الرافد في علم الأصول

السيد منير السيد عدنان القطيفي

الرافد في علم الأصول

المؤلف:

السيد منير السيد عدنان القطيفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بالنظر إليها هذا كله بالنسبة للمورد الْأَوّل .

المورد الثاني : أسماء الآلة كلفظ مفتاح مثلاً له لحاظان أيضاً :

١ ـ النسبة الفعلية ، وعند لحاظ هذه النسبة لا يصح حمل اسم الآلة على الآلة الحديدية نفسها لعدم وجود مصحح الحمل ، وذلك لعدم تصور كون مبدأ الفتح طوراً من أطوار الآلة الخارجية ونعتاً من نعوتها .

٢ ـ النسبة الاعدادية ، وبهذا اللحاظ يصح حمل اسم الآلة على الآلة الخارجية لتصور الاتحاد بينهما ، باعتبار كون الاعداد نعتاً من نعوت الآلة الحديدية وطوراً من أطوارها فمصحح الحمل موجود ومتحقق .

واستفادة النسبة الإِعدادية إما من ناحية الهيئة إذا قلنا باختصاصها باسم الآلة ، وإما من ناحية المبدأ الخفي لاسم الآلة على فرض شمول الهيئة وهي هيئة مفعال ـ مثلاً ـ حتى لغير اسم الآلة كصيغ المبالغة في قولنا زيد مقدام مثلاً ، وحينئذ يصح لنا أن نقول : بأن المبدأ الجلي للفظ مفتاح هو الفتح الفعلي والمبدأ الخفي له هو النسبة الاعدادية التي يصح الحمل بلحاظها .

المورد الثالث : اسم الفاعل الذي يكون قيام الفعل به قياماً صدورياً لا حلولياً كالضارب مثلاً ، فإن المبدأ الجلي له وهو الضرب الفعلي ليس مصححاً للحمل باعتبار عدم كونه طوراً من أطوار الذات ونعتاً من نعوتها ولكن المبدأ الخفي له وهو الحيثية المصدرية مصحح للحمل لكونه نعتاً للذات وطوراً من أطواراها .

فما ذكره السيد الْأُستاذ ( قده ) من الاشكال في الموارد الثلاثة مبني على ملاحظة النسبة الفعلية دون لحاظ النسبة الشأنية من المفهوم الوعائي في اسم الزمان ، والمفهوم الاعدادي في اسم الآلة ، والمفهوم المصدري في اسم الفاعل .

الوجه الثاني : قد ذكرنا سابقاً أن الحمل الشائع على قسمين :

١ ـ حمل حقيقي ، وهو المتقوم بالاتحاد الوجودي الحقيقي بين الموضوع

٣٠١
 &

والمحمول نحو الضوء مضيء والبياض أبيض .

٢ ـ حمل مجازي ، وهو المتقوم بالاتحاد الوجودي العرفي ، بمعنى أن العرف يرى صحة حمل أحد الطرفين على الآخر وكونه حملاً حقيقياً مع أنه بنظر العقل حمل مجازي لوجود الواسطة الخفية في العروض نحو الجسم أبيض ، فإن هذا الحمل بنظر العرف حمل حقيقي لوحدة الطرفين وجوداً بحسب نظره مع أنه حمل مجازي بنظر العقل ، لأَن حمل الْأَبيضية على الجسم مستند لواسطة خفية بينهما وهي واسطة التركيب الاتحادي بينهما والا فالْأَبيض في الحقيقة هو البياض لا الجسم .

وبعد وضوح هذا المطلب نقول : بأن الموارد الثلاثة المطروحة في المحاظرات داخلة تحت القسم الثاني من الحمل الشائع ، وذلك لأَن عدم الاتحاد الوجودي الحقيقي بين المبدأ كالقتل ـ مثلاً ـ وزمانه ومكانه بحيث لا يعد المبدأ من أطواره ونعوته لا يستلزم عدم صحة الحمل الشائع مطلقاً بل يصح القسم الثاني من الحمل الشائع فيه ، فيقال اليوم مقتل الحسين عليه السلام وكربلاء مقتل الحسين عليه السلام باعتبار الاتحاد الوجودي العرفي بينهما بحيث يرى المبدأ طوراً ونعتاً لزمانه ومكانه .

ونفس التحليل نطرحه في أسماء الآلة وأسماء الفاعلين المتلبسين بالنسبة الصدورية لا الحلولية ، ففي هذه الموارد كلها يكون القول ببساطة المشتق مستلزماً لعدم صحة الحمل الشائع الحقيقي لعدم تصور الاتحاد الوجودي بينها وبين موضوعاتها فلا ترى نعوتاً ولا أطواراً لهذه الموضوعات ، لكن ذلك لا ينافي صحة الحمل الشائع المجازي لتصور الاتحاد العرفي فيها بحيث ترى بنظره نعوتاً وأطواراً لمبادئها ، ولكن هذا الوجه لا يخلو عن المناقشة .

الايراد السادس : إن تصور كون العرض شأناً من شؤون معروضه وطوراً من أطواره بحيث يصح حمله عليه إنما يحتمل فيما إذا كان المعروض من الجواهر لا من الْأَعراض ، إذ لا يتصور كون العرض طوراً من أطوار عرض

٣٠٢
 &

آخر ، وحينئذ لا ينطبق المصحح المذكور للحمل على اسم الزمان ، باعتبار أن الزمان لو قلنا بأنه بعد واقعي لا بعد موهوم ولا بعد انتزاعي فهو بالنتيجة عرض لأنه من الكميات التدريجية المتصلة لا من الجواهر فكيف تكون الأعراض شأناً من شؤونه مع كونه عرضاً مثلها ؟ !

