عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

أنّها إسرائيليات ، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين ، وقد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية والتاريخية والعقائدية و... فالرجاء من الله سبحانه أن يقيض جماعة من المثقفين والمحقّقين ويوفّقهم لتهذيب الكتب الإسلامية منها وتنقيحها عن مروياتهم.

ولكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه ، وهو ما قيل : كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً ، فأماته الله على بساطه فجأة بلا مرض ، اختباراً من الله تعالى لسليمان وابتلاء لصبره في إماتة ولده ، وألقى جسمه على كرسيه. (١)

ولا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات ، والصبر في هذا المجال وتفويض الأمر إلى الله سبحانه آية كمال النفس ، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلّا أن يتفتح الكمال المركوز في ذاته ، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل ، وسنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات فانتظر.

والعجب أن سيد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار ، قال : ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير «الجسد الذي أُلقي على كرسي سليمان» سوى حديث صحيح ، في ذاته ، ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً ، ونصه : «قال سليمان : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل «إن شاء الله» ، فطاف سليمان عليهن ، فلم تحمل إلّا امرأة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده : لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل

__________________

(١). تنزيه الأنبياء : ٩٩ الطبعة القديمة.

١٨١

الله فرساناً أجمعون».

ثمّ قال السيد : وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال. (١)

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً وإنّما نترك القضاء فيه إلى القارئ لكي يقضي فيه ، وكفى في ضعفه أنّه من مرويات أبي هريرة ، وقد وصفها سيد قطب بأنّها مجرّد احتمال كما عرفت.

وبذلك يعلم الجواب عن السؤال الثاني ، فالظاهر أنّه كان له عليه‌السلام فيه رجاء أو أُمنية ، فأماته وألقاه على كرسيه ، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الأمر إلى الله والتسليم إليه ، ولعل هذا المقدار من الرجاء وعقد الأُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من الله إلى الولد.

وهو وإن لم يكن معصية ولكن الأليق بحال الأولياء غيره ، ولأجل ذلك لما استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه ، أناب إلى الله ورجع إليه وطلب المغفرة كما يقول سبحانه : (ثُمَّ أَنابَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي).

وقد تكرر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلاً على العصيان وصدور الذنب ، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية وعمق العبودية ، وكان الأولى والأليق خلافه ، استوجب طلب الغفران ، وإن لم يكن معصية وخلافاً في منطق الشرع ، ولأجل ذلك انّ أولياء الله لم يزالوا مستغفرين كل يوم وليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.

وأمّا السؤال الثالث : أعني طلب الملك من الله سبحانه ، فلم يكن الملك

__________________

(١). في ظلال القرآن الكريم : ٢٣ / ٩٩.

١٨٢

مقصوداً لذاته ، لأنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم والتعدّي وهضم الحقوق إلى غير ذلك مما أُشير إليه في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (١) وفي قوله عز اسمه : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٢).

هكذا كانت طبيعة الملوكية في الأعصار الغابرة والحاضرة ، فهي مع الاستبداد والاستعباد وغصب الأموال وقتل النفوس المحترمة متلازمة ، كما هو واضح لمن لاحظ تاريخ السلاطين في الأدوار الماضية والحاضرة.

وإنّما طلب سليمان ما وراء ذلك ، فقد طلب من الله سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم والحكم وتشرّف بالنبوة والوحي ، ومن هذا حاله ، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات ، وانّما يكون في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل والخدمة للخلق.

ولأجل أنّ المتبادر من الملك ـ في أذهان العامة ـ هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عند ما يصف الله ب (الْمَلِكُ) يتابعه ب (الْقُدُّوسُ) مشيراً إلى أنّ ملكه وسلطته تفارق سائر السلطان ، فهو في عين كونه ملكاً للعالم ، قدوس منزّه من كل عيب وشين ، ومن كل تعدٍّ وظلم ، فهو : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) (٣).

نقل أهل السير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «لست بملك» مع أنّه كان حاكماً

__________________

(١). النمل : ٣٤.

(٢). الكهف : ٧٩.

(٣). الحشر : ٢٣.

١٨٣

إلهياً ، ورئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة ، ومراده هو إبعاد نفسه عمّا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ ، وأنّه ليس من أُولئك الزمرة ، بل حاكم إلهي يسعى لصالح الأُمّة حسب القوانين الإلهية.

وبالجملة : فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز المادية ، والسلطة التي تراقبها النبوّة ، ويكبح جماحها الخوف من الله ، والعشق لرضوانه ، والذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني ، وهو عمل إلهي وخدمة للدين وعمل مقرّب ، دون الأوّل.

ولأجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ «الملك» قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من الله سبحانه وقال : «أرأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلّا تخشعاً ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربِّه». (١)

وقد أوضحنا حقيقة السلطة الإسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب والسنّة ، وملامحها وأهدافها ، فلاحظ (٢).

ومن هنا يعلم جواب السؤال الرابع : وأنّه لما ذا قال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)؟ فإنّه لم يقل ذلك ضناً وبخلاً على الغير ، وإنّما قال ذلك ، لأنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل والشرع أن يمارسه غيره ، أو من هو نظيره في العلم والإيمان ، وذلك لأنّه سبحانه يبيّن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر ويقول : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ

__________________

(١). روح البيان : ٨ / ٣٩.

(٢). لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة : الفصل الأوّل : ١١ ـ ٧٢.

١٨٤

حِسابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (١) فالآيات بحكم «الفاء» في قوله (فَسَخَّرْنا لَهُ) تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم ، وهو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء ، وانّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح والجن والشياطين. ومثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس ، لأنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يؤدي إلى الطغيان وهدم الحدود وادّعاء الربوبية ، إلى غير ذلك من عظيم الفساد ، وإنّما تكون مقرونة بالصلاح والفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسئولية أمام الله أوّلاً ، وأمام العقل والوجدان ثانياً ، وأمام الخلق ثالثاً.

ولأجل ذلك يقول : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ويريد منه الإنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة ، وغير المتحلّي بالنبوة ، فإنّ هذا الملك ـ لما عرفت ـ لا ينبغي لأحد ، وإنّما ينبغي لسليمان ومن يكون بمنزلته من الصيانة والعصمة.

وإلى ما ذكرنا يشير المرتضى ويقول : إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ، ليتبين بها عن غيره ممّن ليس بنبي وقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين. (٢)

__________________

(١). ص : ٣٦ ـ ٤٠.

(٢). تنزيه الأنبياء : ١٠٠.

١٨٥

٨

عصمة أيوب عليه‌السلام ومسّ الشيطان له بعذاب

قد وصف سبحانه نبيه العظيم «أيوب» بأوصاف كبار وقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١) ، ومع ذلك كلّه فقد استدلت المخطّئة على عدم عصمته بظواهر بعض الآيات ، وهي لا تدل على ما يرتئون وإليك تلكم الآيات :

قال سبحانه : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ* وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣).

استدلت المخطّئة على تجويز صدور الذنب من الأنبياء بما ورد في هذه

__________________

(١). ص : ٤٤.

(٢). الأنبياء : ٨٣ ـ ٨٤.

(٣). ص : ٤١ ـ ٤٤.

١٨٦

الآيات ممّا يوهم ذلك ، أعني قوله :

١. (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ).

٢. (بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

وقد ظنوا أنّ مسّ الشيطان يستلزم صدور الذنب منه ، غافلين عن أنّ هذه الجملة عبارة أُخرى عمّا ورد في سورة الأنبياء بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

كما ظنوا أنّ العذاب عبارة عن العقوبة الإلهية غافلين عن أنّ العذاب عبارة عن كل ما شق على الإنسان ، وهو المراد من التعب ، والنصب ، والوجع ، والألم.

وبالجملة : لا دلالة للآية على صدور الذنب أبداً ، إنّما الكلام في بيان ما هي علّة ابتلاء أيوب بهذا الوجع والألم؟ يتضح هذا باستعراض الآيات وتفسير مفرداتها فنقول :

قال الراغب : «الضر» : سوء الحال ، إمّا في نفسه لقلة العلم والفضل والعفة ، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، وإمّا في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ، وقوله : (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) محتمل لثلاثتها.

غير أنّه يحتمل أن يكون الضر هنا بمعنى يساوق المرض ، وهو غير المعنى الثاني الذي أشار إليه الراغب ، ولأجل ذلك يقول العلّامة الطباطبائي : الضر خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما ، وذيل الآيات يؤيد هذا المعنى.

وأمّا «النصب» : فهو التعب ، وربّما يفتح كما قال الله سبحانه : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) (١) ، يقال أنصبني كذا أي أتعبني وأزعجني.

__________________

(١). فاطر : ٣٥.

١٨٧

وأمّا «الركض» : فهو الضرب بالرجل.

هذه هي اللغات الواردة في الآية ، فإذا عرفنا معانيها فلنرجع إلى تفسير الآية ، وستعرف أنّه لا يستشم منها صدور أيّ معصية من النبي أيوب مظهر الصبر والمقاومة.

