عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

وحاصله : أنّه قد استولت عليّ الغفلة حين الاقتراف ، وغاب عني ما يترتب عليه من رد فعل ومر العاقبة ، ففعلت ما فعلت.

ومن اللحن الواضح تفسير الضلالة بضد الهداية ، كيف وانّ الله سبحانه يصفه قبل أن يقترف القتل بقوله : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١) ، كما أنّ نفس موسى بعد ما طلب المغفرة واستشعر إجابة دعائه قال : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (٢) ، أفيصح بعد هذا تفسير الضلالة بالغواية ضد الهداية؟! كلا ولا.

هذا كلّه حول المستمسك الأوّل ، أعني : قتل القبطي ، فهلم معي ندرس المستمسك الثاني للخصم من اتهام كليم الله الأعظم ، عليه وعلى جميع رسل الله آلاف الثناء والتحية ، بعدم العصمة.

* ب. مشاجرته أخاه هارون عليه‌السلام

إنّ الله سبحانه واعد موسى ـ بعد أن أغرق فرعون ـ بأن يأتي جانب الطور الأيمن فيوفيه التوراة التي فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاج إليه ، وكانت المواعدة على أن يوافي الميعاد مع جماعة من وجوه قومه ، فتعجّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربّه وسبقهم على أن يلحقوا به ، ولمّا خاطبه سبحانه بقوله : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) أجابه بأنّهم (عَلى أَثَرِي) وورائي يدركونني عن قريب ، وعند ذلك أخبره سبحانه بأنّه امتحن قومه بعد فراقه (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) ، فرجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل حزيناً مغضباً ، فرأى أنّ السامري

__________________

(١). القصص : ١٤.

(٢). القصص : ١٧.

١٦١

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً) جسداً له صوت ، وقال : إنّه إله بني إسرائيل عامة ، وتبعه السفلة والعوام ، واستقبل موسى هارون فألقى الألواح وأخذ يعاتب هارون ويناقشه ، وهذا ما يحكيه سبحانه في سورتين ويقول : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). (١)

ويقول سبحانه : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) ... (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٢). فهاهنا يطرح سؤالان :

١. لما ذا ألقى الألواح؟

٢. لما ذا ناقش أخاه وقد قام بوظيفته؟

وإليك تحليل السؤالين بعد بيان مقدمة وهي :

إنّ موسى قد خلف هارون عند ما ذهب إلى الميقات ، وقد حكاه سبحانه بقوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٣). وقام هارون بوظيفته في قومه ، فعند ما أضلّهم السامري ناظرهم بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٤) واكتفى في ذلك بالبيان واللوم ولم يقم في وجههم بالضرب والتأديب وقد بيّنه

__________________

(١). الأعراف : ١٥٠.

(٢). طه : ٨٦ ، ٩٢ ـ ٩٤.

(٣). الأعراف : ١٤٢.

(٤). طه : ٩٠.

١٦٢

لأخيه بقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).

هذا ما يخص هارون ، وأمّا ما يرجع إلى موسى ، فقد أخبره سبحانه عن إضلال السامري قومه بقوله : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (١) ، ورجع إلى قومه غضبان أسفاً وخاطبهم بقوله : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) وقال أيضاً : (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ). وفي هذا الظرف العصيب أظهر كليم الله غضبه بإنجاز عملين :

١. إلقاء الألواح جانباً.

٢. مناقشته أخاه بقوله : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ، فعند ذلك يطرح السؤالان نفسهما :

لما ذا ألقى الألواح أوّلاً؟ ولما ذا ناقش أخاه وناظره وقد قام بوظيفته ثانياً؟ فنقول :

لا شك أنّ ما اقترفه بنو إسرائيل من عبادة العجل كان من أقبح الأعمال وأفظعها ، كيف؟! وقد أهلك الله عدوهم وأورثهم أرضهم ، فكان المترقب منهم هو الثبات على طريق التوحيد ومكافحة ألوان الشرك ـ ومع الأسف ـ فإنّهم كفروا بعظيم النعمة ، وتركوا عبادته سبحانه ، وانخرطوا في سلك الثنوية مع الجهل بقبح عملهم وفظاعة فعلهم.

