الرافد في علم الأصول

السيد منير السيد عدنان القطيفي

الرافد في علم الأصول

المؤلف:

السيد منير السيد عدنان القطيفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وأما مثال المفردات فهو لفظ العلم والظن والشك ، فلفظ العلم في اللغة العربية يعني البصيرة والوضوح لكن في مقام ترجمة الفلسفة تحول مدلوله للاعتقاد الجازم ، وأصبح الأصوليون والفقهاء يحملون النصوص المتضمنة للفظ العلم على هذا المعنى مع أنه اصطلاح حادث .

كذلك لفظ الظن فهو في اللغة العربية والقرآن الكريم بمعنى الاعتقاد الذي لا يستند لدليل لكنه تحول لمعنى الاعتقاد الراجح عند ترجمة الفلسفة اليونانية ، ولفظ الشك يعني مقابل اليقين لكن معناه الشائع الآن هو تساوي الاحتمالين .

والحاصل أن بعض المفردات والمركبات اللغوية اكتسبت مدلولاً جديداً عند دخول الفلسفة إلى اللغة العربية ، واعتمد الأصوليون عند استعمال هذه المفردات على مدلولاتها الفلسفية لا على مدلولاتها اللغوية ، وهذا مما يؤدي إلى اختلاط المعاني عند استنطاق النصوص والروايات .

الجانب الثالث : نتائج التأثر الفلسفي :

من أهم نتائج تأثر الأصول بالفلسفة وقوع الخلط بين القوانين التكوينية والاعتبارية وأمثلتنا على ذلك كثيرة ، منها :

أ ـ القول بامتناع الشرط المتأخر لاستحالة تقدم المعلول على علته زماناً مع أن الشرط المتأخر من الاعتباريات لا من التكوينيات .

ب ـ استحالة القول بالكشف الانقلابي في الإِجازة المتأخرة عن البيع الفضولي ، حيث ذهب بعض العلماء للقول بالنقل وذهب بعضهم للقول بالكشف الحقيقي وبعضهم للقول بالكشف الحكمي وذهب البعض الآخر وهو مسلكنا أيضاً ـ للقول بالكشف الانقلابي ، بمعنى الالتزام بملكية المالك للمبيع واقعاً إلى حين الاجازة وبحصولها ينكشف حصول الملك للمشتري منذ البيع ، وبذلك يحصل انقلاب في الملكية ما بين زمان البيع وزمان الاجازة ولهذا

٦١
 &

عبر عنه بالكشف الانقلابي ، فالقائلون باستحالته يستندون لقاعدة استحالة انقلاب الشيء عما وقع عليه مع أنها قاعدة تكوينية فكيف تجري في الاعتبارات .

ج ـ القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين ، مع أنه لا تضاد في الاعتباريات بما هي .

د ـ قول المحقق النائيني ( قده ) بمتمم الجعل المفيد فائدة الإطلاق أو التقييد ، وذلك في مورد كون القيد للحكم من التقسيمات اللاحقة له لا السابقة كقصد الامتثال بالنسبة للأمر ، فهنا لا يصح كون الجعل مقيداً بقصد الامتثال لتأخره عنه رتبة ولا كونه مطلقاً بالنسبة له لأنه إذا استحال التقييد استحال الاطلاق لتقابلهما تقابل الملكة والعدم ، وحيث أن الإِهمال في الواقعيات مستحيل فلا بد من كون الجعل مقيداً أو مطلقاً ، ولكن حيث لا يمكن الاطلاق والتقييد في الجعل الأول في مقام الاثبات نحتاج لمتمم الجعل المفيد فائدة الاطلاق أو التقييد ، وهذا القول كما ترى مبني على قانون استحالة الاهمال في الواقعيات مع أنه قانون تكويني لا يجري في الاعتبارات .

هـ ـ انكار المحقق النراقي بيع الكلي في الذمة كبيع صاع من الحنطة في الذمة مستنداً لاستحالة تحقق العرض بدون المعروض ، وحيث أن الملكية في المقام عرض موجود فكيف تتقوم بأمر معدوم وهو الكلي في الذمة ، وهذا من باب اسراء التكوينيات للاعتبارات .

و ـ الاعتراض على مسلكنا القائل بمتمم الجعل التطبيقي الذي طرحناه في بحث الحقيقة الشرعية وبحث الصحيح والأعم ، ومفاده أن الشرع الشريف كما قام باختراع بعض الماهيات الاعتبارية كالصلاة مثلاً قام بالتدخل الاعتباري في مقام التطبيق أيضاً ، فالصلاة التي هي عبارة عن اللين الخضوعي

٦٢
 &

أمام الخالق لا تنطبق قهراً على صلاة الحضر والسفر وصلاة الغريق وإنما الشارع قام بتطبيقها على هذه الافراد ، وقد اعترض على هذا المسلك بأن انطباق الكلي على فرده انطباق قهري لا وجه لتدخل الجعل فيه ، مع أن لابدية انطباق الكلي علىٰ فرده قهراً أو علىٰ الجزء التحليلي للفرد كما هو الصحيح قانون تكويني لا يجري في الاعتباريات ، فأي مانع من تدخل المقنن في تطبيق الماهية الاعتبارية كالميتة والمذكى والدينار على أفرادها ، وهذا ما يسمى بمتمم الجعل التطبيقي فيكون الاعتبار متدخلاً في أصل جعل الماهية وفي تطبيقها أيضاً .

