عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

هذا هو معنى الهم ، وتؤيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم ، ولو استعمل في مورد في خطور الشيء بالبال ، وإن لم يقع العزم عليه ، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.

أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد ، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والإرادة ، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال ، لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة ، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر ، لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربِّه ، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود ، ورأى البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس ، كما سيوافيك ، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع

ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم

ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال ، ولولاه لحمل على نفس العزم.

كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون : همّ بكذا وكذا ، أي كاد يفعله ، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والإرادة.

* ٢. ما هو جواب لو لا؟

لا شك أنّ «لو لا» في قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ابتدائية. فلا تدخل إلّا على المبتدأ مثل «لوما» قال ابن مالك.

لو لا ولو ما يلزمان الابتداء

إذ امتناعاً بوجود عقدا

١٤١

ومما لا شك فيه أنّ «لو لا» الابتدائية تحتاج إلى جواب ، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل :

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لو لا رجاؤك قد قتلت أولادي

وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة : «لو لا علي لهلك عمر».

وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق ، كقوله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١) ، أي ولو لا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم ، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله : «قد كنت هلكت لو لا أن تداركتك» ، وقوله : «وقتلت لو لا أنّي قد خلصتك» ، والمعنى لو لا تداركي لهلكت ، ولو لا تخليصي لقُتلت ، ومثل لو لا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر :

فلا يدعني قومي صريعاً لحرة

لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر

وقال الآخر :

فلا يدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم أعجل طعنة أو أعجل

فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدمة.

وبالجملة : لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة ، وجواب «لو لا» خاصة ، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه والمقام من

__________________

(١). النور : ١٠.

١٤٢

قبيل الثاني ، فقوله سبحانه : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) يؤوّل إلى جملتين : إحداهما مطلقة ، والأُخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ، وهو يدل على تحقّق «الهم» من عزيزة مصر بلا تردد.

أمّا المقيدة فهي قوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وتقديره : «لو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها» فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربّه ، وأمّا الجملة المتقدمة على «لو لا» أعني قوله (وَهَمَّ بِها) فلا تدل على تحقق الهم ، لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها ، حتى تدل على تحقق الهمّ ، وانّما هي قائمة مكان الجواب ، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله ، وسيوافيك تفصيله عن قريب.

* ٣. ما هو البرهان؟

البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين ، قال سبحانه : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) (١) ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) ، وقال سبحانه : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) ، فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب ، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف عليه‌السلام؟

والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،

__________________

(١). القصص : ٣٢.

(٢). النساء : ١٧٤.

(٣). النمل : ٦٤.

١٤٣

وانقياد لا تصاحبه مخالفة ، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب ، وانكشافاً لا يقهر ، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.

ويمكن أن يكون المراد منه سائر الأُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها. (١)

* ٤. دلالة الآية على عصمة يوسف عليه‌السلام

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف عليه‌السلام قبل أن تدلّ على خلافها.

توضيحه : انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة على وجه الإطلاق وقال : «و (هَمَّتْ بِهِ) ، وبيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة «لو لا» الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت : إنّ كلًّا من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لو لا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله : (وَهَمَّ بِها) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة «لو لا».

قلت : إنّ جواب «لو لا» محذوف وتقديره «لهمّ بها» وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال : انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق ، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة ، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب ، لأنّه إذا كان الجواب مقيداً

__________________

(١). راجع ص ٢١ ـ ٢٥ من هذا الكتاب.

١٤٤

فالجملة القائمة مكانه تكون مثله ، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١) ، والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.

وقال سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) (٢) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.

والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.

وحاصل الكلام : أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه ، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء ، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط ، وفي مورد الآية ، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية ، وغيرها من قوى النفس الأمارة ، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء ، ولكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه ، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.

وإن شئت قلت : منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها موضع قدم ، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.

وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها.

وعلى ذلك فبما انّ «اللام» في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) للقسم يكون معنى

__________________

(١). الإسراء : ٧٤.

(٢). النساء : ١١٣.

١٤٥

قوله : (وَهَمَّ بِها) بحكم عطفه عليه والمعنى : والله لقد همت امرأة العزيز به وو الله لو لا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها ، ولكنّه لأجل رؤية البرهان واعتصامه ، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء ، فإذا به عليه‌السلام لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً ، لأجل تلك الرؤية.

* أسئلة وأجوبة

ولأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدة من الأسئلة التي تثار حول الآية ، وإليك بيانها وأجوبتها :

* السؤال الأوّل

انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية ، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعني قوله : (هَيْتَ لَكَ).

والجواب : انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة ، ولأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها ، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه ، فإذا أفاد ذلك ثمّ أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.

