عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

قال : هذا من القدر لا من القدرة. ثمّ أضاف صاحب الكشاف : يصح أن يفسر بالقدرة على معنى «أن لن نعمل فيه قدرتنا» ، وأن يكون من باب التمثيل ، بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثمّ يردعه ويردّه بالبرهان ، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. (١)

ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد ، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق ، وهو المناسب لمفاد الآية ، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما ، خصوصاً الوجه الأخير ، لأنّ الأنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان ، فليس له سلطان على المخلصين من عباده ، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

وأمّا السؤال الثالث : فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه ، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه ، فالعطف والحنان المترقب من الأنبياء غير ما يترقب من غيرهم ، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة ، ويؤيده قوله سبحانه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٣) ، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية

__________________

(١). الكشاف : ٢ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٢). ص : ٨٣.

(٣). القلم : ٤٨.

٢٠١

طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غماً ، والمعنى : يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت ، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتُبتلى ببلائه ، فاصبر لقضاء ربك ، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً ، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة. (١)

والوجهان : الأوّل والثاني هما الصحيحان.

وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق ، وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه ، فأخذه الله بذلك.

وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه ، وهو يدور بين أُمور ثلاثة : أمّا ترك قومه من دون إذن ، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر ، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تم توضيح الآيات المهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية ، وبقي الكلام في عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفيض القول فيها في البحث الآتي.

__________________

(١). بحار الأنوار : ١٤ / ٣٨.

٢٠٢

الطائفة الثالثة

عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وما تمسّكت به المخطّئة

عصمة النبي الخاتم من العصيان والخطأ ، من فروع عصمة الأنبياء كلّهم ، فما دلّت على عصمتهم من الآيات ، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال ، ولا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال ، فقد أفاض الله عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الأنبياء من غير استثناء ، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية :

١. مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الأُمّة.

٢. مرحلة القول والفعل ، وعلى ذلك ، فهو من عباده المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون.

٣. مرحلة تطبيق الشريعة وغيرها من الأُمور المربوطة بحياته ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسهو ولا يخطأ في حياته الفردية والاجتماعية.

وما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.

٢٠٣

نعم هناك آيات بالخصوص دالّة على عصمته من العصيان ومصونيته من الخطأ ، كما أنّ هناك آيات وردت في حقه وقعت ذريعة لمنكري العصمة ، ولأجل ذلك أفردنا بحثاً خاصاً في هذا المقام لنوفيه حقه.

أمّا ما يدل على عصمته من العصيان والخلاف ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (١).

وقد ذكر المفسرون أسباباً لنزولها بما لا يناسب ساحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوضحها ما ذكره الطبرسي في مجمعه : أنّ المشركين قالوا له : كف عن شتم آلهتنا ، وتسفيه أحلامنا ، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان (٢) حتى نجالسك ونسمع منك ، فطمع في إسلامهم ، فنزلت الآية. (٣)

ولتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور :

١. أنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته ، ومع ذلك استدلت المخطّئة بها على خلافها ، وهذا من عجائب الأُمور ، إذ لا غرو في أنّ تتمسك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه ، وإنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين ، فيفسرها كلٌّ حسب ما يتوخّاه ، مع أنّ الآية لا تتحمل إلّا معنى واحداً لا معنيين متخالفين.

٢. انّ الضمير في كلا الفعلين (كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) يرجع إلى المشركين ،

__________________

(١). الإسراء : ٧٣ ـ ٧٥.

(٢). الصنان : نتن الإبط.

(٣). مجمع البيان : ٣ / ٤٣١.

٢٠٤

ويدل عليه سياق الآيات ، والمراد من (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هو القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفي الشريك ، والسيرة الصالحة ، والمراد من الفتنة في (لَيَفْتِنُونَكَ) هو الإزلال والصرف ، كما أنّ الخليل من الخُلَّة بمعنى الصداقة لا من الخَلّة بمعنى الحاجة.

٣. انّ قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه ، لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّا أُوحي إليه ، وبين المعنيين فرق واضح.