ز ـ الاعتراض على عدم حجية الأصل المثبت بأن ذلك مستلزم للتفكيك بين اللوازم والملزوم والانفكاك بين الشيء ولوازمه مستحيل ، مع أن هذا قانون تكويني لا وجه لتسريته للاعتباريات ، والحاصل أن دخول الفلسفة في علم الأصول أدّى لمثل هذه الاشتباهات ، مع أن قوانين الفلسفة قوانين تكوينية لا تمتد للاعتباريات التي هي فرضيات مخترعة للتأثير على سلوك الآخرين ، فهي أمور لا تختلف فيها الأنظار وإنما تختلف باختلاف الأنظار وتتطور بتطور المجتمعات كما نرىٰ في عصرنا هذا من توسع المعاملات البنكية والتجارية وكثرتها ، بحيث يكون من الخطأ عند الفقيه أن يقوم بمحاولة ارجاع المعاملات الجديدة للمعاملات الشائعة في زمان النصوص ، فإنه لا موجب لذلك بل هي معاملات جديدة تندرج تحت عمومات الصحة ما لم تتعارض مع كتاب الله والسنة ، بلا حاجة لإِرجاعها لعناوين المعاملات القديمة كالبيع والاجارة والصلح والشركة ونحوها ، بل نقول بأنها معاملات اعتبارية جديدة فإن التطور الاقتصادي للبشرية يدفعها لتأسيس معاملات جديدة بقدر حاجتها إليها ، والقانون العام في باب المعاملات هو عمومات الحل والصحة ما لم تعارض الكتاب والسنة .

٦٣
 &

المبحث الخامس في علاقة علم الأصول بالعلوم الأدبية

والكلام هنا في مطلبين :

الأول : في شواهد الارتباط بين الأدب وعلم الأصول .

الثاني : في الفارق بين الاعتبارات الأدبية والقانونية .

المطلب الأول : إن الشواهد على ارتباط علم الأصول بعلم الأدب نوعان :

أ ـ جمع العلماء بين القواعد الأصولية والأدبية في مؤلف واحد كالشهيد الثاني في كتابه تمهيد القواعد ، فإنه ذكر مائة قاعدة أصولية مع فروعها الفقهية ، ومائة قاعدة من العلوم العربية مع فروعها الفقهية ، قال في مقدمة كتابه : « من أعظم مقدمات الفقه علم أصوله وعلم العربية إذ الأول قاعدته ودليله والثاني مسلكه وسبيله ، فلا جرم رتبنا هذا الكتاب الذي استخرنا الله تعالى على جمعه وترتيبه على قسمين ، أحدهما : في تحقيق القواعد الأصولية وتفريع ما يلزم من الأحكام الفرعية ، والثاني : في تنقيح المطالب العربية وترتيب ما يناسبها من الفروع الشرعية ، واخترنا من كل قسم منها مائة قاعدة متفرقة من أبوابه ليكون ذلك عوناً لطالب الفقه » (١) .

وكما أن قيام العلامة الحلي في كتابه ( منتهى الوصول لعلمي الكلام

__________________

(١) تمهيد القواعد : ١ .

٦٤
 &

والأصول ) بالجمع بين العلمين المذكورين دليل على علاقة علم الكلام بعلم الأصول كما ذكر في تأسيس الشيعة (١) ، وكما أن جمع الشيخ البهائي في كتابه الزبدة بين القواعد المنطقية والأصولية دليل على ارتباطهما ، فكذلك جمع الشهيد بين القواعد الأصولية والعربية دليل ارتباطهما .

ب ـ اعتماد علم الأصول في منهجه المعاصر على كثير من المباحث اللغوية وهي على ثلاثة أصناف :

١ ـ مباحث الاستعمال ، كالكلام حول حقيقة الوضع والاستعمال وانقسام الاستعمال للحقيقي والمجازي ، وعلامات الحقيقة والمجاز وبحث تعارض الأحوال .

٢ ـ بحوث المفاهيم الافرادية ، سواء أكانت استقلالية كالبحث عن مادة الأمر ومادة النهي والوجوب والحرمة والمبهمات من الموصول واسم الاشارة ، أم كانت حرفية كالبحث حول المعنىٰ الحرفي والهيئات الافرادية كهيئة المشتق وصيغة الأمر والنهي .

٣ ـ بحوث المفاهيم التركيبية ، كالبحث عن الجملة الخبرية والانشائية ومباحث المفاهيم ، فهذه كلها بحوث لغوية طرحت في القسم الأول من علم الأصول وهو مباحث الألفاظ مما يدل على علاقة العلمين ، كما أن القسم الثاني من الأصول وهو بحوث الأصول العملية وبحوث الحجج والامارات لها ارتباط وثيق بالاعتبارات الأدبية والقانونية التي سنتحدث عنها فيما يأتي .

