عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

مراحل العصمة ودلالتها

قد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية ، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية :

١. الصيانة في تلقي الوحي والحفاظ عليه وإبلاغه إلى الناس.

٢. الصيانة من المعصية وارتكاب الذنب المصطلح.

٣. الصيانة من الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة ، ويمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى ، وهي أنّ متعلّق العصمة والصيانة لا تخلو عن أحد أُمور وهي :

إمّا كفر بالله أو عصيانه ومخالفته.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة ، أو صغيرة ؛ والصغيرة على قسمين : إمّا أن تكون حاكية عن خسة الفاعل ودناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة ، أو لا ؛ وعلى كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي ، وإمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

وقد فصّل القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة ، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضي خروجه من ولاية الله تعالى إلى عداوته قبل النبوة وبعدها كما يجب أن يكون منزهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك ، ومن حقه أن لا يقع منه ما ينفر منه عن القبول منه أو

٤١

يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه ، نحو الكذب على كل حال ، والتورية والتعمية في ما يؤديه ، والصغائر المستخفة. (١)

وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية : إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع ، وكذا من تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية ، وأمّا سهواً ، فجوّزه الأكثرون ؛ وأمّا الصغائر ، فيجوز عمداً عند الجمهور ، خلافاً للجبّائي وأتباعه ، ويجوز سهواً بالاتفاق إلّا ما يدل على الخسّة. (٢)

قال الفاضل القوشجي : إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة ، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا ، والثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية ؛ وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنا ، أو صغيرة منفرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة ، أو غير منفرة ككذبة وشتمة ؛ وكل ذلك إمّا عمداً أو سهواً ، أو بعد البعثة أو قبلها. (٣)

فنقول : أمّا الأوّل ، أعني : صدور الكفر من المعصومين ، فلم يجوّزه أحد ، وما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالأزارقة من تجويز الكفر على الأنبياء ، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين ، وانّما أطلقوا عليه لفظ الكفر ، لأجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر ، قال الفاضل المقداد : أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلّا الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم ، وكل ذنب عندهم كفر ، فلزمهم جواز الكفر عليهم ، وجوّز قوم عليهم الكفر تقية وخوفاً ، ومنعه ظاهر ، فانّ أولى الأوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ ، لكن ذلك يؤدي إلى خفاء الدين بالكلية. (٤)

__________________

(١). المغني : ١٥ / ٢٧٩.

(٢). العقائد النسفية : ١٧١ ، ونسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقية ، وهم براء منه.

(٣). شرح التجريد : ٤٦٤.

(٤). اللوامع الإلهية : ١٧٠.

٤٢

وقال الفاضل القوشجي : قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر. (١)

وربما يتوهم تجويز الكفر على النبي لأجل التقية ، وهو باطل ، لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد ، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي : فإن قال : أفتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه؟ قيل له : لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه ، ولو كانت مجوزة لم تعظم مرتبة النبي ، لأنّها إنّما تعظم ، لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة ، والصبر على كل عارض دونه ـ إلى أن قال : ـ فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه؟ قيل له : يلزمه أن يؤدّيه ويعلم انه تعالى يصرف ذلك عنه. (٢)

وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو انّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، سهواً كانت أو عمداً قبل البعثة أو بعدها. نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة حيث قال : إنّ جميع أنبياء الله (صلى الله عليهم) معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها ، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة ، وعلى غير عمد ، وممتنع منهم بعدها على كل حال (ثمّ قال :) وهذا مذهب جمهور الإمامية. (٣)

ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقق الطوسي استدل على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء ، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيما الصغيرة

__________________

(١). شرح التجريد : ٤٦٤.

(٢). المغني : ١٥ / ٢٨٤.

(٣). أوائل المقالات : ٢٩ و ٣٠.

