عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

أنّه نبي هذه الأُمّة وأنا لا آمن عليه منهم ، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلّا يقول : عليّ بابني ، أي احضروه ، ويجلسه بجنبه وربّما أقعده على فخذه ويؤثره بأطيب طعامه. (١)

هذا هو عبد المطلب وتعوّذه ببيت الله الحرام ومواقفه بين قومه وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه على رسالة خاتم النبيين ، أبعد هذا يبقى لأحدٍ شك في توحيده وإيمانه ، بل واعترافه برسالة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفيفاً من عمره في رعايته فلمّا بلغ أجله أوصى إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة ، وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم ، وقال له : قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطئُون به رقاب الناس ، وقال لأبي طالب :

أوصيك يا عبد مناف بعدي

بمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد

فكنت كالأُمّ له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد

فأنت من أرجى بنيَّ عندي

لدفع ضيم أو لشدِّ عقد (٢)

* ٢. شيخ الأباطح أبو طالب وإيمانه

قد تعرّفت على إيمان «عبد المطلب» الكفيل الأوّل لصاحب الرسالة ، فهلمّ معي ندرس حياة كفيله الآخر بعده ، وهو أبو طالب شيخ البطحاء ، فقد اتفقت

__________________

(١). سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ١ / ٦٤.

(٢). تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠ ، طبعة النجف.

٢٤١

كلمة أهل السير والتاريخ على كفالته لصاحب الرسالة بعد جدّه ، ودرئه عنه كل سوء وعادية طيلة حياته ، وان اختلفت آراؤهم في إيمانه بالرسول الأكرم بعد البعثة ، ولأجل تحقيق الحال نركّز على البحث عن نقطتين : إيمانه قبل البعثة ، وإيمانه بعد البعثة :

* إيمانه بالله قبل البعثة

يكفي في إيمانه بالله وخلوص توحيده عدّة أُمور نشير إليها :

١. ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه ، عن جلهمة بن عرفطة ، قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلم واستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجى تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله اغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء ، قزعة (١).

فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي واخصب البادي والنادي ، ففي ذلك يقول أبو طالب ويمدح به النبي أكثر من ثمانين بيتاً :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزان صدق وزنه غير هائل (٢)

__________________

(١). القزعة : قطعة من السحاب.

(٢). السيرة الحلبية : ١ / ١١٦. لاحظ فتح الباري : ٢ / ٤٩٤ ، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٢٧٢ ـ ٢٨٠

٢٤٢

وما نسبه إليه من الأشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشعب ، ويشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبي وقد كان غلاماً في كفالته ، ولو كان آنذاك عابداً للوثن لتوسل باللات والعزى وسائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.

٢. روى الحافظ الكنجي الشافعي : أنّ أحد الزهّاد والعبّاد قال لأبي طالب : يا هذا انّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً ، قال أبو طالب : وما هو؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو ولي الله عزوجل ، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها عليّ عليه‌السلام أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة ولي الله ، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :

يا رب هذا الغسق الدجيّ

والقمر المنبلج المضي

بيّن لنا من أمرك الخفيّ

ما ذا ترى في اسم ذا الصبي

قال : فسمع صوت هاتف يقول :

يا أهل بيت المصطفى النبي

خصصتم بالولد الزكي

انّ اسمه من شامخ العلي

عليّ اشتق من العلي (١)

٣. انّ أبا طالب كان ممن تعرّف على مكانة النبي الأعظم عن طريق الراهب «بحيرا» ، وذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول الله فأخذ بزمام ناقته ، وقال : يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أُمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب وقال : والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أُفارقه أبداً. قال : فخرج به معه ، فلمّا نزل الركب «بصرى» من أرض الشام نزلوا قريباً

__________________

(١). الغدير : ٧ / ٣٤٧ ، نقلاً عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي : ٢٦٠