المطلب الثاني : قد تحدثنا في أول الكتاب عن الفارق بين الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني ، وقلنا بأن الاعتبار الأدبي ظاهرة فردية وعمل شخصي يقوم به الإِنسان بهدف التأثير في مشاعر الآخرين ، وحقيقته اعطاء حد شيء لشيء

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٣٩٨ .

٦٥
 &

آخر كاعطاء حد الأسد للرجل الشجاع ، بينما الاعتبار القانوني ظاهرة اجتماعية ، وهذا معنى كونه متأصلاً أي أن الجعل الشخصي لا أثر له ما لم يكن هناك امضاء وموافقة من المجتمع أو الجهاز العام ، بخلاف الاعتبار الأدبي فهو إبداع فردي غير متأصل . لأنه لا يتوقف علىٰ اقرار المجتمع وإمضائه .

كما أن الاعتبار القانوني تتطابق فيه الارادة الاستعمالية مع الارادة الجدية بخلاف الاعتبار الأدبي فهو متقوم بعدم تطابق الارادتين ، كما أن الغاية من الاعتبار القانوني قيادة ارادة الفرد والمجتمع نحو الخير بينما غاية الاعتبار الادبي التأثير في مشاعر الآخرين ، إذن فهما مختلفان في الحقيقة والهدف ، ومختلفان أيضاً في الآثار فإن استصحاب الاعتبار القانوني صحيح بينما استصحاب الاعتبار الأدبي غير صحيح ، إذ الاستصحاب من قواعد السلوك ولا ربط بين الاعتبار الأدبي ومقام السلوك ، ومع وضوح الفرق بينهما موضوعاً وحكماً فقد وقع الخلط بينهما في علم الأصول وعلم الفقه من بعض الأعلام ونضرب أمثلة على ذلك :

المثال الأول : قاعدة الطهارة المعبر عنها في النصوص بقوله عليه السلام : « كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر » (١) والسؤال المطروح هنا هل أن مفاد هذا الحديث هو الاعتبار القانوني أم الاعتبار الأدبي ، فإذا قلنا بأن مفاده الاعتبار القانوني فالمقصود حينئذٍ جعل حكم ظاهري خاص بحالة عدم العلم بالقذارة ، وهو المسمى بالطهارة الظاهرية التي لا تمتد لما بعد العلم بالخلاف ، فإنه إذا انكشف الخلاف فالاجزاء حينئذٍ خلاف القاعدة يحتاج لدليل خاص ، إذ النجس لا يجزي عن الطاهر .

وإذا (٢) قلنا بأن مفاده الاعتبار الأدبي فالمقصود حينئذٍ تنزيل المشكوك منزلة

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / ٤١٩٥ .

(٢) تعرضنا لهذا البحث في صفحة : ١٤٢ .

٦٦
 &

الطاهر تنزيلاً أدبياً مجازياً كتنزيل الشجاع منزلة الأسد بلحاظ جميع الآثار التكوينية والتشريعية من دون جعل أي حكم شرعي لا واقعاً ولا ظاهراً ولذلك لم يقيد مفادها بحالة الشك بل قيد الحالة عدم العلم الشاملة للجهل المركب والغفلة والنسيان فلا يتصور حينئذٍ انكشاف الخلاف بل إذا حصل العلم بالقذارة فهو ـ من باب تغير الموضوع لا من باب انكشاف الخلاف كما يساعد عليه التعبير الموجود في النص « فإذا علمت فقد قذر » .

وأما الإِجزاء حينئذٍ فيتوقف على نوع الأثر الذي يراد ترتيبه فإن النجس له أثران :

١ ـ ما كان أثراً للنجس بما هو نجس كعدم جواز التطهير به ونجاسة ملاقيه ، وبلحاظ هذا الأثر لا فرق بين الاعتبارين القانوني والأدبي في القول بعدم الإِجزاء بعد تبين النجاسة .

٢ ـ ما كان أثراً للنجس بواسطة الجعل الشرعي كما نعيته للصلاة في لباس المصلي وما نعيته من السجود ، وبلحاظ هذا الأثر الثاني يختلف القول بالإِجزاء وعدمه لاختلاف مفاد الحديث ، فإذا كان مفاده الاعتبار القانوني فهو حاكم على أدلة اشتراط الطهارة في اللباس والمسجد حكومة ظاهرية ترتفع بانكشاف الخلاف ، ولا مجال للاجزاء حينئذٍ .

وإذا كان مفاده الاعتبار الأدبي فهو حاكم على أدلة اشتراط الطهارة حكومة واقعية ، فيكون الشرط حينئذٍ شاملاً للطهارة الواقعية والطهارة التنزيلية ، ومقتضى ذلك الحكم بتحقق شرط الطهارة حين الشك ، فبعد العلم بالقذارة يكون الإِجزاء موافقاً للقاعدة باعتبار تحقق الشرط المذكور ، وإنما قلنا بالإِجزاء في خصوص الأثر الثاني ، لأن ثبوته بالجعل والاعتبار فلا يمتنع تبديله باعتبار آخر بخلاف الأثر الأول الثابت بنفس ثبوت النجاسة ، لأنه مستبطن فيها ومنتزع منها .

