عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

عصمة الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١٧

سبحانه : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) (١) ، وعندئذ يتساءل : انّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان ، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد الله المخلصين إذ قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٢) ، وقال سبحانه حاكياً قول إبليس : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣)؟

والجواب عن ذلك : انّ المراد من (الْمُخْلَصِينَ) هم الذين اجتباهم الله سبحانه من بين خلقه ، قال تعالى مشيراً إلى ثلة من الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) (٤) ، وقال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥).

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم الله سبحانه بنوع من الاجتباء ، لم يكن آدم عليه‌السلام يوم خالف النهي من المجتبين ، وانّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٦) وعلى ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين ، وانّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة وليس له طريق إليهم.

__________________

(١). طه : ١٢٠.

(٢). الحجر : ٤٢.

(٣). ص : ٨٢ ـ ٨٣.

(٤). مريم : ٥٨.

(٥). الأنعام : ٨٧.

(٦). طه : ١٢١ ـ ١٢٢.

١٠١

أضف إلى ذلك : أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم والسلطان عليهم بنحو يؤثر فيهم ، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية ، ويؤيد كون الوسوسة بصورة النفوذ ، الإتيان بلفظة «في» في قوله سبحانه : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، وأمّا (١) وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ والتسلّط بشهادة تعديته بلفظة «لهما» أو «إليه». (٢) وهذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين ، وأنَّ إحداهما على نحو الدخول والولوج في الصدور ، والأُخرى بنحو القرب والمشارفة.

* ٣. ما ذا يراد من قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ)

وأمّا قوله سبحانه : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (٣) وقوله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) (٤) ، فلا يدلّان على كون العمل الصادر منهما عصياناً بالمعنى المصطلح ، وأمّا التعبير الوارد في الآية فهو لأجل أنّ عمل آدم لم يكن مقروناً بالمصلحة ، بل كان مقروناً بالشقاء والبعد عن الحياة السعيدة ، فكل من افتقد هذه البركات والمصالح يصدق عليه أنّه «زلَّ» أو «انّ الشيطان أنزلهما عن مكانتهما بغرور».

وبالجملة : انّ هذه التعابير تجتمع مع كون النهي إرشادياً غير مولوي ، أو نهياً مولوياً تنزيهياً كما هو المقرر في الجوابين الأوّلين.

* ٤. ما معنى قوله : (وَعَصى) و (فَغَوى)

ربّما يتمسك المخالف بهذين اللفظين ، حيث قال سبحانه : (وَعَصى آدَمُ

__________________

(١). الناس : ٥.

(٢). الأعراف : ٢٠ ؛ طه : ١٢٠.

(٣). البقرة : ٣٦.

(٤). الأعراف : ٢٢.

١٠٢

رَبَّهُ فَغَوى) لكن لا دلالة لهما على ما يرتئيه المستدل.

أمّا لفظة (عَصى) فهي وإن كانت مستعملة في مصطلح المتشرعة في الذنب والمخالفة للإرادة القطعية الملزمة ، ولكنه اصطلاح مختص بالمتشرعة ولم يجر القرآن على ذلك المصطلح ، بل ولا اللغة ، فإنّ الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة ، قال ابن منظور : العصيان خلاف الطاعة ، عصى العبد ربّه : إذا خالف ربّه ، وعصى فلان أميره ، يعصيه ، عصياً وعصياناً ومعصية : إذا لم يطعه. وعلى ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف ، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً ، وإذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح ، ولأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثبات الذنب على آدم عليه‌السلام.

وأمّا اللفظة الثانية : أعني (فَغَوى) فالجواب عنها : انّ الغي يستعمل بمعنى الخيبة ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

أي ومن حرم من الخير ولم يلقه ، لا يحمده الناس ويلومونه.

