عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

لكن مرور الزمان ، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة ، فصح أن يصفها القرآن : «الفتح المبين».

وعلى كل حال : فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). (١)

وأيضاً يقول : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). (٢) وقال أيضاً : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٣).

ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس : انّ ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، فأخذهم أُسراء فاستحياهم ، فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (٤).

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب ، وهذا

__________________

(١). الفتح : ١٠.

(٢). الفتح : ١٨.

(٣). الفتح : ٢٤.

(٤). أسباب النزول : ٢١٨.

٢٢١

يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب ، قال سبحانه : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (١) ، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر ، أو فتح مكة. والظاهر هو الثاني ، وأمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل ، عام عمرة القضاء ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون مكة المكرمة آمنين محلّقين رءوسهم ومقصّرين ، وأقاموا بها ثلاثة أيام ، ثمّ خرجوا متوجهين إلى المدينة ، وذلك في العام السابع من الهجرة ، وفي العام الثامن توفق النبي لفتح مكة وتحقّق قوله سبحانه : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

هذا كلّه حسب سياق الآيات ، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية ، وتفسيرها بفتح مكة ، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر ، ولا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

* ٢. ما هو المراد من الذنب؟

قال ابن فارس في المقاييس : ذنب له أُصول ثلاثة : أحدها الجرم ، والآخر : مؤخّر الشيء ، والثالث : كالحظ والنصيب. (٢)

وقال ابن منظور : الذنب : الإثم والجرم والمعصية ، والجمع ذنوب ، وذنوبات جمع الجمع ، وقد أذنب الرجل ، وقوله عزوجل في مناجاة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) (٣) ، عني بالذنب قتل الرجل الذي وكزه

__________________

(١). الفتح : ٢٧.

(٢). معجم مقاييس اللغة : ٢ / ٣٦١.

(٣). الشعراء : ١٤.

٢٢٢

موسى فقضى عليه ، وكان الرجل من آل فرعون.

وقد وردت (١) تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (٢) ، وقال عزوجل : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).

وعلى ذلك ف (٣) كون الذنب بمعنى الجرم مما لا ريب فيه ، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه ، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون ، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف ، وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره ، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية ، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

* ٣. الغفران في اللغة

الغفران في اللغة ، هو : الستر ، قال ابن فارس في المقاييس : عظم بابه الستر ، ثمّ يشذُّ عنه ما يُذكر ، فالغَفر : السَّتر ، والغفران والغَفْر بمعنًى يقال : غفر الله ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً. (٤) وقال في اللسان بمثله. (٥)

__________________

(١). لسان العرب : ٣ / ٣٨٩.

(٢). غافر : ٣.

(٣). التكوير : ٨ و ٩.

(٤). معجم مقاييس اللغة : ٤ / ٣٨٥.

(٥). لسان العرب : ٥ / ٢٥.

٢٢٣

* ٤. الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما تقدّم منه وما تأخّر ، غير أنّ في ترتب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر ، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان ، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش ، سبباً لمغفرة ذنوبه ، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية ، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها ، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً ، فإنّ تمكين النبي من الأعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة ، فلو قال : إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، لتتمكن من الإصحار بالحق ، ونشر التوحيد ، ودحض الباطل ، كان الترتب أمراً طبيعياً ، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الأصقاع ، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحساسة في فهم مفاد الآية ، وبالتالي دحض زعم المخطّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم ، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

فنقول : كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية ، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها ، وتطلب منهم الحوائج ، وتتقرب بعبادتها إلى الله سبحانه هذا من جانب ، ومن جانب آخر : جاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق والأمر ، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله ، وأنّه لا معبود سواه ولا

٢٢٤

شفيع إلّا بإذنه ، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الأصنام ، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة ، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم ، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم ، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم ، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة ، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر ، ومفتر وكذّاب ، وقد أعربوا عن نواياهم السيئة عند ما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح وقالوا : إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا ، فإمّا أن تكفّه عنا وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه. (١)

ولمّا وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته» قال : ثمّ استعبر فبكى ، ثمّ قام. فلمّا ولى ناداه أبو طالب فقال : اقبل يا ابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله ما أُسلّمك لشيء أبداً». (٢)

فلمّا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره ، فنجّاه الله من أيديهم.

ولمّا استقرَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يثرب واعتز بنصرة الأنصار ومن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الأرض في «بدر» و «أحد» ووقعة «الأحزاب».