١٤٦

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال : إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له ، فإذاً لا يصح أن يقال : إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه. (١)

أقول : قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده ، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة «عن مقاربة الفعل المتردّد فيه» ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) (٢) ، أي إخراج الرسول من مكة ، فهم كانوا جازمين بذلك ، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ ، كما لا يصح في قوله سبحانه : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (٣) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

* السؤال الثاني

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) (٤) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء ، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

والجواب : انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي ،

__________________

(١). تفسير المنار : ١٢ / ٢٨٦.

(٢). التوبة : ١٣.

(٣). التوبة : ٧٤.

(٤). القصص : ٣٢.

١٤٧

وقد سبق منا أنّ العصمة (١) لا تسلب القدرة ، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.

* السؤال الثالث

إنّ قوله سبحانه : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ظاهر في أنّ (السُّوءَ) غير (الْفَحْشاءَ) فلو فسر قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.

والجواب : انّ المراد من (السُّوءَ) هو الهم والعزم ، والمراد من (الْفَحْشاءَ) هو نفس العمل ، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقتراف ـ كلا الأمرين.

قال العلّامة الطباطبائي : الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها ، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا ، ثمّ قال : ومن لطيف الإشارة ما في قوله : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما ، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك ، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين ، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء ، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون الله سبحانه.

ثمّ قال : وقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) في مقام التعليل لقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك ، لأنّه من عبادنا المخلصين ، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم

__________________

(١). راجع الجزء الرابع من مفاهيم القرآن : ٤٠١ ـ ٤٠٥.

١٤٨

وإنّ الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه ، وهذه هي العصمة الإلهية. (١)

* السؤال الرابع

لو كان المراد من (بُرْهانَ رَبِّهِ) هو العصمة ، فلما ذا قال سبحانه : (رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول : إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسية والرؤية بالأبصار ، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي والرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢) ، وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (٣) ، وقوله سبحانه : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي والاستشعار الباطني.

وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري ، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر ، كان المتوقع بحكم كونه بشراً ، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الإتيان بالمعصية ، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية ، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم

__________________

(١). الميزان : ١١ / ١٤٢.

(٢). النجم : ١١.

(٣). فاطر : ٨.

(٤). الأعراف : ١٤٩.

١٤٩

وعزم على المخالطة.

وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية ، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب «المنار» وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه ، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي :

* المعنى الثاني للآية

انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (١) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك ، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلّا أن يدافع عن نفسه غير انّه رأى انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّهام يوسف وبهته ، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها ، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.

وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عند ما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله ، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه ، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز ، فإنّها عند ما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف ، دفعها الشعور بالهزيمة والإخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)

__________________

(١). التوبة : ٧٤.

١٥٠

على الإطلاق وبلا تقييد.

ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلّا أن يدافع عن نفسه ، ولكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه ، اعتصم عن ضربها والهمّ بها ، وهذا معنى قوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير ، واختاره صاحب المنار ، وسعى في تقويته بقوله : تالله لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنعها وهبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها وسلطانها وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان. (١)

ثمّ إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر (بُرْهانَ رَبِّهِ) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة الله سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الأبواب وأحكمت سدها ، وعند ما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف ، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة الله سبحانه ، وهذا هو برهان الرب الذي رآه ، ويدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الأبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر ، وهذا يدل على أنّ المراد من (بُرْهانَ رَبِّهِ) هو فتح الباب من عند الله سبحانه في وجه يوسف كرامة له.

ولا يخفى ضعف هذا التفسير ، وذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو

__________________

(١). تفسير المنار : ١٢ / ٢٧٨.

١٥١

انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) لا في الآية المتقدمة عليه ويظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ...) (١).

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) (٢).

ترى أنّه يذكر همّه بها ورؤية البرهان في آية ثمّ يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها «إنه كان من المخلصين» ، فلو كان المراد من «رؤية البرهان» هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.

على أنّ الظاهر من قوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر ، وإنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.

* المعنى الثالث للآية

انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه ، وربّما يستعمل الهم في ذلك ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع

ومن فاعل للخير انّ همّ أو عزم

ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل ، لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلّا العزم ، والتفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.

وعلى كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل

__________________

(١). يوسف : ٢٤.

(٢). يوسف : ٢٥.

١٥٢

الأمر إلى آخره وإنّه لم يتحقّق منه عزم ولا همّ بالمخالطة لا أنّه همّ وعزم وانصرف لعلة خاصة.

ثمّ إنّ هناك لأكثر المفسرين أقوالاً في تفسير الآية أشبه بقصص القصّاصين ، وقد أضربنا عن ذكرها صفحاً ، فمن أراد فليرجع إلى التفاسير.

