الرافد في علم الأصول

السيد منير السيد عدنان القطيفي

الرافد في علم الأصول

المؤلف:

السيد منير السيد عدنان القطيفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فالبرهان إني من القسم الأول ، لان كانا متلازمين فهو إني من القسم الثاني .

إذن فالنسبة بين الواسطتين عموم من وجه ، لأن ثبوت المحمول للموضوع في باب القضايا إن كان بديهياً لا يحتاج لواسطة إثباتية كثبوت الحرارة للنار فهذا مورد للواسطة في الثبوت دون الواسطة في الاثبات ، باعتبار حاجة كل معلول للعلة في صميم وجوده ، وإن كان ثبوت المحمول للموضوع نظرياً محتاجاً لواسطة إثباتية مع كون تلك الواسطة هي العلة الواقعية في الثبوت فهذا مورد اجتماع الواسطتين ، وإن كانت الواسطة الاثباتية معلولاً للنتيجة لا علة لها فهذا مورد للواسطة في الاثبات دون الثبوت .

وأما الواسطة في العروض فالمراد بها أن تكون الواسطة متصفة بصفة معينة أولاً وبالذات ويتصف بها ذو الواسطة ثانياً وبالعرض ، كقولنا جرى النهر ، فالواسطة في الجريان هنا هو الماء وهو المتصف بصفة الجريان أولاً وبالذات وإنما يتصف بها النهر ثانياً وبالعرض ، وهذا مقابل الواسطة في الثبوت فإن ذا الواسطة فيها يتصف بالصفة حقيقة وبالذات لا ثانياً وبالعرض ، كقولنا الماء يغلي ، فإن غليان الماء بواسطة النار الا أن الماء متصف حقيقة وبالذات بالغليان لا بالعرض ، فبين الواسطة العروضية والثبوتية نسبة التباين كما هو ملاحظ . وكذلك فإن النسبة بين الواسطة العروضية والواسطة الاثباتية هي نسبة التباين أيضاً ، ولتوضيح الفرق بين الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت نستعرض أموراً :

الأول : إن قيام الصفة بالواسطة الثبوتية قيام صدوري وقيام الصفة بالواسطة العروضية قيام حلولي ، والمراد بالقيام الصدوري الأعم من تأثير العلة الفاعلية كتأثير النار في حرارة الماء وتأثير العلة الغائبه كتأثير صورة الجلوس في صنع الكرسي ، ومنه تأثير ملاكات الأحكام الشرعية في جعل الحكم الشرعي ، لأن الملاك غاية للجعل .

٨١
 &

الثاني : إن اسناد الصفة للشيء مع الواسطة الثبوتية إسناد حقيقي ومن باب وصف الشيء بحال نفسه بينما إسناد الصفة للشيء مع الواسطة العروضية إسناد مجازي ، ولو تجوزاً عقلياً إن لم يكن تجوزاً أدبياً كما سيأتي بيانه ، وهو المعبر عنه في مصطلح علم البيان بأنه وصف الشيء بحال متعلقه ، وبحسب الاصطلاح الفلسفي يعبر عنه بالسبق بالحقيقة ، حيث أن الواسطة هي المتصفة حقيقة بالصفة المعينة وإنما يتصف بها ذو الواسطة بالعرض ، وهذا لون من السبق في الاتصاف يسمى بالسبق بالحقيقة .

الثالث : إن الصفة العارضة للشيء مع الواسطة في العروض فرد واحد من الصفة عارض أولاً وبالذات للواسطة نحو جرى الميزاب وعارض بالعرض لذي الواسطة ، بينما الصفة العارضة مع الواسطة في الثبوت قد تكون فرداً واحداً عارضاً لذي الواسطة حقيقة كعروض الغليان للماء بواسطة النار ، وقد تكون فردين أحدهما عارض للواسطة حقيقة والأخر عارض لذيها حقيقة كالنار الموجبة لاتصاف الماء بالحرارة ، حيث أن هنا فردين من الحرارة أحدهما عارض للماء والآخر عارض للنار .

الرابع : إن الصفة العارضة للشيء مع الواسطة في الثبوت حيث أن الشيء متصف بها حقيقة فيستحيل أن يتصف بنقيضها أو ضدها حقيقة ، للزوم محذور اجتماع النقيضين أو الضدين . نعم لا مانع من اتصافه بالنقيض والضد مجازاً ، بينما الشيء المتصف بوصف مع واسطة في العروض بما أنه غير متصف بالوصف حقيقة فلا مانع من اتصافه بنقيضه وضده حقيقة ، إذ لا يترتب على ذلك محذور اجتماع النقيضين والضدين .

النقطة الثانية : ثمرة البحث : إن لهذا البحث ثمرات علمية كثيرة على صعيد الأدب والفقه والأصول ، ونحن نستعرض بعض الثمرات :

أ ـ من الثمرات الفقهية للبحث ما ذكره الفقهاء من أن صاحب الدار

٨٢
 &

لو قال لرجل ادخل الدار فإنك صديقي فالمفهوم عرفاً من هذا الكلام أن الصداقة واسطة في العروض ، أي أن الحكم وهو جواز الدخول مترتب على عنوان الصديق أولاً وبالذات وإنما يتوجه للمخاطب باعتبار انطباق موضوع الحكم عليه ، فلو علم المخاطب بأنه ليس بصديق لصاحب الدار فلا يجوز له الدخول ، لأن موضوع الحكم هو عنوان الصديق الا أن صاحب الدار أخطأ في التطبيق وليس موضوع الحكم هو المخاطب حتى يجوز له الدخول على كل حال ، ولو قال له « ادخل الدار لأنك صديقي » فالمفهوم عرفاً من ذلك أن الصداقة واسطة في الثبوت ، أي أن موضوع الحكم بجواز الدخول هو ذات المخاطب لا عنوان الصديق وإنما الصداقة من دواعي الأذن بالدخول ، فهنا حتى مع علم المخاطب بعدم كونه صديقاً يجوز له الدخول ما دام هو الموضوع للحكم بالجواز .