٢٤٣

من صومعة راهب يقال له «بحيرا» ، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر أشياء من جسده ، فجعل يسأله عن نومه وهيئته ، ورسول الله يخبره ، ثمّ نظر إلى ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، ثمّ قال لأبي طالب : ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ، ليبغنّه شراً ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده ، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، وفي ذلك يقول أبو طالب :

انّ ابن آمنة النبي محمداً

عندي يفوق منازل الأولاد

لما تعلق بالزمام رحمته

والعيس قد قلّصن بالأزواد

فارفضّ من عيني دمع ذارف

مثل الجمان مفرق الأفراد

إلى أن قال :

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحسّاد

فما رجعوا حتى رأوا من محمد

أحاديث تجلو غمّ كل فؤاد

وحتى رأوا أحبار كل مدينة

سجوداً له من عصبة وفراد (١)

وما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وانّ اليهود له بالمرصاد ، كاف لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة ، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين ، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه لأولاده

__________________

(١). السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ١٨٢ ؛ الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٠ ؛ تاريخ ابن عساكر : ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٢ ؛ ديوان أبي طالب : ٣٣ ـ ٣٥ ؛ إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة

٢٤٤

وإخوته ، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد ورسالة ابن أخيه وإن لم يكن يصرح بها لفظاً قبل البعثة ، لكنه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء الله.

مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب ، وقد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده ، فلا يصح لعبد المطلب المؤمن الموحّد أن يدلي بوصيته وكفالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى من لم يكن على غير خط التوحيد ، ولم تكن بينهما وحدة فكرية ، وإلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية :

راعيت فيه قرابة موصولة

وحفظت فيه وصية الأجداد

* إيمانه بعد البعثة

أمّا دلائل إيمانه بالله أوّلاً ، وبرسالة ابن أخيه ثانياً ، بعد بعثة النبي الأكرم فحدث عنه ولا حرج وإن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرة عين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية ، ولو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول ، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه وتوحيده ، ولكن ـ ويا للأسف ـ انّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لإثبات إيمانه.

لم يزل سيدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه ويذب عنه ويدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه ، وكفانا من إفاضة القول في ذلك ، الكتب المؤلفة حول تضحيته لأجل الحق ودفاعه عنه شعراً ونثراً ، ونكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير :

١. كتب أبو طالب إلى النجاشي عند ما نزل المهاجرون من المسلمين بقيادة

٢٤٥

جعفر الطيار أرض الحبشة وهو يحضه على حسن الجوار :

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً

نبيّ كموسى والمسيح بن مريم

وانّكم تتلونه في كتابكم

بصدق حديث لا حديث المبرجم (١)

٢. نحن نفترض الكلام في غير أبي طالب ، فإذا أردنا الوقوف على نفسية فرد من الأفراد والعلم بما يكنّه من الإيمان أو الكفر ، فما هو الطريق إلى كشفها؟ فهل الطريق إليه إلّا كلامه وقوله ، أو ما يقوم به من عمل ، أو ما يروي عنه مصاحبوه ومعاشروه ، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرف على النفسية ، فكلّها تشهد بإيمانه القويم وتوحيده الخالص ، فإنّ فيما أثر عنه من نظم ونثر ، أو نقل من عمل بار ، وسعي مشكور في نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظه ، والدعوة لرسالته وما روى عنه مصاحبوه ومعاشروه ـ فإنّ في هذه ـ لدلالة واضحة على إيمانه بالله ورسالة ابن أخيه وتفانيه في سبيل استقرارها.

كيف ، وهو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم وبني المطلب :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً

نبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب

وأنّ الذي ألصقتم من كتابكم

لكم كائن نحساً كراغية السقب (٢)

ففي هذه الأبيات التي تزهر بنور التوحيد ، وتتلألأ بالإيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الإلهية عامة ، ورسالة ابن أخيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، وكم وكم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الإيمان الخالص ، والإسلام

__________________

(١). مستدرك الحاكم : ٢ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤

(٢). السيرة النبوية : ١ / ٣٥٢ ، وذكر من القصيدة ١٥ بيتاً

٢٤٦

الصحيح ، ونحن نكتفي في إثبات إيمان كفيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المقدار ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدة لذلك.