إنّ أُمّة الكليم وإن كانت غافلة عن مدى قبح عملهم ، لكن سيدهم ورسولهم كان واقفاً على خطورة الموقف وتعدّي الأُمّة ، فاستشعر بأنّه لو لم يكافحهم بالعنف والشدة ولم يقم في وجههم بالاستنكار مع إبراز التأسف

__________________

(١). طه : ٨٥.

١٦٣

والغضب ، فربّما تمادى القوم في غيّهم وضلالهم وحسبوا أنّهم لم يقترفوا إلّا ذنباً خفيفاً أو مخالفة صغيرة ولم يعلموا أنّهم حتى ولو رجعوا إلى الطريق المهيع ، واتّبعوا جادة التوحيد ربّما بقيت رواسب الشرك في أغوار أذهانهم ، فلأجل إيقافهم على فظاعة العمل ، قام في مجال الإصلاح مثل المدير الذي يواجه الفساد فجأة في مديريته ولا يعلم من أين تسرب إليها.

فأوّل ما يبادر إليه هو مواجهة القائم مقامه الذي خلفه في مكانه ، وأدلى إليه مفاتيح الأُمور ، فإذا ثبتت براءته ونزاهته وأنّه قام بوظيفته خير قيام حسب تشخيصه ومدى طاقته ، تركه حتى يقف على جذور الأمر والأسباب الواقعية التي أدت إلى الفساد والانهيار.

وهكذا قام الكليم بمعالجة القضية ، وعالج الواقعة المدهشة التي لو بقيت على حالها ، لانتهت إلى تسرب الشرك إلى عامة بني إسرائيل وذهب جهده طوال السنين سدى ، فأوّل رد فعل أبداه ، أنّه واجه أخاه القائم مقامه في غيبته ، بالشدة والعنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف ، فأخذ بلحيته ورأسه مهيمناً عليه متسائلاً بأنّه لما ذا تسرب الشرك إلى قومه مع كونه فيهم؟! ولمّا تبيّنت براءته وأنّه أدّى وظيفته كما يحكيه عنه سبحانه بقوله : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) اندفع إليه بعطف وحنان ودعا له فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). انّ طلب المغفرة (١) لنفسه وأخيه لا يدل على صدور أي خلاف منهما ، فإنّ الأنبياء والأولياء لاستشعارهم بخطورة الموقف وعظمة المسئولية ، ما زالوا يطلبون غفران الله ورحمته لعلو درجاتهم كما هو واضح لمن تتبع أحوالهم ، وسيوافيك بيانه عند البحث عن عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١). الأعراف : ١٥١.

١٦٤

وبعد ما تبيّن انّ السبب الواقعي لتسرب الشرك إلى قومه هو السامري وتبعه السفلة والعوام ، أخذ بتنبيههم بقوارع الخطاب وعواصف الكلام بما هو مذكور في سورتي الأعراف وطه نكتفي ببعضها حيث خاطب عبدة العجل بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١).

ولمّا واجه السامري خاطبه بقوله : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ* قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً* إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢).

وبما ذكرنا يعلم أنّه لما ذا ألقى الألواح وتركها جانباً؟ فلم يكن ذاك العمل إلّا كرد فعل على عملهم القبيح وفعلهم الفظيع إلى حد استولى الغضب على موسى فألقى الألواح التي ظل أربعين يوماً في الميقات لتلقّيها حتى يحاسب القوم حسابهم ويقفوا على أنّهم أتوا بأعظم الجرائم وأكبر المعاصي.

__________________

(١). الأعراف : ١٥٢.

(٢). طه : ٩٥ ـ ٩٨.