ب ـ من الثمرات الأصولية التي تترتب على هذا البحث تفريق العلماء بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية ، حيث أن الحيثية التعليلية راجعة للواسطة في الثبوت والحيثية التقييدية راجعة للواسطة في العروض (١) ، ويرتبط بذلك جملة من البحوث ، منها : ما ذكروه من أن الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية راجعة للحيثيات التقييدية ، فمثلاً حكم العقل بوجوب نصب السلم لأنه مقدمة للواجب راجع لحكمه بأن المقدمة واجبة ومن باب التطبيق على الفرد المذكور حكم بوجوبه ، لذلك لا مانع من اجتماع الاستحباب الذاتي مع الوجوب الغيري في المقدمة ، فالاستحباب الذاتي مثلاً للوضوء بما هو وضوء والوجوب الغيري له بما هو مقدمة ، ومع اختلاف الجهة فلا مانع من اجتماعهما .

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ .

٨٣
 &

ج ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) في باب مفهوم الموافقة من أن المولى لو قال :« لا تشرب الخمر فإنه مسكر » فظاهر الجملة أن الاسكار واسطة في العروض وحيثية تقييدية ، فالموضوع للحرمة حقيقة هو المسكر لا عنوان الخمر وإنما يتصف الخمر بالحرمة ثانياً وبالعرض باعتبار انطباق الموضوع عليه ، وحينئذٍ فيستفاد من التعليل المذكور عموم مفهوم الموافقة لكل مسكر ما دام الموضوع للحرمة هو عنوان المسكر .

وأما لو قال المولى : « لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو لإِسكارها » فالمفهوم من ذلك عرفاً أن الإِسكار واسطة في الثبوت وحيثية تعليلية فقط ، وأن الموضوع للحرمة واقعاً هو الخمر وإنما من دواعي جعل الحرمة له إسكاره لا أن موضوع الحكم هو عنوان المسكر ، والمستفاد حينئذٍ عدم سعة مفهوم الموافقة لغير الخمر من المسكرات (١) ، وغير ذلك من الثمرات .

النقطة الثالثة : في أقسام الواسطة في العروض : للواسطة في العروض ثلاثة تقسيمات :

أ ـ باعتبار الوضوح والخفاء .

ب ـ باعتبار التغاير الوجودي والمفهومي .

ج ـ باعتبار النسبة بين الواسطة وذي الواسطة .

التقسيم الأول : وهو انقسام الواسطة في العروض الى جلية وخفية وأخفى .

الواسطة الجلية : وهي ما يعد عند العرف من باب الاسناد لغير ما هو له كقولنا جرى الميزاب ، حيث يرى العرف هنا أن الجريان حقيقة للماء لا للميزاب فالواسطة في المثال جلية ، وكقولنا البيوت متحركة مع أن الحركة واقعاً

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٤٩٨ .

٨٤
 &

للأرض لا للبيوت . ومن الأمثلة الفقهية للواسطة الجلية متعلقات الأحكام ، فمثلاً إذا قال المولى : يجب الصلاة ، فإن العرف الساذج قد يتصور أن الصلاة الخارجية هي المعروض للوجوب حقيقة بل ربما طرح ذلك في كلمات العلماء الأعلام ، ففي الكفاية في بحث اجتماع الأمر والنهي ـ بعد دعوى التضاد الحقيقي بين الأحكام الخمسة ـ ذكر بأن المعروض الواقعي للحكم هو العمل الخارجي للمكلف (١) ، مع أن هذا المفهوم لا يقره العرف المتأمل وذلك لعدة أمور :

أولاً : لأن الوجوب أمر اعتباري ولا يمكن أن يتشخص في وعاء الاعتبار الا بحد معين وهذا الحد هو طبيعي الصلاة الموجود بالوجود الاعتباري ، إذ من المستحيل تشخص ما هو اعتباري بما هو خارجي كما يستحيل العكس أيضاً ، فمن المستحيل كون الصلاة الخارجية حداً للوجوب الاعتباري .

ثانياً : على فرض عدم حصول الصلاة خارجاً لعصيان أو غيره فيلزم من ذلك تقوم الموجود وهو الوجوب الاعتباري بالمعدوم وهو الصلاة الخارجية ، وذلك مستحيل .

وثالثاً : إن العمل الخارجي مسقط للتكليف فكيف يكون معروضاً له ، لذلك فالمتصف حقيقة بالوجوب هو الماهية الموجودة في وعاء الاعتبار واتصاف الفرد الخارجي به من باب الواسطة في العروض ، وهي واسطة التطابق لا الانطباق ، لأن الانطباق إنما يكون بين الكلي وفرده والعمل الخارجي ليس فرداً للماهية الموجودة في وعاء الاعتبار بل هو مطابق ومشابه لها ، وهذه الواسطة جلية لمن تأمل في المطلب .