٤. انّ قوله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) مركب من جملتين ، إحداهما شرطية ، والأُخرى جزائية ، أمّا الأُولى فقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ، وأمّا الأُخرى فقوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، وبما أنّ لو لا في الآية امتناعية (١) ، تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت ، مثل قولنا : لو لا علي لهلك عمر ، فامتنع هلاكه لوجوده.

٥. وليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل ، بل الجزاء هو القرب من الميل والانصراف كما يدل عليه قوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) ، فامتنع القرب من الميل فضلاً عن نفس الميل لأجل وجود تثبيته.

٦. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة ، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة ، لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها ، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة ، ولا معنى

__________________

(١). يقول ابن مالك :

لو لا ولو ما يلزمان الابتدا

إذا امتناعاً بوجود عقدا

والشرط في الآية مؤوّل إلى الاسم أي لو لا تثبيتنا ، لقد كدت تركن إليهم.

٢٠٥

لخصوصية المعلول والمسبب مع عمومية العلة ، وعلى ذلك تكون الآية من دلائل عصمته في حياته ، وسداده فيها على وجه العموم.

وتوهم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لإزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.

٧. انّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير ، إذ لا يستقيم عمل إنسان ما لم يتم تفكيره ، وعلى ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل ، فهو في ظل هذا السداد المفاض ، لا يفكّر بالعصيان والخلاف فضلاً عن الوقوع فيه.

٨. انّ تسديده سبحانه ، لا يخرجه عن كونه فاعلاً مختاراً في عامة المجالات : الطاعة والمعصية ، فهو بعد قادر على النقض والإبرام والانقياد والخلاف ، ولأجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً).

وعلى ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته ، ودالة على عنايته سبحانه برسوله الأكرم فيراقبه ويراعيه ولا يتركه بحاله ، ولا يكله إلى نفسه ، كل ذلك مع التحفّظ على حريته واختياره في كل موقف.

فقوله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) نظير قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) (١) لكن الأوّل راجع إلى صيانته عن العصيان ، والثاني ناظر إلى سداده عن السهو والخطاء في الحياة ، وسيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتي.

__________________

(١). النساء : ١١٣.

٢٠٦

وفي الختام نذكر ما أفاده الرازي في المقام : قال : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية بوجوه :

الأوّل : انّها دلّت على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرب من أن يفتري على الله ، والفرية على الله من أعظم الذنوب.

الثاني : انّها تدل على أنّه لو لا أنّ الله تعالى ثبته وعصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.

الثالث : أنّه لو لا سبق جرم وجناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.

والجواب عن الأوّل : أنّ «كاد» معناها المقاربة ، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا لا يدل على الوقوع.

وعن الثاني : أنّ كلمة لو لا تفيد انتفاء الشيء ، لثبوت غيره ، نقول : «لو لا علي لهلك عمر» ومعناه أنّ وجود علي عليه‌السلام منع من حصول الهلاك لعمر ، فكذلك هاهنا فقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) معناه لو لا حصل تثبيت الله لك يا محمد ، فكان تثبيت الله مانعاً من حصول ذلك الركون.

وعن الثالث : انّ التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها ، والدليل عليه آيات منها قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) الآيات ، وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ). (١) *

* أدلة المخطّئة

لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ هناك

__________________

(١). مفاتيح الغيب : ٥ / ٤٢٠.

٢٠٧

آيات وردت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صارت ذريعة لبعض المخطّئة الذين يحاولون إنكار العصمة ، وهي عدة آيات :

* [الآية] الأُولى : العصمة والخطابات الحادة

هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد وتنهاه عن اتّباع أهواء المشركين ، والشرك بالله ، والجدال عن الخائنين ، وغير ذلك ، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه ، وإليك هذه الآيات مع تحليلها :

١. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١).

وقد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل ، فقال بدل قوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ، (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) ، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد ، غير أنّه جاء بدل قوله : (وَلا نَصِيرٍ» «وَلا واقٍ).

وعلى أي حال فقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم وإلّا فلا وجه للوعيد.