٦٧
 &

ونفس هذا التحليل الذي ذكرناه في قاعدة الطهارة يأتي في قاعدة الحل أيضاً المعبر عنها بقوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) ، كما أنه متصور في مدلول أصالة البراءة الشرعية المعبر عنها في النصوص « رفع ما لا يعلمون » (٢) ، فإن مفاد النص هل هو الترخيص الظاهري على نحو الاعتبار القانوني ، أم مفاده تنزيل الحكم الواقعي عند عدم العلم به منزلة المعدوم على نحو الاعتبار الأدبي ؟

وبيان ذلك : أن الإِنسان بطبعه لا يندفع نحو عمل ما الّا لأهمية المحتمل أو قوة الاحتمال عند المقايسة بينهما ، فإذا قال له الشارع المقدس « رفع ما لا يعلمون » فمفاد هذا القول هو بيان عدم أهمية المحتمل وتنزيله منزلة عدمه ، وفي مقابله قوله « احتط لدينك » (٣) فإنه اعتبار أدبي أيضاً مفاده تقوية الاحتمال أو بيان أهمية المحتمل ، باعتبار أن الإِنسان قد يحتمل شيئاً مهماً احتمالاً ضئيلاً لا يحركه نحو عمله فيقوم الشرع بتقوية ذاك الاحتمال حتى يكون محركاً نحو العمل ، أو أن المكلف قد لا يدرك مدى أهمية المحتمل فيأمره الشارع بالاحتياط كناية عن أهمية المحتمل .

إذن ففي هذه الأمثلة قد وقع الخلط من بعض الأعلام بسبب عدم الدقة في التمييز بين الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني .

المثال الثاني : جعل العلمية والطريقية في مثل قوله عليه السلام « فما أدى فعني يؤدي » (٤) ، حيث ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى أن معنى حجية الامارة هو اعتبارها علماً تعبداً (٥) ، وقد قلنا في موضعه أن جعل العلمية هل هو اعتبار

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٨ / ٢٢٠٥٠ .

(٢) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / ٢٠٧٦٩ .

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / ٣٣٥٠٩ .

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٣٨ / ٣٣٤١٩ .

(٥) اجود التقريرات ٢ : ١٠٢ .

٦٨
 &

قانوني بحيث يستتبع حكماً ظاهرياً لا بقاء له بعد انكشاف الواقع ، أم أن الجعل المذكور تنزيل واعتبار أدبي لا يستتبع حكماً ظاهرياً في مورده أصلاً .

المثال الثالث : جعل بعض الأحكام الوضعية كالجزئية والشرطية والمانعية جعلاً مستقلاً ، فقد وقع البحث في ذلك مفصلاً ، وذهب الاستاذ السيد الخوئي ( قده ) الى عدم امكان ذلك بل لا بد للمولى في مقام جعل الجزئية من الأمر بالمركب من عدة عناصر لينتزع من هذا الأمر بالمركب جعل الجزئية لعناصره ، وكذلك لو أراد المولى جعل الشرطية أو المانعية فلا بد له من الأمر بشيء مقيد بقيد وجودي أو عدمي لينتزع من الأمر بالمقيد معنى الشرطية والمانعية (١) .

وذهب بعض الأعاظم ( قده ) إلى أنه لا مانع عقلاً من جعل الجزئية والشرطية ابتداءاً (٢) . ونحن نقول بأنه قد وقع الخلط هنا بين الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني ، فالاعتبار الأدبي إبداع فردي لا تأصل له في المجتمع فقد يتذوقه المجتمع وقد يرفضه بينما الاعتبار القانوني ظاهرة اجتماعية تنبع من اقرار المجتمع بهذا الاعتبار ، فقيام الانسان باعتبار الملكية لشخص ما لا يكون اعتباراً قانونياً حتى يمضيه المجتمع وتتعهد السلطة التشريعية والتنفيذية بحمايته والدفاع عنه فهو اعتبار متأصل كما ذكرنا ، وحينئذٍ فإن كان جعل الشرطية والجزئية مما له ارتكاز اجتماعي واقرار عقلائي فهو اعتبار قانوني يصح إبداعه مستقلاً وتترتب عليه الأثار المطلوبة ، والا فهو اعتبار أدبي فقط لا يصل لمستوى الجعل القانوني المستقل .

هذه بعض النماذج التي وقع الخلط فيها بين الاعتبار الادبي والاعتبار

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٨٢ .

(٢) تهذيب الاصول للإِمام الخميني ٢ : ٣٧١ .

٦٩
 &

القانوني في علم الأصول .

وأما بعض الأمثلة في الفقه فمنها :

أ ـ التعبير في بعض النصوص عن الزكاة بأنها « اوساخ أيدي الناس » (١) ، وقد وقع الإِشكال في ذلك من بعض الأدباء والأقلام المعاصرة بأن الزكاة حق للفقراء في أموال الاغنياء فكيف يعتبر الاسلام هذا الحق من الاوساخ ، مع أن لازم ذلك احتقار الفقراء وإهانتهم وحدوث الطبقية بينهم وبين الاغنياء ما دام الاسلام يعتبر حقوقهم من الفضلات والأوساخ .