الواسطة الخفية : وهي ما كان الاسناد فيها بحسب النظر العرفي إسناداً حقيقياً وإن كان بحسب النظر العقلي إسناداً مجازياً ، ومثاله الحد الأوسط في

__________________

(١) الكفاية : ١٥٨ .

٨٥
 &

باب البرهان إذا كان علة للنتيجة وكان البرهان لمياً ، كقولنا : « كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس فكل إنسان حساس » ، فهنا الاحساس وصف للحيوان بما هو حيوان ، وعروضه للإِنسان وإن كان إسناداً حقيقياً بنظر العرف ولكنه بحسب النظرة العقلية إسناد مجازي ، باعتبار كون هذا الثبوت مستنداً لواسطة وهي الحيوانية .

والمثال الفقهي المرتبط بذلك باب المعقول الثاني باصطلاح الفلاسفة ، بيان ذلك : أن المعقول قد يكون له ارتباط واحد ، إما خارجي كارتباط البياض بالجسم وهذا معقول أولي وإما ذهني كالكلي العقلي الذي ليس له ارتباط بالخارج أصلاً وهذا معقول ثانوي باصطلاح المناطقة والفلاسفة ، وقد يكون له ارتباطان ، ارتباط بمعروضه الذهني وارتباط بموصوفه الخارجي ، فهو معقول ثانوي باصطلاح الفلاسفة ، كالأمكان فإن المعروض له ذهناً هو الماهية المعلولة والمتصف به خارجاً هو الموجود الخارجي .

ومثاله من الأحكام الفقهية النجاسة والملكية ، فإن معروضهما الذهني هو العنوان الذهني للدم والمال مثلاً ، بينما المتصف بهما خارجاً هو عين الدم وعين المال . ومثاله أيضاً وجوب الحج على المستطيع ، فإن الوجوب له ارتباطان ، ارتباط اعتباري بعنوان المستطيع وهو ارتباط المقيد بقيده في وعاء التقييد وارتباط خارجي بالمعنون نفسه ، فالمستطيع الخارجي ليس هو المعروض للوجوب حقيقة إذ يستحيل تقيد الاعتباري بالأمر الخارجي .

وإنما المعروض الحقيقي للوجوب هو المستطيع في الوعاء الاعتباري ، لكن علاقة التطابق بين ما في الخارج وما في الاعتبار الذهني أوجبت اسناد الوجوب للمستطيع الخارجي على نحو العروض عليه ، وهو إسناد مجازي بنظر العقل لرجوعه لواسطة التطابق وإن كان هو متصفاً بالتكليف حقيقة ، الا أن الاتصاف غير العروض كما هو مذكور في كتب الحكمة .

٨٦
 &

ويترتب على هذا البحث عدة ثمرات أصولية :

أ ـ ما ذكره الأصوليون بأن للحكم مرتبتين مرتبة الانشاء ومرتبة الفعلية ، مع أن الحكم المجعول واحد وليس له وجودان متعاقبان ، إذن فمقصودهم ما ذكرنا من أن وجوب الحج مثلاً له ارتباطان ، ارتباط بمعروضه وهو المستطيع في وعاء الاعتبار ، وهذه هي مرحلة الجعل ، وارتباط بموصوفه وهو المستطيع الخارجي ، وهذه هي مرحلة الفعلية ، أي مرحلة اتصاف ما في الخارج بكونه مكلفاً بالحج مثلاً ، والا فليس هناك تعدد في وجود الحكم إطلاقاً .

ب ـ ما طرحه الاستاذ السيد الخوئي ( قده ) في الاشكال على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية من أن استصحاب عدم الجعل معارض باستصحاب بقاء المجعول (١) ، فمثلاً استصحاب بقاء حرمة وطء الحائض بعد نقائها وقبل غسلها معارض باستصحاب عدم سعة الجعل لما بعد فترة الحيض ، وقد يلاحظ عليه ـ كما هو مذكور في كلمات المحقق النائيني ( قده ) ـ بان استصحاب عدم الجعل في المقام مثبت (٢) ، ولعله لأن استصحاب الجعل أو عدمه متقوم بالارتباط الأول وهو ارتباط الحكم بمعروضه بينما استصحاب المجعول متقوم بالارتباط الثاني وهو ارتباط الحكم بموصوفه ، فأحد الاستصحابين لا يعارض الآخر ولا ينفيه ، إذ لا توجد نقطة جامعة بينهما فكل منهما مرتبط بمرحلة معينة .

ج ـ مسألة الشرط المتأخر ، حيث أورد بعض علماء الأصول بأن الشرط المتأخر مستلزم لتقوم المتقدم بالمتأخر الراجع لتقوم الموجود بالمعدوم وهو مستحيل ، لكن صاحب الكفاية قد ذكر بأن المتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الاعتبار ، فالوجوب مقيد حقيقة بالقيد الموجود في وعاء الاعتبار (٣) إذ لا بد

__________________

(١) مصباح الأصول ٣ : ٣٦ ـ ٤٠ .

(٢) اجود التقريرات ٢ : ١٨٩ ـ ١٩٠ .

(٣) الكفاية ٩٣ ـ ٩٤ .

٨٧
 &

من اجتماع المقيد والقيد في وعاء واحد ، لا أنه مقيد بالقيد المتأخر زماناً ، فما هو قيد للوجوب حقيقة هو العنوان الاعتباري وهو مقارن للحكم لا متأخر عنه وما هو المتأخر عنه ليس بقيد له بل هو مطابق للقيد الحقيقي .

