الرافد في علم الأصول

السيد منير السيد عدنان القطيفي

الرافد في علم الأصول

المؤلف:

السيد منير السيد عدنان القطيفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

قضيتان مختلفتان جهة ومحمولاً كما هو المدعى .

ب : تقريب صاحب الفصول لدعوى الانقلاب :

نقل صاحب الكفاية عن الفصول قوله : « لأَن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف ـ قوة أو فعلاً ـ إن كانت مقيدة به واقعاً صدق الإِيجاب بالضرورة ، والَّا صدق السلب بالضرورة » (١) . ثم أردف ذلك بالمثال ، وحكي هذا المثال بعبارتين :

الْأُولى : ما في النسخة المصححة عند المشكيني شارح الكفاية ، وهي : « مثلاً لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب ـ بالقوة أو بالفعل ـ كاتب بالضرورة » (٢) .

الثانية : ما في النسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني ( قده ) ، وهي : « مثلاً لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد زيد الكاتب ـ بالقوة أو الفعل ـ بالضرورة » (٣) ، واختلاف العبارتين أوجب اختلاف التفسير لكلام الفصول بصورتين .

الصورة الْأُولى : وهي مختار صاحب الكفاية في تفسير كلام صاحب الفصول ، وبيانها : إن ما طرحه صاحب الفصول راجع للمورد الْأَول من موارد انقلاب الامكان الى الضرورة ، وهو أخذ المحمول في الموضوع المعبر عنه بالضرورة بشرط المحمول ، ومعناه ما ذكره الحكيمان السبزواري في المنظومة (٤) وصدر المتألهين في الْأَسفار (٥) : من الوجوب اللاحق أو الامتناع اللاحق ، فإن

__________________

(١) الكفاية : ٥٣ .

(٢) شرح المشكيني علىٰ الكفاية ١ : ٨٠ .

(٣) نهاية الدراية ١ : ٨٩ .

(٤) شرح المنظومة ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٧٦ .

(٥) الاسفار ١ : ٢٢٤ .

٣٢١
 &

الموجود محفوف بضرورتين : ضرورة سابقة وضرورة لاحقة ، فالضرورة السابقة عبارة عن تمامية علته وانتظارها لوجوده ، وهذا ما يعبر عنه بـ : إن الشيء ما لم يجب لم يوجد .

والضرورة اللاحقة عبارة عن وجود الشيء ، فإن الشيء إذا وجد فوجوده طارد بالذات لعدم نفسه ، بحيث يكون العدم ممتنع العروض على هذا الوجود ، وهذا هو معنى الضرورة بشرط المحمول ، فإن الموصوف بوصف معين كالكتابة مثلاً ـ في قولنا الانسان كاتب ـ إما أن يكون واجداً لهذه الكتابة خارجاً وإما أن يكون فاقداً لها ، فإن كان واجداً للكتابة خارجاً فثبوتها له ضروري ، لأَن وجودها طارد بالذات لعدمها ، وإن كان فاقداً لها فثبوتها ممتنع ، لأَن المعدوم محفوف بامتناعين : امتناع سابق ، وهو عدم وجود المعلول عند عدم تمامية العلة ، وامتناع لاحق ، وهو عدمه الطارد بالذات لوجوده . فيصح لنا أن نقول : الانسان الكاتب خارجاً كاتب بالضرورة . هذا هو تفسير صاحب الكفاية لكلام صاحب الفصول .

ولكن يرد عليه عدة وجوه :

أ ـ إن هذا التفسير خارج عن محل البحث ، فإن محل البحث هو : هل أن أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتق مستلزم لانقلاب الامكان الى الضرورة أم لا ، بينما التفسير المذكور ناظر لأَخذ المحمول وهو الكاتب في الموضوع ، إذن فهما متقابلان ، لأَن الْأَول يعني أخذ الموضوع في المحمول والثاني يعني أخذ المحمول في الموضوع ، فكيف يكون أحدهما تفسيراً للآخر ؟ !

ويؤيد ما قلنا : أن محذور انقلاب الامكان للضرورة الناتج عن أخذ المحمول في الموضوع مشترك بين القول بالتركيب والقول بالبساطة ، فإننا حتى لو اخترنا القول ببساطة المشتق فلا محالة يكون ثبوت هذا المبدأ الذي هو الكتابة ـ مثلاً ـ لمن كان واجداً للكتابة ـ خارجاً ـ ضرورياً وسلبه ممتنعاً . فلا يختص

٣٢٢
 &

محذور الانقلاب من الامكان للضرورة المسبب عن أخذ المحمول في الموضوع بمقالة التركيب ، بينما مدعى الشريف الجرجاني ـ الذي كان صاحب الفصول بصدد تقريبه وتفسيره ـ هو استلزام القول بالتركيب بخصوصه لمحذور الانقلاب ، دون القول بالبساطة ، وهذا المدعى لا يتم الا بناءاً على المورد الثالث من موارد الانقلاب ، وهو دخول مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، أي أخذ الموضوع في المحمول لا أخذ المحمول في الموضوع كما أفاد في الكفاية .

ب ـ إن الْأَساس الذي يترتب عليه محذور الانقلاب ـ وهو أخذ الموضوع بشرط المحمول ـ غير تام في الموجهات :

أولاً : إن هذا الاشتراط ـ وهو أخذ المحمول في الموضوع ـ مستلزم لعدم الفائدة في الاخبار ، إذا لا فائدة في الإِخبار عن زيد الكاتب بأنه كاتب .