__________________

(١). تاريخ الطبري : ٢ / ٦٥.

(٢). السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٢٨٥ من الطبعة الحديثة.

٢٢٥

فهذه الحوادث الدامية عند قريش ، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم ، وحدوث التفرقة في صفوفهم ، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم ، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه ، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء ، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها ، مجازر لقريش ، ومذابح لأسيادهم ، فأيّ جرم أعظم من هذا ، وأي ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة ، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير ، والصديق من العدو ، والمنجي من المهلك؟

فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء ، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل ، ليست إلّا الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة ، ونواياه الصالحة ، حيث تصالح مع قومه ـ الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره ، وأخرجوه من موطنه ومهاده ـ بعطف ومرونة خاصة ، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه ومخالفيه ، حيث تصالح معهم على أنّه «من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه ، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه». (١)

وهذا العطف الذي أبداه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان ، وقريش في حالة الانحلال والضعف ، صوّر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قومه

__________________

(١). السيرة النبوية لابن هشام : ٢ / ٣١٧ ـ ٣١٨. ط ٢ ، ١٣٧٥ ه‍.

٢٢٦

وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال ، وعضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا ، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات ووحداناً ، فأسلم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكة وحواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفار منها خلقه العظيم ، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه وبين قومه ، فعرفوا أنّ ما يرمى به نبيّ العظمة ويوصف به بين أعدائه ، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها ، بل عن الأقل منها.

ولا تقصر عن هذه الواقعة ، فتح مكة ، فقد واجه قومه مرّة أُخرى ـ وهم في هزيمة نكراء ، ملتفون حوله في المسجد الحرام ـ فخاطبهم بقوله : «ما ذا تقولون وما ذا تظنون؟!» فأجابوا : نقول خيراً ونظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقدرت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين». (١)

وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً ، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الأُمور الجليلة ، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق ، لا يفتري ولا يكذب ، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية ، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم ومؤامراتهم عليه ، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره ، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلاً ، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان

__________________

(١). المغازي للواقدي : ٢ / ٨٣٥ ؛ وبحار الأنوار : ٢١ / ١٠٧ ـ ١٣٢.

٢٢٧

التعذيب ثانياً ، فقتل من قتل وأُوذي من أُوذي ، وضربوا عليه وعلى المؤمنين به ، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً ، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً ، ولو لا جرائمهم الفظيعة لما اخضرت الأرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه ، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية ، أو فتح مكة ، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها ، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين : الجزائية والشرطية ، ولو لا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام ، وقد كسرته هذه الواقعة ، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به ، كما أنّ المراد من المغفرة ، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال : «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً ، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (١) ، فلمّا فتح اللهُ عزوجل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة ، قال له : يا محمد : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ (مكة) فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزوجل فيما تقدّم ، وما تأخّر ، لأنّ مشركي مكة ، أسلم

__________________

(١). ص : ٥ ـ ٧.

٢٢٨

بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن. (١)

وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثر فيما نرتئيه ، فلاحظ.

* الآية الخامسة : العصمة والتولّي عن الأعمى

استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية : (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (٢).

روى المفسرون أنّ عبد الله بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول الله وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف ، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم ؛ فقال عبد الله : اقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله ، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ، فنزلت الآيات ، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه يقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي. (٣) ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه

__________________

(١). بحار الأنوار : ١٧ / ٩٠.

(٢). عبس : ١ ـ ١٠.

(٣). أسباب النزول للواحدي : ٢٥٢.

٢٢٩

على المدينة مرتين في غزوتين. (١)

وهناك وجه آخر لسبب النزول روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وحاصله أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه ، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

والاعتماد (٢) على الرواية الأُولى مشكل ، لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمن يقدم الأغنياء والمترفين ، على الضعفاء والمساكين من المؤمنين ، ويرجح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ، وهذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات :

الأُولى : انّه سبحانه حسب هذه الرواية وصفه بأنّه يتصدى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم ، كيف؟ وقد قال سبحانه : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣).

الثانية : انّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم ، وهي ثانية السور التي نزلت في مكة (وأُولاها سورة العلق) بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) ، ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه ، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّي؟ وهذه السورة حسب ترتيب النزول وان كانت متأخرة عن سورة القلم ، لكنّها متقاربة معها حسب النزول ، ولم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة

__________________

(١). مجمع البيان : ١٠ / ٤٣٧ وغيره من التفاسير.