والجواب : إن تصور النعتية والصفتية لا يتوقف على كون المنعوت والموصوف جوهراً كما هو واضح ، بل يصح ذلك حتى مع كون المنعوت عرضاً من الْأَعراض ، ولذلك يوصف الخط بالاستقامة والانحناء مع كونهما من الْأَعراض ويوصف السطح بالتعرج والاستواء مع كونهما من الْأَعراض أيضاً ، مما يدل على صحة اتصاف العرض بعرض آخر وهو الذي عبر عنه المحقق النائيني بمتمم المقولة .

الايراد السابع : وهو إشكال لغوي من ناحيتين :

أ ـ من المعلوم في اللغة عدم ورود الجمع والتثنية على المصادر الا ما شذ كالْأَشغال والحلوم كما ذكر في تاج العروس وفي لسان العرب وفي شرح الكافية للسرخسي (١) ، فلو كانت المشتقات عين المصادر في المعنى ولا فرق بينهما الا بالاعتبار لم يصح ورود التثنية والجمع عليها مع صحة أن يقال ضاربون وضاربان بلا ريب .

ب ـ إن الملاحظ في اللغة دوران التثنية والجمع مدار تعدد الذات لا تعدد الحدث ، فلو تعدد الحدث مع وحدة الذات لم يصح الجمع ولا التثنية فلا يصح أن يقال ضاربان لذات واحدة صدر منها فردان من الضرب ، ولو تعددت الذات مع وحدة الحدث صح الجمع والثثنية فيقال قتلة الحسين عليه السلام لذوات متعددة اشتركت في حدث واحد .

__________________

(١) تاج العروس ٢ : ٥٣٦ ، لسان العرب ١٢ : ١٤٦ ، شرح الكافية ٢ : ١٧٩ .

٣٠٣
 &

والنتيجة أنه لو كان المراد بالمشتقات هو المراد بالمصادر لورد عليها التثنية عند تعدد الحدث وإن اتحدت الذات فيقال ضاربان لشخص واحد مع أنه غير صحيح بلا ريب ، بينما تصح هذه التثنية مع تعدد الذات وإن اتحد الحدث مما يدل على التركيب ودخالة الذات في مفهوم المشتق .

والجواب عن ذلك : إن المدعى على القول بالبساطة هو وجود الفارق الاعتباري بين المشتق والمبدأ وكون هذا الفارق الاعتباري ناشئاً عن حيثيات واقعية ، فالعرض عند لحاظه بحده الخاص لا يصح حمله وعند لحاظه بما هو طور لموضوعه يصح حمله عليه ، وبهذا اللحاظ يصح تثنيته وجمعه ـ أيضاً ـ لأَنه حاك عن الذات ووجهها المعبر عنها فيكتسب خاصية الذات ، وهي ورود التثنية والجمع عليه حين تعدد الذات وإن كان الحدث واحداً .

تركيب المشتق : ذهب معظم الْأُصوليين المتأخرين لتركيب المشتق ، فمفهومه عندهم ذات ثبت لها المبدأ ، أي أن معنىٰ عالم ـ مثلاً ـ ذات ثبت لها العلم . وهذا مبنىٰ صار مورد الاعتراض والايراد من قبل القائلين بالبساطة ، ونحن نستعرض الايرادات الواردة عليه بالتفصيل .

الايراد الْأَول : إن المشتقات على ثلاثة أنواع :

١ ـ ما يعقل فيه التركيب لتغاير المبدأ والذات فيه مفهوماً وواقعاً نحو زيد عالم ، فإن التغاير بين زيد والعلم مفهوماً ووجوداً واضح ، لذلك كان التركيب فيه أمراً معقولاً .

٢ ـ ما يتحد المبدأ والذات فيه واقعاً ويختلفان مفهوماً كصفات الباري عز اسمه في قولنا ـ مثلاً ـ الله عالم ، ولفظ العالم هنا مما لا يعقل التركيب فيه لاتحاد الذات المقدسة مع صفاتها ، خلافاً لمن قال بالزيادة وتعدد القدماء .

٣ ـ ما يتحد المبدأ والذات فيه مفهوماً ووجوداً كما في الحمل الشائع

٣٠٤
 &

الحقيقي ، ومثاله الوجود موجود والضوء مضيء ، فهنا لا يعقل التركيب لعدم تصور التركيب بين الشيء ونفسه .

والحاصل أن القول بتركيب المشتق إنما يعقل في بعض أنواع المشتق لا في جميع أنواعه ، فالمناسب لاطراد المبنى وشموله لجميع الْأَنواع هو اختيار القول بالبساطة لا القول بالتركيب .

ولكننا نجيب عن هذا الايراد بعدة وجوه :

١ ـ إن مراد القائلين بالتركيب في المشتق هو رجوع مفهومه بالتحليل العقلي لنسبة إسنادية ناقصة محصلها الذات الواجدة للمبدأ والذات التي ثبت لها المبدأ ، وهذا المفهوم لا يتنافى مع بعض أنواع المشتقات ، لأَن المقصود بالواجدية أو الثبوت هو المعنى التشكيكي العام الحاوي لمراتب مختلفة أعلاها واجدية الشيء لنفسه وثبوته لنفسه وأدناها واجدية الشيء لغيره وثبوت غيره له ، وهذا المعنى العام صادق على جميع أنواع المشتق كما هو واضح .