وفي حديث موسى وآدم : (أغويت الناس) أي خيّبتهم ، كما أنّه يستعمل في معنى الفساد ، وبه فسر قوله سبحانه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي فسد عليه عيشه كما سيأتي. (١)

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم وخسرانه وحرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ والعرى ، بل من المنغصات

__________________

(١). لاحظ لسان العرب : ١٥ / ١٤٠.

١٠٣

والمشقات ، وليس كل خيبة تتوجه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح ، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه هو الفساد ، وبذلك فسر ابن منظور المصري في لسانه قوله سبحانه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي فسد عليه عيشه (١) ، ولا شك أنّ العيش في الجنّة لا يقاس بالعيش في عالم المادة الذي هو دار الفساد والانحلال.

ولو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد ، لكن ليس كل ضلال معصية ، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى : أي ضل ، ولكنه لا يلازم المعصية.

وكان سيدنا الأُستاذ العلّامة الطباطبائي ـ رضوان الله عليه ـ يقول في مجلس بحثه : إنّ لفظة «غوى» تعني الحالة التي تعرض للغنم عند ما تنفصل عن القطيع فتبقى حائرة تنظر يميناً وشمالاً ولا تشق طريقاً لنفسها ، وكان آدم أبو البشر حائراً بعد ما خالف نهي ربِّه وابتلي بما ابتلي به لا يدري كيف يعالج مشكلته ، وكيف يتخلّص من هذا المأزق الحرج؟!

وبالجملة : فالغي إن أُريد منه الخروج عن جادّة التوحيد ، والانحراف عمّا رسم للإنسان من الواجبات والمحرمات ، فهو يلازم الكفر تارة والذنب أُخرى ، ولكن ليس كل ضلال ـ على فرض كون الغي بمعنى الضلال ـ ملازماً للجرم والذنب ، فمن ضل عن الطريق وتاه عن مقاصده الدنيوية أو المصالح التي يجب أن ينالها ، يصدق عليه أنّه «غوى» مقابل أنّه «رشد» ولكنه لا يلازم المعصية المصطلحة.

ولا شك أنّ آدم بعد ما أكل من الشجرة بدت له سوأته وخرج من الجنة وهبط إلى دار الفساد ، فعندئذ غوى في طريقه وضل عن مصلحته.

__________________

(١). لاحظ لسان العرب : ١٥ / ١٤٠ ، مادة «غوى».

١٠٤

وبالجملة : فهذه الوجوه الثلاثة المذكورة حول «غوى» تثبت وهن الاستدلال بها على العصيان.

* ٥. ما معنى قول آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)

إنّ الظلم ليس إلّا بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أمثال العرب قولهم «من أشبه أباه فما ظلم». قال الأصمعي : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وفي المثل «من استرعى الذئب فقد ظلم» ولأجل ذلك يُعد العدول عن الطريق ظلماً ، يقال : «لزموا الطريق فلم يظلموه» أي لم يعدلوا عنه. (١)

فإذا كان معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وتجاوز الحد ، لا يلزم أن يكون كل ظلم ذنباً بل يشمله وغيره ، فمن لم يسمع قول الناصح المشفق وعمل بخلاف قوله فقد وضع عمله في غير موضعه ، كما انّ من خالف النهي التنزيهي فقد عدل عن الطريق الصحيح.

وبالجملة : فكل مخالفة وانحراف عن طريق الصواب ظلم. سواء أكان الأمر المخالف مولوياً أم إرشادياً ، إلزامياً أم غيره.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يعد الظلم للنفس مقابلاً لعمل السوء ، ويقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

والآية تُعرب عن أنَّ الظلم للنفس ربّما يكون غير عمل السوء ، وعند ذلك يتضح أنّ قول آدم : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) لا يستلزم الاعتراف بالذنب ، لأنّ الظلم

__________________

(١). لسان العرب : مادة «ظلم».

(٢). النساء : ١١٠.