وثانياً : عدم تناسب الجهة مع الاشتراط المذكور ، لأَن جهة القضية تعني المرآتية لكيفية ثبوت المحمول للموضوع واقعاً ، وكيفية ثبوت المحمول للموضوع تستدعي أخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول ، حتى يتصور الامكان أو الفعلية أو الدوام أو الضرورة في هذا الثبوت ، ومع اشتراط الموضوع بالمحمول فلا يتصور حينئذٍ إلّا الثبوت الضروري ، بلا حاجة للنظر الى عالم الواقع لمعرفة كيفية الثبوت ، فالحاصل : أن جهة القضية واشتراط الموضوع بالمحمول أمران لا يجتمعان ، لأَن معنى جهة القضية هو ملاحظة عالم الثبوت والواقع لمعرفة كيفية النسبة ولونها ، ومعنى اشتراط الموضوع بالمحمول هو تعين الضرورة بدون ملاحظة عالم الثبوت ، إذن فهما أمران متقابلان ، لذلك قد يقال بأنه لا توجد ضرورية بشرط المحمول في الموجهات .

ج ـ لا ربط بين الضروره بشرط المحمول وبين الوجوب اللاحق ، كما

٣٢٣
 &

يتوهم من عبارة الحكيمين السبزواري (١) وصاحب الْأَسفار (٢) ، فإن الضرورة بشرط المحمول تعني التقييد الاثباتي بغض النظر عن عالم الخارج ، بينما الوجوب اللاحق يعني نفس الوجود الخارجي الطارد للعدم بغض النظر عن عالم الاثبات ، فبينهما فرق واضح .

الصورة الثانية : وهي المطابقة للنسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني ( قده ) الراجعة للمورد الثاني من موارد الانقلاب ، وهو كون الجهة جزءاً من المحمول . وبيان ذلك يتم بذكر أمور :

١ ـ لا فرق بين النسبة التامة ـ وهي التي يصحّ السكوت عليها ـ كقولنا الانسان كاتب ، والنسبة الناقصة كالنسبة التقييدية في قولنا الانسان الكاتب ، إلّا بالتعدد اللحاظي الراجع لنظرية التكثر الادراكي ، فإن الذهن تارة يلاحظ الوصف والموصوف على نحو الانفصالية وتعدد الوجود فهذا هو ميزان النسبة التامة ، وتارة يلاحظهما على نحو الاندماجية ووحدة الوجود فهذا هو معيار النسبة الناقصة ، فالنسبتان حقيقة واحدة متعددة اللحاظ .

وهذا هو السر في تحقق الضرورة بشرط المحمول ، لأَننا عندما نقول : ( زيد الكاتب ) على نحو النسبة الناقصة ثم نقول : ( كاتب ) على نحو النسبة التامة فقد كرَّرنا معنى واحداً بلحاظ متعدد ، وأسندنا الشيء ـ وهو : كاتب ـ الى نفسه ـ وهو : الإِنسان الكاتب ـ وإسناد الشيء الى نفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع ، فتتحقق بذلك القضية الضرورية بشرط المحمول . إذن مناط الضرورة بشرط المحمول هو : قيام الذهن بتصور النسبة الوصفية على لونين : لون الاندماج ولون التفصيل ، ثم نسبة أحدهما للآخر وربطه به . وليس المناط

__________________

(١) شرح المنظومة ٢ : ٢٧٥ .

(٢) الاسفار ١ : ٢٢٤ .

٣٢٤
 &

في الضرورة بشرط المحمول ما يتوهم من عبارة السبزواري وصاحب الْأَسفار : من رجوع ذلك الى الوجوب اللاحق ، بل الضرورة بشرط المحمول عملية ذهنية إثباتية لا حقيقة ثبوتية .

٢ ـ بما أنه لا فرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة في الحقيقة فكذلك لا فرق بينهما في الْأَحكام ، فكما أن النسبة التامة تحتاج للجهة المعبرة عن كيفيتها الواقعية فكذلك النسبة الناقصة تحتاج للجهة أيضاً .

٣ ـ بناءاً على القول بالتركيب : فقولنا الانسان كاتب بالامكان راجع إلى قولنا الانسان إنسان كاتب بالامكان ، وبما أنه لا فرق بين النسبة التامة والناقصة في الحقيقة والْأَحكام فكلمة بالامكان التي كانت قيداً للنسبة التامة وجهة لها تحولت إلى كونها جهة للنسبة الناقصة المستفادة من تركيب كلمة كاتب ، فلا تنسلخ عن جهتيتها ومرآتيتها للنسبة الواقعية غاية الْأَمر أنها جهة للنسبة الناقصة لا جهة للنسبة التامة المؤلفة من الموصوف والوصف والجهة ، وهي قولنا : ( الانسان الكاتب بالامكان ) فتحتاج النسبة التامة المذكورة لجهة اُخرى غير هذه الجهة الراجعة للنسبة الناقصة ، لأَنه من المستحيل رجوع جهة واحدة لنسبتين طوليتين ، بحيث تكون هذه الجهة نفسها جزءاً من المحمول في إحداهما ، فإن لازم ذلك كون هذه الجهة جهة لنفسها ، وهذا مستحيل .

فلا بد من جهة أخرى للنسبة التامة ، وهذه الجهة الْأُخرى هي الضرورة ، لما ذكرناه سابقاً من أن أي جهة إذا تحولت جزءاً للمحمول كانت جهة القضية المشتملة على تلك الجهة المتحولة هي الضرورة ، فلا بد لنا في الصياغة الثانية من إضافة قيد الضرورة ، فنقول : الانسان هو الانسان الكاتب بالإِمكان بالضرورة .