فإنّ نقل ما أثر عنه من شعر ونثر ، أو روي من عمل مشكور ، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد وقد قام لفيف من محققي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه ، بين مسهب في الإفاضة وموجز في المقالة ، وفيما حقّقه وجمعه شيخنا العلّامة الأميني في غديره كفاية لطالب الحق. (١)

هذا إيمان عبد المطلب وذلك توحيد ابنه البار أبي طالب ، وقد تربَّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع وشب واكتهل في أحضانهما ، وفي قانون الوراثة أن يرث الأبناء ما في الحجور والأحضان من الخصال والأخلاق وقد قضى النبي الأكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع واستظل بفيئها.

* إيمان والدي النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد تعرفت على إيمان كفيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهلمّ معي ندرس حياة والديه وإيمانهما ، فقد ذهبت الإمامية والزيدية وجملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما وكونهما على خط التوحيد ، وشذَّ من قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كثرة ما أنعم الله عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.

فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق ، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلّا شيئاً يسيراً ، وفيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما وكونهما على الصراط المستقيم.

__________________

(١). راجع تفصيل ذلك الغدير : ٧ / ٣٣٠ ـ ٤٠٩ و ٨ / ١ ـ ٢٩.

٢٤٧

أمّا الوالد : فقد نقلت عنه كلمات وأبيات تدل على إيمانه ، فإليك ما نقله عنه أهل السير ، عند ما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :

أمّا الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فاستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه (١)

وقد روي عن النبي الأكرم أنّه قال : «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كل دنس وشرك. (٢)

وأمّا الوالدة : فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضي الله عنها) خرجت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم بنو عدي بن النجار ، ومعها أُم أيمن «بركة» الحبشية ، فأقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول : «إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ ، فنظر إليّ رجل من اليهود ، فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول : هذا نبي هذه الأُمّة ، ثمّ راح إلى إخوانه فأخبرهم ، فخافت أُمّي عليّ ، فخرجنا من المدينة ، فلمّا كانت بالأبواء توفيت ودفنت فيها».

روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة أُمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علتها التي ماتت بها ، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام «يفع» (٣) له

__________________

(١). السيرة الحلبية : ١ / ٤٦ وغيرها

(٢). سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ١ / ٥٨.

(٣). يفع الغلام : ترعرع.

٢٤٨

خمس سنين عند رأسها ، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :

إنّ صح ما أبصرت في المنام

فأنت مبعوث إلى الأنام

فالله أنهاك عن الأصنام

أن لا تواليها مع الأقوام

ثمّ قالت : كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وأنا ميتة ، وذكري باق وولدت طهراً.

وقال الزرقاني في «شرح المواهب» نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها : وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة ، إذ ذكرت دين إبراهيم عليه‌السلام وبشّرت ابنها بالإسلام من عند الله ، وهل التوحيد شيء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف بالله وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام. (١)

هذا بعض ما ذكره المؤرّخون في أحوال والدي النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكل يدل على إخلاصهما ونزاهتهما عمّا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.

وأخيراً نوجه نظر القارئ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما ، قال الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» : واتفقت الإمامية على أنّ آباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزوجل موحّدون له ، واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار ، قال الله عزوجل : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا» ، وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب (رحمه

__________________

(١). الاتحاف للشبراوي : ١٤٤ ؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ١ / ٥٧.

(٢). الشعراء : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٢٤٩

الله) مات مؤمناً ، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد ، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين. (١)

أقول : الاستدلال بالآية يتوقف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، وهو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢) قال : من نبي إلى نبي حتى أُخرجت نبياً. (٣)

وقد ذكره المفسرون بصورة أحد الاحتمالات ، ولكنّه غير متعين ، لاحتمال أن يكون المراد إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده إذا كان إماماً لهم.