ولكن الجواب الصحيح عن ذلك أن يقال : بأن هذا التعبير لون من ألوان الاعتبار الأدبي لا الاعتبار القانوني ، بلحاظ أن الاعتبار الأدبي حقيقته كما ذكرنا سابقاً إعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف التأثير في احاسيس المخاطب ومشاعره ، وفي المقام عندما أقبل بنو عبد المطلب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا منه أن يجعلهم من عمال الصدقات حتى ينالوا نصيباً منها أراد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إبعادهم عن ذلك (٢) ، ولعله بسبب أن لا تكون جميع وظائف الدولة الاسلامية بيد بني هاشم ، لأن ذلك عامل منفر ومؤلب للقلوب عليهم بأنهم استبدوا بجميع الوظائف والمراكز ، فحاول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم استخدام تعبير يبعدهم عن الوظيفة المعينة فقال لهم بأن الصدقات أوساخ ما في أيدي الناس ، وهو تعبير أدبي كما قلنا قصد منه تنفير نفوسهم واحاسيسهم عن العمل المذكور لا أنه تعبير قانوني بحيث تترتب الآثار القانونية للأوساخ على الصدقات ، كوجوب إزالتها عن المسجد كسائر النجاسات .

ب ـ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٣) فإن

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٦٨ / ١١٩٩٣ .

(٢) الوسائل ٩ : ٢٦٨ / ١١٩٩٢ و ١١٩٩٣ .

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ / ١٠٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٥ .

٧٠
 &

أغلب الفقهاء اعتبروا هذه المقالة اعتباراً قانونياً مفاده استقرار مالية المأخوذ على ذمة الآخذ ، مع أنه في نظرنا مجرد تعبير أدبي للكناية عن الضمان عند التلف فقط .

ج ـ الفرق بين الحق والملك ، فقد ذهب المحقق النائيني ( قده ) الى كون الفرق بينهما تشكيكياً فكلاهما عبارة عن الاختصاص بالشيء ولكن الملك أقوى مرتبة من الحق في هذا الاختصاص (١) واعترض عليه المحقق الاصفهاني ( قده ) بأن ماهية الاختصاص إما أن تكون مأخوذة من مقولة الجدة وإما أن تكون مأخوذة من مقولة الإِضافة ، وكلا المقولتين من الأعراض البسيطة التي لا تقبل التشكيك والتفاوت بالشدة والضعف .

ولكن الصحيح بنظرنا أن اعتبار ماهية الاختصاص إن كان اعتباراً أدبياً فحينئذٍ لا يتصور التشكيك والتفاوت فيه ، لأنه تنزيل أمر منزلة شيء تكويني فيكون الأصل المنزل عليه محفوظاً فيه ، وحيث أن أصله التكويني غير قابل للتشكيك فهو أيضاً غير قابل لذلك التشكيك أيضاً ، وإن كان اعتباراً قانونياً كما هو الصحيح فهو وإن كان مبدأه الاعتبار الأدبي المنزل على أصل تكويني ، ولكن لتحول هذا الاعتبار القانوني لظاهرة اجتماعية وتأصله في مرتكزات المجتمع العقلائي لا يكون الأصل التكويني محفوظاً فيه فيقبل التشكيك الاعتباري حينئذٍ ، بمعنى أن المقنن تارة يجعل نوعاً من الاختصاص بنحو مؤكد ويسميه ملكاً وتارة يجعله بنحو غير مؤكد ويسميه حقاً فيحصل التفاوت بالاعتبار والجعل ، لا أنه تفاوت بطبعه وحركة اشتدادية تكوينية بنفسها ، فإن الحركة مستحيلة في الاعتباريات فهذه مجموعة من الأمثلة في الفقه والأصول علىٰ حصول الخلط بين الاعتبارات الأدبية والقانونية .

__________________

(١) المكاسب والبيع ( تقريرات النائيني ) بقلم محمد تقي الآملي ١ : ٩٢ .

٧١
 &

المبحث السادس علاقة علم الأصول بعلم الفقه

علم الفقه على نوعين :

١ ـ الفقه الخلافي .

٢ ـ الفقه المذهبي .

الأول : الفقه الخلافي : وتعريفه أنه تمهيد القواعد لتثبيت المذهب المعتقد ورد المذاهب الأخرى .

بيان ذلك : أن الفقه الخلافي نشأ عند الفريقين السنة والشيعة منذ القرن الثاني للهجرة ، وعوامل وجوده تختلف من مذهب لآخر ، فبالنسبة للمسلمين من أهل السنة كان السبب في وجوده تعدد المذاهب الفقهية التي حصرت بسبب عوامل سياسية معروفة في أربعة مذاهب ، فكان الشخص المتفقه إذا اختار مذهباً من هذه المذاهب الأربعة يقوم بتأسيس قواعد وأصول يرتكز عليها في الدفاع عن آراء المذهب المختار عنده ونقض المذاهب الأخرى ، وكأن مذهبه صادر عن شخص معصوم لا يقبل الخطأ فلا بد من الدفاع عن رأيه وفتواه .