ولكن الاستدلال على درجة من الوهن ، إذ لا تدل القضية الشرطية إلّا على الملازمة بين الشرط والجزاء ، لا على تحقّق الطرفين ، ولا على إمكان تحقّقهما ، وهذا من الوضوح بمكان ، قال سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٣) ، وليس فيها أيّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي ، وبما ذكرنا يتضح حال الآيتين

__________________

(١). البقرة : ١٢٠.

(٢). البقرة : ١٤٥.

(٣). الأنبياء : ٢٢.

٢٠٨

التاليتين :

٢. انّه سبحانه يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١).

ومن المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.

٣. قال سبحانه : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢) ، وقال أيضاً : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٣) ، فهذه الآيات ونظائرها التي تحكي عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه ، أي وجود أرضية متوقعة لصدور هذه القضايا ، وذلك لوجهين :

ألف : أنّ هذه الآيات تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها ، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا ، وهذا لا يكون دليلاً على إمكان وقوع العصيان منه بعد ما تشرّف بالنبوّة وجُهّز بالعصمة وعُزِّز بالرعاية الربانية ، فالآيات التي تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.

ب. أنّ هذه الآيات تركز على الجانب التربوي ، والهدف تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام الله سبحانه ، فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نبي العظمة ـ محكوماً

__________________

(١). الإسراء : ٨٦ ـ ٨٧.

(٢). الزمر : ٦٥.

(٣). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

٢٠٩

بهذه الأحكام ومخاطباً بها ، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

وعلى ذلك فتكون الآيات واردة مجرى : «إياك أعني واسمعي يا جارة» ، فهؤلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لإنكار العصمة ، غير مطّلعين على «ألف باء» القرآن ، وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال ، يقول سبحانه عند ما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام :

٤. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١) ، ويريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لإرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) (٢).

٥. انّه سبحانه يبطل ألوهية المسيح عليه‌السلام بحجّة أنّه وليد مريم ـ عليها‌السلام ـ بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم ، قال سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فعند ذلك يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٣).

ولا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا : «إياك أعني واسمعي يا جارة» ، فإنّ النبي الأعظم بعد ما اتصل بعالم الغيب وشاهد ورأى الملائكة وسمع كلامهم ، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) على الجد والحقيقة؟

٦. انّه سبحانه يخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما جلس على كرسي القضاء

__________________

(١). البقرة : ١٤٧.

(٢). البقرة : ١٤٢.

(٣). آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠.

٢١٠

بقوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) (١).

فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن ، ومن الواضح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن ، وانّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع وتوجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة ، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد ، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم ، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب ، غير من قصد له الخطاب.

٧. وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٢).

وأخيراً نقول : إنّ سورة الإسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى ، ترجع إلى وظائف الأُمّة : الفردية والاجتماعية ، وهو سبحانه يبتدئ الدساتير بقوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٣) ، وفي الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً). (٤)

فهذه الخطابات وأشباهها وإن كانت موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها ، وإلّا فالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم من أن يشرك بالله تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة ، كيف ، وهو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك وعبادة غير الله تبارك وتعالى.

__________________

(١). النساء : ١٠٧.

(٢). النساء : ١٠٥.

(٣). الإسراء : ٢٢.

(٤). الإسراء : ٣٩.

٢١١

وقس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن شديد ، فتفسير الجميع بالوجهين اللّذين قدمنا ذكرهما.

* الآية الثانية : العصمة والعفو والاعتراض

كان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية ، فأذن بالجهاد إلى ثغرها (تبوك) ، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل ، إلّا أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين ، فتعلّقوا بأعذار واستأذنوا في الإقامة في المدينة ، وأذن لهم النبي الأكرم ، وفي هذا الشأن نزلت الآية التالية :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (١).

والآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) ، كما تتضمن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك ، كما يقول سبحانه : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، وعندئذ يفرض هذا السؤال نفسه :

ألف : كيف يجتمع العفو مع العصمة؟

ب : ما معنى الاعتراض على إذن النبي؟

أقول : أمّا الجملة الأُولى : فتوضيحها بوجهين :

الأوّل : أنّها إنّما تدل على صدور الذنب ـ على فرض التسليم ـ إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي ، وأمّا إذا

__________________

(١). التوبة : ٤٣.

