الرافد في علم الأصول

السيد منير السيد عدنان القطيفي

الرافد في علم الأصول

المؤلف:

السيد منير السيد عدنان القطيفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

يعتبر فيه فعلية التلبس بالمبدأ حتى يصح الحمل أو يكفي مجرد ارتباط المبدأ بالذات في زمن من الأزمنة لصحة الحمل ، فالنزاع عقلي في بحث فلسفي وهو بحث حمل الاشتقاق ، وبما أن حمل المشتق كقولنا زيد عالم من مصاديق حمل الاشتقاق لأن عنوان المشتق عنوان انتزاعي مأخوذ من المبدأ وهو العلم مثلاً ، فحمله في الواقع وعالم الثبوت هو حمل للمبدأ على الذات وإنما لعدم صحة حمل المبدأ على الذات صراحة فيحمل عليها بواسطة ذو فيقال زيد ذو علم أو بواسطة المشتق فيقال زيد عالم فالحمل لباً وثبوتاً للمبدأ .

وبما أن حمل المبدأ حمل اشتقاق فكذلك حمل المشتق المأخوذ منه ، ولأجل وجود الخلاف في بحث الاشتقاق وأنه هل يشترط فيه فعلية التلبس أم لا فيسري هذا الخلاف لصغرياته ومصاديقه ومن جملتها المشتق .

ب ـ إن الخلاف المذكور ليس كبروياً دائراً حول حمل الاشتقاق نفسه وإنما هو بحث صغروي أي في خصوص المشتق ، بمعنى أن حمل الاشتقاق يفترق عن حمل المواطاة افتراقاً جوهرياً ، فكما يختلفان في أن المحمول في حمل المواطاة عنوان مندمج مع عنوان الموضوع متحد به وجوداً كقولنا هذا حجر والمحمول في حمل الاشتقاق هو المبدأ المنفصل عن الذات مفهوماً ووجوداً ، بناءاً على تعدد الموجود خارجاً للجوهر والعرض ، فكذلك يختلفان في أن المعتبر في حمل المواطاة كون الموضوع من الأفراد الفعلية للمحمول ولا يعتبر ذلك في حمل الاشتقاق ، بل يكفي مجرد انتساب المبدأ للموضوع في زمان سابق .

فهذه الكبريات لا نزاع فيها ، وإنما النزاع في الصغرى وهو المشتق نفسه وهل أنه مندرج في باب حمل المواطاة فلا بد فيه من فعلية التلبس أم أنه مندرج في باب حمل الاشتقاق فلا يعتبر فيه الفعلية .

بيان ذلك : أن حمل الاشتقاق يعني حمل المبدأ على الذات ، وبما أنه لا يصح حمل المباين على مباينه فلا بد من وسيلة لتصحيح الحمل وهو إما لفظ ذو

٢٢١
 &

فيقال زيد ذو علم وإما لفظ المشتق فيقال زيد عالم ، فإذا قيل زيد عالم فهنا توجد نظرتان :

١ ـ أن كلمة عالم عنوان حاك عن العلم مرشد إليه ولا موضوعية للفظة عالم أصلاً ، وحينئذٍ بما أن حمل المبدأ على الذات حمل اشتقاق وحمل الاشتقاق لا يعتبر فيه فعلية التلبس فلا يعتبر في حمل المشتق فعلية التلبس ، لأن حمل عالم عبارة أخرى عن حمل كلمة علم وهي المبدأ نفسه .

٢ ـ أن نقول بأن حمل عالم على الذات يعني تحقق حملين مندمجين أحدهما صريح والآخر ضمني ، فالضمني هو حمل المبدأ نفسه على الذات وهو حمل اشتقاقي لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، والصريح هو حمل عنوان عالم وهو عنوان متحد وجوداً مع الذات فحمله عليها حمل مواطاة ، وبما أنه يعتبر في حمل المواطاة كون الموضوع فرداً فعلياً للمحمول فلا بد من اعتبار ذلك أيضاً في حمل المشتق ، خصوصاً وأنه عنوان انتزاعي ولا وجود للمنتزع الا بوجود مبدأ انتزاعه فإن وجوده بدونه من قبيل بقاء المعلول بلا علة .

إذن فالبحث صغروي حول عنوان المشتق وأنه مندرج تحت باب حمل المواطاة أم تحت باب حمل الاشتقاق .