١٠٥

للنفس غير عمل السوء ، فالأوّل موجب لحط النفس عن مكانتها ولا يستلزم تجاوزاً عن حدود الله ، بخلاف عمل السوء فإنّه تجاوز على حدوده ، وبذلك يعلم أنّ المراد من قوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) هو الظلم للنفس المستلزم لحط النفس عن مكانتها ، في مقابل عمل السوء المستلزم للتجاوز على حدوده سبحانه.

* ٦. ما المراد من قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ)؟

(التوبة) بمعنى الرجوع ، فإذا نسبت إلى الله تتعدى بكلمة «على» قال سبحانه : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) (٢) ، أي رجع عليهم بالرحمة.

وإذا نسبت إلى العبد تتعدى بكلمة «إلى» قال سبحانه : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣). وقال سبحانه : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

فإذا كانت التوبة بمعنى الرجوع ، فعند ما تعدت ب «على» يكون معنى قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥) انّ الله رجع عليه بالرحمة ، فالتوبة في هذه الجملة توبة من الله على العبد لا من العبد إلى الله ، ومعنى الأوّل هو رجوعه سبحانه على العبد باللطف والمرحمة.

__________________

(١). البقرة : ٣٥.

(٢). التوبة : ١١٧.

(٣). البقرة : ٥٤.

(٤). المائدة : ٧٤.

(٥). البقرة : ٣٧.

١٠٦

ومثله قوله سبحانه : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١) فالتوبة هنا من الله على عبده ، ومعنى الآية أنّه سبحانه اصطفى آدم لأجل تلقّيه الكلمات وسؤاله بها ، فعندئذ رجع الله عليه بالرحمة وهداه سبحانه وأخرجه من الغواية التي غشيته ، والظلمة التي اكتنفته ، لأجل عدم الإصغاء إلى نصحه سبحانه وتقديم نصح غيره عليه.

نعم إنّ لفظة (فَتابَ عَلَيْهِ) في سورتي البقرة وطه ، دالة على أنَّ آدم «تاب إلى ربه» ، ولأجل توبته إلى الله ورجوعه إليه بالندامة ، تاب الله عليه ورجع عليه بالرحمة والهداية ، ولكن لا دلالة لكل رجوع وإنابة إلى الله ، على وقوع الذنب وصدوره منه ، خصوصاً بالنظر إلى ما قدّمناه في التفسير الثاني لمخالفة آدم ، وقلنا إنَّ من الممكن أن يكون نفس العمل جائزاً ومباحاً ولكن يعد صدوره من بعض الشخصيات محظوراً وأمراً غير صحيح ، فإنابة تلك الشخصيات إلى الله في تلك المجالات لا تعد دليلاً على صدور الذنب ، بل تعد دليلاً على سعة علمها بالعظمة الإلهية ، ولأجل ذلك يقال : «حسنات الأبرار سيئات المقربين» وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه ليران على قلبي وإنّي استغفر الله كل يوم سبعين مرّة». (٢) وليس هذا الاستغفار دليلاً على صدور الذنب ، بل هو دليل على سعة علمه وعمق إدراكه لعظمة الله.

* ٧. ما معنى الغفران في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا)؟

بقيت هنا كلمة وهي توضيح قوله سبحانه : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا

__________________

(١). طه : ١٢٢.

(٢). صحيح مسلم : ٨ / ٧٢ ، كتاب الذكر ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وفيه : «ليغان» مكان «ليران» ، وهو من مادة «الغين» أي الستر.

١٠٧

لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، فربّما يتبادر إلى الذهن من هذا المقطع من الآية صدور الذنب من أبينا آدم عليه‌السلام ، فنقول : لا دلالة فيه ولا في واحدة من كلماته على ما يتوخاه الخصم ، وإليك بيان هدف الآية ومفرداتها.