وأمّا الاستدلال بالحديث ، فهو مبني على أنّ من كان كافراً فليس بطاهر ، وقد قال سبحانه : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٤).

لكن الحجة هي الاتفاق والإجماع ، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه قال : وخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ... وما افترق الناس فرقتين إلّا جعلني الله في خيرها ، فأُخرجت من بين أبوي ، فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأُمي ، فأنا خيركم نفساً ، وخيركم أباً». (٥)

وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال لي جبرئيل : قلّبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد ، وقلّبت الأرض مشارقها

__________________

(١). أوائل المقالات : ١٢ ـ ١٣.

(٢). الشعراء : ٢١٩.

(٣). البداية والنهاية : ٢ / ٢٣٩ ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الرابعة ـ ١٤٠٨ ه‍ ..

(٤). مفاتيح الغيب : ٦ / ٤٣١. والآية من سورة التوبة : ٢٨.

(٥). البداية والنهاية : ٢ / ٢٣٨.

٢٥٠

ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».

قال الحافظ البيهقي : وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به ، فبعضها يؤكد بعضاً ، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع ، والله أعلم.

قلت : وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ

فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها

فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها

ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمها

وإن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمداً

هو المصطفَى من سرّها وكريمها

تداعت قريشُ غثُّها وسمينُها

علينا فلم تظفر وطاشت حُلومها

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً

إذا ما ثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يومِ كريهةٍ

ونضربُ عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العودُ الذواءُ وإنّما

بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (١)

ويعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام : قال : ومبدأ الكلام في ذلك إنّ الله سبحانه قد أخرج هذا النوع الإنساني لأجله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ آدم عليه الصلاة والسلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع ، وكان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات ، فلمّا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلمع في جبهته كالشمس المشرقة ، ثمّ انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء ، ومنها إلى صلب شيث ، ثمّ استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وهو معنى قوله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ، وأشار إليه العلّامة البوصيري بقوله :

لم تزل في ضمائر الكون تختا

ر لك الأُمّهات والآباء

__________________

(١). البداية والنهاية : ٢ / ٢٤٠

٢٥١

وكان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد والميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمدي إلّا في الطاهرات ، فأوّل من أخذ العهد آدم ، أخذه من شيث ، وشيث من أنوش ، وهو من «قينن» ، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد الله بن عبد المطلب ، فلمّا أُودع ذلك الجزء ، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته ، فظهر له جمال وبهجة ، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه ، وقد أسعد الله بتلك السعادة وشرّف بذلك الشرف «آمنة» بنت وهب ، فتزوجها عبد الله.

وقد روى الترمذي عن العباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثمّ تخيّر القبائل فجعلني في خير قبيلة ، ثمّ تخيّر البيوت ، فجعلني في خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً». أي ذاتاً وأصلاً.

وقد دلّت الآيات والأحاديث على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما طابت ذاته الشريفة ، بما أُوتي من الكمال الأعلى ، كذلك طاب نسبه الشريف ، فلم يكن في آبائه ولا أُمهاته من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة ، إلّا من هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه ، وحسنت أخلاقه.

أخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : استجاب الله تعالى دعوة إبراهيم في ولده ولم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته ، واستجاب له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة.

قال السيوطي : وهذه الأوصاف كانت لأجداده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم ، وكل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة ، الذين خصّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوة واحداً بعد واحد ، ولم يدخل ولد إسحاق وبقية ذريته لأنّه دعا لأهل هذا البلد ، ألا تراه قال : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وعقّبه بقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