فتبين لنا من خلال هذه البحوث أهمية التعرف على أقسام الواسطة في العروض ، والفرق بين الخفية والجلية منها ، ففي المثال إسناد الشرطية للمتأخر وجوداً وإن كان إسناداً حقيقياً بنظر العرف لكنه مع الواسطة في العروض ، وهي واسطة التطابق بين ما في الخارج وما في وعاء الاعتبار ، فهو إسناد مجازي بنظر العقل ، والشرطية للقيد الاعتباري المقارن لا للوجود الخارجي المتأخر .

الواسطة الأخفى : وهي ما كان الاسناد فيها بنظر العقل إسناداً حقيقياً ولكن بحسب الدقة الفلسفية العقلية يكون إسناداً مجازياً ، فمثلاً قولنا الجسم أبيض يعد إسناداً حقيقياً بنظر العرف والعقل ، ولكن بحسب الدقة الفلسفية المبنية على تعدد الوجود للجوهر والعرض فالأبيض في الواقع هو البياض لا الجسم ، وهذا الاسناد مجازي باعتبار ارتباط الوجودين خارجاً على نحو التركيب الاتحادي أو الانضمامي على الخلاف فيه ، ومثله قولنا زيد موجود فإنه إسناد حقيقي بنظر العرف والعقل لكنه إسناد مجازي بنظر الفيلسوف المتأمل باعتبار القول بأصالة الوجود ، فالموجود حقيقة هو الوجود وإنما ينسب للماهية ثانياً وبالعرض ، إذن فالواسطة في هذه الأمثلة أخفى من الواسطة في الموردين السابقين لأن التنبه لها يحتاج لدقة فلسفية .

التقسيم الثاني : لا شك أنه لا بد من وجود الارتباط بين الواسطة وذي الواسطة كالحالية والمحلية والعلية والمعلولية وشبه ذلك ، والا لما صح إسناد وصف الواسطة لذي الواسطة ولو مجازاً ، ولا بد من التغاير بينهما إما بحسب الوجود وإما بحسب المفهوم وإما بلحاظهما معاً ، ولولا ذلك لما كانا شيئين أحدهما واسطة والآخر ذو الواسطة فهنا ثلاثة أقسام :

٨٨
 &

الأول : التغاير الوجودي والمفهومي بين الواسطة وذيها ، وهو على قسمين :

أ ـ ما يمكن فيه الاشارة الحسية ويسمى بـ ( التغاير في الوضع ) كالسفينة والجالس فيها ، فإنهما متغايران وجوداً ومفهوماً مع إمكان التفريق بينهما بالاشارة الحسية ، فإذا قيل راكب السفينة متحرك فهو إسناد مجازي لغير من هو له .

ب ـ ما لا يمكن فيه الاشارة الحسية كما هو بين العرض وموضوعه ، فمثلاً إذا قيل الجسم منحني أو مستقيم فالاسناد هنا مجازي لوجود الواسطة في العروض ، وذلك لأن الانحناء والاستقامة من الكيفيات العارضة للكميات فالمتصف بالانحناء والاستقامة هو الكم وهو الخط في المثال لا الجسم نفسه لكنه أسند للجسم مجازاً بواسطة أحد أعراضه وهو الكم ، وبين العرض وهو الواسطة والجوهر الموضوع له وهو ذو الواسطة تغاير وجودي بناءاً على المسلك المشهور من تعدد الوجود للجوهر والعرض لا على مسلك آغا علي مدرسي من كونهما وجوداً واحداً متطوراً بعدة أطوار عرضية وهو المختار عندنا ، وبينهما تغاير مفهومي أيضاً لكن لا يمكن التفريق بينهما بحسب الاشارة الحسية .

الثاني : التغاير الوجودي مع الوحدة الماهوية ، ونذكر له ثلاثة أمثلة :

أ ـ المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ، فالصورة المرتسمة في أفق النفس هي المعلوم بالذات ومطابقها الخارجي معلوم بالعرض ، فتسمية ما في الخارج معلوماً لا بنحو الاسناد الحقيقي بل هو مجازي معتمد على واسطة في العروض ، وهي مرآتية ما في الذهن لما في الخارج ، والا فيستحيل أن يكون الأمر الخارجي حداً لما هو أمر نفسي وهو العلم ، فهنا يوجد بين الواسطة وهي المعلوم بالذات وذيها وهو المطابق الخارجي تغاير وجودي ، لأن أحدهما وعاؤه الذهن والآخر وعائه الخارج لكنهما متحدان ماهية بناءاً على المسلك المشهور من كون المعلوم نفس الموجود الخارجي .

٨٩
 &

ب ـ المراد بالذات والمراد بالعرض ، فإذا اشتاق الانسان مثلا للعب الكرة فالمراد أولاً وبالذات هو العنوان النفسي المحدد للإِرادة النفسية في وعائها والمراد ثانياً وبالعرض هو اللعب نفسه ، فالاسناد مجازي مع الواسطة في العروض .

