عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ). (١)

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (٢)

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلّا إغواءهم المنفي بنص الآيات.

٢. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء عليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء عليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً). (٣)

__________________

(١). الحجر : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥.

(٢). ص : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣). النساء : ١٢٠.

٨١

وقال سبحانه : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). (١)

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) (أي إذا فكر في هدآية أمته وخطط لذلك الخطط ، وهيأ لذلك المقدمات) (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (بحض الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).

* ٣. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وما معنى هذا النسخ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ، وقال سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٣) ، وقال سبحانه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). (٤)

__________________

(١). إبراهيم : ٢٢.

(٢). غافر : ٥١.

(٣). المجادلة : ٢١.

(٤). الأنبياء : ١٨.

٨٢

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (١)

وقال في حق النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (٢)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

* ٤. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ، يتبين المراد من قوله سبحانه : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ).

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان ، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً ، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول : إنّ المراد من الآيات ، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم ، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم ، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق ، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

__________________

(١). الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣.

(٢). التوبة : ٣٣.

(٣). الأنبياء : ١٠٥.

٨٣

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة الله سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). (١)

* ٥. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟

قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث :

١. الذين في قلوبهم مرض.

٢. ذات القلوب القاسية.

٣. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية ، والقلوب القاسية التي أسرتها الشهوات ، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا ، تتسابق إلى دعوة الشيطان

__________________

(١). الإسراء : ٨١.

٨٤

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه ، فلا يزيدها ذلك إلّا إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (٢) : «ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب». (٣)

وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي ـ قدس الله سره ـ وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمنّى

__________________

(١). الملك : ١٤.

(٢). الأنفال : ٢٨.

(٣). نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم : ٩٣.

٨٥

الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثمّ يحكم الله آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل ، أو تسديد جامعة الدين القيم. (١)

وما ذكره ـ قدّس الله سرّه ـ كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام ، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

* التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن ، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ «ما من رسول ولا نبي إلّا إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها» واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين : «تلك

__________________

(١). الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٤.

(٢). النجم : ١ ـ ٢.

(٣). النجم : ١٩ ـ ٢٠.

٨٦

الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا : إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل عليه‌السلام فعرض عليه السورة ، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) إلى قوله : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. (٢)

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً : فلأنّه مبني على أنّ قوله «تمنّى» بمعنى تلا ، وانّ لفظة «أُمنيته» بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

__________________

(١). الإسراء : ٧٣ ، ٧٥.

(٢). تفسير الطبري : ١٧ / ١٣١ ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٨٧

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج ٦ ص ٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج ٥ ص ٢٧٧).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلّا إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلّامة البلاغي في أثره النفيس ، فلاحظ. (١)

وثالثاً : أنّ القصة تكذّب نفسها ، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات ، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

__________________

(١). الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٠.

٨٨

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال ، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الألوهية إلّا الاسم والعنوان؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل : لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً : أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف ، ثمّ يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!

وخامساً : أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). (٣)

__________________

(١). النجم : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢). النجم : ٣ ـ ٤.

(٣). الجن : ٢٧.

٨٩

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ). (١)

وسادساً : أنّ علماء الإسلام ، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد ، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها. (٢)

وقال النسفي : إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها. (٣)

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «فروغ أبديت» (٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

__________________

(١). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢). تنزيه الأنبياء : ١٠٩.

(٣). الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٠.

(٤). كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طبع في جزءين.

٩٠

الطائفة الثانية

ما يمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمس بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

١

عصمة آدم عليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطِّئة في مجال نفي العصمة عن عدة معينة من الأنبياء ، وراعينا الترتيب التاريخي لهم ، فنقدم البحث عن عصمة آدم عليه‌السلام على البحث عن عصمة نوح عليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهي عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء ، ويعدّ ذلك في منطقهم «كبيت القصيد» في ذلك المجال ، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول :

٩١

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث ، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١).

ويقول سبحانه : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ* قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ* قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢).

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصة في هذه السورة ، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة ، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكيّة وسورة البقرة مدنية ، ولما توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

__________________

(١). البقرة : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢). الأعراف : ١٩ ـ ٢٤.