٢٥٢

الْأَصْنامَ) (١) ، فلم تزل ناس من ذرية إبراهيم عليه‌السلام على الفطرة يعبدون الله تبارك وتعالى ، ويدلّ عليه قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٢) فإنّ الكلمة الباقية هي كلمة التوحيد ، وعقب إبراهيم عليه‌السلام هم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الكرام ، قال بعض الأفاضل : اللهم حل بيننا وبين أهل الخسران والخذلان الذين يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسبة ما لا يليق بأبويه الكريمين الشريفين الطاهرين ـ إلى أن قال ـ : فهما ناجيان منعّمان في أعلى درجات الجنان ، وما عدا ذلك تهافت وهذيان ، لا ينبغي أن تصغي له الأُذنان ولا أن يعتني بإبطاله أُولو الشأن. (٣)

إذا وقفت على ما ذكرنا تعرف قيمة كلمة ابن حزم الأندلسي في أحكامه (٤) ، حيث نسب إلى والدي النبي الأكرم ما لا يليق بساحتهما ، ويكفي في سقوط هذه الكلمة أنّ راويها وكاتبها ابن حزم الذي أجمع فقهاء عصره على تضليله والتشنيع عليه ونهي العوام عن الاقتراب منه وحكموا بإحراق كتبه. (٥)

وقال ابن خلّكان في وفياته : وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه ، فنفرت عنه القلوب ، واستهدف فقهاء وقته ، فتمالئوا على بغضه ، وردّوا قوله ، وأجمعوا على تضليله ، وشنّعوا عليه ، وحذّروا سلاطينهم من فتنته ، ونهوا عوامّهم عن الدنو إليه والأخذ عنه ، فأقصته الملوك ه تدرشو عن بلاده حتّى انتهى إلى بادية «لبلة» ، فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وقيل إنّه توفي في «منت ليشم» ، وهي قرية ابن حزم المذكور.

وفيه قال أبو العباس ابن العريف : كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج ابن يوسف شقيقين ، وإنّما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمّة. (٦)

__________________

(١). إبراهيم : ٣٥.

(٢). الزخرف : ٢٨.

(٣). الإتحاف بحب الأشراف : ١١٣ ـ ١١٨.

(٤). الأحكام : ٥ / ١٧١.

(٥). لسان الميزان : ٤ / ٢٠٠ ، وقد عرّفه الآلوسي في تفسيره : ٢١ / ٧٦ بالضال المضل.

(٦). وفيات الأعيان : ٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

٢٥٣

* إيمان النبي الأكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب وسيد البطحاء ووالدي النبي ، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الأكرم قبل البعثة ، فإنّ إيمانه برسالته وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الإسهاب غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بعث نبياً ، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية ، وإليك الأقوال :

١. روى صاحب المنتقى في حديث طويل : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تمَّ له ثلاث سنين ، قال يوماً لوالدته (لمرضعته) «حليمة السعدية» : «مالي لا أرى أخوي بالنهار؟» قالت له : يا بني إنّهما يرعيان غنيمات. قال : «فما لي لا أخرج معهما؟» قالت له : أتحب ذلك؟ قال : «نعم» ، فلمّا أصبح محمد دهنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني ، فنزعه ثمّ قال لأُمّه : «مهلاً يا أُمّاه ، فإنّ معي من يحفظني». (١)

وهذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية الله ، وكان له معلم غيبي «يسلك به طريق المكارم» ويلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك ، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليماني مقدرة الحفظ لمن علقه على جيده ، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل ونزعه وطرحه ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم والأفكار ... السائدة في الجزيرة العربية.

__________________

(١). المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازروني ، وقد نقله العلّامة المجلسي في البحار : ١٥ / ٣٩٢ من الطبعة الحديثة.