أمّا الغفران فإنّ أصله «الغفر» بمعنى التغطية والستر ، يقال : غفره ، يغفره ، غفراً : ستره ، وكل شيء سترته فقد غفرته ، فإذا كان الغفران بمعنى الستر فلا ملازمة بين الستر والذنب ، فإنّ المستور ربّما يكون ذنباً وربّما يكون أمراً جائزاً غير مترقب الصدور من الإنسان ، ولأجل ذلك طلب آدم من الله سبحانه على عادة الأولياء والصالحين في استصغارهم ما يقومون به من الحسنات واستعظامهم الصغير من العيوب فقال : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أيْ لم تستر عيبنا ولم (تَرْحَمْنا) أيْ لم ترجع علينا بالرحمة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ولا شك أنّ آدم قد خسر النعيم الذي كان فيه ، بسبب عدم سماعه لنصح الله سبحانه ، ولأجل ذلك طفق يطلب منه أن يرجع عليه بالمغفرة أي بستر عيبه ، والرحمة أي بإخراجه من الخسران الذي عرض له.

إذا وقفت على ما ذكرنا حول هذه الآيات والجمل وتأمّلت فيها بإمعان ودقة يظهر لك أنّ الاستدلال بها على صدور الذنب المصطلح من آدم من غرائب الاستدلالات وعجائبها ، ولا يصح لباحث أن يُفسر آية دون أن يستعين لفهمها بأُختها ، وبذلك يتضح أنّ ما سلكناه من المنهج في تفسير القرآن ، هو الطريق الصحيح الذي يرفع النقاب عن وجوه كثير من الحقائق التي قد تخفى على الباحثين ، وهذا الطريق هو تفسير كتابه سبحانه بالتفسير الموضوعي ، أي جمع الآيات الواردة في موضوع واحد وعرض بعضها على بعض.

١٠٨

* عصمة آدم عليه‌السلام وجعل الشريك لله!

قد وقفت على أعظم شبه المخطّئة للأنبياء ، كما وقفت على الجواب عنها ، فهلم معي ندرس شبهة أُخرى لهم جعلوها ذريعة لفكرتهم الفاسدة حيث استدلوا على عدم عصمة «آدم» عليه‌السلام بقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

استدل المخطّئة (١) لعصمة الأنبياء بقوله سبحانه : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) قائلين بأنّ ضمير التثنية في كلا الموردين يرجع إلى آدم وحواء اللّذين أُشير إليهما بقوله سبحانه في صدر الآية : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

ولكن الاستدلال بالآية مبني على القول بأنّ المراد من (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي الواحدة الشخصية لا الواحدة النوعية ، أعني كل أب وأُم بالنسبة إلى أولادهما ، ولكن القرائن تشهد بأنّ المراد هو الواحد النوعي لا الشخصي.

توضيح ذلك : أنّ تلك اللفظة قد استعملت في القرآن الكريم بوجهين :

الأوّل : ما أُريد منه الواحد الشخصي كقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً

__________________

(١). الأعراف : ١٨٩ ـ ١٩٢.

١٠٩

وَنِساءً) (١) فالمراد من (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم ، ومعنى خلق الزوجة منها كونها من جنسها ، والدليل على أنّ المراد هو الواحد الشخصي قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) والمعنى أنّه سبحانه خلق الخلق من أب واحد وأُم واحدة ، فهذه الجماهير على كثرتها تنتهي إليهما ومثله قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (٢).

الثاني : ما أُريد منه الواحد النوعي أي الأب لكل إنسان ومثله الأُم ، وذلك مثل قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) (٣) ، فالمراد من (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو الواحد النوعي ، والمراد أنّ كل واحد منّا قد ولد من أب واحد وأُم واحدة ، والدليل على ذلك قوله سبحانه : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

ومثلها الآية المبحوث عنها في المقام ، إذ ليس المراد منها شخص آدم أبي البشر بعينه ، بل المراد والد كل إنسان ووالدته ، فالجنسان يتقاربان ويتولد منهما الولد ، وتدل على ما اخترنا من المعنى قرائن في نفس الآيات.