٩٢

ويقول سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً* وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى * فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى * فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى * قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (١).

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمات هذه القصة ، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية :

* التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن :

١. ما هي نوعية النهي في قوله تعالى : (لا تَقْرَبا)؟

٢. ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته؟

٣. ما ذا يراد من قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ)؟

٤. ما ذا يراد من قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة؟

٥. ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)؟

__________________

(١). طه : ١١٥ ـ ١٢٣.

٩٣

٦. ما ذا يراد من قوله سبحانه : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) فهل التوبة دليل العصيان؟

٧. ما معنى قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا)؟

فلنبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة واحداً بعد واحد ، وعند ختام البحث يقف القارئ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عما أُلصق به من المخالفة للتكليف الإلهي الإلزامي المولوي الموجب للعقوبة.

* ١. ما هي نوعية النهي في قوله تعالى : (لا تَقْرَبا)

إنّ النهي ينقسم إلى قسمين : مولوي وإرشادي ، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاً منهما صادر عن آمر عال إلى من هو دونه ، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة ، متخذاً لنفسه موقف الآمر ، الواجبة إطاعته ، فيأمر بما يجب أن يطاع ، كما أنّه ينهى عمّا يجب أن يُجتنب ، فعند ذلك يترتب الثواب على الطاعة ، والعقاب على المخالفة ، وهذا هو شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة.

وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والإرشاد ، والعظة والهداية ، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر ، الواجبة طاعته ، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق ، القاصد لإسعاد المخاطب وإنجائه من الشقاء ، وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتب على نفس العمل من آثار خاصّة من دون أن تترتب على ذات المخالفة أيّة تبعة.

وإن شئت قلت : إنَّ نفس العمل والفعل ذو آثار طبيعية ومضاعفات تترتب عليه في كل حين وزمان ، من دون فرق بين فاعل وآخر ، فيذكر المولى العالم

٩٤

بعواقب الأعمال وآثار الأفعال ، بما يترتب على ذات العمل من سعادة وشقاء ، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشيء ويترك اختيار أحد الطرفين إليه ، حتى يكون هو المختار في العمل ، فإن اتبع نصحه وإرشاده فقد نجا عما يترتب على العمل من الهلاك والخسران ، وإن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

* ولتوضيح ذلك نأتي بمثال

إنّ الطبيب إذا وصف دواء لمريض وأمره بتناول ذلك الدواء والاجتناب عن أُمور أُخرى ، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال ، تترتب عليه الصحة والعافية ، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتبة على نفس العمل ، وذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلّا بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق.

ومثل ذلك ما إذا قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بعد ما أمر الناس بواجبات ونهى عن أُمور ، فلو خالف المكلّف وترك الواجب كالصلاة والصوم وارتكب المنهيات كالكذب والغيبة ، فقد خالف عندئذ أمرين :

١. الأمر بالصلاة والصوم.

٢. الأمر بإطاعة الله ورسوله.

فلا يترتب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان ، وذلك لأنّ الأمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً ، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على مخالفة الأمر الأوّل ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الآمر لم يتخذ لنفسه عند الأمر بإطاعة الله ورسوله ، موقف الآمر الواجب الطاعة ، بل أمر بلباس النصح

٩٥

والإرشاد.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية ، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح ، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي ، لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية ، لا مولوي حتى يترتب عليه وراء تلك الآثار ، عقاب المخالفة ومؤاخذة التمرّد ، وإليك هذه القرائن :

١. لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والإنابة ، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى الله سبحانه ، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب ، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل ، وكان النهي لغاية صيانة آدم عليه‌السلام عن هذه الآثار والعواقب ، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

٢. انّ الآيات الواردة في سورة «طه» تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي ، وتصرح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدم عليه‌السلام عمّا يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة ، قال سبحانه : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) فإنّ قوله سبحانه : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) صريح في أنّ أثر امتثال النهي هو البقاء في الجنّة ، ونيل السعادة التي تتمثل في قوله : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا

__________________

(١). طه : ١١٧ ـ ١١٩.

٩٦

تَضْحى) وانّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعرى ، والظمأ وحرّ الشمس ، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي ، الواجبة طاعته ، بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية ، وانّه لو خالفه لترتب عليه الشقاء في الحياة والتعب فيها.