٢ ـ إن الايراد على مسلك التركيب بعدم معقوليته في النوع الثالث من أنواع المشتق وارد علىٰ مسلك البساطة أيضاً ، وبيان ذلك :

إن قولنا الوجود موجود والبياض أبيض حمل صحيح بناءاً على مسلك التركيب وغير صحيح بناءاً على مسلك البساطة ، وذلك لوجود الفرق الواضح بين قولنا الوجود وجود وقولنا الوجود موجود ، فإن الحمل الْأَول حمل أولي للاتحاد الوجودي والمفهومي بين الموضوع والمحمول والتغاير الاعتباري بينهما بينما الحمل الثاني حمل شائع ، والحمل الشائع متقوم بالتغاير المفهومي والاتحاد الوجودي بين الطرفين ، ولا يتصور هنا التغاير المفهومي إلّا بإرادة المفهوم من الموضوع والواقعية من المحمول بحيث يكون حاصل معنى الجملة : ( أن مفهوم الوجود واقع ومتحقق ) ، بناءاً على القول بأصالة الوجود في مقابل القول بأصالة الماهية .

إذن هذا الحمل حمل صحيح واجد لشرائطه بناءاً على القول بالتركيب ،

٣٠٥
 &

لكنه بناءاً على القول بالبساطة حمل غير صحيح لعدم واجديته لشرائطه ، حيث إن الحمل الشائع متقوم ـ كما ذكرنا ـ بالتغاير المفهومي والاتحاد الوجودي بين طرفيه ، والاتحاد الوجودي وإن كان حاصلاً في قولنا الوجود موجود والبياض أبيض إلّا أن التغاير المفهومي غير متحقق ، لأَن المراد بالمشتق هو عين المراد بالموضوع المحمول عليه فكيف يتم التغاير المفهومي بينهما ؟ ! فالحمل حينئذٍ فاقد لعناصره ومقوماته فلا يكون حملاً صحيحاً .

فإن قلت : إن المصحح للحمل الشائع في نظر المحقق النائيني ( قده ) هو لحاظ المحمول بنحو اللابشرطية عن الحمل ، أي ملاحظته بما هو نعت من نعوت الموضوع وطور من أطواره ، وهذا المصحح معقول في قولنا الوجود موجود والبياض أبيض .

قلت : إن مؤدى الجملة على القول بالبساطة هو اتحاد الطرفين مفهوماً وواقعاً ، ومع وحدتهما فلا وجه لكون المحمول نعتاً للموضوع وطوراً من أطواره ، إذ لا يتصور كون الشيء نعتاً لنفسه وطوراً من أطوار نفسه ، فالمصحح المطروح في كلمات المحقق النائيني ( قده ) للحمل الشائع غير معقول في النوع الثالث من أنواع المشتق .

والحاصل : أن الحمل في قولنا الوجود موجود حمل شائع صحيح بناءاً على القول بالتركيب ، لتغاير الطرفين مفهوماً بإرادة المفهوم من الموضوع والواقعية من المحمول ، ولكنه غير صحيح بناءاً على القول بالبساطة ، لاتحاد الطرفين مفهوماً ووجوداً .

كما أن قولنا البياض أبيض متضمن لحمل صحيح بناءاً على القول بالتركيب ، لأَن المراد بالموضوع هو طبيعي البياض والمراد بالمحمول الْأَبيضية الذاتية ، فمحصل الجملة ومؤداها هو : ( أنّ بياض كل لشيء بالبياض وبياضية البياض بذاته لا ببياض آخر ) فالحمل فيها حمل صحيح أيضاً . بينما على القول

٣٠٦
 &

بالبساطة لا نرى مصححاً للحمل المذكور ، باعتبار اتحاد الطرفين مفهوماً ووجوداً ، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر حملاً شائعاً بمجرد اعتبار اللابشرط ، فإنه اعتبار لا يولد التغاير المفهومي المعتبر في الحمل الشائع .

٣ ـ إن هذه الصياغات ـ نحو الوجود موجود ، ونحو البياض أبيض ـ صياغات فلسفية لا لغوية ولا عرفية ، بيان ذلك : أن الفلاسفة حينما قرَّروا عدم صحة الحمل الشائع إلّا بالاتحاد الوجودي والتغاير المفهومي اصطدموا ببعض صور الحمل الشائع التي لا تتوفر على الشرطين المذكورين نحو الجسم أبيض ، فإن الجسم والبياض أمران متغايران مفهوماً ووجوداً فكيف يتصور الاتحاد الوجودي بينهما ؟ ! لذلك ذهبوا الى أن مثل هذا الحمل مشتمل على الاتحاد الوجودي العرضي الراجع للاتحاد الوجودي الذاتي ، حيث إن ما بالعرض لا بد وأن يعود لما بالذات ، فيعود قولنا الجسم أبيض لقولنا البياض أبيض ، فإن بياض الجسم بالبياض وبياضية البياض بذاته لا ببياضٍ آخر .

والحاصل : أن هذه الْأَمثلة إنما طرحها الفلاسفة لتصوير الاتحاد الوجودي بين الطرفين في مثل قولنا زيد موجود والجسم أبيض ، وليست أمثلة مأخوذة من اللغة والعرف حتى يكون مفهومها ذا مدخلية في تحديد مفهوم المشتق بساطة وتركيباً ، فعدم تصور التركيب في مثل هذه الْأَمثلة الفلسفية لا يعني القول بالبساطة في الْأَمثلة اللغوية والعرفية .

الايراد الثاني : ما في كلمات المحقق النائيني ( قده ) من لغوية أخذ الذات في مفهوم المشتق (١) ، وبيانه يتم بأمرين :

أ ـ إنّ المنطلق الذي انطلقت منه الحركة اللغوية هو الحاجة للتفهيم والتفهم ، ومقتضاه عدم حشوية اللغة وزيادتها على مقدار حاجة التفهيم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٤ ـ ٧٨ .

٣٠٧
 &

والتفهم ، سواءاً كانت اللغة ظاهرة فردية كما يتصوره معظم علماء الْأُصول أم كانت ظاهرة اجتماعية كما هو المختار .

ب ـ إن المتكلم في مقام الاسناد يحتاج لتفهيم ثلاثة مداليل :

١ ـ الموضوع .

٢ ـ المحمول .