الأُولى : انّ الآية وقعت في عداد الآيات التي تعرب عن الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه في شرائط خاصّة ولكنّه حينما نال النعم ورفل فيها ، طفق ينقض ميثاقه ، وهذه طبيعة الإنسان المجهز بالغرائز ، ويشير إليها قوله سبحانه : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٤) ،

__________________

(١). النساء : ١.

(٢). الحجرات : ١٣.

(٣). الزمر : ٦.

(٤). فصلت : ٥١.

١١٠

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان فلا يبعد أن يسأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً ، معطياً لله ميثاقاً بأن يشكره على تلك النعمة ولكنّه عند ما ينال النعمة يجعل له شركاء فيما آتاه ، وعلى ذلك فالآية جارية مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم ميثاقهم الذي واثقوه به.

والدليل على أنّ الآية واردة في ذاك المجال ، ما ورد قبل هذه الآية من حديث الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه ولكنّه نقضه بعده قال سبحانه قبيل هذه الآيات : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). (١)

والميثاق الذي ورد في الآية ، معطوف على ذلك الميثاق الذي ورد في الآيتين ، وهذا دليل واضح على أنّ المراد هو تعريف طبيعة الإنسان وتوصيفها بالتعهد أوّلاً ، والنقض ثانياً ، وليس بصدد بيان حال الإنسان الشخصي أعني : أبانا آدم.

الثانية : انّ سياق الآية ولحنها يوحيان بأنّ الشخص الذي سأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً ، كان يعيش في بيئة كان فيها آباء وأولاد بين صالح وطالح ، فنظر إليهم فتمنّى أنْ يرزقه الله ولداً صالحاً على غرار ما رآه ، غير أنّه لما رزقه الله ذلك الولد الصالح ، نقض ميثاقه أي شكره لله على ما رزقه من صالح الأولاد ، وهذا غير صادق في شأن أبينا آدم وأُمّنا حواء ، إذ لم يكن في بيئتهم آباء وأولاد ، صالحون وطالحون حتى يتمنّيا لنفسهما ولداً مثل ما رزقهم الله سبحانه.

الثالثة : انّ ذيل الآية يشهد بوضوح على أنّها غير مرتبطة بصفي الله آدم ،

__________________

(١). الأعراف : ١٧٢ ـ ١٧٣.

١١١

وذلك لأنّه سبحانه يقول في ذيلها : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فلو كان المراد من النفس وزوجها في الآية شخصين معيّنين كآدم وحواء ، كان من حق الكلام أن يقول : «فتعالى الله عمّا يشركان» وهذا بخلاف ما أُريد من النفس وزوجها ، الطبيعة الإنسانية في جانبي الذكر والأُنثى ، إذ حينئذ يصح الجمع لكثرة أفراده.

الرابعة : انّه سبحانه يقول : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) ، ومن المعلوم أنّ المراد من الشرك هو الشرك في العبادة ، وحاشا أنْ يكون آدم صفي الله مشركاً في العبادة ، كيف؟ وقد وصفه الله سبحانه بالاجتباء حيث قال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١) ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) (٣) ، وقال أيضاً : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤).

كل هذه الآيات تشهد بوضوح على أنّ الآية تهدف إلى ذكر القصة على سبيل ضرب المثل ، وبيان أنّ هذه الحالة صورة تعم جميع الأفراد من الإنسان ، إلّا من التجأ إلى الإيمان ، فكأنّه سبحانه يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمّا تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعوا ربّهما بأنّه سبحانه لو آتاهما ولداً صالحاً سوياً ليكونا من الشاكرين لآلائه ونعمائه ، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء في ذلك الولد الذي آتاهما ، فتارة نسبوه إلى الطبيعة كما هو

__________________

(١). طه : ١٢٢.

(٢). الإسراء : ٩٧.

(٣). الزمر : ٣٧.

(٤). الأحقاف : ٥.

١١٢

قول الدهريين ، وأُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وثالثة إلى الأصنام كما هو قول عبدتها ، فردَّ الله سبحانه على تلك المزاعم بقوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١). وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير ، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء ، فكيف يمكن أن يوصف به صفي الله آدم عليه‌السلام؟!