وهذان هما الوجهان المتصوران في المقام لإِثبات أن بحث المشتق بحث فلسفي يدور مدار الصدق والانطباق ، وهناك عدة اعتراضات على هذه النظرية بكلا تصويريها :

الأول : ما عن المحقق الاصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وملخصه أمران :

١ ـ إن الحمل الحقيقي هو حمل المواطاة لأن الحمل يعني الهوهوية بين

٢٢٢
 &

الموضوع والمحمول ، الا أن الهوهوية إما مفهومية مع المغايرة الاعتبارية وإما مصداقية مع التغاير المفهومي ، وأما حمل الاشتقاق وهو حمل المبدأ على الذات الذي يتوصل له إما بلفظ ذو وإما بالوصف المشتق فهو حمل مجازي كما ذكر المحقق الطوسي في شرح الاشارات (١) ، وليس حملاً حقيقياً حتىٰ يتصور النزاع فيه كما قرِّر في الوجه الأول .

٢ ـ إن هذا الترديد والتشقيق ، وهو أن حمل كلمة عالم مثلاً على زيد إما حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس وإما حمل اشتقاق فلا يعتبر فيه ذلك ، ان كان تشقيقاً لنفس المبدأ أي أن حمل المبدأ على الذات يتصور فيه هذان الاحتمالان فليس هذا محل كلامنا ، لأن كلامنا في المشتق لا في المبدأ . وإن كان تشقيقاً للمشتق نفسه وأن حمل كلمة عالم ـ مثلاً ـ يتصور فيها الاحتمالان ففيه : إن حمل المشتق حمل مواطاة بلا ريب ، لوجود الهوهوية والاتحاد الوجودي بين الذات والعناوين الاشتقاقية ولا يتصور في حمل المشتق رجوعه لحمل الاشتقاق أصلاً ، فلا يتم التصور الثاني للنظرية (٢) .

ولكننا لا نوافق على هذا الاعتراض ، وذلك لأن مقصود المحقق الطهراني ـ كما يظهر لمن راجع كلامه ـ أن التشقيق والترديد للحمل لا للمحمول ، سواءاً كان مبدأ أم مشتقاً ، ولذلك صياغتان :

أ ـ إننا إذا قلنا زيد عالم فنتسائل ما هو المحمول هل هو المبدأ ولفظة عالم ما هي الا وسيلة لتصحيح الحمل ومفادها مفاد كلمة ذو ، فمعنى الحمل حينئذٍ هو انتساب المبدأ للذات . وهذا ما نعبر عنه بحمل الاشتقاق الذي يكفي فيه ـ بناءاً على تسليم الكبرى ـ مجرد ارتباط الذات بالمبدأ في الزمان السابق وإن لم

__________________

(١) شرح الاشارات ١ : ٣٠ ـ ٣١ .

(٢) نهاية الدراية ١ : ٦٩ .

٢٢٣
 &

يكن هناك تلبس فعلي .

أم أن المحمول هو عنوان العالم فقط والمبدأ ما هو الا مصحح للانتزاع ، فإن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع وهو ما يصح حمله عليه وهو الذات في المقام ومصحح انتزاع وهو المبدأ هنا ، فالمبدأ ليس دخيلاً في الحمل ولا جزءاً من المحمول وإنما هو مصحح الانتزاع فقط والا فالمحمول هو العنوان .

وبناءاً على ذلك فالحمل حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس ، مضافاً إلى أن عنوان المشتق عنوان انتزاعي ولا بقاء للعنوان الانتزاعي مع زوال مصحح انتزاعه .

إذن فهذا التسائل معقول ولا يرد عليه الاعتراض المطروح من قبل المحقق الاصفهاني . نعم قد يدعى أن الظاهر من حمل لفظة عالم ـ مثلاً ـ على زيد هو حمل عنوان المشتق لا حمل المبدأ المصحح له ، ولكن المفروض في كلام المحقق الطهراني أن البحث عقلي يدور مدار الحمل لا أنه بحث لغوي يدور مدار الظهور .

ب ـ إننا إذا قلنا زيد عالم فهنا لا يوجد حملان بالأصالة ، أحدهما مواطاة والآخر اشتقاق ، لتباين الحملين فلا يجتمعان في حمل واحد كما هو واضح لاستحالة اجتماع المتباينين ، ولكن يوجد هنا حملان ، أحدهما بالأصالة والآخر بالعرض ، فيوجد حمل لعنوان المشتق على الذات وحمل للمبدأ على الذات .