٣ ـ الربط بينهما .

فإذا قال زيد كاتب فهو محتاج لتفهيم شخص زيد ومعنى الكتابة والربط بينهما ، والدال على الموضوع لفظه والدال على المحمول لفظ المشتق والدال على الربط ملاحظة المحمول بنحو اللابشرط . وبهذه الدلالات الثلاث تتم بنية الجملة الاسنادية بلا حاجة لتفهيم مدلول آخر ، وهو ذات الموضوع في ضمن تفهيم المحمول ، فالقول ببساطة المشتق منسجم مع مقدار الحاجة للتفهيم بينما القول بالتركيب مستلزم لتفهيم موضوع القضية مرتين ، تارة بعنوانه الخاص من خلال لفظ الموضوع وتارة بالعنوان العام المنطبق عليه وهو عنوان الذات المأخوذ في المشتق ، وهذا التكرار في الاشارة للموضوع لغو لا ينسجم مع مقدار الحاجة للتفهيم والتفهم (١) .

ويلاحظ على هذا الايراد ملاحظات ثلاث :

١ ـ إن لغوية أخذ الذات في مفهوم المشتق ناشئ من تكرار الدلالة على الموضوع في الجملة الاسنادية المعتمدة على الْأَعلام الشخصية ، وهذا المنشأ غير مطرد لجميع موارد استعمال المشتق ، فإن الْأَوصاف المشتقة تاره تعتمد على الموصوف على سبيل النعتية نحو جاءني زيد الكاتب ، وعلى سبيل الإِخبار نحو زيد كاتب ، وفي هذه الموارد يتصور اشكال اللغوية . وتارة لا تعتمد على

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٤ ـ ٧٨ .

٣٠٨
 &

الموصوف نحو الكاتب عندي وعندي كاتب ، وفي هذه الموارد لا يتصور محذور اللغوية لعدم الاشارة للموضوع فيها إلّا مرة واحدة ، وحينئذٍ إمّا أن يلتزم المحقق النائيني ( قده ) بالتفصيل ، وهو أخذ الذات في مفهوم المشتق في موارد عدم الاعتماد على الموصوف وعدم أخذها في المشتق في موارد الاعتماد عليه ، وهو خلاف الارتكاز العرفي قطعاً ، لانعقاده علىٰ وحدة مفهوم المشتق في سائر موارد استعماله .

وإما أن يلتزم بالبساطة في جميع الموارد ، أي عدم أخذ الذات في مفهوم المشتق ، وهذا لا ينسجم مع موارد استعمال المشتق مسنداً إليه نحو عندي كاتب ، لأَن العرف لا يرى الاسناد للمبادئ العرضية في هذه الموارد بل يرى الاسناد للمتلبس بها ، وإلّا لم يكن فرق بين قولنا عندي كاتب وقولنا عندي كتابة ، مع أن الفرق بينهما واضح عرفاً .

وإما أن يلتزم بالتركيب ، وهو أخذ الذات في مفهوم المشتق في جميع موارد الاستعمال ، وهو مدعى القائل بالتركيب .

٢ ـ إن محذور اللغوية الناشئ عن تكرار الاشارة للذات تارة على نحو الصراحة وأخرى على نحو الاندماج مشترك الورود بين القول بالبساطة والقول بالتركيب ، فإن القائل بالبساطة يرى بأن مفهوم المشتق هو نفس مفهوم المبدأ ملاحظاً بنحو اللابشرط ، وملاحظة اللابشرط عن الحمل تستلزم تصور محمول عليه ذهناً ، فيكون تصور مفهوم المشتق مستلزماً لتصور ذات محمول عليها .

ونتيجة ذلك : دلالة لفظ المشتق على الذات بالالتزام ، فأي فرق حينئذٍ بين القول بالبساطة والقول بالتركيب في ورود محذور اللغوية ، فإن لازم القول بالتركيب تكرار الدلالة على الذات تارة بنحو الصراحة من خلال لفظ الموضوع وتارة بالتضمن من خلال لفظ المشتق ، ولازم القول بالبساطة تكرار الدلالة على الذات أيضاً ، تارة بنحو الصراحة من خلال لفظ الموضوع وتارة بنحو الالتزام

٣٠٩
 &

من خلال لفظ المشتق بالبيان المذكور .

٣ ـ إن اللغة ميثاق عرفي وتسالم عقلائي ناشئ عن الحاجة للتفهيم والتفهم عند المجتمع ، فتحديد دائرة اللغة تبعاً لتحديد مقدار الحاجة لها بيد البناء العرفي نفسه لا بيد العقل ، والارتكاز العقلائي العرفي لا يرى تكرار الاشارة للذات مخلاً بمقدار الحاجة للتفهيم والتفهم ، سواءاً كان هذا التكرار على نحو الصراحة نحو زيد زيد قائم ، لوجود غرض بلاغي أو فني معين ، أم كان على نحو الاندماج كما في المشتق .

والاستعمالات العرفية شاهدة بذلك ، فإذا قيل زيد قائم فهو بناءاً علىٰ القول بالتركيب مفاده مفاد زيد ذات لها القيام ، ومن الواضح عدم اللغوية في هذا الاسناد عرفاً ، مع تكرار الاشارة للذات فيه ، تارة علىٰ نحو الصراحة واُخرىٰ علىٰ نحو العموم .

وكذلك إذا قلنا زيد ضَرَبَ ، حيث إن الفعل متضمن لفاعل مستتر فيه ، ولازم ذلك تكرار الإِشارة للذات مرتين . وهكذا شبه ذلك من الاستعمالات العرفية التي تشتمل علىٰ الإِشارة للذات مرتين ، مع أنه استعمال مقبول عرفاً .