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان ، ولكنه سبحانه عند ما انتهى إلى قوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والإناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما ، فيكون تقدير الكلام (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) ... إلى آخر الآية.

وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات ، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (٢). ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثمّ خص راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية ، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء ، ثمّ ساق الكلام إلى مطلق ذرية آدم من البشر.

وهذا الوجه نقله المرتضى في «تنزيه الأنبياء» عن أبي مسلم محمد بن بحر الاصفهاني. (٣)

وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامة. (٤) وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

__________________

(١). مفاتيح الغيب : ٤ / ٣٤٣.

(٢). يونس : ٢٢.

(٣). تنزيه الأنبياء : ١٦.

(٤). لاحظ مفاتيح الغيب : ٤ / ٣٤١ ـ ٣٤٣ ؛ مجمع البيان : ٤ / ٥٠٨ ـ ٥١٠ ؛ أمالي المرتضى : ١٣٧ ـ ١٤٣.

١١٣

٢

عصمة شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام والمطالبة

بنجاة ابنه العاصي

قد استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوح عليه‌السلام بما ورد في سورة هود من الآية ٤٥ إلى ٤٧ ، وإليك الآيات :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وقد استدل بهذه الآيات بوجوه :

١. انّ ظاهر قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) تكذيب لقول نوح (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، وإذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب ، فما الوجه في ذلك؟

٢. قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء ، ولأجل ذلك خوطب بالعتاب ونهي عن التكرار.

١١٤

٣. قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) فإنّ طلب الغفران آية الذنب ، وهو لا يجتمع مع العصمة.

وإليك الجواب عن الوجوه الثلاثة :

الوجه الأوّل : كيف يجتمع قول نوح عليه‌السلام : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) مع قوله سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)

فتوضيح دفعه : أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلّا مَنْ سبق عليه القول وقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (١) ، وهذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح وأنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر وكان أبوه واقفاً على ذلك ، وإمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، وكان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.

فعلى الفرض الأوّل : يجب أن يقال : إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) في سورتي هود الآية ٤٠ والمؤمنون الآية ٢٧ (٢) انّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية والسببية ، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلاً ونهاراً ، وعندئذ يكون المراد من قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) هو

__________________

(١). هود : ٤٠.

(٢). قال سبحانه في سورة هود : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).

وقال سبحانه في سورة المؤمنون : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

١١٥

زوجته فقط ، ولما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده؟ وعند ذلك اعتراه الحزن ورفع صوته بالدعاء منادياً : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع والتضاد بين الأمرين : الإيمان بصدق وعده ، كما يفصح عنه قوله : (إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) وغرق ولده وهلاكه.

وعلى هذا الفرض لم يكذب نوح عليه‌السلام حتى بكلمة واحدة ، بل لما فهم من قوله (وَأَهْلَكَ) نجاة مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية ، أبرز ما فهم وقال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده وأفرغه في قالب القول وان كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه ، وحينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.

وبعبارة أُخرى : انّ ولدك وإن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية ، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم وخلاصهم.

وبعبارة ثالثة : (إِنَّ ابْنَكَ) داخل في المستثنى ، أعني قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.

وهذا الجواب على صحة الفرض تام لا غبار عليه ، لكن أصل الفرض وهو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر وكان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه :

أوّلاً : انّ من البعيد عن ساحة نوح عليه‌السلام أن يطلب من الله سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنه عليه‌السلام : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، ويتبادر (١) إلى ذهنه من قوله سبحانه :

__________________

(١). نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

١١٦

(وَأَهْلَكَ) مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً. بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون ، وانّ المراد من (مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.

ثانياً : انّه لا دليل على أنّه فهم من قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) خصوص زوجته ، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل من عاند الله وحاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها.