١٦٥

٦

عصمة داود عليه‌السلام وقضاؤه في النعجة

قد وصف سبحانه داود النبي عليه‌السلام بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية ، قال سبحانه : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

وقد ذكر ملكه وسلطنته على الجبال والطيور على وجه يمثل أقوى طاقة نالها البشر طيلة استخلافه على الأرض.

قال سبحانه : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ* وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (١).

فقد أخبر في الآية الأخيرة بأنّه أُوتي الحكمة وفصل الخطاب ، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه وجزئياته.

ثمّ انّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في «نبأ الخصم» ويقول :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ

__________________

(١). ص : ١٨ ـ ٢٠.

١٦٦

نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ* يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (١).

لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) حيث إنّ الاستغفار وغفرانه سبحانه له ، آية صدور الذنب.

والإجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية وإيضاح القصة فنقول :

إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدة أُمور :

١. توضيح مفرداتها.

٢. إيضاح القصة.

٣. هل الخصمان كانا من جنس البشر؟

٤. لما ذا استغفر داود ، وهل كان استغفاره للذنب أو لأجل ترك الأولى؟

وإليك بيان هذه الأُمور :

* ١. توضيح المفردات

«الخصم» : مصدر «الخصومة» ، أُريد به الشخصان.

__________________

(١). ص : ٢١ ـ ٢٦.

١٦٧

«التسوّر» : الارتقاء إلى أعلى السور ، وهو ما كان حائطاً ، «كالتسنم» بمعنى الارتقاء إلى أسنام البعير ، و «التذري» بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبال ، والمراد من المحراب في الآية الغرفة.

«الفزع» : انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف ، وهو من جنس الجزع.

«الشطط» : الجور.

«النعجة» : الأُنثى من الضأن.

والمراد من قوله : «اكفلنيها» : اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي ، ومن قوله «عزني في الخطاب» : انّه غلبني فيه.

هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.

* ٢. إيضاح القصة

كان داود عليه‌السلام جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه ، وكانا أخوين يملك أحدهما تسعاً وتسعين نعجة ويملك الآخر نعجة واحدة ، وطلب الأوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده ، مدعياً كونه محقاً فيما يقترحه على أخيه ، وقد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجه هيّج رحمة النبي داود وعطفه.

فقضى عليه‌السلام طبقاً لكلام المدعي من دون الاستماع إلى كلام المدعى عليه ، وقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ).

ولما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته ، وانّ رفع الشكوى إليه كان فتنة وامتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).

١٦٨

* ٣. هل الخصمان كانا من جنس البشر؟

إنّ القرائن الحافة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر ، وهذه القرائن عبارة عن :

١. تسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس ولا أقل بمن يطلعه على الأمر ، فلو كان الدخول بإذنهم كان داود عليه‌السلام مطّلعاً عليه ولم يكن هناك أيّ فزع.

٢. خطاب الخصمين لداود عليه‌السلام بقولهم : (لا تَخَفْ) مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي ، وطبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعية.

٣. انّ خطابهما لداود بما جاء في الآية ، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم له عليه‌السلام ، يقول سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (١) ، ويقول سبحانه : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢).

٤. تنبهه عليه‌السلام بأنّه كان فتنة من الله له وامتحاناً منه ، وهي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية ، وهذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.

٥. انّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته وحكمه بين الناس حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته ولا يغفل عن التثبت

__________________

(١). الحجر : ٥١ ـ ٥٣.

(٢). الذاريات : ٢٨.

١٦٩

ولأجل ذلك خاطبه سبحانه بعد قضائه في ذلك المورد بقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) كل ذلك يؤيد كون الخصمين من الملائكة تمثّلوا له بصورة رجلين من الإنس.

نعم كانت القصة وطرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا بصورة الرؤيا وما أشبهها.