وبعد وضوح الْأَمور المذكورة نقول : بأن لازم القول بالتركيب هو محذور انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية ، والسبب في هذا الانقلاب ما

٣٢٥
 &

ذكرناه من الْأَمور ، وهي :

أولاً : رجوع قولنا الانسان كاتب بالامكان الى قولنا الانسان إنسان كاتب بالامكان ، بناءاً على القول بالتركيب ، سواءً كان المأخوذ في مدلول المشتق هو مفهوم الشيء والانسان ، أم كان المأخوذ هو مصداق الشيء والانسان ، فإن هذا المحذور مشترك الورود بين الشقين المطروحين ، ولذلك قال صاحب الفصول بعموم الاشكال لكلا الشقين المذكورين .

وثانياً : رجوع جهة الامكان للنسبة الناقصة المستفادة من مدلول المشتق ، إذ لا فرق بين النسبة الناقصة المذكورة والنسبة التامة في القضية الْأَصلية ـ وهي : الانسان كاتب بالامكان ـ في الحقيقة والْأَحكام .

وثالثاً : ارتباط جهة الامكان بالنسبة الناقصة ، يعني تحول هذه الجهة الى كونها جزءاً من المحمول ، فيتولد من قولنا : ( الانسان كاتب بالامكان ) حمل جديد يحتاج لجهة أُخرى ، وهو قولنا : الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان .

ورابعاً : إن هذا الحمل الجديد يعرض على الواقع لتعرف جهته الواقعية ، فإن كان صادقاً فالجهة هي الضرورة ، وإن كان كاذباً فالجهة هي الامتناع ، ولمَّا كان ( الانسان الكاتب بالامكان ) أمراً صادقاً في الواقع كان ثبوت هذا المحمول بتمامه ـ من موصوف ووصف وجهة ـ للموضوع بالضرورة ، فتكون الجهة هي الضرورة ، فيرجع قولنا : ( الانسان كاتب بالامكان ) بناءاً على التركيب لقولنا : الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان بالضرورة . أو كما في النسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني ( قده ) : زيد زيد الكاتب بالامكان بالضرورة .

وهذا معنى قولهم : بأن الجهة إذا أصبحت جزءاً من المحمول كانت الجهة الواقعية لهذا المحمول بتمامه هو الضرورة ، وحيث أن الامكان هنا أصبح جزءاً من المحمول فالجهة العامة لهذا المحمول ـ المقيد بالامكان ـ هو

٣٢٦
 &

الضرورة .

فالخلاصة : أن القول بتركيب المشتق يستدعي القول باشتماله على نسبة تقييدية ، والنسبة التقييدية كالنسبة التامة مفتقرة الى الجهة ، فيكون لفظ ( بالامكان ) قيداً لها كاشفاً عن كيفيتها الواقعية ، وإنه وإن أصبح جزءاً من المحمول إلّا أنه لم ينسلخ عن مرآتيته وجهتيته للنسبه التقييدية .

وبناءاً على ذلك فلا بد من وجود جهة أخرى للمحمول المؤلف من الموصوف والوصف والجهة ، وليست تلك الجهة إلّا الضرورة ، فتحقق الانقلاب من الامكان للضرورة .

وأما لو قلنا ببساطة المشتق فلا توجد حينئذٍ نسبة تقييدية تحتاج لجهة الامكان ، بل ليس في الجملة إلّا النسبة التامة مع جهة الامكان ، فلا ينقلب الامكان من كونه جهة لتمام القضية الى كونه جزءاً من المحمول ، ولا يتحقق الانقلاب من الامكان للضرورة . وبذلك يتبين لنا أن دعوى شيخ الاشراق السهروردي ـ وهي انحصار جهات القضايا في جهة الضرورة ـ تامة وصحيحة بناءاً على القول بتركيب المشتق ، لارتباط سائر الجهات المذكورة حينئذٍ بالنسبة التقييدية المستفادة من المشتق وتحولها الى كونها جزءاً من المحمول ، فتحتاج القضية بأسرها لجهة أُخرى غير الجهات المذكورة فيها ، وليس إلّا جهة الضرورة . أما لو قلنا بالبساطة في المشتق فلا تتم هذه الدعوى كما هو واضح مما سبق بيانه ، هذا تمام الكلام حول تقريب كلام الفصول في شرحه لدعوى الانقلاب المطروحة في كلمات المحقق الشريف الجرجاني .

وتعليقنا على هذه التقريبات كلها يتم بعرض أُمور :

أ ـ إن التوصيف على نوعين :

١ ـ تقييدي .

٢ ـ إخباري .

٣٢٧
 &

فإن الموصوف إما أن يكون كلياً أو جزئياً ، فإن كان الموصوف كلياً وكان الوصف أخص منه مطلقاً أو من وجه فمرجع التوصيف حينئذٍ للتقييد ، وتضييق دائرة الموصوف بحيث يعد المؤلف من المقيد والقيد مفهوماً واحداً ، وماهية خاصة مغايرة لماهية المقيد وحده وماهية القيد وحده .

نعم لو كان الوصف مساوياً للموصوف الكلي فلا يتصور التقييد والتضييق حينئذٍ ، بل يكون هذا الوصف إخباراً توضيحياً لا قيداً احترازياً .

وإن كان الموصوف جزئياً فلا يتصور فيه التقييد والتضييق لعدم سعته وتعدد حصصه ، بل يرجع وصفه للاخبار بأنه واجد للوصف الكذائي .

فإن قلت : يصح تقييد الجزئي بلحاظ حاله لا بلحاظ ذاته ، فإن حاله مطلق ذو حصص متعددة فيصح تقييده بلحاظه .

قلت : هذا خارج عن محل الكلام ، فإن مورد كلامنا في تقييد الجزئي وعدم تقييده ، وأما حال الجزئي فهو كلي طبيعي يتصور فيه التقييد والتضييق ، إلّا أن تقييده لا يعد تقييداً للجزئي .