٣. انّه سبحانه ـ بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ـ ناداهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١).

فإنّ هذا اللسان ، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة ، ولكنه خالفه ولم يسمع قوله ، فعندئذ يعود ويخاطبه بقوله : ألم أقل لك ... ألم أنهك عن هذا الأمر؟

٤. انّه سبحانه يبيّن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلّا لإبداء ما وُوري عنهما من سوءاتهما حيث يقول : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) (٢).

وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدم عليه‌السلام بعدها لم يكن إلّا إبداء ما وُوري عنهما من السوأة ، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه ، وحرمانه عن قربه ، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

٥. انّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

__________________

(١). الأعراف : ٢٢.

(٢). الأعراف : ٢٠.

٩٧

والإرشاد حيث قال : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١). وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

فهذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصة آدم عليه‌السلام تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً ، وكان الهدف تبقية آدم عليه‌السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب ، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء ، وصار مستحقاً لأن يخاطب بقوله سبحانه : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢) ، وقوله سبحانه : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٣).

أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي ، (النهي عن الأكل من الشجرة) لم يكن ظرف تكليف حتى تعد مخالفته عصياناً لمقتضاه ، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح ، أمّا ذلك المحيط فكان معداً لتبصير الإنسان بأعدائه وأصدقائه ، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة ، أيّ ما يترتب على قبول قوله سبحانه من السعادة ، وما يترتب على قبول قول إبليس من الشقاء ، وفي مثل ذلك المحيط لا يعد النهي ولا الأمر تكليفاً ، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل ، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر وأُمّهم ، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

__________________

(١). الأعراف : ٢١.

(٢). الأعراف : ٢٤.

(٣). طه : ١٢٣.

٩٨

إلى هنا تمت الإجابة على السؤال الأوّل ، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسرين ، ونحن نأتي به بشكل موجز :

* جواب آخر عن الإشكال

إنّ أكثر المفسرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلّا مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي ، وهو ما يعبّر عنه بترك الأولى وترك الأفضل ، وأمّا إطلاق العصيان وغيره من الكلمات الموهمة في المقام.

فحاصل كلامهم في ذلك : أنّ الذنب على قسمين : ذنب مطلق ، وهو مخالفة الإرادة القطعية الإلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان وإنسان ، فمن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف والباد.

وذنب نسبي ، وهو ما يعد ذنباً وأمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص ، وهو ما يكون العمل بالذات مباحاً وجائزاً غير قبيح في حد نفسه ، غير أنّ العرف والمجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص ، ويعده أمراً غير صحيح ، ومثاله ما يلي :

إنّ المساعدة المالية القليلة ممن يمتلك الآلاف المؤلّفة وإن كانت جائزة ، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملاً قبيحاً بالذات.

كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة ومسقطة للتكليف ، إلّا أنّه إذا أتى بها النبي بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه وغير مترقب منه ، فوزان الأكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الأعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.

ونزيد توضيحاً في ذلك : إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه الأسماء ،

٩٩

وجعله معلماً للملائكة ومسجوداً لهم ، وفي هذه الحالة طلب منه أن يترك الأكل من الشجرة المعينة ، كان المترقب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما صغرت ، ومهما كان الأمر والنهي غير إلزاميين ، ولأجل ذلك يعد هذا العمل ـ مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط ـ عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

* جواب ثالث عن الإشكال

وهاهنا جواب ثالث : وهو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الأنبياء عبارة عن مخالفة الإنسان المكلّف ، للتكليف الإلهي بعد تشريع الشرائع ، وإنزال الكتب ، ولو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصة آدم ، لأنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط ، لم تكن دار التشريع والتكليف ، ولم تكن هناك أيّة شريعة ، والمخالفة في هذا المحيط لا تعد نقضاً للعصمة ، فلاحظ ، فقد تقدم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الأوّل.

إلى هنا تبيّن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته ، وقد عرفت الأجوبة الثلاثة ، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك وربّما يُعد بعضها دليلاً على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعياً ، ولأجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصة.

* ٢. ما معنى وسوسة الشيطان لآدم؟

وحقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) (١) ، وقال

__________________

(١). الأعراف : ٢٠.

١٠٠