* ٤. كون الاستغفار لأجل ترك الأولى

استدلت المخطّئة باستغفاره وإنابته إلى الله ، على صدور ذنب منه ولكنّه لا يدل على ذلك :

أمّا أوّلاً : انّ قضاءه لم يكن قضاء باتاً خاتماً للشكوى ، بل كان قضاء على فرض السؤال ، وإنّ من يملك تسعاً وتسعين نعجة ولا يقتنع بها ويريد ضم نعجة أخيه إليها ، ظالم لأخيه ، وكان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً وإن كان الأولى والأليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين ، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ولا يتسرع في القضاء ولو بالنحو التقديري.

وإنّما بادر إليه لأنّه عليه‌السلام فوجئ بالقضية ودخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبت اللائق به.

ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع ، كان فتنة وامتحاناً من الله بالنسبة إليه «استغفر (رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه ، أوّلاً ، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة ، ثانياً.

وثانياً : انّ من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدّعى عليه ، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق وانّ الحق مع المدّعي ، فقضى بلا استماع

١٧٠

لكلام المدّعى عليه ، نعم الأولى له حتى في هذه الصورة ترك التسرع في إصدار الحكم ، والقضاء بعد الاستماع ، ولمّا ترك ما هو الأولى بحاله استغفر لذلك ، وقد تكرر منا أنّ ترك الأولى من الأنبياء ذنب نسبي وإن لم يكن ذنباً على وجه الإطلاق.

وثالثاً : لما كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة ، ولم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف ، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك ، كما أنّ خطيئة آدم عليه‌السلام كانت في الجنة ولم تكن الجنّة دار تكليف ، ومع ذلك كلّه لمّا كان التسرع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه ، استغفر داود وأناب إلى الله استشعاراً بخطر المسئولية بحيث يعد ترك الأولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.

نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية لا يشك ذو مسكة من العقل أنّها إسرائيليات تسربت إلى الأُمّة الإسلامية عن طريق أحبار اليهود ورهبان المسيحية ، فالأولى الضرب عنها صفحاً ، وسياق الآيات يكشف عن أنّ زلته لم تكن إلّا في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الأحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره ، ولأجله يقول الإمام علي عليه‌السلام في حق من وضع هذه الترهات أو نسبها إلى النبي داود عليه‌السلام : «لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة «أُوريا» إلّا جلدته حدّين : حدّاً للنبوة وحدّاً للإسلام». (١)

__________________

(١). مجمع البيان : ٤ / ٤٧٢. ط. المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران.

١٧١

٧

عصمة سليمان عليه‌السلام

ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك

إنّ سليمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد الأنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها ، وآتاه الله الحكم والحلم والعلم ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) (١) ، وقال عز من قائل : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٢) ، وعلّمه منطق الطير قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (٣) ، ووصف الله قدرته بقوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه وعلو درجاته.

روى أصحاب السير : كان سليمان صلى الصلاة الأُولى ، وقعد على كرسيه والخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس. فقال : «آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي ، وأنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر» فأمر برد الخيل فأخذ يضرب سوقها وأعناقها ، لأنّها كانت سبب فوت صلاته. (٥)

__________________

(١). النمل : ١٥.

(٢). الأنبياء : ٧٩.

(٣). النمل : ١٦.

(٤). النمل : ١٧.

(٥). تفسير الطبري : ٢٣ / ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ الدر المنثور : ٥ / ٣٠٩.

١٧٢

وفي بعض التفاسير أنّ المراد من «ردّوها» هو طلب رد الشمس عليه ، فردّت فصلّى العصر. (١)

ويدّعي بعض هؤلاء أنّ ما ساقوه من القصة تدل عليه الآيات التالية ، أعني قوله سبحانه : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ* رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٢).

فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمرٍ آخر خفي على هؤلاء ، وأنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب ، كما سيوافيك بيانه؟

ونقد هذه القصة المزعومة يتوقف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارئ على أنّها من قبيل التفسير بالرأي ، الممنوع ، ومن تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن وهو بريء منها.

أقول :

١. (الصَّافِناتُ) : جمع «الصافنة» ، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم ، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض حتى يكون على طرف الحافر.