والسؤال حينئذٍ : أي الحملين بالأصالة ؟

فإذا كان الحمل الأصيل هو للمبدأ فالمقصود مجرد الانتساب وهذا هو المعبر عنه بحمل الاشتقاق الذي لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، وإن كان الحمل الأصيل للمشتق فالحمل حمل مواطاة وهو الذي يعتبر فيه فعلية التلبس .

إذن فتصور وجود حملين في القضية أمر معقول ، وبناءاً عليه فيصح التساؤل المذكور ، وهذا هو مقصود المحقق الطوسي من المجاز في حمل

٢٢٤
 &

الاشتقاق ، أي أن المحمول بالحقيقة في حمل المشتقات هو حمل المشتق ـ مثلاً ـ وهو حمل مواطاة ، والمبدأ المحمولي حمل الاشتقاق محمول على نحو المجاز ، لا أن حمل الاشتقاق بتمام صوره حمل مجازي بل هو حمل حقيقي قصد منه بيان مجرد الانتساب والارتباط وهذا المدلول مدلول واقعي فالتعبير عنه بلفظ ذو تعبير حقيقي لا مجازي . نعم ظاهر بعض كلمات الحكماء أن حمل الاشتقاق بتمام صوره حمل مجازي لأن حقيقة الحمل متقومة بالهوهوية والحاصل أن هنا حملين حملاً بالأصالة والآخر بالعرض وإن كان الظاهر .

في صورة حمل المشتق علىٰ الذات كون المحمول بالحقيقة هو عنوان المشتق والمبدأ محمولاً بالعرض والمجاز .

كما أن الظاهر أن الكبرىٰ المذكورة في التصوير الأول للمحقق الطهراني متفق عليها في الفلسفة وهو أن حمل الاشتقاق لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، وإنما النزاع في الصغرى وهي حمل المشتق لا في الكبرى فلا يتم التصوير الأول . الا أن التصوير الثاني معقول ولا يرد عليه اعتراض المحقق الاصفهاني ( قده ) .

الاعتراض الثاني : ما طرحه المحقق النائيني ( قده ) في أجود التقريرات (١) ومحصله أمران :

أ ـ إن ما ذكره المحقق الطهراني من كون النزاع في المشتق متعلقاً بمرحلة الصدق والتطبيق مبني على مسلك السكاكي في بحث المجاز ، حيث اختار رجوع المجاز للإِسناد لا للكلمة .

بيان ذلك : أن المشهور ذهبوا لكون المجاز في الكلمة ، فإذا قلت رأيت أسداً يرمي فالتجوز في لفظ الأسد حيث أريد به الرجل الشجاع ، الا أن السكاكي ذهب إلى أن التجوز في إسناد لفظ الأسد للفظ يرمي لا في لفظ

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٥٩ .

٢٢٥
 &

الأسد .

فبناءاً على مسلك المشهور يكون الحقيقة والمجاز من عوارض الكلمة وصفاتها ، وبناءاً على مسلك السكاكي يكونان من عوارض الاسناد .

وحينئذٍ فلا بد لنا في بحث المشتق عندما نتكلم عن كون المشتق حقيقة في المتلبس ومجازاً في غيره أو كونه حقيقة في الأعم أن ننظر لمرحلة الاسناد والحمل ، حيث لا حقيقة ولا مجاز الا فيه ونفس الكلمة بما هي لا تكون لا حقيقة ولا مجازاً ، فلا يصح البحث عن المدلول الحقيقي والمجازي للفظ المشتق ، بل يجب أن ينصرف البحث للإِسناد وكونه حقيقياً أم مجازياً ، إذن فما أفاده المحقق الطهراني يتفرع على مسلك السكاكي .

ب ـ بما أن الأساس لنظرية المحقق الطهراني هي نظرية السكاكي في باب المجاز فإذا بطل الأساس بطل ما تفرع عليه .

أمَّا بطلان مسلك السكاكي فنقول في بيانه :

إن القضايا على قسمين :

١ ـ حقيقية .

٢ ـ خارجية .

فأما القضايا الحقيقية فلا يتصور فيها التجوز في الصدق والتطبيق ، وذلك لأن القضية الحقيقية لا نظر فيها لعالم الصدق والتطبيق أبداً وإنما الموضوع فيها هو طبيعي العنوان بعد الفراغ عن صدقه وانطباقه على أفراده المفروضة الوجود ، فمثلاً إذا قلنا المستطيع يجب عليه الحج فمحصله : أن طبيعي المستطيع إذا فرض صدقه على فرد فيجب عليه الحج ، فالموضوع للقضية هو طبيعي العنوان وجهة التطبيق على الأفراد أخذت مفروضة الوجود مفروغاً عنها .

