عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

سبحانه : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء ، فلأجل ذلك خوطب ونهي عن التكرار.

فنقول : إنّ الله عزوجل قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة «أهله» من هو مستوجب للعذاب ، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين ، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين ، وليس داخلاً في المستثنى منهم ، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه. (١)

وعلى هذا يكون المراد من قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية ، وإلّا فالسؤال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.

وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الأنبياء ، وهو : أنّه لما وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه ، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه مؤمن ، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه ، فلذلك (نادى رَبَّهُ).

وأمّا قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه ، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول ، وكان السؤال صحيحاً ورصيناً ، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره ، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين ، والغرض من ذلك تقديم

__________________

(١). الكشاف : ٢ / ١٠١.

١٢١

ما يبقيه عليه‌السلام على سمة العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع الذنب وصدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل ، ولذلك امتثل عليه‌السلام نهي ربِّه وقال : (أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (١).

* جواب ثالث للوجه الثاني

هذا وللعلّامة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال : إنّ قول نوح : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه ، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله ، فشملته العناية الإلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بتفريع النهي على ما تقدّم ، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك ، لكونه عملاً غير صالح ، فلا سبيل لك إلى العلم به ، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته ، لأنّه سؤال ما ليس لك به علم ، والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق السؤال منه لا مستقلاً ولا ضمناً ، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً ، وانّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم ، وكلّما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإنسان نبههم الله لوجه الصواب ، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية ، قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٢).

وممّا يدل على أنّ النهي في قوله (فَلا تَسْئَلْنِ) نهي عمّا لم يقع بعد ، قول

__________________

(١). الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي : ٢ / ١٠١ على هامش الكشاف.

(٢). الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥.

١٢٢

نوح عليه‌السلام بعد استماع خطابه سبحانه : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ).

ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول : أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك ، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) تعليلاً لنهيه (فَلا تَسْئَلْنِ) ، فلو كان نوح عليه‌السلام سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين ، لأنّه سأل ما ليس له به علم.

وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله ، كما ورد نظيره في القرآن الكريم : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ... (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) (١). (٢)

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني ، واتضح أنّه لم يسبق منه عليه‌السلام سؤال غير لائق بساحته ، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث : تفسير قوله تعالى : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي).

وحاصله : أنّ طلب الغفران في قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) لا يجتمع مع العصمة.

أقول : إنّ هذا كلام ، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب ، أمّا أنّ صورته صورة التوبة ، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى الله تعالى بالاستعاذة ، ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته ، أي ستره على الإنسان ما فيه زلته ،

__________________

(١). النور : ١٥ ـ ١٧.

(٢). الميزان : ١٠ / ٢٤٥.

١٢٣

وشمول عنايته لحاله ، والمغفرة بمعنى طلب الستر أعم من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرعة ، وكل ستر إلهي يسعد الإنسان ويجمع شمله.

وأمّا كون حقيقته الشكر ، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين ، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه ، ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلّات ، لخسرت ، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل. (١)

وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء والأنبياء ، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم ـ تكميلاً لعصمتهم ـ طلب الغفران والرحمة ، حتى لا يكونوا من الخاسرين ، وليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية ، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة ، كما أوضحناه في قصة آدم.

نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل ، وهو السؤال عمّا لا يعلم ، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه وبين صدوره.

إلى هنا تبيّن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.

ثمّ إنّ لبعض المفسرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة ، فمن أراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى مظانها. (٢)

__________________

(١). الميزان : ١٠ / ٢٣٨.

(٢). لاحظ تنزيه الأنبياء : ١٨ ـ ١٩ ؛ مجمع البيان : ٣ / ١٦٧ ؛ بحار الأنوار : ١١ / ٢١٣ ـ ٣١٤ إلى غير ذلك.

١٢٤

٣

عصمة إبراهيم الخليل عليه‌السلام والمسائل الثلاث (١)

إنّ الله سبحانه أثنى على إبراهيم عليه‌السلام بطل التوحيد بأجمل الثناء ، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد ، وكرر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه ، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً وقال : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢). وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (٣). وقال سبحانه : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤).

ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيم عليه‌السلام نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّن حالها.

