بعد العقاب.

ويقول جميع مخالفيهم فيهم انهم لا ينجون من النار. ـ فصاروا من هذه الجهة شر الفرق عندنا.

وقد ذكرنا قبل هذا تكفير فرق الخوارج بعضها لبعض. ـ وهذا امر (خلا) (٢) السنة منه.

ثم ان الله تعالى قد خص اهل السنة بان جعل مدار الفتاوى عليهم ، لا يقبل في بلد من بلاد المسلمين فتوى قدري ولا جهمي ، ولا نجاري ، ولا خارجي ، ولا رافضي ، ولا جسمي الا اذا تستر المفتي منهم بمذهب الشافعي او ابي حنيفة ، ولم يظهر بدعته التي اضمرها في القدر او يخالف [اجتهاد] (٣) العالم على فتواه

__________________

(١) ما يذكره هنا صاحب الكتاب هو مجمل لما ذكره في كتابه هذا عن الفرق التي استعرضها وهذا يختلف عما جاء في كتاب «الفرق» الذي خصص الباب الرابع منه للفرق التي انتسبت الى الاسلام وهي ليست منه.

فكأن صاحب الكتاب (كتاب الملل والنحل) شعر بان الباب الرابع والاخير منه موجز جدا فقسم هذا الباب قسمين وجعل منه بابين : احدهما وهو الرابع في كتاب «الفرق» خصصه للفرق التي ادعت الاسلام وهي ليست منه بشيء وخصص الباب الخامس والاخير للفرقة الناجية.

(٢) في المخطوط الكلمة غير واضحة.

(٣) الكلمة غير واضحة في المخطوط ـ لعلّ معناها «اجتهاد».

١٥٨

ولا على شهادته. ـ واذا مات واحد من اهل البدعة لم يشهد جنازته الا الغواة من جنسه. ولم تكن على جنازته جمل من الناس ، ومن عرف منه السنة والصلاح فحاضروا جنازته [ ] (١) مشاهدة المسلمين في اعتقادهم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ ] (٢) والفضل العظيم.

تم الكتاب بحمد الله وعونه

__________________

(١) كلمة مطموسة في المخطوط.

(٢) كلمة مطموسة في المخطوط.

١٥٩
١٦٠