ولذلك قيل : بأن القضايا الحقيقية مرجعها لقضية شرطية مقدمها وجود

٢٢٦
 &

الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له .

إذن فما دامت جهة التطبيق جهة مفروضة ومفروغاً عنها في القضايا الحقيقية فلا يمكن أن يكون المجاز فيها بلحاظ عالم التطبيق والإِسناد .

وأما القضايا الخارجية فهي تنقسم بحسب مرحلة الصدق والانطباق إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ ما يكون الصدق فيها حقيقياً بلا خفاء نحو الفرات ماء .

٢ ـ ما يكون الصدق فيها حقيقياً مع نوع من الخفاء نحو « الكبريت ماء » .

٣ ـ ما يكون الصدق فيها متوقفاً على التوسعة نحو زيد أسد ، والتوسعة هنا إما في الموضوع وإما في المحمول وإما في الاسناد ، فأما التوسعة في الموضوع فهو إما بإرادة الحيوان المفترس من لفظ زيد وهذا استعمال لا مصحح له من وضع أو طبع ، وإما باعتبار زيد حيواناً مفترساً ثم يحمل عليه لفظ الأسد وهو تكلف لا حاجة له بعد التجوز في لفظ الأسد ، أو في إسناده .

وأما التوسع في المحمول بأن يراد بلفظ الأسد الرجل الشجاع فهذا هو مطلوبنا ، وهو كون المجاز في الكلمة لا في الاسناد .

وأما التوسع في الاسناد فهو باطل ، إذ بعد المحافظة على مفهوم زيد ومدلوله بلا تجوز والمحافظة على مدلول الأسد بلا تجوز فحمل أحدهما على الآخر حمل للمباين على مباينه كحمل الحجر على الانسان وهو غلط وليس مجازاً ، فالتجوز في الاسناد لا وجه له بعد كون طرفي الاسناد متباينين .

والخلاصة : ان مسلك السكاكي وهو رجوع المجاز للإِسناد لا للكلمة لا صحة له لا في القضايا الحقيقة ولا في القضايا الخارجية ، وإذ بطل المسلك المذكور بطل ما تفرع عليه من كون بحث المشتق متعلقاً بالاسناد (١) .

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٥٩ .

٢٢٧
 &

ولكننا لا نوافق على هذا الاعتراض لوجوه :

أ ـ إن البحث في صدق المشتق على الموضوع واشتراطه بفعلية التلبس أو عدم اشتراطه لا يبتني على مسلك السكاكي في المجاز ، فيمكن لنا القول بمسلك السكاكي ومع ذلك نرى أن مسألة المشتق مرتبطة بالظهور الفردي للكلمة لا بالاسناد .

بيان ذلك : أننا لو اخترنا أن المجاز في الاسناد لا في الكلمة كما قال به السكاكي فيمكن لنا مع ذلك اختيار المذهب المشهور في البحث حول المشتق ، وهو البحث حول مفهومه الافرادي وهل أنه واسع يشمل المنقضي عنه المبدأ أم ضيّق خاص بالمتلبس ، ولا تنافي بين البحث عن المفهوم الافرادي للمشتق واختيار كون المجاز في الاسناد لا في الكلمة .

كما أنه يمكن اختيار كون المجاز مرتبطاً بالكلمة لا بالاسناد كما عليه المسلك المشهور ومع ذلك يصح البحث في اسناد المشتق وصدقه ، فيقال : بأن الحقيقة والمجاز من أوصاف الكلمة نفسها ولكن المفروض المفروغية عن مدلول وصف المشتق وأن المراد به معلوم وهو الواجد للمبدأ في زمن من الأزمنة ، فالبحث حينئذٍ ليس عن مدلوله لوضوحه وإنما البحث عن مرحلة الصدق والاسناد وأنه هل يصح إسناده للمنقضي عنه المبدأ على نحو الحقيقة أم لا .

إذن فلا تلازم بين مسلك السكاكي في بحث المجاز وبين تعلق البحث في المشتق بمرحلة الصدق والاسناد ، كما لا تلازم بين مسلك المشهور في بحث المجاز وبين تعلق البحث في المشتق بمفهومه الأفرادي .