وفي مختتم البحث نأتي بشهادة العزيزة بنزاهة يوسف عند ما حصحص الحق وبانت الحقيقة وقد نقلها سبحانه بقوله : (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (١) وشهدت في موضع آخر على طهارته واعتصام نفسه وقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (٢).

__________________

(١). يوسف : ٥١.

(٢). يوسف : ٣٢.

١٥٣

٥

عصمة موسى عليه‌السلام وقتل القبطي ومشاجرته أخاه

إنّ الكليم موسى بن عمران أحد الأنبياء العظام ، وصفه سبحانه بأتم الأوصاف وأكملها ، قال عزّ من قائل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا* وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا). (١)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

ووصف كتابه بقوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) (٣).

ومع ذلك كلّه : فقد استدل المخالف بعدم عصمته بأمرين :

أحدهما : قتله القبطي وتوصيفه بأنّه من عمل الشيطان.

ثانيهما : مشاجرته أخاه مع عدم كونه مقصّراً ، وإليك البحث عن كل واحد منهما.

__________________

(١). مريم : ٥١ ـ ٥٣.

(٢). الأنبياء : ٤٨.

(٣). الأحقاف : ١٢.

١٥٤

* ألف : عصمة موسى عليه‌السلام وقتل القبطي

قال عزّ من قائل : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١).

ويذكر القرآن تلك القصة في سورة الشعراء بصورة موجزة ويقول سبحانه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢).

وتدلّ الآيات على أنّ موسى عليه‌السلام ورد المدينة عند ما كان أهلها غافلين عنه ، إمّا لأنّه ورد نصف النهار والناس قائلون ، أو ورد في أوائل الليل ، وإمّا لغير ذلك ، فوجد فيها رجلين كان أحدهما إسرائيلياً والآخر قبطياً يقتتلان ، فاستنصره الذي من شيعته على الآخر ، فنصره ، فضربه بجمع كفه في صدره فقتله ، وبعد ما فرغ من أمره ندم ووصف عمله بما يلي :

١. (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ).

٢. (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي).

٣. (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ).

٤. (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

__________________

(١). القصص : ١٤ ـ ١٧.

(٢). الشعراء : ١٨ ـ ٢٠.

١٥٥

وهذه الجمل الأربع تعرب عن كون القتل أمراً غير مشروع ، ولأجل ذلك وصفه تارة بأنّه من عمل الشيطان ، وأُخرى بأنّه كان ظالماً لنفسه ، واعترف عند فرعون بأنّه فعل ما فعل وكان عند ذاك من الضالّين ثالثاً ، وطلب المغفرة رابعاً.

أقول : قبل توضيح هذه النقاط الأربع نلفت نظر القارئ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الأعمال الإجرامية ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١) ، ولم يكن فرعون قائماً بهذه الأعمال إلّا بعماله القبطيين الذين كانوا أعضاده وأنصاره ، وفي ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالاً ونساءً ، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢) ولمّا قال فرعون لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) (٣) واستعلى عليه بأنّه ربّاه وليداً منذ أن ولد إلى أن كبر ... أجابه موسى بأنّه هل تمن علي بهذا وقد عبدت بني إسرائيل؟

وعلى ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الأثيمة التي ذبحت مئات بل آلاف الأطفال من بني إسرائيل واستحيوا نساءهم ، لا يعد في محكمة العقل والوجدان عملاً قبيحاً غير صحيح ، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الإسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله : (يَقْتَتِلانِ) ، ولو قتله القبطي لم يكن لفعله أيّ رد فعل ، لأنّه كان منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين ، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الإنسان الشريف أحد عبيده لأجل تخلّفه عن أمره.

إذا وقفت على ذلك ، فلنرجع إلى توضيح الجمل التي توهم المستدل بها

__________________

(١). القصص : ٤.

(٢). الشعراء : ٢٢.

(٣). الشعراء : ١٨.

١٥٦

دلالتها على عدم العصمة فنقول :

١. انّ قوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون لفظ «هذا» إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطي والإسرائيلي وانتهت إلى قتل الأوّل ، وعلى هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شيء ممّا يتوخاه المستدل ... وقد رواه ابن الجهم عن الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما سأله المأمون عن قوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فقال : الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله. (١)

الثاني : انّ لفظ «هذا» إشارة إلى قتله القبطي ، وإنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان ، لوجهين :

ألف : انّ العمل كان عملاً خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة ، فاضطر إلى ترك الدار والوطن بعد ما انتشر سره ووقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة ، وائتمروا عليه ليقتلوه ، ولو لا أنّ مؤمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال ، لأخذته الجلاوزة وقضوا على حياته ، كما قال سبحانه : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢) ، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار وإلقاء الرحل في دار الغربة «مدين» ، والاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيب عليه‌السلام.

فكما أنّ المعاصي تنسب إلى الشيطان ، قال سبحانه : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣) ،

__________________

(١). البرهان : ٣ / ٢٢٤ ؛ عيون أخبار الرضا : ١ / ١٩٩.