__________________

(١). أ. قوله للنجم : (هذا رَبِّي). ب. قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ). ج. قوله لقومه : (إِنِّي سَقِيمٌ).

(٢). البقرة : ١٣٠.

(٣). الحج : ٧٨.

(٤). الأنعام : ١٦١.

١٢٥

* الآية الأُولى

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١).

قالت المخطّئة : إنّ قوله : (هذا رَبِّي) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه عليه‌السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية ، وهذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية ، وإن زعمت العدلية أنّه عليه‌السلام تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً ، فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء ، لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به ، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.

والجواب : انّ الاستدلال ضعيف ، لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين :

الأُولى : انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم ، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة ، لأنّه ـ كما قيل ـ كان صبياً لم يبلغ الحلم ، وصار بصدد التحقيق والتحري ، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد ، ثمّ شرع في إبطال كل واحد منها ، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي والمدبّر الحقيقي.

وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها ، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات ، ثمّ يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية ، وعلى هذا يكون معنى

__________________

(١). الأنعام : ٧٥ ـ ٧٨.

١٢٦

قوله : (هذا رَبِّي) مجرّد فرض لا إذعان قطعي ، وليس مثل هذا غيرَ لائق بشأن الأنبياء.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى ـ جواباً عن السؤال ـ : إنّه لم يقل ذلك مخبراً ، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.

ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شيء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة ، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد. (١)

وقد روي هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث سئل عن قول إبراهيم : (هذا رَبِّي) أأشرك في قوله : (هذا رَبِّي)؟ فقال عليه‌السلام : «لا ، بل من قال هذا ، اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك». (٢)

وفي رواية أُخرى عن أحدهما (الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ) : «انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً ، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته». (٣)

غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية ، لأنّ الأنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم ، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً ، خالقاً وربّاً ، ولو كان هناك إراءة من الله لخليله كما في قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.

__________________

(١). تنزيه الأنبياء : ٢٢.

(٢ و ٣). نور الثقلين : ١ / ٦١٠ ـ ٦١١ ، الحديث ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥١.

١٢٧

الثانية : انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره ، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الأجرام ، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم ، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر ، بما يطرأ عليها من الأُفول والغيبة والتحوّل والحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر ، ومثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم ، منحرفة عن جادة الصواب ، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية ، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد؟!

وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب ، وانّما قال ذلك على أحد وجهين :

الأوّل : انّه ربّي عندكم ، وعلى مذاهبكم ، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.

الثاني : انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها. (١)

والوجه الأوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.

* الآية الثانية

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ... وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ... قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا

__________________

(١). تنزيه الأنبياء : ٢٣.

١٢٨

فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

فزعمت المخطّئة أنّ قوله عليه‌السلام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) كذب لا شك فيه ، لأنّه هو الذي كسر الأصنام وجعلها جذاذاً إلّا كبيرها ، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها؟

ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً ، مثل الشبهة السابقة ، لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره ، بالإرادة الجدية ، وانّما ذكره لغاية أُخرى ، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً ، والقرينة في الكلام أمران :

الأوّل : قوله عليه‌السلام عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (٢) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته ، لا بصورة المشافهة والمصارحة ، وذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للأصنام ، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الأصنام جذاذاً ، أساءوا الظن به ، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٣).

الثاني : انّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها وكبيرها

__________________

(١). الأنبياء : ٥١ ـ ٦٧.

(٢). الأنبياء : ٥٧.

(٣). الأنبياء : ٦٠.

١٢٩

لا تقدر على الحركة والفعل ، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم ، بل وبين جميع العقلاء ، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد ، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.

ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص : إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها ، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي : أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم ، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة ، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.

فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد ، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن ، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.

وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي ، وطلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم ، وأنّه مَن فعل هذا بهم؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية ، أعني قولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) حتى يتسنّى للخليل عليه‌السلام كبتهم وتوبيخهم ـ بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون ـ بقوله عليه‌السلام : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١) ، وفي موضع آخر يقول : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) ، فتبين من ذلك أنّ قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى يوصف بالكذب ، بل

__________________

(١). الأنبياء : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢). الصافات : ٩٥ ـ ٩٦.