الإِيراد الثالث : ما في كلمات المحقق النائيني ( قده ) أيضاً ، وخلاصته : إن البرهان الآني قائم على بساطة المشتق لا على تركيبه ، بيان ذلك : إن المشتق لو كان مركباً لكان متضمناً لمعنى النسبة الاسنادية ، والنسبة معنى حرفي فيكون المشتق متضمناً لمعنى حرفي ، وكل ما هو متضمن لمعنى حرفي فهو مبني لا معرب ، بحسب القاعدة النحوية ، فلازم ذلك كون المشتق مبنياً ، ولكنه معرب ، واعرابه دليل بساطته وعدم تركيبه (١) .

ويمكن الملاحظة على هذا الإِيراد من عدة وجوه :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٥ .

٣١٠
 &

أ ـ لا دليل على واقعية العلل النحوية ، باعتبار أن اللغة العربية قديمة جداً وعلم النحو علم مستحدث ، فما ذكره النحاة في كتبهم من التعليلات على صعيد الاعراب والبناء إنما هو تعليل بعد الورود ، والَّا فالمجتمع العربي البدائي الذي انطلقت منه ظاهرة اللغة العربية ـ بتشكيلتها الإِعرابية والبنائية ـ لم يكن في مستوى هذا الفكر الفلسفي الذي طرحه النحاة على نحو العلل والْأَسباب لظاهرة الاعراب والبناء .

ب ـ إذا كان التشابه المعنوي مع الحرف سبباً مقبولاً لبناء الكلمة بنظر المحقق النائيني ( قده ) فلا بد له من الالتزام بأمرين :

١ ـ بناء الفعل المضارع باعتبار تضمنه لمعنى النسبة ، والنسبة معنى حرفي ، وتضمن المعنى الحرفي سبب للبناء ، مع أن الفعل المضارع معرب لا مبني بالاتفاق .

٢ ـ بناء جميع المشتقات حتى بناءاً على مسلك البساطة الذي هو مسلك المحقق النائيني ( قده ) ، وذلك لاحتواء جميع المشتقات على الهيئة ، والهيئة ذات معنى حرفي في نظر المحقق النائيني ( قده ) ، فلا بد من بناءها مع أنها معربة .

ج ـ إن البرهان الآني المذكور في كلمات المحقق النائيني ( قده ) غير تام على جميع المباني المطروحة في وضع المشتقات ، بيان ذلك : إنّ هناك مسلكين في وضع المشتقات :

أ ـ تعدد الوضع والموضوع له ، إما بلحاظ اشتمال المشتق على عنصرين : مادة وهيئة ، فالمادة تدل على طبيعي الحدث والهيئة تدل على النسبة الاسنادية للذات ، مع أخذ الذات جزءاً للموضوع له أو قيداً خارجاً عنه والجزئية للتقيد به . وإما بلحاظ دلالة الحرف الزائد كالْأَلف في ( قائم ) على النسبة الاسنادية ، مع دلالة أصل الكلمة على طبيعي الحدث .

ب ـ وحدة الوضع والموضوع له ، بلحاظ وضع المشتق بتمامه مادة وهيئة

٣١١
 &

للنسبة الاسنادية وضعاً شخصياً كما هو المختار في ظاهرة اللغة . وبعد وضوح المسلكين في وضع المشتق نقول : بأننا إن أخذنا بالمسلك الْأَول ـ القائل بتعدد الوضع والموضوع له على نحو تعدد الدال والمدلول ـ فلا يصدق حينئذ على المشتق سبب البناء ، وهو تضمن المعنى الحرفي ، لأَن المشتق بناءاً على هذا المسلك من قبيل الكلمتين اللتين إحداهما اسم ـ وهو المادة الدالة على طبيعي الحدث ـ والْأُخرىٰ حرف ، وهي الهيئة الدالة على النسبة الاسنادية للذات ، وسبب البناء هو تضمن الكلمة الواحدة للمعنى الحرفي ، لا انضمام الاسم للحرف كما هو واضح .

إذن فلا يتم البرهان الآني المذكور على البساطة بناءاً على المسلك الْأَول .

وإن أخذنا بالمسلك الثاني ـ القائل بوحدة الوضع والموضوع له كما هو المختار ـ فسبب البناء غير متحقق في المشتق أيضاً ، والسر في ذلك أن السبب الموجب للبناء تضمن الاسم للمعنى الحرفي التفصيلي ، كتضمن كلمة ( متى ) للاستفهام ، حيث إن الاستفهام هو المعنى التفصيلي الصريح لكلمة ( متى ) ، بينما وجود المعنى الحرفي في مفهوم الاسم على نحو التحليل والاندماج غير كافٍ في بنائه كما هو حاصل في المشتق ، فإن مدعى القائل بالتركيب هو دلالة المشتق على الذات الواجدة للمبدأ ، ومؤداه أخذ النسبة الاسنادية في مفهوم المشتق لا على نحو التفصيل بل على نحو التحليل والاندماج ، وهذا غير كاف في البناء ، فلا يتم البرهان الإِني المذكور على هذا المسلك أيضاً .

الايراد الرابع : ما ذكره المحقق الشريف الجرجاني في حاشيته على شرح المطالع ، فإن صاحب المطالع عرَّف الفكر بـ « أنه ترتيب أمور معلومة للتوصل الى مجهول » واعترض عليه الشارح بأن هذا التعريف غير جامع ، لعدم انطباقه على التعريف بالفصل وحده كما لو قلنا : « الانسان هو الناطق » المسمى بالحد الناقص ، فإن عملية التعريف في المثال مع كونها نشاطاً فكرياً

٣١٢
 &

ليست مصداقاً للتحديد السابق للفكر ، وهو « ترتيب أمور . . . » ، باعتبار تماميتها بأمر واحد وهو الفصل وحده بدون حاجة لترتيب أمور ، فالتعريف المطروح للفكر غير جامع .