٢. (الْجِيادُ) : جمع «الجواد» ، وهي السراع من الخيل ، كأنّها تجود بالركض.

٣. (الْخَيْرِ) : ضد «الشر» ، وقد يطلق على المال كما في قوله سبحانه : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (٣) ، والمراد منه هنا هي «الخيل» ، والعرب تسمّي الخيل خيراً ، وسمّى

__________________

(١). مجمع البيان ناسباً إلى «القيل» : ٤ / ٤٧٥.

(٢). ص : ٣٠ ـ ٣٣.

(٣). البقرة : ١٨٠.

١٧٣

النبيُّ زيد الخيل ب «زيد الخير» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» وكيف لا يكون خيراً ، وهو لم يزل يعد وسيلة الحياة في عامة الحضارات.

٤. «الحب» : ضد البغض ، قال في اللسان : أحببته وحببته بمعنى واحد.

٥. (حُبَّ الْخَيْرِ) : بدل عن المفعول المحذوف ، وتقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير ، ويريد أنّ حبي للخيل نفس الحب للخير ، لأنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ، خصوصاً عند الجهاد مع العدو والهجوم عليه ، ويحتمل أن يكون (حُبَّ الْخَيْرِ) مفعولاً لا بدلاً عن المفعول.

٦. (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) : بيان لمنشإ حبّه للخير وسببه ، وأنّ حبه له ناش عن ذكر ربّه.

وتقدير الجملة : أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر الله سبحانه وأمره ، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل ، ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل ، كل ذلك امتثالاً لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١).

__________________

(١). آل عمران : ١٤.

١٧٤

ويجد نظير تلك الدعوة في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (١).

٧. فاعل الفعل في قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي الصافنات الجياد والمقصود : إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.

٨. انّ الضمير في قوله : (رُدُّوها) يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد ، والمقصود أنّه أمر بردّها عليه بعد ما غابت عن بصره.

٩. وعند ذلك يطرح السؤال ، وهو : أنّه لما ذا أمر بالرد ، وما كان الهدف منه؟ فبيّنه بقوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركابها ومربيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.

إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها ، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته.

وحاصله : انّ سليمان النبي (الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن وتعرّفه على منطق الطير ، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصصها به بين الأنبياء) قام في عشية يوم بعرض عسكري ، وقد ركب جنوده من الخيل السراع ، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره ، فأمر أصحابه بردّها عليه ، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها.

__________________

(١). الأنفال : ٦٠.

١٧٥

ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة ، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم ، ويستعدوا للكفاح والنضال ما تمكنوا ، ويهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال. (١)

وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً ، فهلم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات ، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.

* نقد التفسير المفروض على القرآن

إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات ، وإليك بيانها :

١. انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه ، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى الله في أُمور دينه ودنياه ، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة المفروضة عليه؟!

ولو فرضت صحة الواقعة ، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر ، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.

٢. انّما يصح حمل قوله : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل (أَحْبَبْتُ) معنى الترجيح والاختيار ، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه ، وهو يحتاج إلى

__________________

(١). وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء : ٩٥ ـ ٩٧ ، والرازي في مفاتيح الغيب : ٧ / ١٣٦ ، والمجلسي في البحار : ١٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤ من الطبعة الحديثة.

١٧٦

الدليل.

٣. ولو قلنا بالتضمين ، فيجب أن يقال مكان (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) «على ذكر ربي» ، أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر الله ، كما في قوله سبحانه : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (١) ، وقوله تعالى : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) (٢).

٤. انّ ضمير الفعل في قوله تعالى : (تَوارَتْ) يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية ، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس ، وليست مذكورة في الآية ، ودلالة لفظ (بِالْعَشِيِّ) عليها ضعيفة جداً.

٥. الضمير في قوله : (رُدُّوها) ـ على المختار ـ يرجع إلى الصافنات ، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس ، وهي غير مذكورة.

