عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

* الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (١)

وعلى مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب ، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني : «من أنعم عليهم» بقوله : بأنّهم : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). (٢)

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم ، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته.

وعلى الجملة : من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب ، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

* الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ

__________________

(١). النساء : ٦٩.

(٢). الفاتحة : ٧.

٦١

النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا). (١)

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة :

١. أنعم الله عليهم.

٢. هدينا.

٣. واجتبينا.

٤. خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثمّ إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية ، ويقول : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (٢)

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة :

١. أضاعوا الصلاة.

٢. واتبعوا الشهوات.

٣. يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي ، لأنّ العاصي لا يعصي إلّا لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.

__________________

(١). مريم : ٥٨.

(٢). مريم : ٥٩.

٦٢

* الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). (١)

ويقول أيضاً : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (٢)

ويقول في آية ثالثة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). (٣)

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي العام ويقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). (٤)

وعصارة القول : إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين : اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما ، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

__________________

(١). آل عمران : ٣١ ـ ٣٢.

(٢). النساء : ٨٠.

(٣). النور : ٥٢.

(٤). الحجرات : ٧.

٦٣

وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الأمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (١)

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع ، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (٢)

__________________

(١). النساء : ٨٠.

(٢). الأحزاب : ٢١.

٦٤

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلّا مع عصمته المطلقة ، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت.

وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وانّه مطابق للشرع ، وكم له من مورد في الأحكام الفقهية. (١)

* الآية الخامسة

إنّ الله سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (٢)

ويقول أيضاً : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (٣)

__________________

(١). وقد عنونه الأُصوليون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله : «لعن الله بني أُمية قاطبة» فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود مؤمن فيهم ، وإلّا لما صح الحكم بالإطلاق.

(٢). ص : ٨٣ ـ ٨٤.

(٣). الحجر : ٣٩ ـ ٤٠.

٦٥

فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.

توضيحه : انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الأمر ، وأُخرى في فساد الشيء ، قال ابن فارس : فالأوّل الغي وهو خلاف الرشد ، والجهل بالأمر والانهماك في الباطل ، يقال : غوى يغوي غياً ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

وذلك عندنا مشتق من الغياية ، وهي الغبرة والظلمة تغشيان ، كأنّ ذا الغيِّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.

وأمّا الثاني : فمنه قولهم : غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه ، والمصدر : الغوى.

وعلى ذلك (١) فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الأوّل كما هو الأقرب أو بالمعنى الثاني ، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً ، ونفي كلا الأمرين يستلزم العصمة ، لأنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل ، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.

نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية ، فإنّ مخالفة الأوامر الإرشادية التي لا تتبنى إلّا النصح والإرشاد وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفساد العمل ، لكنها لا تستلزم التمرد والتجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.

__________________

(١). مقاييس اللغة : ٤ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

٦٦

وعلى كل تقدير ، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلية في حق المخلصين ونزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.

وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ). (١)

فقوله سبحانه : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف.

نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الأنبياء والرسل إلّا بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها ، وليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.

هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٢)

لأنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وان كان يحتمل أن يكون المراد

__________________

(١). ص : ٤٥ ـ ٤٨.

(٢). الأنعام : ٨٧.

٦٧

الاجتباء بالنبوة ، والكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.

ومثله قوله سبحانه : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا). (١)

__________________

(١). مريم : ٥٨.

٦٨

حجة المخالفين للعصمة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية : «تلقّي الوحي ، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس ، والعمل به» غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة ، وقد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف :

الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية : ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية.

الثالثة : ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

فعلينا دراسة هذه الأصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره :

* الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء

* الآية الأُولى

ومن هذه الطائفة قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (١)

__________________

(١). يوسف : ١٠٩.

٦٩

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (١)

استدل القائل بعدم وجود العصمة في الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ترجع إلى الرسل ، ومفاد الآية انّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا ينذرون قومهم ، وكان القوم يخالفونهم أشد المخالفة ، وكان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة ويوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة ، لكن لما تأخر النصر الموعود وعقاب الكافرين «ظن الرسل أنّهم قد كذبوا» فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أو بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب ، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول : لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كذب (بصيغة المجهول) الرسل في ما وعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير :

الأوّل :

انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولاً كاذباً) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان. (٢)

__________________

(١). يوسف : ١١٠.

(٢). مجمع البيان : ٥ ـ ٦ / ٤١٥ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

٧٠

وفيه : انّ هذا الجواب وان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية ، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : (قَدْ كُذِبُوا).

وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (١)

ومجرد قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك : إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر ، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن

__________________

(١). يوسف : ١٠٩.

٧١

يقول : «بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين».

الثاني : انّ معنى الآية : ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلّامة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس ، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس ـ لأجل تأخر العذاب ـ انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فنجّي بذلك من نشاء وهم المؤمنون ، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب ، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (١) ، وكذا في قصة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصة موسى : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (٢). (٣)

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال ، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في «ظنّوا» هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر ، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في «ظنّوا».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ

__________________

(١). هود : ٢٧.

(٢). الإسراء : ١٠١.

(٣). الميزان : ١١ / ٢٧٩.

٧٢

معنى (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث : ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ). (١)

وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح. (٢)

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

* الرابع (وهو المختار)

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ،

__________________

(١). البقرة : ٢١٤.

(٢). الكشاف : ٢ / ١٥٧.

٧٣

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل الله أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه ، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا (أي ذهابه ومفارقة قومه) كان

__________________

(١). الأنبياء : ٨٧.

٧٤

ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجئوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا). (١)

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

__________________

(١). الحشر : ٢.

٧٥

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (١)

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). (٢)

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعند ما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ فإنّ كلمة (مَتى نَصْرُ اللهِ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

__________________

(١). يوسف : ١١٠.

(٢). البقرة : ٢١٤.

٧٦

* الآية الثانية

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (١)

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). (٢)

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٣)

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.

ثمّ إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.

__________________

(١). الحج : ٥٢.

(٢). الحج : ٥٣.

(٣). الحج : ٥٤.

٧٧

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول : يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلام يهدف قوله سبحانه : (إِذا تَمَنَّى)؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

الرابعة : ما ذا يريد سبحانه من قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

١. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :

لا تأمنن وان أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه الله. (١)

__________________

(١). المقاييس : ٥ / ٢٧٦.

٧٨

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). (١)

ويقول أيضاً : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ). (٢)

ويقول أيضاً : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). (٣)

ويقول سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (٤)

ويقول سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). (٥)

هذا كلّه في حق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : (وَإِنِّي كُلَّما

__________________

(١). يوسف : ١٠٣.

(٢). فاطر : ٨.

(٣). النحل : ٣٧.

(٤). القصص : ٥٦.

(٥). الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

٧٩

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). (١)

ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً). (٢)

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

* ٢. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :

١. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب

__________________

(١). نوح : ٧ ـ ٩.

(٢). نوح : ٢١ ـ ٢٤.

٨٠