(٢). مجمع البيان : ١٠ / ٤٣٧ ؛ تفسير القمي : ٢ / ٤٠٥.

(٣). التوبة : ١٢٨.

(٤). القلم : ٤.

٢٣٠

الأمد. (١)

الثالثة : انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، كما يأمره أيضاً بقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٤).

إنّ سورتي الشعراء والحجر ، وإن نزلتا بعد سورة «عبس» ، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة ، أي العام الثالث من البعثة عند ما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والإصحار بالحقيقة ، وعلى ذلك فهي متقدمة حسب النزول على سورة «عبس» أويصح بعد هذه الخطابات ، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّي عن المؤمن؟! كلّا ثمّ كلّا.

الرابعة : إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في نفسه : «يقول هؤلاء الصناديد : إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم» وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل أخبر به النبي؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر؟!

والأوّل بعيد جداً ، والثاني مجهول.

الخامسة : أنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين ، وعند ذلك أتى عبد الله ابن أُمّ مكتوم وقال : يا رسول الله أقرئني ، فهل كان إسكات

__________________

(١). تاريخ القرآن للعلّامة الزنجاني : ٣٦ ـ ٣٧ ، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكة والمدينة معتمداً على رواية محمد بن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص ٧ طبع مصر.

(٢). الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٣). الحجر : ٨٨.

(٤). الحجر : ٩٤.

٢٣١

ابن أُم مكتوم متوقفاً على العبوسة والتولّي عنه ، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتم كلامه مع القوم ، أمراً غير شاق على النبي ، فلما ذا ترك هذا الطريق السهل؟

وهذه الوجوه الخمسة وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره ، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الأُولى.

وأمّا الرواية الثانية :

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات ، لأنّ محصلها أنّ رجلاً من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه ، وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفي في توضيح الآيات ، ولا يرفع إبهامها ، لأنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّي ، هو المخاطب بقول سبحانه : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) إلى قوله : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) ، فلو كان المتعبس والمتولّي ، هو الفرد الأموي ، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره ، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك ، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس وتولّى عند ما جاءه الأعمى فقط ، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين وإنّها إلى من تهدف ، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي وهو بعيد ، أو النبي الأكرم؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول ، وقد عرفت الأسئلة الموجهة

٢٣٢

إليهما.

وعلى فرض صحة الرواية الأُولى لا بدّ أن يقال :

إنّ الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موضع عنايته سبحانه ورعايته ، فلم يكن مسئولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط ، بل كان مسئولاً حتى عن نظراته وانقباض ملامح وجهه ، وانبساطها ، فكانت المسئولية الملقاة على عاتقه من أشد المسئوليات ، وأثقلها صدق الله العلي العظيم حيث يقول : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (١).

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناجي صناديد قومه ورؤساءهم لينجيهم من الوثنية ويهديهم إلى عبادة التوحيد ، وكان لإسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم ، إذ الناس على دين رؤسائهم وأوليائهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الظروف يناجي رؤساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلاً عمّا عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر المهم ، فلم يلتفت إليه النبي ، وجرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

وما سلكه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء ، ولا خروجاً على طاعة الله ، ولكن الإسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّا سلكه ، وهو أنّ التصدي لهداية قوم يتصورون أنفسهم أغنياء عن الهداية ، يجب أن لا يكون سبباً للتولّي عمّن يسعى ويخشى ، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق ، الخائف من عذاب الله ، أولى من التصدي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية وعمّا أنزل إليك من الوحي ، وما عليك بشيء إذا لم يزكّوا أنفسهم ، لأنّ القرآن تذكرة فمن شاء ذكره (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢).

__________________

(١). المزمل : ٥.

(٢). الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

٢٣٣

فعظم المسئولية اقتضى أن يعاتب الله سبحانه نبيّه لترك ما هو الأولى بحاله حتى يرشده إلى ما يعد من أفاضل ومحاسن الأخلاق ، وينبهه على عظم حال المؤمن المسترشد ، وأن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه ، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه ، ومن هذا حاله لا يعد عاصياً لأمر الله ومخالفاً لطاعته.