١٣٠

كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم وشركهم ، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبي عليه‌السلام لأجزنا لأنفسنا أن نقول : إنّ الغاية ، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الأصنام والأوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.

ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة ، لم يجد القوم جواباً له إلّا الحكم عليه بالتعذيب والإحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم ، كما يقول سبحانه : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (١) ، وفي آية أُخرى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٢) ، هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم ، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.

* جواب آخر عن السؤال

وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً ، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فكأنّه قال : فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة ، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، وكان الشرط ـ أعني نطقها ـ منتفياً كان المشروط ـ أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل ـ منتفياً أيضاً.

وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية ، لأنّها تشتمل على فعلين :

أحدهما قريب من الشرط ، والآخر بعيد عنه ، ومقتضى القاعدة رجوع

__________________

(١). الصافات : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢). الأنبياء : ٦٨.

١٣١

الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد ، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً ، وإليك توضيحه :

١. بل فعله كبيرهم : الفعل البعيد من الشرط.

٢. فاسألوهم : الفعل القريب من الشرط.

٣. ان كانوا ينطقون : هذا هو الشرط.

فرجوعه إلى الأوّل وحده ، أو كليهما ، خلاف الظاهر ، والمتعين رجوعه إلى الثاني ، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

* الآية الثالثة

استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة ، أعني قوله سبحانه : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ* أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ* فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (١).

فاستدلوا بقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً ، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.

أضف إلى ذلك انّ قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية ، الأحداث الأرضية.

والجواب : انّ الإشكال مبني على أنّه عليه‌السلام قال : (إِنِّي سَقِيمٌ) ولم يكن سقيماً ، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت ، وأمّا

__________________

(١). الصافات : ٨٣ ـ ٩١.

١٣٢

قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكراً حتى يلاحظ حاله وانّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا ، والعرب تقول لمن تفكر : «نظر في النجوم» بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكراً في جواب سؤال القوم ، كما يفعل أحدنا عند ما يريد أن يفكر في شيء.

ويؤيد ذلك أنّه عليه‌السلام قاله عند ما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم ، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم ، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لأجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى ، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الأوضاع الفلكية ، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة ، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلّا التفكر والتأمل.

نعم لو كانت الدعوة في الليل لأجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل ، ولكنه غير ثابت.

نعم هناك معنى آخر لقوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ، وهو أنّه عليه‌السلام كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه ، فلأجل ذلك نظر في النجوم ، ووقف على أنّها قريبة الموعد ، والعرب تسمّي المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون لمن أضعفه المرض ، وخيف عليه الموت «هو ميت» وقال تعالى لنبيّه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١).

وأمّا استعمال كلمة «في» مكان «إلى» في قوله : (فِي النُّجُومِ) ، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض ، قال الله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

__________________

(١). الزمر : ٣٠.

١٣٣

النَّخْلِ) (١) وإنّما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر :

وافتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

* جواب آخر عن الشبهة

وربّما يجاب عن الإشكال : انّه من قبيل المعاريض في الكلام ، والمعاريض : عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده ، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحِّد في صنعه تعالى ، الذي يستدل به على خالقه وصفاته ، ولكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجِّم فيها ليستدل بها على الحوادث ، فقال : (إِنِّي سَقِيمٌ). (٢)

ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك ، وهو بعد غير ثابت ، على أنّ المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله في سارة : «هي أختي». (٣)

وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الأُوليين ، وأمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة ، فهل يمكن بعد هذا ، الاعتماد على الرواية؟!

والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية ، وقال : ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلّا ، وانّما أُطلق الكذب على هذا

__________________

(١). طه : ٧١.

(٢). تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٤ / ١٣.

(٣). تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٤ / ١٣.

١٣٤

تجوزاً ، وانّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «انّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب».

ونحن لا (١) نعلّق على الحديث ولا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً وانّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارئ الكريم ، وكفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة ، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.

والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية ، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لأشخاص معينين.

هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد ، وقد عرفت مفادها ، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه ، ربّما وقعت ذريعة لهؤلاء المخطّئة ، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها ، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في «تنزيهه» فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب ، لتخطئته وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدِّيق عصره ونزيه دهره سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.

__________________

(١). تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٤ / ١٣.