ب ـ إن ما ذكره من عدم تصور المجاز في الاسناد في القضايا الحقيقية لعدم اشتمالها على جهة التطبيق والنظر للأفراد غير تام ، وذلك لأن القضايا الحقيقية لا تخلو عن جهة التطبيق .

بيان ذلك : ان الحمل على نوعين :

٢٢٨
 &

١ ـ حمل صريح . ٢ ـ حمل ضمني .

ومقصودنا بالحمل الصريح ما كان هو المقصود الأساسي من الاسناد ، والحمل الضمني ما كان مستبطناً في الحمل الصريح ، سواءاً ذكر الطرفان للحمل الضمني المستبطن أم لم يذكرا ، فمثلاً إذا قلنا زيد عالم فهذا حمل صريح ، وإذا قلنا زيد العالم جاءني فالحمل الصريح هو حمل المجيء على زيد إذ هو المقصود الأساسي في الجملة والحمل الضمني هو حمل العلم عليه لرجوع الأوصاف للأخبار كرجوع الأخبار للأوصاف ، وكذلك إذا قلنا جاءني العالم فيوجد هنا حمل ضمني وهو حمل العالم على الفرد المعهود .

وإذا اتضح ذلك فنقول بأن القضايا الحقيقية لا تشتمل على جهة التطبيق بلحاظ الحمل الصريح فيها ولكنها تشتمل على جهة التطبيق بلحاظ الحمل الضمني .

فمثلاً إذا قلنا كل مستطيع يجب عليه الحج فهنا إذا لاحظنا الحمل الصريح في الجملة وهو حمل الوجوب على المستطيع لا نرى نظراً لعالم التطبيق بل عالم التطبيق مفروغ عنه عند إرادة الحمل الصريح ، ومفاد الجملة حينئذٍ ما فرض مستطيعاً وجب عليه الحج بدون النظر للأفراد بل المنظور هو طبيعي العنوان المفروض صدقه وانطباقه على الأفراد ، بينما إذ لاحظنا الحمل الضمني وهو حمل المستطيع على الموضوع الواقعي فهو حينئذٍ مشتمل على جهة التطبيق ، إذ المنظور هنا هو تطبيق عنوان المستطيع على الموضوع الواقعي فيمكن أن يكون هذا التطبيق حقيقياً ويمكن أن يكون مجازياً .

ومما يدل على اشتمال القضايا الحقيقية على جهة التطبيق قول المناطقة بأن الحمل في القضايا يرجع لعقدين ، عقد الوضع وعقد الحمل ، وأن عقد الوضع عبارة عن قضية حملية مستبطنة في القضية الأساسية . وقد اختلف الفارابي والشيخ الرئيس فيه ، فقال الفارابي برجوع عقد الوضع للقضية الممكنة ، فإذا قلت

٢٢٩
 &

كل ج ب بالامكان ـ مثلاً ـ فالمراد بعقد الوضع كل ما هو ج بالامكان فهو ب بالامكان ، لأن الامكان هو أعم الجهات فهو القدر المتيقن من الاسناد فترجع القضية في عقد الوضع إليه (١) . وقال الشيخ الرئيس برجوعها للقضية الفعلية (٢) ، أي كل ما هو ج بالفعل فهو ب بالامكان ، لأن الفهم العقلائي العام لباب القضايا مرتكز على الفعلية والاطلاق العام .

فهذا التحليل لموضوع القضية الحقيقية دليل على وجود حمل ضمني مشتمل على جهة التطبيق ، بل المحقق النائيني نفسه كثيراً ما يقول بأن القضايا الحقيقية راجعة لقضايا شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول (٣) له ، ومعلوم أن القضية الشرطية تنحل لقضيتين حمليتين تربطهما أداة الشرط ، فرجع الموضوع في القضايا الحقيقية إلى قضية حملية ناقصة ، وهذا معنى الاشتمال على جهة التطبيق .

ج ـ بعد أن اتضح لنا اشتمال عقد الوضع في القضايا الحقيقية على جهة التطبيق فلا فرق بينها وبين القضايا الخارجية في ورود المجاز فيها ، سواءاً رجع للمجاز في الكلمة أم رجع للمجاز في الاسناد ، فإن العنوان المذكور في الموضوع ان كان هو المراد بالارادة الجدية كما هو مراد بالارادة الاستعمالية فالاطلاق حقيقي ، وان لم يكن مراداً بالارادة الجدية مع كونه مراداً بالارادة الاستعمالية فالاطلاق مجازي .