وأمّا الرواية الثانية : فالظاهر أنّ الرواية نقلت غير كاملة ، وكان لها ذيل يصحح انطباق الخطابات الواردة في الآيات حقيقة على الشخص الذي عبس وتولّى ، وعلى فرض كونها تامّة فالضمير الغائب في «عبس» و «تولّى» و «جاءه» يرجع إلى ذلك الفرد ، وأمّا الخطابات فهي متوجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن من وجه إليه الخطاب غير من قصد منه ، فهو من مقولة : «إياك أعني واسمعي يا جارة» ومثل هذا يعد من أساليب البلاغة ، وفنون الكلام.

٢٣٤

دين النبي الأكرم قبل البعثة

دلّت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء عامّة والنبي الأكرم خاصة إلّا أنّ الحكم بعصمته قبل التشرف بالنبوة ، يتوقف على إحراز تدينه بدين قبل أن يبعث ، وهذا ما نتلوه عليك في هذا البحث تكميلاً لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

من الموضوعات المهمة التي شغلت بال المحققين من أهل السير والتاريخ موضوع دين النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اتفق جمهور المسلمين على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على خط التوحيد منذ نعومة أظفاره إلى أن بُعث لهداية أُمّته ، فلم يسجد لصنم ولا وثن ، وكان بعيداً عن الأخلاق والعادات الجاهلية التي تستقي جذورها من الوثنية ، وإن اختلفوا في أنّه هل كان متعبداً بشريعة أحد من الأنبياء أو بشريعة نفسه ، أو بما يلهم من الوظائف والتكاليف؟ وعلى ذلك فنركّز البحث على نقطتين :

١. إيمانه وتوحيده قبل البعثة.

٢. الشريعة التي كان يعمل بها في حياته الفردية والاجتماعية.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الأُولى : فقد كان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الدين الحنيف لم يعدل عنه إلى غيره طرفة عين ، وتظهر هذه الحقيقة بالتعرّف على ملامح

٢٣٥

البيت الذي ولد فيه ، وتربّى في أحضان رجاله فنقول :

كان النبي كريم المولد ، شريف المحتد ، ولد من أبوين كريمين مؤمنين بالله سبحانه وموحدين ، وتربى في حضن جده عبد المطلب ، وبعده في حجر عمّه أبي طالب ـ عليهما‌السلام ـ ، وقد كان الدين السائد في ذلك البيت الرفيع ، دين التوحيد ، ورفض عبادة غير الله تعالى والعمل بالمناسك والرسوم الواصلة إليه عن إبراهيم عليه‌السلام.

لا أقول إنّ جميع من كان ينتمي إلى البيت الهاشمي كان على خط التوحيد وعلى الشريعة الإبراهيمية ، إذ لا شك أنّ بعضهم كان يعبد الأصنام ، ويدافع عنها كأبي لهب ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بل أقول : الديانة السائدة في ذلك البيت هي عبادة الرحمن ورفض الأصنام والأوثان.

ويتضح وضع هذا البيت ببيان ديانة أشياخه وأسياده وأخص بالذكر منهم سيده الكبير «عبد المطلب» وشيخ الأباطح «أبو طالب» ، وإليك الكلام في ديانتهما :

* ١. عبد المطلب وإيمانه

عبد المطلب هو الرجل الأوّل في هذا البيت ، وكفى في صفائه وإيمانه ما ذكره المؤرّخون في حقه ، وإليك بعضه :

١. يقول اليعقوبي في الحديث عنه : ... ورفض عبد المطلب عبادة الأوثان والأصنام ، ووحَّد الله عزوجل ، ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السنّة الشريفة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الإبل

٢٣٦

في الدية ، وأن لا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموءودة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا والحد عليه ، والقرعة ، وأنّ لا يطوف أحد بالبيت عرياناً ، وإضافة الضيف ، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلّا من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الرايات. (١)

٢. إذا اطّلعنا على موقف عبد المطّلب من جيش أبرهة ، وتوكّله على الله تعالى ، وأخذه بحلقة باب الكعبة ، نعلم بأنّه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف الله ، ولا يعرف إلّا باب الله ، على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّهم كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة ، وإليك إجمال القضية :

قدم عبد المطلب إلى معسكر أبرهة ، فلمّا رآه أبرهة أجلّه وأكرمه ، وبعد ما وقف الملك على أنّه جاء ليردّ عليه إبله التي استولى عليها عسكره ، قال له أبرهة : أتكلّمني في إبلك وتترك بيتاً ، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟! قال له عبد المطلب : أنا ربُّ الإبل ، وللبيت ربٌّ يمنعه ، قال أبرهة : ما كان يمنعه مني وأمر برد إبله ، فلمّا أخذها قلّدها وجعلها هدياً وبثّها في الحرم كي يصاب منها شيء فيغضب الله عزوجل ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر ، ثمّ قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب :

__________________

(١). تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٩ ، طبعة النجف. أقول : في عدِّ بعض ما ذكر ذلك المؤرخ من سنن عبد المطلب نظر : فإنّ لبعضها كالوفاء بالنذر ، والنهي عن قتل الموؤدة ، والقرعة ، سابقة تاريخية ترجع إلى فترات قبله.