٢٥٤

٢. روى ابن سعد في طبقاته : أنّ بحيرا الراهب قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألّا أخبرتني عمّا أسألك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسألني باللات والعزى ، فو الله ما أبغضت شيئاً بغضهما» ، قال : بالله إلّا أخبرتني عمّا أسألك عنه؟ قال : «سلني عمّا بدا لك ...». (١)

٣. روى ابن سعد في طبقاته : عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة» : إنّ محمداً باع سلعته فوقع بينه ورجل تلاح ، فقال له الرجل : احلف باللات والعزى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما حلفت بهما قط ، وانّي لأمرُّ فأعرض عنهما» فقال الرجل : القول قولك ، ثمّ قال لميسرة : يا ميسرة هذا والله نبي. (٢)

وممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلاً عن الحق ، ساجداً لوثن أو متوسّلاً به ، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور ، فوافاه جبرئيل (عليه الصلاة والسلام) في بعض تلك المواقف وبشّره بالرسالة وخلع عليه كساء النبوة.

وهذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه ، ولأجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث ونركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته ، وهذا هو الذي بحث عنه المتكلمون والأُصوليون بإسهاب.

* الشريعة التي كان يعمل بها النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اختلف الباحثون في أنّ النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

__________________

(١). الطبقات الكبرى : ١ / ١٥٤ ؛ السيرة النبوية : ١ / ١٨٢.

(٢). الطبقات الكبرى : ١ / ١٥٦.

٢٥٥

أو لا؟ على أقوال نلفت نظر القارئ إليها :

١. لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً. نسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

٢. التوقف وعدم الجنوح إلى واحد من الأقوال. ذهب إليه القاضي عبد الجبار والغزالي ، وهو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

٣. إنّه كان يتعبّد بشريعة من قبله مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى ، أو المسيح بن مريم عليهم‌السلام.

٤. كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

٥. كان يعمل في عباداته وطاعته بما يوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم لا.

٦. انّه كان يعمل بشرع نفسه.

والأخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدته قال : عندنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوة ولا بعدها ، وانّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له ، ويقول أصحابنا : إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصه ، وكان يعمل بالوحي لا اتّباعاً بشريعة. (١)

وما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس ، والأقوال الثلاثة الأخيرة متقاربة ، وإليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدمة :

__________________

(١). راجع للوقوف على الأقوال : الذريعة : ٢ / ٥٩٥ ، وذكر أقوالاً ثلاثة ؛ وعدّة الشيخ الطوسي : ٢ / ٦٠ ، وذكر الأقوال مسهبة ؛ البحار : ١٨ / ٢٧١ ، ونقل الأقوال عن شرح العلّامة لمختصر الحاجبي ؛ والمعارج للمحقّق الحلي : ٦٠ ؛ المبادئ للعلّامة الحلي : ٣٠ ؛ القوانين للمحقّق القمّي : ١ / ٤٩٤.

٢٥٦

* نظرة إجمالية على حياته

إنّ من أطلّ النظر على حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف على أنّه كان يعبد الله سبحانه ويعتكف ب «حراء» كل سنة شهراً ، ولم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله وجماله وآياته وآثاره ، بل كان مع ذلك متعبداً لله قانتاً له ، وقد نزل الوحي عليه وخلع عليه ثوب الرسالة وهو متحنث (١) ب «حرّاء» ، وذلك مما اتفق عليه أهل السير والتاريخ.

قال ابن هشام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواره من شهره ذلك ، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك ، ثمّ يرجع إلى بيته ، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها ؛ وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، ورَحِمَ العبادَ بها ، جاءه جبريلُ عليه‌السلام بأمر الله تعالى. (٢)

ولم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه ، بل دلت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حج عشرين حجة مستسراً. (٣)

__________________

(١). التحنث : هو التحنف ، بدّلت الفاء (ثاء) ، كما يقال (جدف) مكان جدث ، بمعنى القبر ، وربّما يقال : بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الاثم ، كما أنّ التأثم هو الخروج عن الإثم ، والأوّل هو الأولى.

(٢). السيرة النبوية : ١ / ٢٣٦.

(٣). الوسائل : ٨ / ٨٧ باب ٤٥ ، استحباب تكرار الحج والعمرة ؛ البحار : ١١ / ٢٨٠.