ج ـ متعلقات الأحكام كالصلاة الواجبة ، حيث إننا إذا تأملنا هنا نجد أن المعروض للوجوب حقيقة هي الماهية الاعتبارية للصلاة ، لأن نسبة متعلق الاعتبار للاعتبار نفسه نسبة الماهية للوجود ، وهي كما يقال في الحكمة نسبة الحد للمحدود ، ويستحيل أن يكون الأمر الاعتباري محدوداً بحد خارجي فالمعروض الاعتباري المحقق للوجوب الاعتباري يختلف وجوداً عن العمل الخارجي المحقق للامتثال لكنهما يتحدان ماهية ومفهوماً ، وهذه الوحدة المفهومية واسطة في عروض أوصاف كل منهما للآخر ونذكر لذلك مثالين :

أ) إن الصلاة الخارجية تتصف بالوجوب مجازاً ، لأن هذا الوجوب وإن كان عارضاً على الصلاة الاعتبارية حقيقة ولكن لتطابق ما في الاعتبار مع ما في الخارج صح توصيف ما في الخارج بوصف ما في وعاء الاعتبار . وكذلك الصلاة الاعتبارية تتصف بكونها ذات مصلحة وملاك مجازاً ، لأن الواجد للملاك حقيقة هو الصلاة الخارجية لا الذهنية لكن لتطابقهما في الماهية صح اتصاف ما في الاعتبار بصفات ما في الخارج .

ب) باب النواهي كما لو قال المولى لا تشرب الخمر ، فهنا المعروض الحقيقي للنهي الاعتباري هو طبيعي الخمر ولكن الملاك وهو المفسدة في الشرب موجود في الفرد الخارجي للخمر ومتعدد بتعدده ، فلو قصرنا النظر على وعاء الاعتبار لقلنا بعدم انحلال النهي لعدة نواهي بعدد الأفراد ، لأن ما هو متكثر في الخارج ليس معروضاً للنهي وما هو معروض له في وعاء الاعتبار واحد لا كثرة فيه وهو طبيعي شرب الخمر ، ولكن لو تأملنا وجدنا أن الخمر الاعتباري

٩٠
 &

والخارجي متغايران وجوداً الا أنهما متحدان مفهوماً ، وحينئذٍ تتحقق مرآتية ما في الذهن لما في الخارج ومع هذه المرآتية تسري أوصاف كل منهما للآخر بنحو الواسطة في العروض ، فالكثرة الخارجية للأفراد والمفاسد ملحوظة في طبيعي شرب الخمر حين ورود النهي عليه .

وهذا ما ندعيه من الانحلال ، وهو أن الجاعل عندما يلاحظ الماهية المنهي عنها لملاك فيها ويرى أن الملاك متعدد بعدد أفراد الماهية خارجاً يصب نهيه على الماهية لا على نحو صرف الوجود بل بما هي مرآة حاكية للأفراد المتعددة الواجدة للمفسدة ، خلافاً لمن ينكر الانحلال كالسيد البروجردي ( قده ) .

الثالث : التغاير المفهومي مع الاتحاد الوجودي ، ولذلك عدة أمثلة منطقية وفقهية :

١ ـ ما ذكر في علم المنطق من وجود الماهيات الطولية بوجود واحد ، كالإِنسان والحيوان فإنهما يوجدان بوجود واحد فيمكن نسبة صفات أحدهما للآخر بواسطة الاتحاد الوجودي بينهما ، فيقال الانسان حساس بما هو حيوان والحيوان ناطق بما هو إنسان ، وهذا الاسناد مجازي مستند للواسطة في العروض وهي الوحدة الوجودية .

٢ ـ الأمور الانتزاعية مع مناشىء انتزاعها ، بناءاً على وجودها بوجود منشأ انتزاعها بالعرض لا بالتبع كما حرر في الأسفار (١) ، فهنا يتحقق الاتحاد الوجودي بين ماهيتين فيمكن إسناد صفات إحداهما للأخرى بواسطة الاتحاد الوجودي ، فيصح ـ مثلاً ـ إسناد صفات عمل السرقة خارجاً لعنوان الغصب المنتزع منه وبالعكس .

٣ ـ الطبيعي مع فرده فإنهما متغايران مفهوماً متحدان وجوداً ، فهل يصح

__________________

(١) الاسفار ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ .

٩١
 &

إسناد صفات أحدهما للآخر بواسطة الاتحاد الوجودي بينهما أم لا ؟ ذهب صاحب الكفاية في بحث الأصل المثبت وبحث استصحاب الكلي إلى صحة جريان استصحاب الفرد لإِثبات آثار الكلي باعتبار خفاء الواسطة بينهما (٢) ، لاتحادهما وجوداً بحيث لا يرى العرف ثنائية بينهما بل يرى أن آثار أحدهما آثار للآخر بلا تفكيك ، بينما ذهب الأعلام إلى كون ذلك أصلاً مثبتاً وأن وجود الواسطة في العروض بينهما لا يسوغ إسناد آثار أحدهما للآخر في باب التنزيلات الشرعية كالاستصحاب ، لكونه من الأصول العملية التنزيلية .

٤ ـ بحث اجتماع الأمر والنهي كالصلاة والغصب ، وتوضيحه : أنّه إن قلنا في هذا البحث بالاجتماع الموردي فلا شاهد فيه وإن قلنا بالاتحاد الوجودي علىٰ نحو التركيب الانضمامي فلا شاهد فيه أيضاً وإن قلنا بالاتحاد الوجودي علىٰ نحو التركيب الاتحادي بين الماهيتين فهذا موضع الاستشهاد ، حيث يتم البحث في أن ملاك أحدهما هل يسري للآخر فيكون المورد من قبيل تزاحم الملاكات وينتج عنه القول بامتناع الاجتماع أم لا . فالقول بالسراية مبني علىٰ ما ذكرنا من كون الاتحاد الوجودي بين الماهيتين واسطة في عروض صفات احداهما للأخرىٰ .

