عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت ـ والعياذ بالله ـ دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه ، وقد انقلب وصار مؤمناً موحداً بالوحي وبعد نزوله إليه.

لكن حياته المشرقة ـ بالإيمان والتوحيد ـ تفند تلك المزعمة ، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربّه ، كان مؤمناً موحداً ، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد ، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في «مكة» و «يثرب» و «بصرى» و «الشام» وغيرها ، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه ، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده ، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكد على عدم صدق ذلك الاستظهار ، وعلى ضوء هذا ، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول :

بعث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهداية قومه أوّلاً ، وهداية جميع الناس ثانياً ـ بالآيات والبيّنات ، وأخص بالذكر منها : كتابه وقرآنه (معجزته الكبرى الخالدة) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلّا إثارة التهم حوله ، فتارة قالوا : بأنّه (يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، وأُخرى بأنّه (إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، وثالثة : بأنّه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى

٢٨١

لِلْمُسْلِمِينَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١) ، وقال سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً* وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه ، ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه :

الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن ، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية ، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك أُمور :

أ. انّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى ، هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها ٥٣ آية ، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب. الآية التي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٣).

__________________

(١). النحل : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢). الفرقان : ٤ ـ ٦.

(٣). الشورى : ٥١.

٢٨٢

ج. ما تقدم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة (وَكَذلِكَ) ، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين ، هو الوحي المتجلّي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه ، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو «روح القدس» ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لأنّ «الروح» بحكم كونه مفعولاً ل (أَوْحَيْنا) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون «موحًى» وروح القدس ليس موحًى ، بل هو الموحي بالكسر ، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل (أَوْحَيْنا) ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صح اسنادها.

الثاني : انّ هيئة (ما كنت) أو (ما كان) تستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١) ، وقال عزّ اسمه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (٢). وقال تعالى حاكياً عن بلقيس : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣).

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) انّه لو لا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان ، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : انّ ظاهر الآية أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للإيمان ، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله ، فيجب إمعان

__________________

(١). آل عمران : ١٤٥.

(٢). التوبة : ١٢٢.

(٣). النمل : ٣٢.

٢٨٣

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالاً ، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك؟

لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب ، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ، ولم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي ، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً ، وقد سمع منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في فترات مختلفة ـ أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية ، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصح أن يقال : إنّ علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته؟ ومثله الإيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان بالله أمراً مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي ، موحدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

وبالجملة : العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده ، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ). وعندئذ يتعين الاحتمال الثاني ، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص ـ ثمّ الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل ـ كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.

وإن شئت قلت : العلم والإيمان بالأُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها ـ كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما

٢٨٤

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير ـ لا يحصلان إلّا من طريق الوحي ، حتى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتسرب الوضع والدس إلى كتب القصاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

* تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات ، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً ، والإيمان ثانياً :

أمّا الأوّل : فيقول سبحانه : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١) ، فالآية صريحة في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) وفي تلك الآية : بقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) والفرق هو أنّ «الكتاب» أعم من (أَنْباءِ الْغَيْبِ) والأوّل يشتمل على الأنباء وغيرها «وأمّا الأنباء» فإنّها مختصة بالقصص ، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني :

فقوله سبحانه : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢) فقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) صريح في

__________________

(١). هود : ٤٩.

(٢). البقرة : ٢٨٥.

٢٨٥

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي ، هو الإيمان (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) ، أعني : تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان بالله وتوحيده ، وعندئذ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة ، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله : (وَلَا الْإِيمانُ) هو «ما أنزل إليه» لا الإيمان بالمبدإ وتوحيده.

والحاصل : أنّ هنا شيئاً واحداً ، أعني : الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء ، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة ، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

ومن هنا تتضح أهمية عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية باختها ، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.

وقد تفطن المفسرون لما ذكرناه على وجه الإجمال فقال الزمخشري في الكشاف : الإيمان اسم يتناول أشياء : بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل ، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. (١)

وقال الطبرسي : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان. (٢)

وقال الرازي : المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به ، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل أنّه كان عارفاً بالله ... ثمّ قال : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا تمكن معرفته إلّا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

__________________

(١). الكشاف : ٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٢). مجمع البيان : ٥ / ٣٧.

٢٨٦

حاصلة قبل النبوة. (١)

وقال العلّامة الطباطبائي في «الميزان» : إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك ، بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان ، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمى العمل إيماناً في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢) ، والمراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح ، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي ، وهذا لا ينافي كونه مؤمناً بالله موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً ، لا نفي العلم والالتزام الإجماليين بالإيمان بالله والخضوع للحق. (٣)

* الآية الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٤).