٢١٢

كانت خبرية ولكن أُريد منها الإنشاء وطلب العفو ، كما في قوله : (أيدك الله) (غفر الله لك) ، فالدلالة ساقطة ، إذ طلب العفو والمغفرة للمخاطب نوع دعاء وتقدير وتكريم له.

الثاني : ليس على أديم الأرض إنسان يستغني عن عفوه ومغفرته سبحانه حتى الأولياء والأنبياء ، لأنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا ، وكونهم معصومين ، ووظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الأُولى فواضحة ، وأمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب وكبر المسئولية ، وانّ هنا أُموراً كان الأليق تركها ، أو الإتيان بها ، وإن لم يأمر بها الرب أمر فرض ، أو لم ينه عنها نهي تحذير ، والمترقب منهم غير المترقب من غيرهم.

ولأجل ذلك كان الأنبياء يستغفرون كل يوم وليلة قائلين : «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك».

وحاصل الوجهين : أنّ طلب العفو نوع تكريم واحترام للمخاطب بصورة الدعاء ، وليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى ، يرى في أعماله حسب عرفانه واستشعاره عظمة الرب وكبر المسئولية ، أنّ ما هو الأليق خلاف ما وقع منه ، فتوحي إليه نفسه الزكية ، طلب العفو والمغفرة لإزالة آثار هذا التقصير في الآجل والعاجل.

وأمّا الجملة الثانية :

فلا شك أنّها تتضمن نوع اعتراض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه ، بل لأنّ إذنه كان مفوتاً لمصلحة له ، وهو معرفة الصادق في إيمانه

٢١٣

من الكاذب في ادّعائه ، كما يعرب عنه قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ).

توضيحه : أنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع المؤمنين إلى غزو الروم ، وكان لهم تخطيط في غياب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبطله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخليفه علياً مكانه ، قال سبحانه : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (١) ، والآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الإقامة في المدينة ، وكان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع المؤمنين كان بإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلّا فتنة وخبالاً وإضعافاً لعزائم المؤمنين ، وفيهم سمّاعون لهم يتأثرون بدعاياتهم وإغوائهم كما يقول سبحانه : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٢).

وبما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلاً ، وعلى الإضرار والفتنة في جبهات الحرب ثانياً ، لذلك لم يكن في الإذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب ، ومعرفة المنافق من المؤمن ، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم وتمردهم على كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلاً على صدور الذنب.

ولو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة وفنون الكلام لعرفت أنّ اسلوب

__________________

(١). التوبة : ٤٦.

(٢). التوبة : ٤٧.

٢١٤

الكلام في الآية ، اسلوب عطف وحنان ، وأشبه باعتراض الولي الحميم ، على الصديق الوفي ، إذا عامل عدوه الغاشم بمرونة ولين ، فيقول بلسان الاعتراض : لما ذا أذنت له ، ولم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوك من صديقك ، ومن وفى لك ممّن خانك ، على أنّه وإن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنه لم يفته معرفته من طريق آخر ، صرح به القرآن في غير هذا المورد ، فإنّ النبي الأكرم كان يعرف المنافق من المؤمن بطريقين آخرين :

١. كيفية الكلام ، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول ، وذلك أنّ الخائن مهما أصر على كتمان خيانته ، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه». (١) وفي ذلك يقول سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٢).

٢. التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣) ، والدقة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب ، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيب.

وعلى ذلك فلم يفت على النبي الأكرم شيء وإن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق ، ولكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

__________________

(١). نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم ٢٦.

(٢). محمد : ٣٠.

(٣). آل عمران : ١٧٩.

٢١٥

* الآية الثالثة : العصمة والأمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الأعظم ، بطلب الغفران منه ويقول مخاطباً رسوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (١) ويقول سبحانه : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (٢). وعندئذ يخطر في ذهن الإنسان : كيف تجتمع العصمة مع الأمر بطلب الغفران؟

أقول : التعرّف على ما مرّ في الآيتين ونظائرهما ، رهن الوقوف على الأصل المسلَّم بين العقلاء ، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسئولية متحالفان ، وربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً ، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك : انّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح ، ولا محيص عن الإتيان بالواجب وترك الحرام ، نعم هناك رخصة في ترك المستحب والإتيان بالمكروه ولكن المترقب من العارف بمصالح الأحكام ومفاسدها ، تحلية الواجبات بالمستحبات ، وترك المحرمات مع ترك المكروهات ولا يقصر عنه المباح ، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسئولية ما لا يتحمله غيره ، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر ، ولو صدر منه ما لا يليق ، وتساهل في هذا

__________________

(١). النساء : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢). محمد : ١٩.