ثم أجاب الشارح عن اعتراضه بأن الفصل كالناطق ـ مثلاً ـ وإن كان بحسب التصور الادراكي أمراً واحداً إلّا أنه بحسب التحليل العقلي ينحل لأَمرين شيءٍ ونطق ، فترتيب هذين الْأَمرين ذهناً للتوصل الى المجهول مصداق لقوله الفكر « ترتيب أمور للتوصل الى مجهول » . ولكن المحقق الشريف أشكل على جواب الشارح : بأن مفهوم الناطق إذا كان بسيطاً فلا محذور في ذلك ، وإذا كان مركباً من الشيء والنطق فإما أن يراد بالشيء الذي هو جزءه مفهوم الشيء فيلزم من ذلك دخول العرض العام ـ وهو مفهوم الشيء ـ في الفصل وهو مستحيل ، لأَن الفصل جوهر بسيط لا يدخل فيه حتى الجنس فضلاً عن العرض العام ، باعتبار أن نسبة الفصل للجنس نسبة العلة المحصلة للمعلول ، ولا يعقل كون المعلول جزءاً من العلة . لذلك قال المناطقة بأن الجنس جنس للنوع لا للفصل ، فلا يكون دخيلاً فيه فضلاً عن دخول العرض العام فيه ، فإن الفصل من الذاتيات والعرض العام من العرضيات ، فكيف يكون العرضي جزءاً من الذاتي ؟ !

وإما أن يراد بالشيء مصداقه فيلزم انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية ، فإن قولنا الانسان كاتب إذا انحل بالتأمل العقلي إلى قولنا الإِنسان إنسان له الكتابة دخل في القضايا الضرورية ، باعتبار أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع ، والنتيجة هي بساطة المشتق لا تركيبه (١) .

وعندنا عدة ملاحظات على هذا الايراد بكلا شقيه ، أما ملاحظاتنا على

__________________

(١) حاشية الشريف علىٰ المطالع : ١١ .

٣١٣
 &

الشق الْأَول فهي :

أ ـ إن هذا البحث بتمامه إشكالاً وجواباً مبني على سنخ التفكير الفلسفي التقليدي الذي يرى أن معرفة الحقائق الواقعية يتم من خلال معرفة عنصرين : ما به الاشتراك وهو الجنس وما به الامتياز وهو الفصل ، إلّا أن هذا السنخ من التفكير غير مقبول عندنا لوجهين :

١ ـ عدم وجود برهان قاطع على صحته .

٢ ـ كونه عقيماً في الايصال لمعرفة واضحة السمات والملامح . وقد اعترف بذلك المناطقة أنفسهم ، فقالوا بعدم امكان الوصول للواقعيات وكنه حقائقها ، لذلك فالطريقة المثمرة في الوصول لمعرفة الحقائق هي الطريقة التي طرحتها الفلسفة الحديثة ، وهي معرفة الاشياء من خلال آثارها الحسية وعوارضها الفعلية والانفعالية . ولعل ما في الرواية الرضوية إشارة لهذه الطريقة حيث قال عليه السلام : « وخلق خلقاً مختلفاً بأعراض وحدود » (١) .

ب ـ ذكر المناطقة بأن الفصول المطروحة في العلوم لتحديد الواقعيات مأخوذة على نحو المعرفيِّة للفصول الحقيقية لا على نحو الموضوعية ، فمثلاً الناطق فصل مشهوري معرِّف بالفصل الحقيقي ، وهو مبدؤه أي النفس الناطقة ، والَّا فلا يعقل كون الناطق ذاتياً للإِنسان ، فإن المراد بالنطق إن كان هو النطق الجارحي فهو من مقولة الكيف المسموع ، وإن كان هو النطق الجانحي الادراكي فهو من مقولة الكيف النفساني أو مقولة الفعل أو الاضافة على اختلاف المباني في بحث العلم في الفلسفة ، وعلى كلا التفسيرين فالناطق من العرضيات لا من الذاتيات ، فلا يكون فصلاً مقوماً لحقيقة الانسان .

وبناءً على هذه المقالة فأي مانع من دخول مفهوم الشيء في مدلول

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٤٣٠ ، باب ٦٥ ، ضمن حديث ١ .

٣١٤
 &

الناطق ، ما دام هذا المدلول بذاته أمراً عرضياً لا ذاتياً ، لعدم كونه فصلاً حقيقياً كما ذكرنا .

ج ـ إن هذا الايراد قد يعد خلطاً بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ، باعتبار أن النزاع المنطقي في كون الفصل أمراً بسيطاً أم مركباً نزاع ثبوتي دائر حول واقع الفصل وحقيقته ، وأنها مركبة في الواقع من الجنس والصفة أم من العرض العام والصفة أم غير مركبة ، بينما الخلاف الْأُصولي المعقود حول بساطة المشتق وتركيبه خلاف إثباتي دائر حول لفظ المشتق ومدلوله اللغوي العرفي ، وأن العرف المتأمل هل يفهم النسبة الاسنادية من المشتق أم لا ؟ .

فلا وجه لخلط المبحثين والاستمداد من أحدهما للآخر ، فإن الْأَول ناظر لخصوص الفصل بلحاظ حقيقته الواقعية ، والثاني ناظر للمشتق بلحاظ مدلوله اللغوي العرفي ، لذلك نرى الشريف الجرجاني في حاشيته على الكشاف وحاشيته على المطول وحاشيته على الْأُصول للحاجبي يصرح بتركيب المشتق ، لكنه في علم المنطق يرى بساطة الفصل المشتق ، مما يدل على عدم التنافي بين المقامين واختلافهما موضوعاً وحكماً .