٥ ـ ما ذكر في بحث مقدمة الواجب ، من أن الجزء كالسجود في الصلاة مع اتصافه بالوجوب الغيري لكونه مقدمة للكل هل يتصف بالوجوب النفسي الضمني ، فيسري الوجوب النفسي من المركب لأجزائه بواسطة اتحادهما وجوداً وان كانا متغايرين مفهوماً أم لا .

وغير ذلك من ثمرات البحث في الواسطة وأقسامها .

__________________

(١) الكفاية : ٤٠٦ و ٤١٤ .

٩٢
 &

التقسيم الثالث : في نسبة الواسطة لذيها ، تنقسم الواسطة في العروض بلحاظ نسبتها لذيها إلى أربعة أقسام :

١ ـ نسبة التباين كما هو بين السفينة والجالس فيها .

٢ ـ نسبة العموم من وجه كالصلاة والغصب في مورد اجتماعهما .

٣ ـ نسبة التساوي كالأجزاء بالأسر مع الكل فإنهما شيء واحد والاختلاف مفهومي .

٤ ـ نسبة العموم المطلق حيث تكون الواسطة أعم مطلقاً نحو لا تشرب الخمر فإنه مسكر ، أو تكون الواسطة أخص مطلقاً كقولنا الحيران ناطق بما هو إنسان .

وبهذا يتضح لنا الحاجة الماسة لمعرفة الواسطة في العروض وأقسامها حتى لا نقع في المغالطة بجعل ما بالعرض مورد ما بالذات وترتيب الآثار على ذلك .

٩٣
 &

المبحث الثامن موضوع العلم

قبل الدخول في البحث الصغروي وهو تحديد موضوع علم الأصول لا بد من طرح البحث الكبروي وهو الحديث عن موضوع العلم بصفة عامة ، وقد طرح الفلاسفة تعريفاً لموضوع العلم ، وهو : « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » ، واصبحت هذه العبارة مثاراً للمناقشات الفلسفية والاصولية وذكرت فيها مختلف التفسيرات ولكن الدخول في صميم تلك المناقشات يخرجنا عن اطار البحث الاصولي ، لذلك نكتفي بعرض تفسيرنا لهذه العبارة وبيان مقدماته ودفع الايرادات عنه فالكلام في ثلاث نقاط :

أ ـ مقدمات التفسير .

ب ـ بيان المعنى .

ج ـ دفع المناقشات .

النقطة الأولى : وتشتمل على عدة مقدمات :

المقدمة الأولى ـ في بيان المراد بالعلم : من الواضح أنه ليس المراد بالعلم هنا الإِدراك الذهني المنقسم للتصور والتصديق ، بل المراد به نفس المسائل المجموعة بوحدة تركيبية معينة في وعائها المناسب لها سواءاً أدركها الانسان أم لم يدركها ، ودليل ذلك التبادر العرفي من إطلاق كلمة العلم المضافة لعنوان إعتباري خاص ، فعندما يقال درست علم الأصول وكتبت في علم النحو وهذا كتاب في علم الفقه لا ينسبق للذهن العرفي ان المقصود بذلك هو الادراك فإن

٩٤
 &

الادراك لا يدرس ولا يدون ، بل المقصود هو نفس المسائل في وعائها المناسب لها لأن الدرس والتدوين معقول في ذلك .

المقدمة الثانية ـ في بيان معنى الموضوع : ان الموضوع يطلق على أربعة معاني :

الأول : الموضوع مقابل المحمول : فإن المناطقة ذكروا أن القضية ـ لفظية كانت أم ذهنية ـ إن كانت شرطية فهي مركبة من مقدم وتالي ، وإن كانت حملية فهي مركبة من موضوع ومحمول ، سواءاً كانت ثبوتية أو سلبية . والثبوتية كما تحتاج لموضوع مقرر في الوعاء اللفظي أو الذهني تحتاج أيضاً لوجود الموضوع في ظرفه المحكي عنه ، فإن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت ، ولكن إذا كانت سلبية كما في قولنا زيد ليس بقائم فقد ذهب المعظم إلى كفاية تقرر الموضوع في الوجود اللفظي والذهني من أجل تأليف القضية بلا حاجة لوجود المسلوب عنه في الواقع ، بينما قد يستفاد من كلام المحقق النائيني ( قده ) في بحث استصحاب العدم الأزلي احتياج السالبة المحصلة لوجود الموضوع في وعائه المناسب مما يترتب عليه إنكار جريان استصحاب العدم الأزلي (١) .

وبيان ذلك : أن هناك مسلكين في باب القضايا .

١ ـ القول بالوجود الرابط .

٢ ـ القول بعدمه .

فالقول الأول يعني تركب القضية من ثلاثة اطراف موضوع ومحمول ورابط ، باعتبار أن هناك وجودين محموليين وجود الجوهر ووجود العرض فإذا لم يكن بينهما وجود رابط لا يتم ارتباطهما واقعاً ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، فإذا كانت القضية موجبة نحو زيد قائم فلا بد فيها من وجود الموضوع واقعاً ، لأن الايجاب يعني الربط بين الموضوع والمحمول والربط يحتاج لطرفين يتقوم بهما

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٤٢ ـ ٤٤٥ .

٩٥
 &

فلا بد من وجود الموضوع حينئذٍ ليتقوم به الوجود الربطي ، بينما إذا كانت القضية سالبة والسلب يعني عدم الربط فلا يوجد حينئذٍ وجود رابط حتى يحتاج لموضوع موجود يتقوم به ، فلا تحتاج السالبة المحصلة لوجود الموضوع .