__________________

(١). مفاتيح الغيب : ٧ / ٤١٠. ولاحظ روح البيان : ٨ / ٣٤٧ ؛ روح المعاني : ١٥ / ٢٥.

(٢). البقرة : ١٤٣.

(٣). الميزان : ١٨ / ٨٠.

(٤). القصص : ٨٦.

٢٨٧

استدل الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : توضيح مفاد الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية ، أعني قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) حتى يتضح المقصود ، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها :

١. انّ «إلّا» استدراكية وليست استثنائية ، فهي بمعنى «لكن» لاستدراك ما بقي من المقصود.

وحاصل معنى الآية : ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلّا أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير ، نظير قوله سبحانه : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (١) ، أي ولكن رحمة من ربك خصّك بها ، وهذا هو المنقول عن الفراء (٢) ، وعلى هذا لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيُّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه ، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّا إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢. أن يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك ، وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : «وما ألقى إليك الكتاب إلّا رحمة من ربك» (٣) ، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلّا رحمة من ربك ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لإلقاء الكتاب

__________________

(١). القصص : ٤٦.

(٢). مجمع البيان : ٤ / ٢٦٩ ؛ مفاتيح الغيب : ٦ / ٤٠٨.

(٣). الكشاف : ٢ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

٢٨٨

عليه وإن كان الاستثناء متصلاً ، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر ، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّن في الوجه الثالث.

٣. أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه ، أعني قوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا) ويكون معناه : ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلّا أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما كنت ترجو إلّا على هذا (١) ، فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الأوّل : فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً ، وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً ، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر ، بل المنفي هو الأوّل ، والثابت هو الثاني ، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية ، وقد سبق منّا أنّ جملة (ما كُنْتَ) وما أشبهه تستعمل في نفي الإمكان والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلّا من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه ، ومخاطباً لكلامه وخطابه ، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب ، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسئولية وتربية الأُمّة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية ، مجتنباً عن المحرمات ، عالماً بالكتاب ، ومؤمناً به إجمالاً ، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

__________________

(١). مفاتيح الغيب : ٦ / ٤٩٨.

٢٨٩

الجهل ، وسوقها إلى الكمال ، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً ، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطّئة.

* الآية الخامسة : لو لم يشأ الله ما تلوته

قال سبحانه : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

والآية تؤكد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآيٍ من آياته ، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به ، وأين هو من قول المخطّئة من نفي الإيمان منه قبلها؟!

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين ، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية ، وإليك نصها : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢).

اقترح المشركون على النبي أحد أمرين :

١. الإتيان بقرآن غير هذا ، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

__________________

(١). يونس : ١٦.

(٢). يونس : ١٥.

٢٩٠

٢. تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الأوثان والأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله ، وانّه يخاف من مخالفة ربّه ، ولا محيص له إلّا اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن ، لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلامه سبحانه ، وقد تعلقت مشيئته على تلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، والدليل على ذلك إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية : إنّ الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول ، ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه. (١)

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان ، وصيانته عن الخلاف ، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان ، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً.

* عصمة النبي الأعظم عن الخطأ (٢)

إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة ، أم

__________________

(١). الميزان : ١٠ / ٢٦. ولاحظ تفسير المنار : ١١ / ٣٢٠.

(٢). البحث كما يعرب عنه عنوان البحث ، مركز على صيانة خصوص نبينا الأعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً ، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

٢٩١

في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته ، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين ، وإلّا فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته ، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية ، بعد ما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقي الوحي وحفظه ، وأدائه إلى الناس ، ولم يختلف في ذلك اثنان.

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي : إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين :

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار ، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين ، وذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل تلك الغاية إلّا بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي ، وهذا هو الأساس لحصول الغاية ، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس ، وانّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر والنهي الإلهي أم لا؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي ، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

٢٩٢

نعم ، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها ، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع ، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل ، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل ، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العامة ، ولهذا يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو». (١)

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ.

* القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة ، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة ، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه ، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه ، وإليك ما يدل على ذلك :

١. قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٢) ، وقال أيضاً : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٤٥٤.

(٢). النساء : ١٠٥.

٢٩٣

شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١).

وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ وكان للرجل الذي سرق جيران يبرءونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ، قال : حتى مال عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض القول فعاتبه الله عزوجل في ذلك فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٢).

أقول : سواء أصحت هذه الرواية أم لا ، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي ، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه ويتهم الآخر ، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق ، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.

والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو ، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع ، كل يشير إلى أمر خاص :

١. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما

__________________

(١). النساء : ١١٣.

(٢). تفسير الطبري : ٤ / ١٧٢.

٢٩٤

يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

٢. (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

٣. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

٤. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

فالأُولى منها : تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) وإنّما يصونه سبحانه عنه ، ولو لا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله ، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال ، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربّه ، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم الضالون بما هموا به كما قال : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

والفقرة الثانية : تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه ، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلّا عن الوحي والتعليم الإلهي ، كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات ، فلا بد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف ، مع المعطوف عليه ، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى

٢٩٥

تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة ، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح ، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل ، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلّامة الطباطبائي : إنّ المراد من قوله سبحانه : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية ، قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص. (١) ولما كان هنا موضع توهم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد ، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل ، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات ، أم الأُمور العادية ، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة ، أو غيره ، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

٢. قال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، وقال تعالى (٣) : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ

__________________

(١). الميزان : ٥ / ٨١.

(٢). البقرة : ١٤٣.

(٣). النساء : ٤١.

٢٩٦

كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (١) ، وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) (٢) ، والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٣) ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤) ، وقال سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٥) ، ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم ، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به ، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألّا يكون خاطئاً في شهادته ، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه ، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلّا إلى صور الأعمال والأفعال ، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء ، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان ، والرياء والإخلاص ، وبالجملة على كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان ، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٦) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلّا إذا تمسّك

__________________

(١). النحل : ٨٤.

(٢). الزمر : ٦٩.

(٣). الأعراف : ٦.

(٤). المائدة : ١١٧.

(٥). النساء : ١٥٩.

(٦). البقرة : ٢٢٥.

٢٩٧

بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه ، ولنا في الأجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن ، فنكتفي بهذا القدر في المقام.

ثمّ إنّ العلّامة الحجّة السيد عبد الله شبر أقام دلائل عقلية ونقلية على صيانة النبي عن الخطأ ولكن أكثرها كما صرّح به نفسه ـ قدس الله سره ـ مدخولة غير واضحة ، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه. (١)

* أدلّة المخطّئة

إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ والنسيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الآيات غافلة عن أهدافها ، وإليك تحليلها :

١. قال سبحانه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢).

زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي وهو المقصود منه ، غير انّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الأبحاث السابقة وقلنا بأنّ الخطاب للنبي ولكن المقصود منه هو الأُمّة ، ويدل على ذلك ، الآية التالية لها قال : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣) ، فإنّ المراد انّه ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض ، وهذا يدل على أنّ النهي عن الخوض تكليف

__________________

(١). مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار : ٢ / ١٢٨ ـ ١٤٠.

(٢). الأنعام : ٦٨.

(٣). الأنعام : ٦٩.

٢٩٨

عام يشترك فيه النبي وغيره ، وإنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمّة.

والأوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الأُمّة قوله سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١).

والآية الأخيرة مدنية ، والآية المتقدمة مكية ، وهي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين وإنّ الخطاب وإن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.

٢. (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢) ، والمراد من النسيان نسيان الاستثناء (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ووزان هذه الآية ، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي والمقصود هو الأُمّة.

٣. (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٣) ، ومعنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه ، لكن المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده ، على إمكان النسيان ، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء ، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (٤) ، ومن المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها ، ولكن

__________________

(١). النساء : ١٤٠.

(٢). الكهف : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣). الأعلى : ٦ ـ ٧.

(٤). هود : ١٠٨.

٢٩٩

الاستثناء لأجل بيان انّ قدرة الله سبحانه بعد باقية ، فهو قادر على الإخراج مع كونهم مؤبدين في الجنّة ، وأمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وإنّ عطية الله أعني «الإقراء بحيث لا تنسى» لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء ، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك ، بل هو باق على إطلاق قدرته ، فلو شاء أنساك متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك.

وبما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطأ والنسيان دون سائر الأنبياء ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور السهو والنسيان عن سائر الأنبياء وتفسيرها فمتروك إلى مجال آخر ، ونقول على وجه الإجمال انّه يستظهر من بعض الآيات صحة نسبة النسيان إلى غير النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أعني قوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١).

وقوله سبحانه في حق موسى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) (٢).

وقوله سبحانه أيضاً عنه : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (٣).

وقوله سبحانه في حقّه أيضاً : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) (٤).

لكن البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجال آخر.

__________________

(١). طه : ١١٥.

(٢). الكهف : ٦١.

(٣). الكهف : ٦٣.

(٤). الكهف : ٧٣.

٣٠٠