٢٥٧

روى غياث بن إبراهيم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «لم يحج النبي بعد قدوم المدينة إلّا واحدة ، وقد حج بمكة مع قومه حجّات». (١)

ولم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلات العقلية ، كالاجتناب عن البغي والظلم وكالتحنن على اليتيم والعطف على المسكين ، بل كان في فترة من حياته راعياً للغنم ، وفي فترات أُخرى ضارباً في الأرض للتجارة ، ولم يكن في القيام بهذه الأعمال في غنى عن شرع يطبق أعماله عليه ، إذ لم يكن البيع والربا والخل والخمر ولا المذكّى وغيره عنده سواسية ، وليست هذه الأُمور ونظائرها مما يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارفاً بأحكام عباداته وطاعاته ، واقفاً على حرام أفعاله وحلالها ، في زواجه ونكاحه في حلّه وترحاله ، ولولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه الله سبحانه في عامّة شرائعه ، والاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة ، فإنّها لا تتحقّق إلّا بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

وعلى ضوء هذه المقدمة يبطل القول الأوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً ، لما عرفت من أنّ العبادة والطاعة لا تصح إلّا بعد معرفة حدودها وخصوصيّاتها عن طريق الشرع ، كما أنّ الاجتناب عن محارم الله في العقود والإيقاعات وسائر ما يرجع إلى أعماله وأفعاله الفردية والاجتماعية ، يتوقف على معرفة الحلال والحرام ، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل ، وعند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً؟ وإلّا يلزم أن ننكر عباداته وطاعاته قبل

__________________

(١). الوسائل : ٨ / ٨٨ باب ٤٥ ، استحباب تكرار الحج والعمرة ، الحديث ٤.

٢٥٨

البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة ، وهو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلّامة المجلسي : قد ورد في أخبار كثيرة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف وأنّه كان يعبد الله في حراء ، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل ، على الله تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة؟! والمكابرة في ذلك سفسطة ، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملاً بشريعة مختصة به أوحى الله إليه بها ، وهو المطلوب ، أو عاملاً بشريعة غيره. (١)

نعم روى أحمد في مسنده ، عن سعيد بن زيد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة هو وزيد بن حارثة ، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما ، فقال يا ابن أخي إنّي لا آكل مما ذبح على النصب ، قال : فما رؤي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب ، قال : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أبي كان كما قد رأيت وبلغك ، ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له؟ قال : نعم ، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة. (٢)

نحن لا نعلق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام الله تعالى من النبي الأكرم ، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الأُمّة ، أضف إليه أنّ الحديث مروي عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لأبيه ، وفي الوقت نفسه نقصاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (٣).

هذا كلّه حول القول الأوّل.

__________________

(١). البحار : ١٨ / ٢٨٠.

(٢). مسند أحمد : ١ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣). الكهف : ٥.

٢٥٩

* نظرية التوقف في تعبّده

أمّا الثاني : أعني التوقف ، فقد ذهب إليه المرتضى ، واستدل على مختاره بقوله : والذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي ، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أنّه لا مصلحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نبوته في العبادة بشيء من الشرائع ، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك مصلحة ، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزاً ولا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقف. (١)

وما ذكره محتمل في حد نفسه ، ولكنّه مدفوع بما في الأخبار والآثار من عبادته واعتكافه ، وقد عرفت أنّه كان يتعبد لله ، وكانت له أعمال فردية واجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

* نظرية عمله بالشرائع السابقة

وهذا هو القول الثالث بشقوقه الأربعة : فيتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يعمل على طبق أحد الشرائع الأربع تابعاً لصاحبها ومقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته ؛ وهذا الشق مردود من جهات :

أ. انّ هذا يتوقف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع ، وهو غير ثابت ، وقد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن. (٢)

ب. انّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها ، وهو إمّا أن يكون حاصلاً

__________________

(١). الذريعة : ٢ / ٥٩٦.

(٢). لاحظ الجزء الثالث : ٧٧ ـ ١١٦.

٢٦٠