والقول الثاني ـ وهو مختار المحقق النائيني ( قده ) (١) ـ هو القول بعدم الوجود الرابط ، وذلك لأن الارتباط الواقعي بين الموضوع والمحمول حاصل بنفس عرضية المحمول فإن معنى عرضية المحمول هو كون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره بلا حاجة لوجود رابط بينه وبين الموضوع ، وحينئذٍ إن كانت القضية موجبة فتارة يلاحظ وجود المحمول العرضي في نفسه وهذا هو الوجود المحمولي ، وتارة يلاحظ وجوده للموضوع وهو معنى عرضيته ، وبهذا اللحاظ يحتاج لوجود الموضوع لأن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له .

وإن كانت القضية سالبة فالمسلوب أمر عرضي يلاحظ تارة عدمه في نفسه ويعبر عنه بالسلب التام ، وتارة يلاحظ سلبه عن الموضوع وحينئذٍ يكون مفاده مفاد ليس الناقصة وهو العدم النعتي ، وهو بهذا يحتاج للموضوع أيضاً لأن ثبوت شيء ـ ولو كان سلباً ـ لشيء فرع ثبوت المثبت له . إذن فالتفريق بين القضية الموجبة والسالبة في الحاجة لوجود الموضوع وعدمه راجع للاعتراف بالوجود الرابط المتحقق في الموجبات فيحتاج لوجود الموضوع وعدم تحققه في السوالب فلا حاجة لوجود الموضوع لعدم تقوم شيء به ، وأما مع انكاره فلا فرق بين الموجبة والسالبة في كون المحمول عرضياً والعرض متقوم بموضوع جوهري بمقتضى عرضيته فيحتاج لوجود الموضوع على كل حال ، وبناء على هذا فالقضايا السالبة ترجع كلها لحمل العدم النعتي على الموضوع ، فلا يمكن الاستصحاب العدمي حينئذٍ ، لأن استصحاب العدم المحمولي لا يثبت العدم النعتي والعدم النعتي ليست له حالة سابقة حتى يستصحب ، ونقاش المبنى

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ١٥ ـ ٢٢ .

٩٦
 &

والبناء يأتي في باب الاستصحاب .

الثاني : الموضوع في مقابل العرض : ذكر الحكماء في بيان العرض والجوهر أن العرض ماهية لو وجدت كان وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها ، والجوهر ماهية لو وجدت وجدت لا في موضوع ، فالجوهر في غنىً عن أعراضه وإن لم يكن في غنىً عن جوهر آخر ، فالمادة مع كونها جوهراً لا تستغني في وجودها عن الصورة النوعية المحصلة لها .

الثالث : الموضوع بمعنى الأصل : ذكر ارباب العلوم أن لكل علم أصولاً موضوعة يعبر عنها بالمبادىء التصديقية ، وهذه المبادىء لا بد من ثبوتها بالبداهة أو في علم آخر ، وعلم الأصول له مبادىء تصديقية أيضاً كالاذعان بموضوعه وغايته ونحو ذلك .

الرابع : الموضوع بالمعنى اللغوي : وهو محور البحث والحديث في كل كلام وعلم فلا يخلو عنه علم ، وهذا هو المقصود في كلماتهم بلفظ الموضوع .

فالمعنى الأول غير مقصود لوجهين :

أ ـ عدم انحصار القضايا المستعملة في العلوم بالقضايا الحملية حتى يفسر الموضوع بموضوع القضية بل قد تكون شرطية مؤلفة من مقدم وتالي .

ب ـ إن موضوع العلم لا يجب أن يقع موضوعاً للمسائل المدونة بل قد يكون محمولاً فيها وقد لا يكون ، فالمهم وجود المحور للبحوث فقط . فمثلاً موضوع الحكمة المتعالية هو الموجود بما هو موجود مع انه قد يقع محمولاً للقضية كقولنا النفس موجود أم لا ؟ وقد يقع موضوعاً نحو الموجود واجب وممكن .

والمعنى الثاني غير مقصود أيضاً لوجهين :

١ ـ عدم اطراده لسائر العلوم ، فإن موضوع بعض العلوم خارج عن الجوهرية والعرضية كموضوع الإِلهيات بالمعنى الأعم ، فإن موضوعه الوجود بما هو وجود والوجود خارج عن الجوهرية والعرضية بل هو منشأ انتزاعهما بناءاً على

٩٧
 &

اصالته .

٢ ـ لو كان المقصود بالموضوع الجوهر المستغني في وجوده عن الاعراض لكان المراد بالعوارض الذاتية هو الاعراض التسعة ، إذ لا يوجد للجوهر عوارض ذاتية تعرض له بلا واسطة الا المقولات التسع والمفاهيم الانتزاعية الشاملة لذاتي باب البرهان والخارج المحمول والمفهوم التحليلي ، مع أن كثيراً من العوارض المبحوث عنها في العلوم عوارض اعتبارية كالاحكام الخمسة في علم الفقه والحجية في علم الأصول وهي عوارض غريبة بالنسبة لمعروضاتها من الصفات والافعال والجواهر والادلة ، وغرابة عروضها عليها باعتبار وجود الواسطة الخفية لأنها تعرض في وعاء الاعتبار لموضوعها في ذلك الوعاء ، فعروضها على الموضوع الخارجي إنما هو بواسطة انطباق ما في الاعتبار عليه وهي واسطة خفية في العروض ، فالعارض حينئذٍ غريب لا ذاتي .