وما ذكرناه من الفرق بين عنوان التوصيف التقييدي والتوصيف الاخباري هو المطابق للارتكاز العرفي المعول عليه عند الفقهاء ، ولذلك ذكر الفقهاء بأن البائع لو قال : ( بعتك الحنطة العراقية ) ثم دفع للمشتري حنطة أُخرى فالبيع صحيح ، وعلى البائع دفع المصداق الحقيقي للمبيع ، فإن المبيع ـ بعد التوصيف التقييدي ـ له حصة خاصة لا تنطبق على ما دفع للمشتري ، فعلى البائع تسليم مصداقها الواقعي .

وأما لو قال البائع : ( بعتك هذه الحنطة العراقية ) فمرجع الوصف حينئذٍ للاخبار والالتزام الضمني بأنها عراقية ، لا للتقييد لعدم كون الموصوف كلياً قابلاً للتقييد ، فالوصف في الحقيقة التزام آخر في ضمن الالتزام بأصل البيع ، ومع تخلف الوصف لا يكون البيع باطلاً لبقاء الالتزام الْأَول بأصل البيع ،

٣٢٨
 &

ولكن يكون للمشتري خيار تخلف الوصف الراجع لتخلف الشرط الضمني ، وهو الالتزام بواجدية المبيع للوصف الكذائي ، فهذا التفصيل هو المطابق للارتكاز العرفي .

ب ـ بناءاً على ما ذكر في الْأَمر السابق نقول : بأن المشتق إذا كان بسيطاً فلا يوجد حينئذٍ أي توصيف حتى نبحث عن كونه توصيفاً تقييدياً أو توصيفاً إخبارياً ، وإذا كان المشتق مركباً فتارة يدعى أنه مركب من مفهوم الشيء والحدث ، وتارة يدعى كونه مركباً من مصداق الشيء مع الحدث ، فعلى الشق الْأَول ـ وهو تركيبه من عنصري مفهوم الشيء والحدث ـ يكون المشتق مشتملاً على توصيف تقييدي ، باعتبار أن الموصوف كلي لا جزئي ، والتوصيف التقييدي لا يحتاج لجهة حتى يتصور محذور الانقلاب فيه .

والسر في ذلك يتوقف على بيان مقدمتين :

١ ـ إن التقييد عبارة عن عمل إبداعي نفسي ، وهو خلق نوع من الالتحام والاندماج بين ماهيتين ، بحيث تتولد ماهية خاصة ثالثة مغايرة لماهية الطرفين ، فالحادث بعد التقييد مفهوم واحد وصورة فاردة . لا قضية إسنادية ، أي كما أن صورة الانسان مفهوم واحد ذهناً يعبر عنها تارة بعنوان افرادي فيقال : ( الانسان ) وتارة بعنوان توصيفي فيقال : ( الحيوان الناطق ) فكذلك مدلول المشتق ـ بناءاً على التركيب ـ أيضاً مفهوم واحد يعبر عنه تارة بعنوان المشتق ـ وهو عنوان أفرادي ـ وتارة بعنوان ما ينحل له المشتق وهو توصيف تقييدي .

٢ ـ إن الجهة من القيود الراجعة للقضايا وهي الجمل المشتملة على النسب التامة التي يصح السكوت عليها ، أو ما يرجع للقضايا كالشرط في القضايا الشرطية ـ مثلاً ـ حين تحليله وارجاعه لجملة خبرية تامة ، وأما التوصيف التقييدي الذي ينحل له المشتق فقد ذكرنا : أنه مفهوم واحد وليس قضية بالاصطلاح المنطقي حتى يكون له جهة من الجهات المنطقية . فكما أن

٣٢٩
 &

عنوان الإِنسان ـ وإن انحل بالتأمل الى توصيف تقييدي ـ لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي حتى يحتاج لجهة من الجهات ، فكذلك عنوان المشتق لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي وإن انحل بالتأمل العقلي لتوصيف تقييدي بناءاً على القول بالتركيب ، فلا يكون مقيداً بجهة من الجهات المنطقية .

فإذا قلنا زيد كاتب بالامكان لا يكون قيد ( بالامكان ) راجعاً لمدلول المشتق ، باعتبار اشتماله على توصيف تقييدي ، ما دام لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي ، فلا تتحول الجهة الامكانية الى كونها جزءاً من المحمول بحيث يحتاج مجموع الموصوف والوصف والجهة إلى جهة أُخرى وهي جهة الضرورة ، وتنقلب القضية الممكنة الى القضية الضرورية . إذن محذور الانقلاب لا يرد على القول بالتركيب إذا قلنا بالتركيب التقييدي ، وهو التركيب من مفهوم الشيء والحدث لما ذكرناه .

فإن قلت : بأن الشيخ والفارابي قد اختلفا في الجهة الراجعة لعقد الوضع وأنها جهة الإِمكان أم جهة الفعلية ، مع أن عقد الوضع عنوان مفرد لا قضية ، فمثلاً إذا قلنا : ( كل إنسان كاتب بالإِمكان ) (١) فهنا مع أن عنوان الإِنسان عنوان مفرد الَّا أن المناطقة أرجعوه لقضية تامة ، وهي : كل ما صدق عليه إنسان بالامكان أو بالفعل ـ على الخلاف المذكور ـ فهو كاتب بالامكان ، فلولا حاجة كل نسبة للجهة ـ سواءاً كانت تامة أم ناقصة ـ لم يختلف الحكماء في تعيين جهة عقد الوضع .

