عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

من طريق الوحي ، فعندئذ يكون عاملاً بشريعة من تقدم ولا يكون تابعاً لصاحبها ومقتدياً به ، وإن كان عاملاً بالشريعة التي نزلت قبله ، وهذا نظير أنبياء بني إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) (١) ، وإلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله : إنّه غير ممتنع أن يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت الحجة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع.

وإمّا أن يكون حاصلاً من طريق مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم وهذا مما لا تصدّقه حياته إذ لم يكن مخالطاً لهم ولم يتعلم منهم شيئاً ولم يسألهم.

يقول العلّامة المجلسي : لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل ، ويلزم من الأوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره ، ومن الثاني التعويل على اليهود ، وهو باطل (٢).

ج. انّ العمل بشريعة من قبله ما سوى المسيح بن مريم ، يستلزم أن يكون عاملاً بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً ، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت؟

قال الشيخ الطوسي : فإن قالوا : كان متعبّداً بشريعة موسى ، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى ، وإن قالوا : كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد ، لأنّ شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة ، وإذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها. (٣)

__________________

(١). المائدة : ٤٤.

(٢). البحار : ١٨ / ٢٧٦.

(٣). عدة الأُصول : ٢ / ٦١.

٢٦١

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة ، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسى عليه‌السلام قال سبحانه : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١) ، فلو كان النبي عاملاً بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملاً بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د. اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ، قال الشيخ الطوسي : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء ولا يجوز أن يؤمر الفاضل باتّباع المفضول ، ولم يخص أحد تفضيله على سائر الأنبياء ، بوقت دون وقت ، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات.

وهذه الوجوه وإن كان بعضها غير خال من الإشكال لكن الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة من قبله.

وأمّا دليل من قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال : كيف يصح أن يقال : انّه لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت ويحج ويعتمر ويذكّي ويأكل المذكّى ويركب البهائم؟ (٢)

وفيه أوّلاً : انّ بعض ما ذكره يعد من المستقلات العقلية ، فتكفي فيه هداية العقل ودلالته.

وثانياً : انّ الدليل أعم من المدّعى ، لأنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة من قبله ، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه ، لا اتّباعاً لشريعة ، وسوف

__________________

(١). آل عمران : ٥٠.

(٢). الذريعة : ٢ / ٥٩٦ ؛ العدة : ٦٠ ـ ٦١.

٢٦٢

يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة وأنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته ، وأنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عند ما بلغ الأربعين ، والاستدلال مبني على أنّ نبوّته ورسالته كانتا في زمان واحد ، وهو غير صحيح كما سيأتي.

وعلى هذا الوجه الصحيح لا نحتاج إلى الإجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته ، والطوسي في عدّته.

قال الأوّل : لم يثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قبل النبوّة حج أو اعتمر ، وبالتظنّي لا يثبت مثل ذلك ، ولم يثبت أيضاً أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولّى التذكية بيده ، وقد قيل أيضاً : إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده ، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت ، «أن يستعان بالغير في الذكاة» (١) فذكّى على سبيل المعونة لغيره ، وأكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع ، لأنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل ، وركوب البهائم والحمل عليها ، يحسن عقلاً إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف وغيره ، ولم يثبت أنّه عليه‌السلام فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله. (٢)

وقريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسي. (٣)

ولا يخفى أنّ بعض ما ذكره وإن كان صحيحاً ، لكن إنكار حجه واعتماره وعبادته في حرّاء واتجاره الذي يتوقف الصحيح منه على معرفة الحلال والحرام ، ممّا لا يمكن إنكاره ، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد ، إمّا من عند نفسه ، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

__________________

(١). يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير ـ وعلى ذلك ـ فالنبي ذكّى نيابة عن الغير ، ولأجله ولم يذكّ لنفسه.

(٢). الذريعة : ٢ / ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

(٣). عدة الأُصول : ٢ / ٦٣.

٢٦٣

* الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّن عدم صحة هذه الأقوال الثلاثة تثبت الوجوه الأخيرة التي يقرب بعضها من بعض ، ويجمع الكل إنّه كان يعمل حسب ما يلهم ويوحى إليه ، سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً ، وانّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

ويدل على ذلك وجوه :

١. ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنّه من لدن كان فطيماً كان مؤيداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، وهذه مرتبة من مراتب النبوّة وإن لم تكن معها رسالة.