(٢). القصص : ٢٠.

(٣). المائدة : ٩٠.

١٥٧

فكذلك الأعمال الخاطئة الناجمة من سوء التدبير وضلال السعي ، السائقة للإنسان إلى العواقب المرة ، تنسب إليه أيضاً.

فالمعاصي والأعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للإنسان ، والعدو لا يرضى بصلاحه وفلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل والعاجل ، ولأجل ذلك قال بعد ما قضى عليه : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).

ب. انّ قتل القبطي كان عملاً ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو ، ولو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلاً لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة ، كما قال سبحانه : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (١).

٢. وبذلك يعلم مفاد الجملة الثانية التي هي من إحدى مستمسكات المستدل أعني قوله : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) ، فإنّ الكلام ليس مساوقاً للمعصية ومخالفة المولى ، بل هو كما صرح به أئمة اللغة وقدمنا نصوصهم عند البحث عن عصمة آدم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، وقد عرفت أنّ عمل موسى كان عملاً واقعاً في غير موقعه ، وخاطئاً من جهتين : من جهة أنّه ساقه إلى عاقبة مرة ، حيث اضطر إلى ترك الأهل والدار والديار ، ومن جهة أُخرى أنّه كان عملاً ناشئاً من الاستعجال في إهلاك العدو بلا موجب ، ولأجل تينك الجهتين كان عملاً واقعاً في غير محله ، فصح أن يوصف العمل بالظلم ، والعامل بالظالم ، والذي يعرب عن ذلك إنّه جعله ظلماً لنفسه لا للمولى ، ولو كان معصية لكان ظلماً لمولاه وتعدياً على حقوقه ، كما هو الحال في الشرك فإنّه ظلم للمولى وتعدّ

__________________

(١). القصص : ٤٠.

١٥٨

عليه ، قال سبحانه : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١).

٣. وأمّا الجملة الثالثة ، أعني قوله : (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، فليس طلب المغفرة دليلاً على صدور المعصية ، لأنّه بمعنى الستر ، والمراد منه إلغاء تبعة فعله وإنجاؤه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملئه ، وقد عبر عنه سبحانه : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٢) ، وقد نجّاه سبحانه بإخبار رجل من آل فرعون عن المؤامرة عليه ، فخرج من مصر خائفاً يترقّب إلى أن وصل أرض مدين ، فنزل دار شعيب ، وقص عليه القصص ، وقال له شعيب : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣).

وبذلك غفر وستر عمله ونجاه سبحانه من أعين الفراعنة ، ومكّن له الورود إلى ماء مدين والنزول في دار أحد أنبيائه عليهم‌السلام.

أضف إلى ذلك : أنّ قتل القبطي وإن لم يكن معصية ولكن كان المترقب من موسى تركه وعدم اقترافه ، فصدور مثله من موسى يناسب طلب المغفرة ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين ، إذ ربّ عمل مباح لا يؤاخذ به الإنسان العادي ولكنّه يؤاخذ به الإنسان العارف ، فضلاً عن شخصية إلهية سوف تبعث لمناضلة طاغية العصر ، فكان المناسب لساحتها هو الصبر والاستقامة في حوادث الحياة ، حلوها ومرّها ، والفصل بين المتخاصمين بكلام ليّن ، وقد أمر به عند ما بعث إلى فرعون فأمره سبحانه أن يقول له قولاً ليناً (٤) ، وقد أوضحنا مفاد هذه الكلمة عند

__________________

(١). لقمان : ١٣.

(٢). طه : ٤٠.

(٣). القصص : ٢٥.

(٤). طه : ٤٤.

١٥٩

البحث عن آدم وحواء إذ : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

٤. وأمّا قوله سبحانه : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، فالمراد من الضلال هو الغفلة عمّا يترتب على العمل من العاقبة الوخيمة ، ونسيانها ، وليس ذلك أمراً غريباً ، فقد استعمل في هذين المعنيين في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (٢) ، فالمراد نسيان أحد الشاهدين وغفلته عما شهد به ، وقال سبحانه : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣) ، أي إذا غبنا فيها.

قال في لسان العرب : الضلال : النسيان وفي التنزيل : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي يغيب عن حفظها ، ومنه قوله تعالى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) وضللت الشيء : أنسيته. وأصل الضلال : الغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب ، ومنه قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٤).

وعلى الجملة : إنّ كليم الله يعترف بتلك الجملة عند ما اعترض عليه فرعون بقوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ويعتذر عنها بقوله : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، والمناسب لمقام الاعتذار هو تفسير الضلال بالغفلة عمّا يترتب على العمل من النتائج ونسيانها.

__________________

(١). الأعراف : ٢٣.

(٢). البقرة : ٢٨٢.

(٣). السجدة : ١٠.

(٤). لسان العرب : ١١ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، مادة «ضل».

١٦٠