قلت : إن المناطقة لا يقولون بأن كل توصيف ـ ولو كان تقييدياً ـ يحتاج لجهة من الجهات ، والَّا لقالوا بذلك في عقد الحمل ، مع أنهم لا يرون عقد الحمل قضية موجهة بجهة معينة ، وإنما قالوا بذلك في عقد الوضع لانهم

__________________

(١) الكفاية : ٥٣ .

٣٣٠
 &

أرجعوا جميع القضايا إلىٰ قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فلما كان عنوان الموضوع ـ بحسب اصطلاحهم ـ قائماً مقام جملة الشرط صار عقد الوضع عبارة عن توصيف إخباري محتاج لجهة من الجهات ، إذن فلا دلالة في اختلافهم في جهة عقد الوضع على حاجة كل نسبة للجهة ، ولو كانت نسبة ناقصة وتوصيفاً تقييدياً .

هذا تمام تعليقنا على الشق الْأَول من التركيب ، وهو تركيب المشتق من مفهوم الشيء والحدث .

وأما تعليقنا على الشق الثاني ـ وهو تركيب المشتق من مصداق الشيء والحدث ـ فهو : أن محذور الانقلاب مستحكم فيه ، بلحاظ أن الموصوف بالحدث جزئي الشيء ، والجزئي ـ كما ذكرنا في الْأَمر السابق ـ غير قابل للتقييد ، فتوصيفه لا محالة توصيف إخباري لا توصيف تقييدي ، والتوصيف الإِخباري يستلزم وجود نسبة متقومة بطرفين مستقلين ، فلا بد له من جهة من الجهات ، ولا يتطابق معها الا الجهة المذكورة في القضية ، كجهة الامكان ـ مثلاً ـ في قولنا : ( الانسان كاتب بالامكان ) ، وحينئذٍ تتحول الجهة الامكانية الى كونها جزءاً من المحمول ، والمحمول بتمامه ـ من موصوف ووصف وتوصيف ـ يحتاج لجهة أُخرى ، وليست الا الضرورة ، ونتيجة ذلك هو انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية ، فما ذكره صاحب الفصول من دعوى الانقلاب ـ بناءاً على القول بالتركيب ـ صحيح وتام بالنسبة للشق الثاني ، وغير تام بالنسبة للشق الْأَول منهما .

ج ـ إن الجزئي المأخوذ في مدلول المشتق إما أن يراد به الجزئي الحقيقي وإما أن يراد به الجزئي الاضافي ، فإن كان المراد هو الجزئي الحقيقي فمحذور انقلاب الممكنة للضرورية وارد عليه ، الَّا أنه احتمال باطل في نفسه ، وذلك إما لاستلزامه المحال العادي وإما لمنافاته للوجدان العرفي .

٣٣١
 &

بيان ذلك : إن دعوى دخول مصداق الشيء ـ وهو الجزئي الحقيقي ـ في مدلول المشتق لا تتم الا عن أحد طريقين :

١ ـ المشترك اللفظي ، بأن يوضع لفظ الكاتب ـ مثلاً ـ لجميع الْأَفراد الانسانية المتلبسة بالكتابة قوة أو فعلاً ، منذ أن اخترعت الكتابة وحتى يوم القيامة ، وذلك مستلزم التصور الواضع جميع هؤلاء الْأَفراد واحداً واحداً ووضع المشتق بإزائه على نحو تعدد الوضع والموضوع له ، وهذا مستحيل عادة بالنسبة للإِنسان الواضع لهذه الْأَلفاظ .

٢ ـ الوضع العام والموضوع له الخاص ، بمعنى أن ما تصوره الواضع حين الوضع هو عنوان مصداق الشيء وجزئيه الحقيقي ، ولكن ما قصد وضع اللفظ له نفس المصاديق الخارجية والْأَفراد المتلبسة بالمبدأ ، ولازم ذلك التغاير المعنوي بين المشتقات ، بحيث يكون المتبادر من لفظ كاتب حين اطلاقها على زيد مغايراً للمتبادر منها حين اطلاقها على بكر ، وهكذا ، وهذا مخالف للوجدان العرفي قطعاً ، حيث يرىٰ العرف جريان الاطلاقات في المشتق علىٰ نسق واحد .

إذن دعوى دخول مصداق الشيء في مفهوم المشتق مستلزم لورود محذور الانقلاب كما سبق بيانه ، الَّا أنها دعوى بينة الفساد في نفسها .

وأما إذا كان المأخوذ في مدلول المشتق هو الجزئي الاضافي للشيء فهو كلي في الحقيقة لا جزئي ، وتوصيف الكلي لا محالة توصيف تقييدي لا إخباري ، وبما أن التوصيف التقييدي لا جهة له فلا يتصور حينئذٍ محذور الانقلاب أصلاً .

فالخلاصة : أن القول بتركيب المشتق محتمل لصور :

١ ـ كون المأخوذ في مدلوله هو مفهوم الشيء ، وهو كلي ، وتوصيفه توصيف تقييدي لا جهة له ، فلا يتصور فيه محذور الانقلاب .

٢ ـ كون المأخوذ في مدلوله هو مصداق الشيء وجزئيه الحقيقي ، ولازم ذلك ورود محذور الانقلاب ، الَّا أنه احتمال ضعيف في نفسه .

٣٣٢
 &

٣ ـ كون المأخوذ في مدلوله هو الجزئي الاضافي ، أي : عنوان ما يمكن تلبسه بالمبدأ عادة ، وهو كلي لا يرد عليه محذور الانقلاب كما شرحنا .

وبيانه يحتاج لاستعراض عدة نقاط :

الْأُولى : قد ذكرنا سابقاً أن التركيب على أنواع :

١ ـ التركيب اللحاظي ، وهو منفي في المشتق ، لبساطته ووحدة صورته ذهناً .