١٣٥

٤

عصمة يوسف عليه‌السلام وقول الله (... وَهَمَّ بِها)

يوسف الصدِّيق هو الأُسوة

إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات ، لأجلى دليل على أنّه الإنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال ، كيف؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه ، وعلّمه من تأويل الأحاديث ، وأتمّ نعمته عليه ، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص ، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب ، وصيانته من المعاصي ، وتفانيه في مرضاة الله ، كيف؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً ، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات ، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلّا من عصمه الله سبحانه ، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه ، وتجلّت به حقيقته ، وبان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه ، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

كيف؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلّا أمراً خارقاً للعادة ، ولو لا عصمته لما كانت النجاة ممكنة ، بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة.

١٣٦

وفي هذا الصدد يقول العلّامة الطباطبائي :

فقد كان يوسف رجلاً ، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء ، وكان شاباً ، بالغاً أشده ، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق ، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب ، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنيء العيش ، محبوراً بمثوى كريم ، وذلك من أقوى أسباب التهوّس ، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء ، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب ، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه ، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف ، وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان وقد تعرّضت له ، ودعته إلى نفسها ، والصبر مع التعرّض أصعب ، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال ، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه ، والصبر معه أصعب وأشق ، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها ، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة ، وقد غلّقت الأبواب وأرخت الستور ، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع ، وكان في أمن من ظهور الأمر وانتهاك الستر ، لأنّها كانت عزيزة ، بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل ، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته ، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها ، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلّا الخوف من ظهور الأمر ، أو

١٣٧

مناعة نسب يوسف ، أو قبح الخيانة للعزيز ، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه ، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها ، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً ، فلم يؤاخذها بشيء ، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً ، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف ، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد ، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي ، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية ، والقوانين الاجتماعية إنّما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة ، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية ، أو فسقت فأهملت ، أو خفي الجرم عن نظرها ، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه ، إلّا أصل التوحيد وهو الإيمان بالله.

وإن شئت قلت : المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع إصبع. (١)

__________________

(١). الميزان : ١١ / ١٣٧ ـ ١٣٩.

١٣٨

هذا هو واقع الأمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل ، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومن هو في بيتها ، قال سبحانه : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (١).

ومحل الاستدلال : قوله (وَهَمَّ بِها) أي همّ بالمخالطة ، وانّ همّه بها كان كهمّها به ، ولو لا أنّ رأى برهان ربّه لفعل ، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهمّ بها ـ رؤية البرهان.

وبعبارة أُخرى : انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ـ وَهَمَّ بِها) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء ، وكأنّه قال : ولقد همّت به : أي بلا شرط وقيد.

وهمّ بها : أي جزماً وحتماً.

ثمّ بعد ذلك ـ أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين ـ استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت ، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربِّه ، ولأجل ذلك قال :

(لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي ولو لا الرؤية لاقترف وفعل وارتكب ، لكنّه رأى فلم يقترف ولم يرتكب ، فجواب لو لا محذوف وتقديره «لاقترف».

ثمّ إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا

__________________

(١). يوسف : ٢٣ ـ ٢٤.

١٣٩

يصح أن تنقل ، وانّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ على اطلاع عليها : قالوا : جلس يوسف منها مجلس الخائن ، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة ، ثمّ إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي ؛ فقالوا : إنّ طائراً وقع على كتفه ، فقال في أُذنه : لا تفعل ، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء ؛ وقيل : إنّه رأى يعقوب عاضاً على إصبعه ، وقال : يا يوسف أما تراني؟ إلى غير ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :

١. ما هو معنى «الهم» في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها).

٢. ما هو جواب (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

٣. ما هو معنى البرهان؟

٤. دلالة الآية على عصمة يوسف ، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

* ١. ما معنى الهم؟

لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله : همّ بالشيء يهم همّاً : نواه وأراده وعزم عليه ، قال سبحانه : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (١).

روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العودة من تبوك ، ولأجل ذلك وقفوا على طريقه ، فلمّا قربوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بتنحيتهم ، وسمّاهم رجلاً رجلاً. (٢)

__________________

(١). التوبة : ٧٤.

(٢). مجمع البيان : ٣ / ٥١ وغيره.

١٤٠