وهذه الأصول الممهدة للدفاع عن الرأي المختار هي المسماة بعلم الفقه الخلافي ، ومن هنا نتعرف على ارتباط علم الأصول بعلم الفقه ، حيث أن علم الأصول ما وضع الا كوسيلة لعملية الاستنباط والاستدلال على الحكم ، فدور علم الأصول دور تحرير الكبرى ودور علم الفقه دور تطبيق الكبرى على صغرياتها ، وإنما الهدف من كبريات علم الأصول مختلف فتارة يكون الهدف

٧٢
 &

من وضعها التوسل بها لاستنباط الحكم الشرعي في علم الفقه ، وهذا ما يسمى بالفقه المذهبي أو الفقه الاستدلالي ، وتارة يكون الهدف من تمهيدها وتحريرها الدفاع بها عن المذهب المختار ونقض المذاهب الأخرى ، وهو المسمى بالفقه الخلافي .

إذن فكلا النوعين من الفقه الخلافي والفقه المذهبي يعتمدان على علم الأصول ، الّا أن الفقه الخلافي يعتمد على الأصول في تثبيته وتركيزه للمذهب المختار ، والفقه المذهبي يعتمد عليها في مقام استنباط الحكم الشرعي .

قال ابن خلدون في مقدمته (١) : « وأجرى الخلاف بين المتمسكين والآخذين بأحكام المذاهب الأربعة مجرى الخلاف في النصوص الشرعية ، وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي تمسك به ، وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم ، وهذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات ، ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد ، إلا أنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته ، وهو لعمري علم جليل الفائدة » .

وكما كان علم الفقه الخلافي يعتمد على علم الأصول فهو يعتمد أيضاً على علم الجدل والمناظرة كما ذكر ابن خلدون ، قال (٢) : « وأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين المذاهب الفقهية وغيرهم ، فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ .

(٢) مقدمة ابن خلدون : ٤٥٧ .

٧٣
 &

عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ ، فاحتاج الأئمة الى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول » . فالحاصل أن علم الفقه الخلافي عند أهل السنة هو عبارة عن القواعد الأصولية والجدلية المستخدمة لتثبيت المذهب المختار ورد المذهب المعارض .

وأما الفقه الخلافي عند الشيعة فهو عبارة عن مجموعة من الأصول والقواعد للدفاع عن مذهب أهل البيت وإثبات بعد المذاهب الأخرى عن سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وبيان ذلك في ثلاثة أمور :

أ ـ منشأ وجود الفقه الخلافي عند الشيعة .

ب ـ الاحتجاجات والمناظرات في هذا الميدان .

ج ـ الكتب والرسائل التي كتبت في الفقه الخلافي .

الأمر الأول : إن الشيعة تعتقد أن السنة الحقيقية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هي موروثة عند أهل البيت عليهم السلام ، كما ورد عن الصادق عليه السلام : « لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكن أصول علم نتوارثها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كابراً عن كابر » (١) ، لذلك فإن سائر التشريعات التي حدثت بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعيدة عن سنته ، سواءاً التشريعات التي حدثت في القوانين المالية كإلغاء سهم المؤلفة قلوبهم وسهم ذوي القربى وهو الخمس والقول بالعول والتعصيب في الميراث ، أم في الأمور العبادية كإلغاء متعة الحج وبعض فصول الأذان ووضع صلاة التراويح ، أم في القضايا المعاملية كاشتراط صحة النكاح بحضور شاهدين وعدم اشتراط ذلك في الطلاق وإلغاء نكاح المتعة وشبه ذلك ، وحدوث هذه التشريعات البعيدة في نظر الشيعة عن سنة الرسول صلى الله عليه

__________________

(١) البحار ٢ : ١٧٢ / ٣ . عن ابي جعفر الباقر عليه السلام .

٧٤
 &

وآله وسلّم هو السبب في وجود الفقه الخلافي عند الشيعة ، الذي هو عبارة عن مجموعة من المناظرات والمناقشات التي تنقض التشريعات الحادثة بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم اعتماداً على أصول وقواعد معينة .

وهذا العلم امتداد لعلم الكلام ، لأن علم الكلام يبحث عن الخلافات العقائدية بين الفريقين وهذا العلم يبحث عن الخلافات الفقهية الفرعية ، ولذلك نلاحظ الارتباط الوثيق بين علم الكلام وعلم الأصول وعلم الفقه في كثير من البحوث ، مما دعى أمثال الشيخ المفيد الى كتابة رسالة الاعلام في الفقه الخلافي كتكملة لكتابه أوائل المقالات المدون في العقائد ، كما أن كتاب الانتصار للسيد المرتضى يعد شرحاً لكتاب الاعلام للمفيد لتطابقهما في العناوين وبعض العبارات .

ومما يدل على الربط بين العلوم الثلاثة ما كتبه العلامة الحلي في نهج الحق ، حيث جعله مشتملاً على ثلاثة أبواب :

١ ـ أصول الدين .