٢ ـ التركيب الماهوي ، وهو رجوع ماهية الشيء ـ عند التأمل ـ لعنصرين :

الْأَوّل : ما به الاشتراك المعبر عنه بالجنس .

الثاني : ما به الامتياز المعبر عنه بالفصل .

وذلك كرجوع ماهية الانسان للحيوان الناطق .

٣ ـ التركيب الاسنادي التحليلي ، وهو اشتمال مفهوم المشتق على نسبة تقيدية ناقصة ، بحيث يكون مفاد المشتق ( ذات واجدة للمبدأ ) وهذا النوع الثالث من أنواع التركيب هو المبحوث عنه في بحث المشتق ، وهو المختار عندنا .

وأما القول بالبساطة الذي اختاره المحقق النائيني ( قده ) ، وهو كون المبدأ والمشتق متحدين بالحقيقة مختلفين باللحاظ ، بمعنى أن الحدث إذا لوحظ بنحو اللابشرط فهو المشتق وإذا لوحظ بنحو البشرط لا فهو المبدأ ، فهذا القول موضع للملاحظة من ناحيتين :

أ ـ إن الفارق الذي طرحه المحقق النائيني ( قده ) بين المبدأ والمشتق فارق لحاظي مرتبط بمرحلة الحمل ، وليس فارقاً بين المبدأ والمشتق بما هما ، مع أننا نرى بالوجدان أن الفارق بينهما أعمق وأوسع من مرحلة الحمل على الذات .

فالمبدأ يصح حمله على الحدث الخارجي فيقال : ( هذا الحدث ضرب ،

٣٣٣
 &

وضربك ضرب شديد ) ولا يصح حمل المشتق وهو : ( ضارب ) عليه ، وبالعكس أيضاً ، فإن المشتق يصح حمله على الذات ولا يصح حمل المبدأ عليها . كما أن المشتق يتعدد بتعدد الذات وإن اتحد الحدث والمبدأ يتعدد بتعدد الحدث وإن اتحدت الذات ، والمشتق قابل للتأنيث والتذكير دون المبدأ .

بينما الفارق الذي طرحه المحقق النائيني ( قده ) بين المشتق والذات فارق لحاظي مرتبط بالحمل على الذات ، وليس فارقاً بينهما في جميع الحالات . مضافاً الى أن لحاظ اللابشرط والبشرط لا من مقومات الحمل وعدمه ، لا من الفواصل بين المحمولات وغيرها ، أي أنه من مقدمات الحمل لا من مقومات المحمول ، ولذلك نرى المحمول الواحد يختلف حمله باختلاف اللحاظ المذكور .

فمثلاً المشتق نفسه ـ بناءاً على القول بالتركيب ـ يكون مفهومه هو : ( الواجد للمبدأ ) وهذا المفهوم لو لوحظ بما له من الحدود والملامح التي تميزه عن مفهوم الذات لم يصح حمله عليها ، وهذا معنى لحاظه بنحو البشرط لا ، بينما هذا المفهوم لو لوحظ بما هو مرآة حاكية عن الذات المتلبسة بالمبدأ صح حمله عليها ، وهذا معنى لحاظه بنحو اللابشرط . إذن فلحاظ اللابشرط من مصححات الحمل ومقدماته ، سواءاً كان المحمول بسيطاً أم مركباً ، لا من مميزات المحمول ومقوماته كما صوره المحقق النائيني ( قده ) .

ب ـ إن القول بالبساطة يقتضي الالتزام بالحمل الشائع المجازي ، وهو خلاف الارتكاز العرفي ، فإننا إذا قلنا : ( الجسم أبيض ) وكان المقصود بالْأَبيض هو البياض فلا يوجد اتحاد وجودي بين الموضوع والمحمول حينئذٍ ، فالحمل لا محالة حمل مجازي . وكذلك إذا قلنا كربلاء مقتل الحسين عليه السلام ، فإن المقتل في الحقيقة هو القتل لا مكانه وإنما حمل على كربلاء حملاً مجازياً ، ونحوه ما إذا قلنا الخمر حرام ، فإن الحرام في الحقيقة هو الحرمة لا الخمر وإنما يتصف بها الخمر مجازاً ، وكل ذلك خلاف الارتكاز العرفي جزماً ، مع أنه هو المرجع في

٣٣٤
 &

تشخيص المفاهيم والمداليل مما يكشف عن ضعف القول بالبساطة .

الثانية : إن مختارنا هو كون المشتق عنواناً انتزاعياً ، والعناوين الانتزاعية بسيطة في عالم التصور مركبة في عالم التحليل .

بيان ذلك : إن الانسان إذا رأى شخصاً يصدر منه حدث الضرب فإن ذهنه ينتزع مفهوم الضارب ، وهو صورة بسيطة لحاظاً ، وإن كانت متضمنة على نحو الاندماج والاندكاك عنصرين ، وهما :

١ ـ منشأ الانتزاع ، وهو الذات التي يحمل عليها المشتق ويتعدد بتعددها .

٢ ـ مصحح الانتزاع ، وهو الحدث والمبدأ الذي بلحاظه تتم عملية الانتزاع وتتعدد العناوين الانتزاعية بتعدده . وهذه الصورة البسيطة في عالم اللحاظ يقوم الذهن بتحليلها وإرجاعها للعنصرين اللذين انتزعت منهما .