* تفسير قوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)

أمّا ما ورد في سورة الأنبياء فلا يدل على أزيد من أنّه مسّه الضر وشملته البلية ، فابتهل إليه سبحانه قائلاً : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، وعندئذ شملته العناية الإلهية ، فكشف الله عنه ما به من ضر ، ومن المحتمل جداً أنّ المراد هو المرض وشفاه الله من ذلك المرض الذي ابتلي به سنين ، ولم يكتف بذلك بل وآتاه أهله بإحيائهم ، مضافاً إلى مثلهم ، كل ذلك رحمة من عنده ، ولم يكن ذلك العمل إلّا امتحاناً منه سبحانه لأيوب وغيره من العابدين ، حتى يتذكّروا ويعلموا أنّ الله تعالى يبتلي أولياءه ثمّ يؤتيهم أجرهم ، ولا يضيع أجر المحسنين ، وليس الامتحان إلّا لأجل تفتّح الكمالات المكنونة في ذات الممتحن ، ولا تظهر تلك الكمالات إلّا إذا وقع الإنسان في بوتقة الامتحان فتظهر حينئذ بواطنه من الكمالات والمواهب ، وقد أوضحنا ذلك في بعض مسطوراتنا ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال : «ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب». (١)

__________________

(١). نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم ٩٣.

١٨٨

* تفسير قوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ)

وأمّا الآيات الواردة في سورة «ص» فهي التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة من أنّه سبحانه ابتلى أيوب ببعض الأمراض المنفّرة مع أنّه ليست في الآية إشارة ولا تلويح إلى ذلك إلّا في بعض الأحاديث التي تشبه الإسرائيليات ، قال سبحانه في سورة «ص» : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) وقد عرفت معنى النصب ، وأمّا العذاب فلا يتجاوز معناه ما يؤذي الروح من سوء الحال فقوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) عبارة عمّا ذكره في سورة الأنبياء بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، فنسب نزول النصب والعذاب في هذه الآية إلى الشيطان ولكنّه سكت عن فاعله في سورة الأنبياء ، وعندئذ يجب إمعان النظر في معنى هذه الجملة فنقول : إنّه يحتمل أحد معنيين :

١. أن يكون ما مسّه من الضر والمرض مستنداً إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير مكان استناده إلى الأسباب العادية الطبيعية ، فكما أنّ الإنسان يصيبه التعب بواسطة العلل المادية ، يصيبه التعب بنحو من مس الشيطان ، كل ذلك بإذن منه سبحانه ، وهذا المعنى هو الذي يستفاد من الروايات ، وهو وإن لم يكن له مؤيد في ظاهر الآية غير أنّه ليس من الأُمور المستحيلة ، فإنّه إذا كان للعلل الطبيعية سلطان على الأنبياء في أمراضهم فلا مانع من أن تكون للشيطان سلطة في خصوص هذا المجال لا في إضلالهم والتصرّف في قلوبهم وعقيدتهم ، كل ذلك بإذن الله سبحانه خصوصاً إذا كان ذلك لأجل الامتحان.

نعم أنكر الزمخشري هذا السلطان قائلاً بأنّه لا يجوز أن يسلّط الله الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وأتعابهم وطره ، فلو قدر على ذلك لم يدع صالحاً

١٨٩

إلّا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلّا الوسوسة فحسب. (١)

أقول : إنّما يصح ما ذكره إذا كانت للشيطان مقدرة مطلقة وعامة على كل الصالحين والمؤمنين ، وعند ذلك لم يدع صالحاً إلّا وقد نكبه وأهلكه ، وهو غير القول بتسلّطه على مورد خاص ، وهو أيوب بإذن منه سبحانه ، ولا دليل على امتناع القضية الجزئية ، كيف؟ وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي قوله : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). (٢)

٢. أن يكون المراد من «مس الشيطان بالنصب والعذاب» هو وسوسة الشيطان إلى الناس عند ما اشتد مرض أيوب حيث حثّهم على أن يجتنبوه ويهجروه ، فكان التعيير من الناس والتكلّم منهم لكن بوسوسة من الشيطان ، ونفس هذا التعيير كان نصباً وعذاباً على أيوب ، فالمراد من النصب والعذاب هو التعيير المستند إلى وسوسة الشيطان ، وعلى كل تقدير فلا دلالة لكلمة العذاب بعد كلمة النصب على أنّه كان عقاباً منه سبحانه له ، يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله ابتلى أيوب بلا ذنب فصبر حتى عُيِّر ، وإنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير». (٣)

وأمّا الأحاديث الواردة حول قصة أيوب من أنّه أصابه الجذام حتى تساقطت أعضاؤه ، فيقول الإمام الباقر عليه‌السلام في حقها : «إنّ أيوب ابتلي من غير ذنب ، وإنّ الأنبياء لا يذنبون ، لأنّهم معصومون ، مطهرون ، لا يذنبون ولا يزيغون ،

__________________

(١). الكشاف : ٣ / ١٦.