٢ ـ أصول الفقه .

٣ ـ الفقه المقارن .

فالفقه الخلافي عند الشيعة هو التعرض للآراء المخالفة لسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بحسب معتقدهم ، وهذا ما يسمى في علم التاريخ بالتشيع الثقافي الذي يختلف عن التشيع السياسي ، فإن التشيع السياسي هو حركة المناهضة للأوضاع الفاسدة ، كما حدث من أبي ذر الغفاري والإِمام علي وقت خلافته والإِمام الحسين عليهما السلام .

أما التشيع الثقافي فهو الذي بدأت بذرته بالنمو منذ زمن الإِمام الباقر عليه السلام ، ويعني افراز المذهب الشيعي ككيان فكري وعملي له أصوله وقواعده المعينة من بين بقية المذاهب والفرق الأخرى استناداً لكتاب الله والسنة

٧٥
 &

النبوية الموروثة عند أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وهذا ما أثار حفائظ بعض الكتاب كابن خلدون حيث يقول في مقدمته ـ بعد تقسيم الفقه للفقه الحجازي الملائم لمذهب مالك والفقه العراقي الملائم لمذهب أبي حنيفة والفقه الظاهري ـ :

« وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وانفردوا بها ، وبنوها على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح ، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم » ، وقال : « وهي كلها أصول واهية ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الانكار والقدح ، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها الا في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن » (١) .

الأمر الثاني : في المناظرات التي وقعت لمناقشة الآراء الأخرى ، منها ما ذكره الكافي من مناظرة ابن عباس مع الآخرين في مسألة العول (٢) ، ومنها ما ذكره الكافي من المناظرة الواقعة بين الإِمام الصادق والفقيه الشامي الذي ادعى أنه من أهل الفقه والفرائض (٣) ، ومنها ما ذكره الكافي ، عن حمدان القلانسي ـ من رجال أواسط القرن الثالث ـ يخاطب عمر بن شهاب العبدي : من أين زعم أصحابك أن من طلق ثلاثاً لم يقع الطلاق ؟ فقلت زعموا أن الطلاق بالكتاب والسنة فمن خالفهما رد إليهما ، قال فما تقول فيمن طلق على الكتاب والسنة فخرجت امرأته أو أخرجها فاعتدت في غير بيتها ؟ » ، إلى أن يقول : « فأجبته بجواب ولم يكن عندي جواب عنه ومضيت ولقيت أيوب بن نوح ـ وهو من وكلاء الإِمام الهادي والعسكري ، والظاهر من ترجمته أنه من الفقهاء المحدثين لا من الفقهاء الأصوليين كيونس بن عبد الرحمن ـ فأخبرته بقول عمر فقال :

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون : ٤٤٦ .

(٢) الكافي ٧ : ٧٩ ـ ٨٠ / ٣ .

(٣) الكافي ١ : ١٣٠ / ٤ .

٧٦
 &

ليس نحن أصحاب قياس إنما نقول بالآثار ، فلقيت علي بن راشد ـ وهو وكيل آخر ـ وسألته عن ذلك وأخبرته بقول عمر فقال : قد قاس عليك وهو يلزمك ، فسألت معاوية بن حكيم عن ذلك فقال معاوية : ليست العدة مثل الطلاق وبينهما فرق (١) .

ثم إنّ الكليني ( ره ) نقل في الكافي عن الفضل بن شاذان جواباً شبيهاً بذلك (٢) ، وواقع المسألة المثارة في الرواية أن هناك آيتين :

١ ـ قوله تعالى : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (٣) .

٢ ـ وقوله تعالى : ( لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ) (٤) ، والسؤال لماذا قال الشيعة بأن من طلق لغير العدة فطلاقه باطل بينما قالوا إن المطلقة لو خرجت من بيت زوجها فطلاقها صحيح ، مع أن مفاد الآيتين واحد وهو تقييد الطلاق بالعدة وتقييده بالبقاء في بيت الزوج ، وقد تصور أيوب بن نوح وعلي بن راشد أن المقارنة بين الآيتين نوع من القياس ونحن لا نقول بالقياس ، وهذا لون من التفكير البدوي ، بينما معاوية بن حكيم والفضل بن شاذان حيث إنهما يملكان التفكير الأصولي فرَّقا بين اللسانين ، وهو أن لسان الآية الأولى لسان إرشادي للحصة الخاصة فيفيد عدم الامضاء للطلاق في غير تلك الحصة ، بينما لسان الآية الثانية هو النهي المولوي الذي لا يلزم من مخالفته الفساد الوضعي .

إذن فهذه المناظرات مصداق من مصاديق الفقه الخلافي ، ونحن لو تأملنا فيها لرأينا دخالة علم الأصول في الفقه الخلافي ، كما يظهر من الرواية الأخيرة من الفرق بين اللسان الارشادي والمولوي .

__________________

(١) الكافي ٦ : ٩٢ ـ ٩٣ .

(٢) الكافي ٦ : ٩٣ .

(٣) الطلاق ٦٥ : ١ .

(٤) الطلاق ٦٥ : ١ .