٢٣٧

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إنَّ عدوّ البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا فناكا

وقال أيضاً :

لا هُمَّ إنّ العبدَ يَمنع

رَحْلَه فامنع حِلالَكْ

لا يَغلِبَنَّ صَلِيبهم

ومِحالُهم غَدْوا مِحالَكْ (١)

٣. وليست هذه الواقعة وحيدة من نوعها بل لسيد قريش مواقف أُخرى تشبه هذه الواقعة حيث توسل لكشف غمته فيها بالله سبحانه وتعالى ، وإليك مثالين :

ألف. تتابعت على قريش سنون جدب ، ذهبت بالأموال ، وأشرفت على الأنفس ، واجتمعت قريش لعبد المطلب وعلوا جبل أبي قبيس ومعهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غلام ، فتقدّم عبد المطلب وقال :

«لاهم (٢) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو إمائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا هذه السنون ، فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فأشرفت على الأنفس ، فأذهب عنّا الجدب ، وائتنا بالحياء والخصب» ، فما برحوا حتى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول رقيقة :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر

إلى أن تقول :

__________________

(١). السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٥٠ ؛ الكامل لابن الأثير : ١ / ١٢ ، وغيرهما

(٢). مخفّف «اللهم».

٢٣٨

مبارك الاسم يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر (١)

وقد نقل هذه الواقعة الشهرستاني في الملل والنحل قال : وممّا يدل على معرفته (عبد المطلب) بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين ، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحضره وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء ، وقال يا ربّ بحق هذا الغلام ورماه ثانياً وثالثاً. وكان يقول : بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد.

وقال أيضاً : وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيّات الأُمور ، وان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة ، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : والله انّ وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته. (٢)

إنّ توسّله بالله سبحانه وتوليه عن الأصنام والأوثان والتجاءه إلى ربِّ الأرباب آية توحيده الخالص ، وإيمانه بالله وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له إلّا هذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه بالله وتوحيده له.

__________________

(١). السيرة الحلبية : ١ / ١٣١ ـ ١٣٣

(٢). الملل والنحل للشهرستاني : القسم الثاني : ٢٤٨ و ٢٤٩ من الطبعة الثانية ، تخريج محمد بن فتح الله بدران القاهرة.

٢٣٩

ب. روى أصحاب السير أنّه وقع النقاش بين عبد المطلب وقريش في حفر بئر زمزم بعد ما حفره عبد المطلب ، فاتفقوا على الرجوع إلى كاهنة ، فقصدوا طريق الشام فعطشوا في الطريق وأشرفوا على الموت ، فاقترح أن يحفر كلٌّ حفرة لنفسه بما بكم الآن من قوة ، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثمّ واروه حتى يكون آخركم رجلاً واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً ، قالوا : نعم ما أمرت به ، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشاً ، ثمّ إنّ عبد المطلب قال لأصحابه : والله إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا ، لعجز ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، ارتحلوا ؛ فارتحلوا حتى إذا فرغوا ، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هو فاعلون ، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به ، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب ، فكبّر عبد المطلب وكبر أصحابه ، ثمّ نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ، ثمّ دعا القبائل من قريش فقال : هلمّ إلى الماء ، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا ؛ فجاءوا فشربوا واستقوا ، ثمّ قالوا : والله قضى لك علينا يا عبد المطلب ، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة ، لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً ، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة ، وخلّوا بينه وبينها. (١)

٤. عن أُمّ أيمن (رضي الله عنها) قالت : كنت أحضن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أي أقوم بتربيته وحفظه ـ فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلّا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول : يا «بركة» قلت : لبيك ، قال : أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت : لا أدري ، قال : وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فإنّ أهل الكتاب يزعمون

__________________

(١). سيرة ابن هشام : ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، طبعة مصر.

٢٤٠