(٢). الكهف : ٦٣.

(٣). بحار الأنوار : ١٢ / ٣٤٧ نقلاً عن أنوار التنزيل.

١٩٠

ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً».

وقال : «إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ، ولا قبحت له صورة ، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ، ولا استقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ، ولا تدوّد شيء من جسده ، وهكذا يصنع الله عزوجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ، وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره ، لجهلهم بما له عند ربِّه تعالى ذكره ، من التأييد والفرج ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل» وإنّما ابتلاه الله عزوجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له الربوبية ، إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين : استحقاق واختصاص ، ولئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه ، ولا فقيراً لفقره ، وليعلموا أنّه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء ، بأيِّ سبب شاء ، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشفاء لمن شاء وسعادة لمن شاء ، وهو عزوجل في جميع ذلك عدل في قضائه ، وحكيم في أفعاله ، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم ، ولا قوة لهم إلّا به». (١)

وهذه الرواية ـ الصادرة من بيت الوحي والنبوة ـ تعرب عن عقيدة الأئمّة في حق الأنبياء عامة ، وفي حق النبي أيوب خاصة ، وانّ الأنبياء لا يبتلون بالأمراض المنفّرة ، لأنّها لا تجتمع مع هدف البعثة ، وأنّ ابتلاء أيوب كان لأهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.

قال السيد المرتضى : أفتصححون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟

__________________

(١). الخصال : ٢ / ٤٠٠ ، ط الغفاري.

١٩١

قلنا : أمّا العلل المستقذرة التي تنفّر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام ، فلا يجوز شيء منها على الأنبياء ، لما تقدم ذكره. (١)

وقال العلّامة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدم عن الإمام الباقر عليه‌السلام : هذا الخبر أوفق بأُصول متكلمي الإمامية من كونهم منزّهين عمّا يوجب تنفّر الطباع عنهم ، فتكون الأخبار الأُخر محمولة على محامل أُخر. (٢)

إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتائج في مورد هذه الروايات المرتبطة بقصة أيوب :

١. انّ الألفاظ الواردة في الآية من قوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) لا دلالة لها على صدور الذنب.

٢. انّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفّرة يخالفها العقل ، وتردّها النصوص المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١). تنزيه الأنبياء : ٦٤.

(٢). البحار : ١٢ / ٣٤٩.

١٩٢

٩

عصمة يونس عليه‌السلام وذهابه مغضباً

إنّ المخطّئة لعصمة الأنبياء استدلوا على مقصودهم بما ورد حول قصة يونس من الآيات ، ونحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال ، ثمّ نستوضح مقاصدها.

فنقول : قد وردت قصته على نحو التفصيل والإجمال في سور أربع : يونس ، الأنبياء ، الصافّات ، والقلم ، وإليك الآيات :

١. (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

٢. (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢).

٣. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

٤. (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ

__________________

(١). يونس : ٩٨.

(٢). الأنبياء : ٨٧.

(٣). الأنبياء : ٨٨.

١٩٣

فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

٥. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢).

هذه هي الآيات الواردة حول قصة يونس ، وبالإحاطة بها يتمكّن المفسّر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها ، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.

أمّا ما جاء من الروايات حول القصة ، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها ، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلاً عن النبي ، ولأجله تركنا ذكرها.

والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام ، وعرف منهم الامتناع ، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه ، فأخبرهم بنزول العذاب ، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى الله لعلّه يرحمكم ، ويردّ العذاب عنكم ، فقالوا : كيف نصنع؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين الإبل وأولادها ... ثمّ ابكوا وادعوا ، فذهبوا وفعلوا ذلك ، وضجّوا وبكوا ، فرحمهم‌الله ، وصرف عنهم العذاب. (٣)

فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقف على البحث عن عدّة أُمور :

__________________

(١). الصافات : ١٣٩ ـ ١٤٨.

(٢). القلم : ٤٨ ـ ٥٠.

(٣). بحار الأنوار : ١٤ / ٣٨٠ من الطبعة الجديدة رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادق عليه‌السلام.