٧٧
 &

الأمر الثالث : فيما كتب في الفقه الخلافي :

منها : ما ذكره الصدوق في كتاب الاعتقادات من رواية سليم بن قيس الهلالي في باب اختلاف الحديثين ، وهذه الرواية تتضمن عدة أصول وقواعد لرفع اللبس عند اختلاف الفريقين ، كقواعد التمييز بين العام والخاص والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه (١) ، ومثلها رواية المسمعي عن الإِمام الرضا عليه السلام في نفس الباب (٢) .

ومنها : ما كتبه يونس بن عبد الرحمن في المتعة وفي الاختلاف في الحج وفي المواريث (٣) .

ومنها : ما ذكره الشيخ المفيد في أوائل المقالات من البحث حول القياس والاجماع وخبر الواحد والنسخ (٤) ، وما فصّله في شرح اعتقادات الصدوق في مبحث الحظر والاباحة والحديثين المختلفين (٥) ، وقد كانت هذه البحوث تذكر ضمن البحوث الكلامية ثم أفردت بالتدوين والتحرير ، هذا تمام الكلام حول الفقه الخلافي وسعته عند المذاهب الاسلامية ومقدار ارتباطه بعلم الأصول .

الثاني : الفقه المذهبي : والمقصود بالفقه المذهبي عند المدرستين ـ مدرسة أهل البيت ومدرسة العامة ـ هو الفقه الاستدلالي ، وهو تطبيق الكبريات الأصولية أو اللغوية أو غيرها لأجل التوصل للحكم الشرعي لا لأجل تثبيت مذهب ونقض مذهب آخر ، ولذلك لا تطرح البحوث المتسالم عليها في مذهب معين في مجال الفقه الاستدلالي ، مثلاً مدرسة أهل البيت عندما تتحدث عن

__________________

(١) اعتقادات الصدوق : ١٠٩ .

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٣ / ٣٣٣٥٤ .

(٣) رجال النجاشي : ٤٤٦ / ١٢٠٨ ، فهرست الشيخ ١٨١ / ٨٠٩ .

(٤) اوائل المقالات : ١٣٨ ـ ١٤١ .

(٥) شرح اعتقادات الصدوق : ١٠٧ ـ ١٠٨ .

٧٨
 &

الفقه الخلافي تطرح بحوث القياس والاستحسان وما شابه ذلك ، بينما عندما تتحدث عن الفقه الاستدلالي لا تطرح هذه البحوث للتسالم على بطلانها في هذه المدرسة ، ويمتاز الفقه الاستدلالي عند الشيعة عن الفقه الاستدلالي عند غيرهم بأمرين :

أ ـ امتداد السنة المعصومية الى زمان أهل البيت عليهم السلام وشمولها لأحاديثهم ، وهذا يشكل ثروة فقهية متعددة الحقول في الفقه الاستدلالي الشيعي أكثر من غيره من المذاهب التي قصرت السنة على أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .

ب ـ انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة نظرياً وعملياً حتى زماننا هذا ، مما أدى لوجود حاجة ماسة لتطور علم الأصول واشتماله على بحوث وقواعد جديدة لم يسبق طرحها في الأزمنة السابقة ، وهذه ميزة فاصلة بين الفكر الأصولي عندنا والفكر الأصولي عند بقية المذاهب الاسلامية ، فمثلاً بحوث العلم الاجمالي وألوان تنجزه وانحلاله وجريان الأصول في أطرافه وتفاصيل الاشتغال والاستصحاب كلها لا وجود لها في علم الأصول في المذاهب الأخرى ، وبهذا العرض تبين لنا ارتباط علم الأصول بعلم الفقه على صعيد الاحتجاج وصعيد الاستدلال .

٧٩
 &

المبحث السابع في الاسناد

الاسناد الاعتباري والمجازي

إن لهذا البحث آثاراً علمية مهمة على صعيد العلوم الأدبية والعلوم العقلية والعلوم الاعتبارية كالفقه والأصول ، فلذلك نتعرض له عرضاً مفصلاً في ثلاث نقاط :

أ ـ أقسام الواسطة .

ب ـ ثمرات البحث .

ج ـ أقسام الواسطة في العروض .

النقطة الأولى : أقسام الواسطة : تنقسم لثلاثة أقسام :

١ ـ واسطة في الثبوت .

٢ ـ واسطة في الاثبات .

٣ ـ واسطة في العروض .

أما الواسطة في الثبوت فهي منشأ الوجود الشامل للعلة الفاعلية وهي ما منه الأثر ، والعلة الغائية وهي الموجبة لفاعلية الفاعل باعتبار تأثير تصورها ذهناً في حدوث الارادة نحو العمل ، فالمراد بها ـ الواسطة في الثبوت ـ ما كان منشأ للوجود الواقعي . وأما الواسطة في الاثبات فهي المعبر عنها في علم المنطق بالحد الأوسط ، والمراد بها ما كان موجباً لثبوت المحمول للموضوع ، فإن كانت واسطة في الثبوت أيضاً أي علة للنتيجة فالبرهان لمي ، وإن كانت معلولاً للنتيجة

٨٠