فلو فسرنا الموضوع هنا بالجوهر المعروض للأعراض التسعة وللمفاهيم الانتزاعية لخرج البحث عن العوارض الاعتبارية عن موضوع العلم ، لأنها عوارض غريبة بالنسبة للجوهر لا عوارض ذاتية ، مع أن العلوم الاعتبارية كالفقه والأصول قائمة على البحث عن هذه العوارض الاعتبارية .

وأما المعنى الثالث للموضوع فعدم إرادته واضح لأن مقدمة العلم تنقسم لثلاثة أقسام :

١ ـ موضوع العلم .

٢ ـ تعريفه .

٣ ـ مبادئه التصورية والتصديقية .

ولو كان الموضوع للعلم هو عبارة عن مبادئه التصديقية لم يكن قسماً ثالثاً في مقابلها وهو خلف ، وبعد بطلان إرادة المعاني الثلاثة تعين المعنى الرابع ، وهو أن معنى الموضوع هو محور بحوث العلم سواءاً كان جوهراً أم عرضاً أم غير

٩٨
 &

ذلك .

المقدمة الثالثة : في بيان العوارض الذاتية :

المقصود بكلمة العوارض جمع عارضة كفواطم جمع فاطمة أخذاً من العروض بمعنى الاضافة ، سواءاً كان العارض من المقولات التسع في إضافتها للجوهر ، أم من المحمولات الانتزاعية كالامكان والوجوب المضافين للوجود ، أم من المحمولات الإِعتبارية كالوجوب والحرمة المضافين للافعال ، أم من سنخ الوجود لاضافته للماهية كما قالوا : « إن الوجود عارض الماهية تصوراً » ، أم من سنخ الجوهر كاضافة الصورة النوعية الجوهرية للمادة ، فالعروض مطلق الإِضافة بنحو الحمل أو التركيب الاتحادي أو الانضمامي .

وهذا هو المقصود في كلماتهم بالعوارض حتى في نظر من عبر بلفظ الأعراض كالشيخ الرئيس في الاشارات (١) والنجاة (٢) ، إذ لو كان نظره لخصوص المقولات التسع لم يكن موضوع العلم شاملاً لسائر الموضوعات في سائر العلوم كالعلوم الاعتبارية مثل علم النحو والفقه والأصول ، والعلوم الحقيقية كعلم الفلسفة .

وأما الذاتي فله أربعة معاني :

١ ـ ذاتي باب الايساغوجي : وهو النوع والجنس والفصل ، وهو خارج عن المقصود هنا ، لأن المراد في المقام بالذاتي هو المحمول المضاف بلا واسطة جلية سواء أكان هذا المحمول من ذاتيات الموضوع أم من عرضياته ، بينما ذاتي باب الكليات الخمسة هو المحمول المقوم للذات مقابل العرضي اللاحق للذات بعد تقومها بذاتها وذاتياتها ، فبينهما عموم وخصوص مطلق .

__________________

(١) الاشارات ١ : ٩١ ـ ٩٣ .

(٢) النجاة : ١٧ و ٤٩٤ .

٩٩
 &

٢ ـ الخارج المحمول : وهو ما كان خارجاً عن ذاتيات الموضوع لكنه محمول عليه بلا واسطة نحو الإِنسان ممكن مقابل المحمول بالضميمة أي بضميمة واسطة معينة ، وهو شامل للواقعيات والاعتباريات .

٣ ـ ذاتي باب البرهان : والمقصود به ما كان مأخوداً في حد موضوعه أو كان موضوعه أو أحد مقوماته مأخوداً في حده ، وبعبارة أخرى ما كانت الذات كافية لانتزاعه بلا واسطة ، فهو أعم مطلقاً من ذاتي باب الايساغوجي ، ومثاله الأنف أفطس .

لكنه غير مراد في المقام لاختصاصه بالامور الواقعية كما يظهر من تعريفه ، فإن المأخوذ في الحدود لا بد من كونه من الأمور الواقعية بينما تعريف موضوع العلم شامل لسائر العلوم حتى الاعتبارية منها .

٤ ـ المفهوم التحليلي : وهو المستبطن في ذات الموضوع كقولنا الولد يحتاج لوالد والمعلول يحتاج للعلة ، بخلاف قولنا الولد يحتاج لمكان فإن المحمول هنا غير مستبطن في الموضوع لذلك يسمى مفهوماً تركيبياً لا تحليلياً ، لكنه غير مراد هنا ، فإن الذاتي هنا شامل للمفاهيم التركيبية .

٥ ـ باب الحمل والاضافة : وهو المعبر عنه في كلماتهم بالأولي ، وتعريفه أنه ما كان اسناده للموضوع إسناداً حقيقياً بنظر العرف ، لأن عروضه عليه بلا واسطة جلية ، وهو أعم مطلقاً من ذاتي باب الايساغوجي وذاتي باب البرهان والخارج المحمول والمفهوم التحليلي ، وهو المقصود في محل كلامنا .

وبعد اتضاح المقدمات السابقة واتضاح أقسام الواسطة في العروض فيما سبق نقول : بأن الميزان في الفرق بين العارض الذاتي والعارض الغريب هو الواسطة الجلية في العروض لا غيرها ، فمتى كان الاسناد بواسطة جلية في العروض بحيث يعد تجوزاً بنظر علماء البيان فالعارض غريب حينذاك ومتى كان الاسناد بلا واسطة أو واسطة خفية أو أخفى فهو عارض ذاتي ، ويقع

١٠٠