١٩٤

* ١. لما ذا كشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم؟

صريح قوله سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم ، وذلك لأنّ «لو لا» التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي ، كما في قولك : هلا قرأت القرآن ، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) انّه لم يكن ذلك أبداً ، فاستقام الاستثناء بقوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ، والمعنى هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها ، لكن لم يكن شيء من ذلك إلّا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.

ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس ولكن لم ينفع إيمان فرعون ، وعندئذ يُطرح هنا السؤال التالي : ما الفرق بين الإيمانين؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه ، يقول سبحانه : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٢).

__________________

(١). يونس : ٩٨.

(٢). يونس : ٩٠ ـ ٩٢.

١٩٥

الجواب : الفرق بين الإيمانين ، أحدث هذا الفرق ، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار ، ولأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب ، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية ، بل كان وليد رؤية العذاب وهجوم الأمواج ، لا أقول : إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جدياً وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي ، بل : الكل كان حقيقياً ، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار ، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف ، وبعبارة أُخرى : ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي.

والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ، ويقول سبحانه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعد ما نجا ممّا ابتلي به ، أرسل إلى نفس قومه ، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجل في علم الله.

وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل ، بعد كشفه ، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٢).

__________________

(١). الصافات : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢). الأعراف : ١٣٣ ـ ١٣٥.

١٩٦

وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب ، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم ، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين ، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.

والأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل ، ويشاهد الإنسان عبوديته بعين القلب وعظمة الرب ونور الإيمان ، فيصير خاضعاً أمام الله ، يعبده ولا يعبد غيره.

والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والإلجاء ، فيؤمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه ، ولا يعد ذلك الإيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف ، قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١).

ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء وإرسال الرسل ، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم ، وإلّا لم تتخلف عن مراده وأصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار ، ولكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار والناشئ عن الإلجاء والاضطرار ، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم ، وإليه يشير قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً).

* ٢. هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس؟

قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عز من قائل : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢).

__________________

(١). يونس : ٩٩.

(٢). غافر : ٥١.

١٩٧

فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم ، فلا بد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم ، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه ، حيث تنبّأ وقال : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ، فلمّا بلغ الأجل المحدد (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (١) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالة على صدق مقال النبي وإخباره ، وانّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح ، قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢).

وقال عز من قائل : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣).

هذه سنة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.

وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل ، فقد تنبّأ بنزول العذاب ، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه (٤) ، فبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله حسب إرشاد عالمهم ، فكشف عنهم العذاب ، وليس في هذا تكذيب ليونس ، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ لله سبحانه سنناً في الحياة ، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة ، والعفو عنه لإنابته أيضاً سنّة ، ولكل موضع خاص ، وهذا

__________________

(١). هود : ٦٥ ، ٦٧ ـ ٦٨.

(٢). الأعراف : ٩٦.

(٣). الأنفال : ٥٣.

(٤). لاحظ تفسير الطبري : ١١ / ١١٧ ـ ١١٨ ؛ الدر المنثور : ٣ / ٣١٧ ـ ٣١٨ ؛ البحار : ١٤ / ٣٩٦ من الطبعة الحديثة.

١٩٨

معنى البداء الذي تقول به الإمامية ، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب ، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبناه الإمامية في هذا المضمار ، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة «البداء من الكتاب والسنّة». (١) ومن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

* ٣. أسئلة ثلاثة حول عصمته

ألف. ما معنى كونه مغاضباً؟ ومن المغضوب عليه؟

ب. ما ذا يراد من قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)؟

ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصة يونس عليه‌السلام ، وقد تمسّك بها المخطّئة ، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد :

أمّا الأوّل : فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربِّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

ولكنّه تفسير بالرأي ، بل افتراء على الأنبياء ، وسوء ظن بهم ، ولا يغاضب ربّه إلّا من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله ، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.

وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم ، فخرج من بينهم. (٢)

__________________

(١). مطبوعة منتشرة.

(٢). تنزيه الأنبياء : ١٠٢.

١٩٩

هكذا فسّره الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال : «ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه». (١)

وأمّا الثاني : أعني : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فالفعل ، أعني : (نقدر) ، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة ، قال سبحانه : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٢) ، وقال سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٣) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه ، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله ، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله ، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك.

وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه ، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.

وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه ـ كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه ـ ابتلاه الله بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً ، فندم على عمله (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ).

ونقل الزمخشري في كشّافه : عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلّا بك ، قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية وقال : أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟

__________________

(١). بحار الأنوار : ١٤ / ٣٨٧.

(٢). الطلاق : ٧.

(٣). الإسراء : ٣٠.

٢٠٠