٤٣

سهواً لا يخل بالوثوق ، وعلّق عليه الأردبيلي بقوله : «خصوصاً قبل البعثة». (١)

وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير انّ الفاضل القوشجي يفصل بقوله : الجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهواً ، زعماً منه انّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة وكذا عن تعمد الكبائر ، بعد البعثة ، وجوّزه الحشوية ، وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً والمذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً ، وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً. (٢)

هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلمين وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الأوّل ، فنقول يقع الكلام في مراحل :

* المرحلة الأُولى : عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

ذهب الأكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً ، وقال أبو الحسن عبد الجبار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته (المتوفّى سنة ٤١٥) : لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه (أي النبي) عن الله تعالى ، لأنّه تعالى ، مع حكمته ، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح ، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤديه لم يكن ليبعثه ، لأنّ ذلك ينافي الحكمة ، ولمثل هذه العلة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة ، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

__________________

(١). تعاليق المحقّق الأردبيلي على شرح التجريد : ٤٦٤.

(٢). شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٦٦٤.

٤٤

إلى أن قال : إنّا لا نجوز عليه السهو والغلط في ما يؤدّيه عن الله تعالى لمثل العلة التي تقدم ذكرها ، لأنّه لا فرق ، في خروجه من أن يكون مؤدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب ، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.

وإنّما نجوز أن يسهو في فعل قد بينه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً ، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط ، ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو ، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك. (١)

وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بين حكمه سيأتي الكلام فيه.

وقد استدل المحققون من المتكلمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله : ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه (٢).

وما ذكره من الدليلين وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر ، ولكنه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه :

انّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدسة ، ولا تحصل تلك الغاية إلّا بإيمانهم بصدق

__________________

(١). المغني : ١٥ / ٢٨١.

(٢). شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٤٦٣ ، وكشف المراد : ٢١٧ طبع صيدا.

٤٥

المبعوثين ، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه ، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه ، وهذا الإيمان والإذعان لا يحصل إلّا بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة ، وهي المصونية في مقام أخذ الوحي ، والمصونية في مقام التحفّظ عليه ، والمصونية في مقام الإبلاغ والتبيين ، ومثل هذا لا يحصل إلّا بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه. قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار : إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ـ ممّن يخالف فعله قوله ـ سكونها إلى من كان منزهاً عن ذلك ، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم‌السلام إلّا ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبين ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر ، وانّ هذه الأحوال منه لا تؤثر ... ولو إنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها لاستخف به وبوعظه. (١)

وقال في موضع آخر : إنّ الواعظ والمذكّر وان غلب على ظننا من حاله انّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله. (٢)

وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

وهذا البرهان لو قرر على الوجه الكامل لكفى برهاناً في جميع مراحل

__________________

(١). المغني : ١٥ / ٣٠٣.

(٢). المصدر نفسه : ٣٠٥.

٤٦

العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.

هذا منطق العقل ، وأمّا منطق الوحي فهو يؤكد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية ، وإليك بيان ذلك :

* القرآن وعصمة النبي في مجال تلقي الوحي و...

هناك آيات تدل على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى :

* الآية الأُولى

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً). (١)

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). (٢)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً). (٣)

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والأنبياء في مجال تلقي الوحي وما يليه من التحفظ والتبليغ تتوقف على توضيح بعض مفرداته :

١. قوله : (فَلا يُظْهِرُ) من باب الافعال بمعنى الاعلام كما في قوله سبحانه : (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). (٤)

٢. لفظة (مَنِ) في قوله : (مِنْ رَسُولٍ) بيانية تبين المرضي عند الله ،

__________________

(١). الجن : ٢٦.

(٢). الجن : ٢٧.

(٣). الجن : ٢٨.

(٤). التحريم : ٣.

٤٧

فالرسول هو المرتضى الذي اختاره الله تعالى لتعريفه على الغيب.

٣. والضمير في «انه» في قوله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) يرجع إلى الله ، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله : (يَسْلُكُ) أيضاً يرجع إليه ، وهو بمعنى : يجعل.

٤. والضمير في (يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يرجع إلى الرسول.

٥. و (رَصَداً) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.

٦. والمراد من : (بَيْنِ يَدَيْهِ) أي ما بين يدي الرسول : ما بينه وبين الناس ، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من (مِنْ خَلْفِهِ) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقي الوحي من كلا الجانبين.

وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسل (بالكسر) وينتهي إلى المرسل إليه (بالفتح) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل وانّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه «ما بين يديه» و «خلفه» وورائه ، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.