قال عليه‌السلام : «ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره». (١)

إنّا مهما جهلنا بشيء ، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوة منصب إلهي لا يتحمّلها إلّا الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلّا من عمّر قلبه بالإيمان ، وزوّد بالخلوص والصفاء ، وغمره الطهر والقداسة وأُعطى مقدرة روحية عظيمة ، لا يتهيب حينما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلّا أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه ، يرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه من صباه إلى شبابه ، وإلى كهولته عن كل سوء وزلة. وهذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

__________________

(١). نهج البلاغة : ٢ / ٨٢ ، من خطبة تسمّى القاصعة ١٨٧ ، طبعة عبده.

٢٦٤

الوحي ، وتتحمل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

٢. ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت : أوّل ما بُدئ به رسول الله من الوحي ، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حبّب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنَّث فيه ، ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد ، قبل أن يَنزعَ إلى أهله ويتزوّد لذلك ، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ. (١)

٣. روى الكليني بسند صحيح عن الأحول قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرسول والنبي والمحدّث قال : «الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً ... وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه‌السلام ، ونحو ما كان رأى رسول الله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة». (٢)

وهذه المأثورات تثبت بوضوح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يُبعث ، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة الله ، يرى في المنام ويسمع الصوت ، قبل أن يبلغ الأربعين سنة ، فلمّا بلغها بُشّر بالرسالة ، وكلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن ، وكان يعبد الله قبل ذلك بصنوف العبادات ، إمّا موافقاً لما سيؤمر به بعد تبليغه ، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره ، ممن تقدمه من الأنبياء ، لا على وجه كونه تابعاً لهم وعاملاً بشريعتهم ، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة من تقدّم عليه.

ثمّ إنّ العلّامة المجلسي استدل على هذا القول بوجه آخر ، وهو : انّ يحيى وعيسى كانا نبيّين وهما صغيران ، وقد ورد في أخبار كثيرة انّ الله لم يعط نبيّاً فضيلة

__________________

(١). صحيح البخاري : ١ / ٣ ، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ السيرة النبوية : ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

(٢). الكافي : ١ / ١٧٦.

٢٦٥

ولا كرامة ولا معجزة إلّا وقد أعطاها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف جاز أن يكون عيسى عليه‌السلام في المهد نبياً ولم يكن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أربعين سنة نبياً؟! (١)

قال سبحانه حاكياً عن المسيح : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٢) ، وقال سبحانه مخاطباً ليحيى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٣).

ولازم ذلك أنّ النبي قبل بعثته في صباه أو بعد ما أكمل الله عقله كان نبياً مؤيداً بروح القدس يكلّمه الملك ، ويسمع الصوت ويرى في المنام.

وإنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة ، وعند ذاك كلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن وأُمر بالتبليغ.

ويؤيد ذلك ما رواه الجمهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد. (٤)

هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته ، وأمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه :

* حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته ، فهلمّ معي ندرس حاله بعدها ،

__________________

(١). البحار : ١٨ / ٢٧٩.

(٢). مريم : ٣٠ ـ ٣١.

(٣). مريم : ١٢.

(٤). نقل العلّامة الأميني مصادره عن عدة من الكتب ، وذكر انّ للحديث عدّة ألفاظ من طرق شتى. لاحظ الجزء ٩ / ٢٨٧.

٢٦٦

وقد اختلفوا فيه أيضاً على قولين :

فمن قائل : إنّه كان يتعبّد بشرع من قبله.

ومن قائل آخر ينفيه بتاتاً.

وقد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في «ذريعته» وتلميذه الجليل في «عدّته» فاختارا القول الثاني وأوضحا برهانه. (١)

غير انّي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة ، لأنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة ، ما كان يقول إلّا ما يوحى إليه ، ولا يصدر عنه شيء إلّا عن هذا الطريق ، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره ونهيه ، والعمل بالوحي الذي نزل عليه ، فأي فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به وينهى عنه ، صدر عن التعبّد بشريعة من قبله ، أو صدر عن شريعته؟ إذ الواجب علينا الأخذ بما أتى به ، بأي لون وشكل كان ، وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي : إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة ، لأنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلاً عن الأنبياء ، بل عن الله تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢).

فإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدر عنه شيء إلّا عن طريق الوحي ، فلا تترتب على البحث أيّة فائدة ، فسواء أكان متعبداً بشرع من قبله أم لم يكن ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأمر ولا ينهى إلّا بإذنه سبحانه. (٣)

__________________

(١). الذريعة : ٢ / ٥٩٨ ؛ العدة : ٢ / ٦١.

(٢). الشورى : ٥١.

(٣). لاحظ المعارج : ٦٥ ، بتوضيح منّا.

٢٦٧

قال سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، وقال عزّ من قائل : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) ، وقال تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر وينهي ، مستند إلى الوحي منه سبحانه إليه ، سواء أمره بالأخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك إنّه إذا لم يجز له التعبد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر وهو حجية شرع من قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمدية دليلاً على حكم موضوع خاص ، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أملا؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الأُصوليون في كتبهم قديماً وجديداً ، فاستدل القائلون بالجواز بالآيات التالية :

١. (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٤).

٢. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٥).

٣. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (٦).

__________________

(١). النجم : ٣ ـ ٤.

(٢). الشورى : ٣.

(٣). الأحقاف : ٩.

(٤). الأنعام : ٩٠.

(٥). النحل : ١٢٣.

(٦). الشورى : ١٣.

٢٦٨

٤. (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) (١).

ولكن الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هؤلاء وهي غير واضحة ، وقد بسط المحقق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله ، (٢) ونقله العلّامة المجلسي في «بحاره» (٣) ، ونحن نحيل القارئ الكريم إلى مظانّه.

* الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة

هذا حال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، وحال أجداده وآبائه وبعض أعمامه ، وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج :

١. انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ولد في بيت كان يسوده التوحيد وقد ترعرع وشب واكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

٢. انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم ويوحى إليه قبل أن يبلغ الأربعين ، ويخلع عليه ثوب الرسالة.

٣. انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مؤمناً بالله ، وموحداً له ، يعبده ، ولا يعبد غيره ، ويتقرّب إليه بالطاعات والقربات ، ويتجنب المعاصي والمآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها من سبر تاريخ حياته بإمعان ، وقد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته ، فدخلت لأجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه وهدايته قبل البعثة.

__________________

(١). المائدة : ٤٤.

(٢). معارج الأُصول : ١٥٧.

(٣). البحار : ١٨ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

٢٦٩

وهؤلاء بدل أن يفسروا الآيات على غرار التاريخ المسلّم من حياته ، أو يسلّطوا الضوء عليها بما تضافرت الأخبار والروايات عليه ، عكسوا الأمر فرفضوا التاريخ المسلّم الصحيح والروايات المتضافرة اغتراراً ببعض الظواهر مع أنّها تهدف إلى مقاصد أُخر تتضح من البحث الآتي ، وإليك هذه الآيات :

١. (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١).

٢. (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٢).

٣. (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣).

٤. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (٤).

٥. (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وقد استدلت المخطّئة (٥) بهذه الآيات على مدّعاها ، بل على زعم سلب الإيمان عنه قبل أن يبعث ، لكنّها لا تدل على ما يريدون ولأجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.

__________________

(١). الضحى : ٦ ـ ٧.

(٢). المدثر : ٤ ـ ٥.

(٣). الشورى : ٥٢.

(٤). القصص : ٨٦.

(٥). يونس : ١٦.

٢٧٠

* الآية الأُولى : الهداية بعد الضلالة؟

إنّ قوله سبحانه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) هل يتضمن هدايته بعد الضلالة؟

وقد ذكر المفسرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية ، لكن أكثرها من مخترعات الذهن ، لأجل الإجابة عن استدلال الخصم على كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ضالاً قبل البعثة ، غير مؤمن ولا موحد ، فهداه الله سبحانه ، ولكن الحق في الجواب أن يقال :

إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد :

١. الضال : من الضلالة : ضد الهداية والرشاد.

٢. الضال : من ضل البعير : إذا لم يعرف مكانه.