هذه ملاحظاتنا على الشق الْأَول من الايراد ، وهو استلزام أخذ مفهوم الشيء في مدلول المشتق لدخول العرض العام في الفصل .

وأما ملاحظتنا على الشق الثاني من الايراد ـ وهو استلزام أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتق لانقلاب القضية الممكنة للضرورية ـ فبيانها يتوقف على ذكر أمور :

أ ـ إن القضية تحتوي على أربعة عناصر :

١ـ موضوع .

٢ ـ محمول .

٣ـ نسبة .

٣١٥
 &

٤ ـ كيفية ثبوت النسبة .

وهذه الكيفية بلحاظ عالم الثبوت تسمى مادة ، وبلحاظ عالم الاثبات تسمى جهة .

ب ـ إن الجهات أربع :

١ ـ الضرورة .

٢ ـ الامكان .

٣ ـ الدوام .

٤ ـ الاطلاق المعبر عنه بالفعل .

ج ـ إن الجهات قد تتداخل ، ومن ألوان التداخل انقلاب الممكنة للضرورية . وهناك ثلاثة موارد يحتمل فيها الانقلاب من الامكان للضرورة :

١ ـ أخذ المحمول في الموضوع نحو الانسان الكاتب كاتب ، وهو المعبر عنه بالضرورة بشرط المحمول ، ولأَن الكتابة وإن كانت ثابتة للإِنسان بالامكان الّا أنها ثابتة للكاتب بالضرورة . فهذا المورد من موارد انقلاب الممكنة للضرورية .

٢ ـ دخول الجهة في المحمول نحو الانسان كاتب بالإِمكان ، على نحو يكون قيد ( بالامكان ) مرتبطاً بالمحمول ـ وهو كاتب ـ لا بنسبة المحمول للموضوع ، وهذا المورد من موارد انقلاب القضية الممكنة للضرورية ، باعتبار أن ثبوت الكتابة بما هي للإِنسان أمر ممكن ، الّا أن ثبوت الكتابة المقيدة بالامكان له أمر ضروري ، وهذا التصور ليس خاصاً بجهة الامكان بل هو عام لسائر الجهات أيضاً .

وقد ذهب شيخ الاشراق السهروردي الى رجوع جميع القضايا الممكنة للضرورية ، باعتبار أخذ الجهة قيداً في المحمول ، لا مرآةً معبرة عن نسبة المحمول للموضوع ، وبرهانه على ذلك برهان إثباتي ، وهو : أن الظاهر الْأَولي

٣١٦
 &

لكل ظرف كونه ظرفاً لغواً لا مستقراً ، فلو كان قيد ( بالامكان ) هنا راجعاً للمحمول فهو ظرف لغو ، ولو كان راجعاً للنسبة فهو ظرف مستقر ، والظهور العرفي منعقد على رجوع القيود للمحمول دون النسبة ، ومقتضاه تحول القضية الممكنة للقضية الضرورية .

ولكننا نلاحظ على هذا الاستدلال : أن البحث في عناصر القضايا بحث ثبوتي واقعي لا إثباتي ، فلا وجه للتشبث فيه بالظهور ، فإن القضية واقعاً وثبوتاً تنحل عند التأمل لأَربعة عناصر متقابلة ، ومن المستحيل دخول المقابل في مقابله ، فلا يمكن دخول الجهة في المحمول وتقيده بها ، فالجهة مما به ينظر لأَنها مرآة معبرة عن كيفية النسبة واقعاً ، والمحمول مما فيه ينظر لأَنه طرف الاسناد ، فكيف يكون أحدهما قيداً للآخر ؟ !

٣ ـ أخذ الموضوع في المحمول بعكس المورد الْأَول ( وهو أخذ المحمول في الموضوع ) . ومثاله : محل كلامنا ، فإنا إذا قلنا الانسان كاتب فبناءاً على التركيب تنحل القضية لقولنا الانسان إنسان له الكتابة ، فهل هذا المورد من موارد انقلاب الممكنة للضرورية أم لا ؟ !

وهنا تقريبان لتصوير الانقلاب : أحدهما ما طرحه صاحب الكفاية ، والآخر ما ذكره صاحب الفصول .

أ ـ تقريب الكفاية (١) : وخلاصته : أن قولنا الانسان إنسان له الكتابة مشتمل على عقد الوضع ـ وهو عبارة عن معرفية عنوان الإِنسان للموضوع الواقعي ـ وعلى عقد الحمل ـ وهو قضية إنسان له الكتابة ـ المتضمن لثلاثة أجزاء : مقيد وهو الانسان ، وقيد وهو الكتابة ، وتقييد بها ، وهذا التقيد معنى حرفي ، والمعنى الحرفي حقيقته المرآتية لأَطراف القضية ، فأما أن يكون مرآة

__________________

(١) الكفاية : ٥٢ ـ ٥٣ .

٣١٧
 &

لملاحظة ذات المقيد في نفسه ، وهذا ما يعبر عنه بدخالة التقيد مع خروج القيد ، وإما أن يكون مرآةً لملاحظة القيد نفسه ، وهو ما يعبر عنه بدخالة التقيد والقيد معاً ، وعلى كلا الشقين فانقلاب الامكان للضرورة أمر معقول .

أما على الشق الْأَول ـ وهو كون التقيد مرآةً لذات المقيد وهو الانسان في المثال ـ فالتحول حينئذٍ من الامكان الى الضرورة واضح ، لأَن مرجع القضية حينئذٍ الى قولنا الانسان إنسان ، حيث لا دور للتقيد بالكتابة الا المرآتية لذات المحمول ، من دون دخالة له في الحمل أصلاً ، ومن المعلوم أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع .

وأما على الشق الثاني ـ وهو كون التقيد مرآةً للقيد بحيث يكون القيد داخلاً في ضمن الحمل أيضاً ـ فتنحل القضية الى قضيتين بلحاظ عقد الحمل : إحداهما ضرورية والْأُخرى ممكنة ، لأَن مرجع قولنا الانسان كاتب ـ بناءاً على التركيب ـ الى مقالتين :

١ ـ الإِنسان إنسان .

٢ ـ الإِنسان له الكتابة .

باعتبار أن التقيد بالكتابة مرآة لدخول القيد في الحمل أيضاً ، فأولى القضيتين ضرورية والْأُخرى ممكنة . هذا هو تقريب ما في الكفاية من دعوى الانقلاب (١) .

ولكننا نناقش في هذا التقريب بكلا شقيه ، فنقول : أما الشق الْأَول فيرد عليه عدة وجوه :

أ ـ إن مسلكنا في المعنى الحرفي يختلف عن مسلك صاحب الكفاية ( قده ) ، وذلك لأَن مسلكنا هو كون الفارق بين المعنى الحرفي والاسمي بالخفاء

__________________

(١) الكفاية : ٥٢ ـ ٥٣ .

٣١٨
 &

والوضوح ، لا بالآلية والاستقلالية ، كما هو مسلك الكفاية (١) ، فمع المناقشة في أصل المبنى لا يتم ما بني عليه .

ب ـ إن التقييد ليس معنى حرفياً مرآتياً ، بل هو عمل إبداعي تقوم به النفس بهدف الربط بين ماهيتين ، وحينئذٍ فلا يعقل أن لا يكون له أي موضوعية في الحمل ، وأن يكون مجرد مرآة حاكية عن المقيد أو القيد ، فإن المرآتية لا تسمى تقييداً ، بل التقييد دخيل في الحمل أيضاً ، ولذلك قال الحكماء بأن التقيد جزء لا محالة ، وإنما خلافهم في جزئية القيد وعدم جزئيته .

ج ـ إن التقييد بناءاً على مرآتيته : إما أن يكون مرآتاً لذات المقيد بما هي ذات ، وإما أن يكون مرآةً لذات المقيد بما هي مقيدة ، فإن كان مرآةً لذات المقيد بما هي ذات فلازم ذلك اللغوية ، لأَن الذات بعد معرفتها بعنوانها التفصيلي المذكور في الموضوع ـ وهو الانسان ـ لا حاجة لمعرفتها مرة أخرى من خلال مرآتية التقييد أصلاً .

وإن كان مرآةً لذات المقيد بما هي مقيدة فلا يلزم من ذلك الانقلاب من الإِمكان الى الضرورة ، لأَن حمل الحصة على الكلي ليس حملاً ضرروياً ، فثبوت الانسانية المقيدة بالكتابة للإِنسان ليس ثبوتاً ضرورياً كما هو واضح .

هذه مناقشتنا للشق الْأَول من تقريب كلام الكفاية لدعوى الانقلاب .

وأما الشق الثاني من كلامه فيرد عليه وجهان :

أولاً : إن التحليل العقلي لعقد الحمل في قولنا : ( الانسان كاتب ) بناءاً على التركيب يقتضي الالتزام بأحد أمرين على سبيل منع الخلو : إما عدم الانقلاب وإما الانقلاب الصحيح ، وذلك لأَن إنحلال كلمة كاتب الى قضيتين ـ إحداهما : الإنسان انسان ، والْأُخرى الانسان له الكتابة ـ لا يعني أن

__________________

(١) الكفاية : ١٢ ـ ٤٢ .

٣١٩
 &

كلتا القضيتين مقصودتان بالحمل ، بل المقصود بالحمل هو القضية الثانية دون الْأُولى ، لعدم الفائدة في حمل القضية الْأُولىٰ كما هو واضح ، وإذا كان المقصود بالحمل هو القضية الثانية فالْأُولى مذكورة على سبيل الضمنية والاندماج في مدلول المحمول ، تمهيداً للقضية الثانية لا أنها هي مركز الحمل .

وهذا التمهيد لا يسمى انقلاباً كما هو ظاهر ، فإن كون القضية الممهدة ضرورية لا يستلزم انقلاب الحمل من الامكان للضرورة ، ما دام مركز الحمل هو القضية الامكانية .

نعم لو قلنا بأن مركز الحمل والمقصود الْأَساسي منه هو القضية الْأُولى فالانقلاب حينئذٍ صحيح ، بينما مدعى الشريف الجرجاني ـ الذي كان صاحب الكفاية بصدد تفسيره وتقريبه ـ هو الانقلاب الفاسد ، فإن الشريف قد قال : ( بأن المأخوذ في مدلول المشتق إن كان هو مصداق الشيء فلازم ذلك انقلاب الممكنة للضرورية ، وهو فاسد ) (١) فالكلام المفسَّر وهو كلام الجرجاني ناظر للانقلاب الفاسد ، فكيف يكون الكلام المفسِّر وهو كلام الكفاية ناظراً للانقلاب الصحيح ، فالخلاصة : أن مركز الحمل إن كان هو القضية الثانية ـ وهي له الكتابة ـ فلا يوجد انقلاب ، وإن كان هو القضية الاولى ـ وهي إنسان ـ فالانقلاب صحيح .

وثانياً : إن دعوى انحلال عقد الحمل ـ وهو قولنا إنسان له الكتابة ـ إلى قضيتين معناه أخذ المحمول ـ وهو لفظ كاتب ـ على نحو العموم الاستغراقي ، بلحاظ أجزائه التي ينحل إليها بناءاً على التركيب ، مع أن القول بالتركيب يقتضي النظر إلى المحمول على نحو العموم المجموعي ، وهو كون المحمول عبارة عن وحدة تركيبية اعتبارية تنتفي بانتفاء أحد أجزائها ، فلا توجد حينئذٍ

__________________

(١) الفصول : ٦١ .

٣٢٠