والفرق بين التركيب الماهوي المتحقق في مفهوم الإِنسان والتركيب التحليلي المتحقق في مفهوم المشتق أمران :

أ ـ إن العناصر التي ينحل لها المفهوم الماهوي للإِنسان ذات دور واحد ، وهو دور تقويم الماهية ، فإن الحيوانية والناطقية كلاهما عنصران مقومان لمفهوم الإِنسان ، بينما العناصر التي ينحل لها مفهوم المشتق ذات دور مختلف ، فإن مفهوم المشتق ينحل لمنشأ الانتزاع ـ وهو الذات ـ ومصحح الانتزاع وهو المبدأ ، ودور كل منهما يختلف عن الآخر ، فإن دور منشأ الانتزاع دور وجودي ، بمعنى أنه دخيل في وجود العنوان الانتزاعي ، ولذلك يتعدد المشتق بتعدده وإن اتحد المبدأ ، بينما دور مصحح الانتزاع ـ وهو المبدأ ـ دور ماهوي ، بمعنى أنه دخيل في ماهية المنتزع ، ولذلك تتعدد العناوين الانتزاعية وتختلف باختلاف المبادئ .

ب ـ إن التركيب الماهوي لمفهوم الانسان طارئ عليه ، بينما التركيب التحليلي لمفهوم المشتق سابق عليه ولاحق به ، لأَن الذهن عندما يتصور ماهية

٣٣٥
 &

كالانسان يتصورها بصورة لحاظية واحدة ، ثم يقوم بتحليلها والتأمل فيها ، فيقسمها لما به الاشتراك ـ وهو الجنس ـ وما به الامتياز وهو الفصل .

فهنا التركيب طارئ على المفهوم ، بينما المفهوم الانتزاعي كالمشتق مسبوق بالتركيب وملحوق به ، لأَن الذهن يدرك أوَّلاً عنصرين ، وهما : الذات والحدث ، فيتصور صورتين ثم يقوم بانتزاع عنوان بسيط منهما ، وهو مفهوم المشتق ، ثم يقوم بتحليله وإرجاعه للعناصر التي انتزع منها . إذن فالتركيب التحليلي في المشتق سابق عليه ولاحق به .

النقطة الثالثة : إن دليلنا على مختارنا ـ وهو البساطة اللحاظية مع التركيب التحليلي ـ هو الوجدان ، فإن الوجدان شاهد بأن المتبادر العرفي من لفظ المشتق حين اطلاقه هو صورة واحدة لا متعددة ، ولكن مع التأمل العقلي يتبين التركيب التحليلي فيه .

كما أن الوجدان شاهد بتناسب مقام الاثبات ومقام الثبوت ، بمعنى أننا نشعر باستفادة التركيب التحليلي للمشتق من نفس اللفظ لا من التأمل العقلي في المعنى ، كما في التركيب الماهوي للفظ الانسان ، فإن المنعكس في الذهن وجداناً حين إطلاق لفظ الانسان هو الصورة اللحاظية الواحدة ، من دون أن يشم الانسان رائحة التركيب في اللفظ أصلاً ، ولكن تأمل العقل في المعنى هو الذي أوصله للتركيب المعنوي الماهوي ، بينما في لفظ المشتق نرى أن الوجدان وإن استفاد صورة لحاظية واحدة حين اطلاق لفظ المشتق ، الَّا أنه يشعر بتضمن هذه الصورة لعنصرين على نحو الاندماج والامتزاج ، بحيث لو قام بتحليل هذه الصورة اللحاظية لرجعت الى تصور العنصرين المذكورين تفصيلاً .

وبعد وضوح هذه الرؤية الوجدانية فما هو التفسير العلمي لحقيقتها ، وما هو منشأ التناسب الملحوظ وجداناً بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ؟

فإن المتبادر من اللفظ إذا كان هو الصورة اللحاظية الواحدة فمن أين

٣٣٦
 &

نستفيد التركيب التحليلي المذكور ؟

والجواب عن ذلك يتلخص في طرح ثلاث نظريات محتملة :

أ ـ إن التركيب التحليلي للمشتق مع بساطة مفهومه لحاظاً وتصوراً راجع للتركيب اللفظي فيه ، حيث إن المشتق مشتمل على مادة وهيئة ، فالمادة موضوعة وضعاً شخصياً لطبيعي الحدث والصفة ، والهيئة موضوعة وضعاً نوعياً للذات المتلبسة بذلك المبدأ والصفة ، فمنشأ التركيب التحليلي لمفهوم المشتق هو التركيب اللفظي في المشتق .

ولكننا لا نختار هذه النظرية لوجهين :

١ ـ ما ذكرناه مراراً من أن الوضع النوعي ـ وهو تجريد الهيئة عن المادة ووضعها وضعاً نوعياً لمن قام بالحدث وتلبس بالصفة ـ تفكير حضاري متطور لا يتصور في المجتمع البدائي الذي انطلقت منه شرارة اللغة .

٢ ـ إن مقتضى التركيب اللفظي للمشتق من مادة وهيئة هو تعدد الوضع والموضوع له ، وذلك يستدعي انسباق صورتين للذهن : صورة لمدلول المادة ـ وهو طبيعي الصفة ـ وصورة لمدلول الهيئة وهو طبيعي الواجد لتلك الصفة ، مع أننا لا نرى وجداناً الَّا صورة لحاظية واحدة مستبطنة للتركيب التحليلي .

وبعبارة أدق : إن مقتضى التركيب اللفظي وتعدد الوضع والموضوع له هو انسباق صورة تركيبية في الذهن على نحو التركيب الانضمامي ، بينما المنسبق ـ وجداناً ـ للذهن عند اطلاق المشتق هو صورة لحاظية واحدة على نحو التركيب الاتحادي التحليلي ، وبينهما فرق وجداني واضح .