٣. الضال : من ضل الشيء : إذا ضؤل وخفي ذكره.

وتفسير الضال بأيّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطّئة سواء أجعلناها معاني مختلفة جوهراً وشكلاً ، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً ومختلفاً شكلاً وصورة ، فإنّ ذلك لا يؤثر فيما نرتئيه ، وإليك توضيحه :

أمّا المعنى الأوّل : فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات ، قال سبحانه : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (١) ، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية والرشاد يتصور على قسمين :

قسم : تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً ، وحالة واقعية كامنة في النفس ،

__________________

(١). الحمد : ٧.

٢٧١

توجب منقصتها وظلمتها ، كالكافر والمشرك والفاسق ، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم ، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّي على المولى سبحانه ، قال الله سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١).

فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر ، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر قال سبحانه : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢).

وقسم منه : تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً ، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له ، وعندئذ يكون الإنسان ضالاً بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه ، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي ، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر ، والصلاح من الفساد ، والسعادة من الشقاء ، فهو آنذاك ضال ، لكن بالمعنى الثاني ، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة ، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أنّه لو كان المراد من الضال في الآية ، ما يخالف الهداية والرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل : بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثمّ أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى ، فآواه وأكرمه ، بجدّه عبد المطلب ثمّ بعمّه أبي طالب ، وكان

__________________

(١). آل عمران : ١٧٨.

(٢). التوبة : ٣٧.

٢٧٢

ضالاً في هذه الفترة من عمره ، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.

والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الأفعالي ، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته ، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلّا عن طريق ربّه سبحانه ، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١) ، فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه ، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة ، والاعتقاد بالهداية الذاتية ، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الأفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن. (٢)

وقد تضافرت الآيات على هذا الأصل ، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من الله سبحانه من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره ، قال سبحانه : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٣) ، وقال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٤) ، وقال سبحانه : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (٥) ، وقال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٦) ، وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٧) ، وقال تبارك وتعالى : (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) (٨) ، إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١). فاطر : ١٥.

(٢). لاحظ الجزء الأوّل : ٢٩٧ ـ ٣٧٦.

(٣). طه : ٥٠.

(٤). الأعلى : ٢ ـ ٣.

(٥). الأعراف : ٤٣.

(٦). الشعراء : ٧٨.

(٧). الزخرف : ٢٧.

(٨). سبأ : ٥٠.

٢٧٣

وعلى هذا الأساس فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ ، وأفاض عليه الهداية بعد ما كان فاقداً لها حسب ذاتها ، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم ، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيد ذلك قول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره». (١)

والحاصل : انّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ، وفي قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها ، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثمّ أُفيضت عليه الهداية ، هو مقتضى التوحيد الأفعالي ولازم كون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممكناً بالذات ، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال ، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه ، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان؟!

وإن شئت قلت : إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله ، أعني : عمره الغالي كل يوم ، خاسر بالذات ، إلّا إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١٧٨ ، والتي تسمّى بالقاصعة.

(٢). العصر : ٢ ـ ٣.

٢٧٤

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف ، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية الله وهدايته.

وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية ـ لو فسرت بضد الهدى والرشاد ـ لا تدل على ما تدّعيه المخطّئة ، بل هي بصدد بيان قانون كلي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره.

* حول الاحتمالين الآخرين

ولكن هذا المعنى غير متعين في الآية إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من «ضل الشيء : إذا لم يعرف مكانه» و «ضلت الدراهم : إذا ضاعت وافتقدت» و «ضل البعير : إذا ضاع في الصحارى والمفاوز» وفي الحديث : «الحكمة ضالة المؤمن أخذها أين وجدها» أي مفقودته ولا يزال يتطلبها ، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب «الجعالة» : «من رد ضالّتي فله كذا».

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السير والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضل في شعاب مكة وهو صغير ، فمنَّ الله عليه إذ ردّه إلى جدّه ، وقصته معروفة في كتب السير. (١)

ولو لا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً ، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجئه.

وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدمه من احتمالين ، وهو أن تكون

__________________

(١). لاحظ السيرة الحلبية : ١ / ١٣١ ويقول : عن حيدة بن معاوية العامري : سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول :

يا رب رد راكبي محمداً

أردده ربي واصطنع عندي يداً

٢٧٥

الضلالة في الآية مأخوذة من «ضل الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين» قال سبحانه : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره ، المنسي اسمه ، لا يعرفه إلّا القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه ، ولو كان هذا هو المقصود ، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرفه بين الناس عند ما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمه ، ويؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٢) فرفع ذكره في العالم ، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس ، وعلى هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته ، فكأنّه قال : فوجدك ضالاً ، خاملاً ذكرك ، باهتاً اسمك ، فهدى الناس إليك ، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليه‌السلام ـ على ما في خبر ابن الجهم ـ بقوله : «قال الله عزوجل لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) يقول : (أَلَمْ يَجِدْكَ) وحيداً (فَآوى) إليك الناس (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) يعني عند قومك (فَهَدى) أي هداهم إلى معرفتك». (٣)

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.

ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في «رسالة التوحيد» فقال :

__________________

(١). السجدة : ١٠.

(٢). الانشراح : ١ ـ ٤.

(٣). البحار : ١٦ / ١٤٢.

٢٧٦

وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جده عبد المطلب ، وبعد سنتين من كفالته ، توفّي جدّه ، فكفله من بعده عمه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني عمه وصبية قومه ، كأحدهم على ما به من يتم ، فقد فيه الأبوين معاً ، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ، ولم يقم على تربيته مهذب ، ولم يعن بتثقيفه مؤدب بين أتراب من نبت الجاهلية ، وعشراء من خلفاء الوثنية ، وأولياء من عبدة الأوهام ، وأقرباء من حفدة الأصنام ، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً ، حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالأمين ، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام ، فاكتهل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاملاً والقوم ناقصون ، رفيعاً والقوم منحطون ، موحداً وهم وثنيون ، سلماً وهم شاغبون ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون ، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون ، وعن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه ، ولا سيما إن كان من ذوي قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم ، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده ، ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم

٢٧٧

قبل الخلق العظيم ، حاش لله ، إنّ ذلك لهو الافك المبين ، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص ، فيما يرجون للناس من الخلاص ، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين. (١)

* الآية الثانية : الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٢).

استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن ، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية :

١. العذاب.

٢. القذارة.

٣. الصنم.

ولك أن تقول : إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً ، وليست بمعان متعددة ، ولكن تعيين أحد الأمرين لا يؤثر فيما نرتئيه ، توضيح ذلك :

إنّ «الرجز» : بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات ، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلّا في مورد واحد ، وإليك مظانها : البقرة / ٥٩ ، الأعراف / ١٣٤ وجاءت اللفظة فيها مرتين ، والأعراف / ١٤٥ و ١٦٢ ، الأنفال / ١١ ، سبأ / ٥ ، الجاثية / ١١ ، والعنكبوت / ٢٩.

__________________

(١). رسالة التوحيد : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢). المدثر : ١ ـ ٧.

٢٧٨

وأمّا «الرجز» : بضم الراء ، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة ، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين ، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة ، وإليك بيان ذلك :

أ. «الرجز» العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب ، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب ، لأنّ هذه الخطابات من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» ، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة ، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به ، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن حاد وشديد ، فتقول : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه عنه سبحانه ، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم ، والخطاب موجه إليه والمقصود منها عامة الناس ، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية ، الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقصود منه هو الأُمّة ويقول : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ* وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢).

وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب. الرجز بمعنى القذارة : ثمّ إنّ القذارة على قسمين : القذارة المادية ،

__________________

(١). الزمر : ٦٥.

(٢). القصص : ٨٦ ـ ٨٨.

٢٧٩

والقذارة المعنوية ، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل ، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه ، وقال : هل فيكم رجل يأخذه مني ويلقيه على محمد؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه ، فحينئذ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس ، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة ، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج. الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى ، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم والخمر والأزلام ، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (١).

ولكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين ، والشاهد على ذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن ، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه ، بهجر الأصنام إلّا على الوجه الذي أوعزنا إليه.

* الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والإيمان

قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

__________________

(١). المائدة : ٩٠.

(٢). الشورى : ٥٢.

٢٨٠