٢١٦

الطريق ، يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة ، لا لصدور الذنب منه ، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسئوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي ، فالمرجوّ من الأوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية ، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب ، فما ذلك إلّا لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة ، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً ، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره ، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق ، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الأمثلة ونظائرها الوافرة تثبت الأصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية وكبر المسئولية متحالفان وأنّ الوظائف لا تنحصر في الإتيان بالواجبات ، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى ، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وتكثرت المسئوليات ، ولأجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً ، وهو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً ، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الإجابة يمان والمعرفة ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو ، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحاً عليه‌السلام يقول : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) (١).

ويقتفيه إبراهيم عليه‌السلام ويقول : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ

__________________

(١). نوح : ٢٨.

٢١٧

الْحِسابُ) (١).

ويقول النبي الأعظم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢).

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

وعلى ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه ، عن المزني ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليُغان على قلبي وإنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة». (٣)

وقد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية من أراد التعرّف عليها ، فليرجع إلى كتاب «شفاء القاضي».

يقول العلّامة المحقّق علي بن عيسى الإرْبِلي : الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، وقلوبهم مملوءة به ، وخواطرهم متعلّقة بالمبدإ ، وهم أبداً في المراقبة ، كما قال عليه‌السلام : «اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تره ، فإنّه يراك» فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية ، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل والشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات ، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله بالنهار سبعين مرّة» ولفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين. وقوله : حسنات الأبرار

__________________

(١). إبراهيم : ٤١.

(٢). البقرة : ٢٨٥.

(٣). صحيح مسلم : ٨ / ٧٢ ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وقوله : «ليغان» من الغين بمعنى الستر والحجاب والمزن.

٢١٨

سيئات الأقربين ... فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما ، بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها ، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليها من أمثالها ... ثمّ قال : إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به الله من حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه. (١)

وما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسك بها المخالف ، وأمّا الأدعية التي اعترف فيها الأئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علمه لكميل بن زياد : «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم» فهذا من باب التعليم للناس.

وأمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل وفي سجداتهم ، فيحمل على ما حققه العلّامة الإرْبِلي وأوضحنا حاله.

* الآية الرابعة : العصمة وغفران الذنب

إذا كان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب ، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه : ما تقدم منه وما تأخر؟ قال سبحانه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٢).

الجواب : انّ الآية تعد أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الأنبياء مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين ، يوضح المقصود من الذنب وأنّ المراد منه الاتهامات والنسب التي كانت الأعداء

__________________

(١). كشف الغمة : ٣ / ٤٣ ـ ٤٥.

(٢). الفتح : ١ ـ ٣.

٢١٩

تصفه بها ، وانّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها وعدم صحتها من أساسها وطهر صحيفة حياته عن تلك النسب ، وإليك توضيح ذلك ببيان أُمور :

* ١. ما هو المراد من الفتح في الآية؟

لقد ذكر المفسرون هنا وجوهاً ، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكة ، أو فتح خيبر ، أو فتح الحديبية.

لكن سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين ، لأنّها ناظرة إلى قصة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة ، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه ، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت ، وأين هو من فتح مكة الذي لم يتحقّق إلّا بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحها في العام الثامن من هجرته؟!

ولأجل ذلك حاول من قال : إنّ المراد منه فتح مكة ، أن يفسره : بأنَّ إخباره عن الفتح ، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح ، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين ، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه ، وقصة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معينة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزيرة العربية ، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر ، ويسيطر على مكامن الشر والمؤامرة ، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم ، ويسمع دعوته أُذن الدنيا ، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة ، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الأمر.

٢٢٠