ومعنى الآية : انّ الله يجعل (يسلك) ما بين الرسول ومن أرسل إليه ، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة ، وليس جعل الرصد امام الرسول وخلفه إلّا للتحفظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثمّ إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ).

٤٨

والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقق الخارجي على حد قوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ). (١)

أي ليتحقّق إبلاغ رسالات ربهم على ما هي عليه من غير تغيير وتبدّل.

٧. قوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بمنزلة الجملة المتممة للحراسة المستفادة من قوله : (رَصَداً).

وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل ، وهذه الجمل عبارة عن :

أ. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ).

ب. (وَمِنْ خَلْفِهِ).

ج. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ).

فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.

والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.

٨. قوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) مسوق لإفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحي الملقى إلى الرسول وغيره.

__________________

(١). العنكبوت : ٣.

٤٩

يقول العلّامة الطباطبائي : إنّ قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس ، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله : (مِنْ خَلْفِهِ) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه ، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس ، ولازمه بلوغه إيّاهم ولو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر.

وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دل ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول ، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه ، ويؤكده قوله بعده : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ).

وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) على ما تقدم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) بما تقدم من تقريب دلالته.

ويتفرع على هذا البيان : انّ الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس ، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ

٥٠

من دلالة على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.

والتبليغ يعم القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول ، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً.

وقد تقدمت الإشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي ، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة ، ويتحصل بذلك انّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أُوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً. (١)

* الآية الثانية

قوله سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٢)

إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلّا القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

__________________

(١). الميزان : ٢٠ / ١٣٣.

(٢). البقرة : ٢١٣.

٥١

ثمّ إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق ، بلا تحريف.

وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقي الوحي والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه ، وكل ذلك (أي القضاء بالحق أوّلاً ، وهداية المؤمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلّا ما يوحى إليه.

* الآية الثالثة

قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). (١)

فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى ، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين ، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه.

__________________

(١). النجم : ٣ ـ ٤.

٥٢

* المرحلة الثانية : عصمة الأنبياء عن المعصية

لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقي الوحي وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. ونبحث في ذلك عن وجهتين : العقلية والقرآنية :

* العقل وعصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) وقال سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (٢)

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب «التربية».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلّا فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما

__________________

(١). البقرة : ١٢٩.

(٢). آل عمران : ١٦٤.

٥٣

لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

* سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلّا مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلّا فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنبا لإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عند ما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلّا بعد

٥٤

اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلّا وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

* تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله : إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل ، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا :

٥٥

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء عليهم‌السلام الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا : هذا سؤال من لم يفهم ما أوردناه ، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة ، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول ، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول ، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟

٥٦

قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلّا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً ومؤثراً ، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير (ولأجل ذلك) وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلّا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضاً ، وان فارق الأوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل : فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام في حال النبوة وقبلها؟

قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل ، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه ، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء عليهم‌السلام أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

٥٧

قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها. (١)

* إجابة عن سؤال آخر

ربما يقال : إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه ، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً ، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة ، وفي نهاية الكمال ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال ، وأمّا الجواب : فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة ، لأجل وجهين :

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين ، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه ، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين ، وتحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه ، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف ، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير ، وهذا لا يليق بساحته تعالى. (٢)

__________________

(١). تنزيه الأنبياء : ٤ ـ ٦.

(٢). الميزان : ٢ / ١٤١.

٥٨

ولأجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الأنبياء تارة ، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً ، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الأنبياء.

* القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف ، ويشهد بذلك لفيف من الآيات :

* الآية الأُولى

قال سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (١)

ثمّ إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ). (٢)

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضل له ويقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* وَمَنْ يَهْدِ اللهُ

__________________

(١). الأنعام : ٨٤ ـ ٨٧.

(٢). الأنعام : ٩٠.

٥٩

فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ). (١)

وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ). (٢)

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح وتوضيح ذلك :

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الأُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ) وما كانت ضلالتهم إلّا لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية الله سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل :

النبي : من هداه الله.

وكل من هداه الله فما له من مضل.

ينتج : النبي ما له من مضل.

__________________

(١). الزمر : ٣٦ ـ ٣٧.

(٢). يس : ٦٠ ـ ٦٢.

٦٠