ب ـ ( النظرية الثانية المفترضة لتفسير التناسب بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ) أن التركيب التحليلي المستفاد من لفظ المشتق لا يبتني على التركيب اللفظي من المادة والهيئة ، بل يبتني على قانون تداعي المعاني وقانون الاختراع والاتباع .

٣٣٧
 &

بيان ذلك : إنَّ هناك قانونين ذكرناهما في مبحث الوضع :

أولهما : قانون تكويني محصله : إن التشابه بين الشيئين موجب لخطور أحدهما عند خطور الآخر ، وهو ما يسمى بقانون تداعي المعاني .

ثانيهما : قانون عقلائي محصله : إن الطبيعة الاجتماعية للبشرية بنيت على الاختراع والاتباع .

وبناءاً علىٰ ذلك فمن المحتمل أن شخصاً من الأَشخاص مثلاً رأىٰ رجلاً يضرب ، فوضع لتلك الحالة الفاعلية التي رآها من باب الاتفاق لفظ ( ضارب ) من دون أن يقصد وضعين : وضعاً للمادة ووضعاً للهيئة ، بل وضع تمام اللفظ للمعنى الفاعلي من باب الاتفاق ، وحيث تحقق للآخرين مشاهدتهم لحالة فاعلية أُخرى مشابهة لتلك الحالة فرض قانون تداعي المعاني خطور الكلمة الْأُولىٰ ، وهي لفظ ( ضارب ) التي وضعها الواضع الْأَول للحالة الفاعلية ، فوضعوا كلمة أُخرى مشابهة لها في الهيئة فقالوا : قائم وقاعد مثلاً ، وجروا على ذلك في استعمالاتهم بقانون الاختراع والاتباع كما ذكرنا .

ولما جاء العلماء الماهرون في اللغة والاشتقاق انتزعوا جامعاً نوعياً بين الكلمات المتشابهة وسموه الهيئة ، كهيئة فاعل ومفعول ونحوها ، والّا فلا يوجد أي وضع نوعي للهيئة ، بل الموجود هو الجامع الانتزاعي بعد ورود اللغة .

وهذه النظرية محتملة ثبوتاً إلّا أنها تحتاج للشواهد الكثيرة إثباتاً .

ج ـ ( النظرية الثالثة المفترضة في المقام ) أن التركيب التحليلي المستفاد من لفظ المشتق راجع لتعدد الدال والمدلول في جذور اللغة العربية ، وبيان ذلك يعتمد على ذكر أمرين :

١ ـ إن اللغة ـ كما ذكر علماء الاجتماع ـ ظاهرة حية كسائر الظواهر الاجتماعية ، خاضعة لقانون التغير والتشعب ، فاللغة الساميّة ـ التي هي أُم اللغات ـ قد انشعبت لما يقرب من ثلاثة الآف لغة ، واللغة العربية بنفسها

٣٣٨
 &

تفرعت الى آلاف اللهجات المختلفة .

٢ ـ إن قانون انتخاب الْأَسهل ـ الذي هو قانون طبعي عند الإِنسان في التوصل لمقاصده ـ يقتضي أحياناً النحت والدمج والادغام بين الكلمات ، كما هو مشاهد في اللهجات العامية ، حيث يقولون : ( شسمك ، شنهو ) ، وكما هو ملحوظ في الاصطلاحات الحديثة نحو : ( الكهرمائية والبترمائية ) ، لذلك ذهب بعضهم إلى تبني هذه النظرية في بعض الكلمات نحو : ( قطف ) ، حيث قال : بأن أصله : ( قط ) و ( لف ) ثم ادمج أحد اللفظين في الآخر بدافع قانون انتخاب الْأَسهل وصارت الكلمتان كلمة واحدة .

وتبنَّى بعضهم هذه النظرية في باب الحروف ، فقال : بأن جميع الحروف راجعة للْأَسماء ، نحو رجوع ( على ) الجارة الى ( علاء ) مثلاً ، ورجوع ( خلا ) الجارة الى ( خلاء ) مثلاً . فالحروف ما هي إلّا بقايا الْأَسماء والْأَفعال انتخبت كرموز دالة على معانيها .

وبناءاً على ما ذكر من الْأَمرين فنحن نحتمل أن أصل المشتق كلمتان : كلمة تدل على الحدث وأُخرى تدل على الفاعلية ، وبحكم تغير اللغة وقانون انتخاب الْأَسهل أُدغمت احدى الكلمتين في الْأُخرى فصارتا كلمة واحدة ، يستشعر منها بالوجدان التركيب التحليلي الذي هو راجع في الحقيقة الى التركيب اللفظي ، على نحو تعدد الدال والمدلول في جذور اللغة .

ولعل هذه النظرية أقرب النظريات المفترضة في المقام .

خلاصة البحث : تعرضنا في بحث المشتق لمقامين :

١ ـ في تحرير محل النزاع .

٢ ـ في أسباب القول بالْأَعم ، وناقشنا جميع الْأَسباب المذكورة ، فتعين عندنا القول بالْأَخص بلا حاجة لاقامة الْأَدلة عليه ، كالتبادر وصحة السلب وأشباهها . وتعرضنا لبحث البساطة والتركيب في ضمن أسباب القول بالْأَعم ،

٣٣٩
 &

واخترنا القول بالبساطة اللحاظية مع التركيب التحليلي بالبيان السابق .

وقد انتهينا من تحرير هذه الحلقة بعد المقارنة بين ما استفدناه من السيد الأُستاذ السيد السيستاني دام ظله في الدورة الثالثة وما طرحه في الدورة الثانية بقلم العلامة السيد هاشم الهاشمي حفظه الله في الساعة الثانية من ليلة الأحد الموافق ٢٦ صفر ١٤١٤ هـ بالقطيف المحروسة .

٣٤٠