٦. انّ الخطاب في قوله : (رُدُّوها) على المختار متوجه إلى رؤساء الجنود وهو واقع موقعه ، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم (٣) يكون متوجهاً إلى الملائكة ، وهو لا يناسب ، إلّا كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه ، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.

٧. لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه ، لغايات مقدّسة لإثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من الله سبحانه لهداية عباده ، وتدلّ عليها آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن (٤). ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى

__________________

(١). فصلت : ١٧.

(٢). التوبة : ٢٣.

(٣). نسبه الطبرسي إلى «القيل» كما مرَّ.

(٤). لاحظ الجزء الأول : ٤٤٤ ـ ٤٤٦.

١٧٧

الإعجاز والتصرّف في الكون بالأمر برد الشمس ، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها ، ولو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها ، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون وأمر ملائكة الله بردّها حتى يأتي بالصلاة المسنونة.

٨. لو كان المراد من (رُدُّوها) طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه ، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول : حتى أتوضّأ وأُصلي ، وليس لهذا ذكر في الآية ، بل المذكور قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق والأعناق ، لا التوضّؤ والصلاة.

٩. انّ تفسير المسح بالقطع ، تفسير بلا دليل ، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها ، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالأنسب أن يقول : فطفق ضرباً بالسوق ، لا مسحاً.

١٠. انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الأحبار ، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والأخبار بنزعاته اليهودية ، ومن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.

١١. انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) بمسحها بالماء كناية عن الوضوء. وهو في ضعفه كما ترى ، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض ، فلما ذا بدل الغسل بالمسح ، والساقين بالسوق والعنق بالأعناق ، مع أنّه لم يكن لسليمان إلّا ساقان وعنق واحد؟

١٢. إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان «بالخير» بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً ، وحاشا سليمان الذي آتاه الله الحكم والعلم وسلّطه على الأرض من الإنس

١٧٨

والجن والسماء ، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلّا المجانين منهم ، ولا العاديّون من السوقة ، فضلاً عن أنبياء الله وأوليائه المنزّهين.

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره «سيد قطب» في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال :

أمّا قصة الخيل : انّ سليمان عليه‌السلام استعرض خيلاً له بالعشي ، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب ، فقال : ردّوها عليّ ، فردّوها عليه ، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.

وفي رواية : روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها ، لأنّها كانت خيلاً في سبيل الله.

ثمّ قال : وكلتا الروايتين لا دليل عليها ، ويصعب الجزم بشيء منها. (١)

والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الأُولى تضاد حكم العقل ، وسيرة الأنبياء والعلماء ، لذلك يسهل الجزم ببطلانها ، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق ، وهو المروي عن حبر الأُمّة ابن عباس.

وقد نقل الرواية الأُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الأخذ عن الأحبار المستسلمين ، فنقلها الطبري في تفسيره ، عن السدي وقتادة ، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه ، وقال : إنّ نبي الله لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها. (٢)

__________________

(١). في ظلال القرآن الكريم : ٢٣ / ١٠٠.

(٢). تفسير الطبري : ٣ / ١٠٠.

١٧٩

ولا يقصر عنه ما نقله السيوطي في «الدر المنثور» من الأساطير حول هذه الخيول ، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال : كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة ، فعقرها ؛ وفي الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح : ظل سليمان يمسح أعراف الخيل وعراقيبها. (١)

هذا حال التفسير المفروض على الآية ، وهناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به.

* الفتنة التي امتحن بها سليمان

قال سبحانه : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٢).

وتوضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الأُمور التالية :

١. ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان؟

٢. ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة؟

٣. لما ذا يطلب لنفسه الملك؟

٤. لما ذا يطلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟

أمّا السؤال الأوّل : فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها.

وأمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها

__________________

(١). الدر المنثور : ٥ / ٣٠٩.

(٢). ص : ٣٤ ـ ٣٥.

١٨٠