وثالثاً : انّه سبحانه بعد ما أمر نوحاً عليه‌السلام بصنع الفلك أوحى إليه بقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (١) ، والظاهر من قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً ، فإذا قال بعد ذلك : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم ، إذ الظالم منهم داخل في قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا).

وإن شئت قلت : إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) مطلق الظالم والكافر زوجة كانت أم غيرها ، رحماً كان أم غيره ، وهذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من (أَهْلَكَ) هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.

وبالجملة : فلو صحت النظرية صح الجواب ، لكنها باطلة لأجل الأُمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.

وأمّا الفرض الثاني ، فالظاهر أنّه الحق ، وحاصله : أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، ويدل على ذلك قول نوح لابنه عند ما امتنع أن يواكب أباه

__________________

(١). هود : ٣٧.

١١٧

في ركوبه السفينة : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (١) ، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء ، ولو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول : «ولا تكن من الكافرين» وبما انّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله : (وَأَهْلَكَ) ولما أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب ، وعندئذ أظهر ما في قلبه وقال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، وأجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلّا لأجل كفره ، فهو كان داخلاً في قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢) أوّلاً ، وثانياً في المستثنى أي قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) لا المستثنى منه أي (أَهْلَكَ).

وعندئذ يقع السؤال والجواب في موقعهما ولا يكون نوح عليه‌السلام في حكمه كاذباً ، لأنّه كان يتصور أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر ، فأين الكذب في هذين الحكمين؟ وفي قوله سبحانه : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وانّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد وان كان حبشياً وكنت قرشياً ، لصيقك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وان كان أمس أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً وعقيدة وروحاً.

ثمّ إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملاً غير صالح ، لأجل المبالغة في ذمه مثل قوله «فإنما هي إقبال وإدبار». (٣)

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها ، وهي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة والعرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من

__________________

(١). هود : ٤٢.

(٢). هود : ٣٧.

(٣). الكشاف : ٢ / ١٠١.

١١٨

الوشائج النسبية أو السببية ، وان لم يكن بينهما تشابه ووحدة من حيث المسلك والمنهج.

غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية وهو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان ، ووحدة المسلك ، إلى حد لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان ، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أكانت فيه وشيجة نسبية أم لا ، ولأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين ، فيقول في قصة «لوط» : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (١) ، وقال أيضاً : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٢) ، وقال أيضاً : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (٣) ، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ «المؤمنين» أو «مَنْ آمَنَ به» مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله وعمومها للمؤمنين ، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلاً ، والكفر يجعل القريب بعيداً.

ولأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٤) ، وقال أيضاً : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٥) ، ومن المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ

__________________

(١). الأعراف : ٨٣.

(٢). العنكبوت : ٣٣.

(٣). الصافّات : ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٤). الأنبياء : ٧٦.

(٥). الصافّات : ٧٥ ـ ٧٦.

١١٩

الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) (١).

وبذلك يظهر سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلمان منّا أهل البيت» فعد غير العرب من أهل بيته ، وما هذا إلّا لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة وأحكم عرى ، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى وهدم الوشيجة المادية.

ولأجل ذلك قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ـ عليهما‌السلام ـ في حق ابن نوح : «لقد كان ابنه ولكن لمّا عصى الله عزوجل نفاه عن أبيه ، وكذا من كان منّا لم يطع الله عزوجل فليس منّا ، وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت». (٢)

نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن ، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف ، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية ، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) ، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء ، كافراً كان أم مؤمناً ، ثمّ أخرج الكافر من الحكم (احمل) لا من الموضوع وهو (الأهل) وقال : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).

وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوح عليه‌السلام بعد قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

الوجه الثاني : لا دلالة لقوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء :

قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني ، وهو أنّ قوله

__________________

(١). هود : ٤٠.

(٢). البحار : ٤٩ / ٢١٩ ضمن ح ٣.

١٢٠