مثلاً إذا قلنا كل أسد تحترم أقواله في الحرب فهنا يصح القول بأن لفظ الأسد اما مستعمل في غير ما وضع له وهو الرجل الشجاع وهذا يعني رجوع المجاز للكلمة ، وإما مطبق على الرجل الشجاع مع استعماله في مفهومه الحقيقي

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٩٢ ، الكفاية : ٥٣ .

(٢) فوائد الاصول ١ : ٩٢ ، الكفاية : ٥٣ .

(٣) فوائد الاصول ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ .

٢٣٠
 &

وهو الحيوان المفترس وهذا هو المجاز في الاسناد ، وعلى كلا المسلكين فالمجاز متصور في القضايا الحقيقية كالقضايا الخارجية .

د ـ بالنسبة للقضايا الخارجية اذا قلنا زيد أسد فهنا لا يوجد توسعة في الموضوع لأنه تكلف لا حاجة له ، كذلك لا يوجد توسعة في المحمول بأن أريد به ما يشمل الرجل الشجاع وهو المسمى بالمجاز في الكلمة ، باعتبار أننا لا نتصور هذا المعنى عند الإِضراب أو النفي .

مثلاً إذا قلنا زيد شجاع بل أسد لو كان المراد بالأسد هنا الرجل الشجاع على نحو التوسعة في مدلول اللفظ لم يكن هناك وجه للترقي والاضراب أصلاً ، وكذلك إذا قلنا ما زيد شجاع لكنه أسد فلا نرى معنى للنفي والاثبات لو كان المراد بالأسد هو الرجل الشجاع .

فهذه الشواهد ونحوها ـ كما طرحناها في بحث المجاز ـ تدل على عدم رجوع المجاز لمدلول الكلمة ، فتعين كون المجاز في الاسناد بعد استعمال كلا اللفظين المعبرين عن الموضوع والمحمول في معناهما الحقيقي .

وأما ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) بأن لازم ذلك هو حمل المباين على المباين بعد احتفاظ كل منهما بمعناه الحقيقي المباين للآخر فهذا الحمل مجازفة وقضية كاذبة (١) ، ففيه : إن الحمل ليس حملاً حقيقياً حتىٰ بعد كذباً ومجازفة بل هو حمل مجازي راجع لاعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف نقل التأثير الاحساسي من المشبه به للمشبه كما ذكرناه غير مرة .

فلا يوجد كذب ولا مجازفة أصلاً بل هو المناسب للبلاغة والتفنن الكلامي .

الاعتراض الثالث : وهو بعض الملاحظات التي نسجلها على مبنى المحقق الطهراني ( قده ) :

__________________

(١) اجود التقريرات ١ : ٦٠ .

٢٣١
 &

الأولىٰ : ان البحث عن حمل المشتق وأنه مندرج في حل المواطاة أو مندرج في حمل الاشتقاق متأخر رتبة عن البحث في نفس مدلول المشتق ، إذ لا يصح الانتقال لعملية الحمل الا بعد معرفة طرفيه ، واذا كان البحث في مدلول المحمول وهو المشتق يغني عن البحث حول الحمل ونوعيته فلا مبرر للطفرة بالانتقال لما هو متأخر رتبة والبحث فيه ، مع أن البحث فيما هو متقدم رتبة مغني عنه .

بيان ذلك : ان النزاع في حمل المشتق على المنتفي عنه المبدأ إنما يصح بعد الفراغ عن معرفة مدلول المشتق نفسه .

ودعوى أن مدلوله واضح وهو الواجدية غير تامة ، لأن الواجدية غير واضحة سعة وضيقا فهل المراد بها الواجدية الواسعة أم الواجدية الفعلية ، إذن فمفهومه غير واضح سعة وضيقاً فهل المراد به خصوص المتلبس أم الأعم ، ومع عدم تحديد مفهومه لا يصح الانتقال لمرحلة الحمل المتأخرة رتبة عن تحديد المفهوم .

وبعد تحديد المفهوم سعة أو ضيقا يكون البحث حول الحمل لغواً ، وذلك لأنه لو اخترنا أن مدلول المشتق يعني خصوص المتلبس فلا محالة يكون حمله على المنقضي عنه المبدأ مجازاً ، إما بنحو المجاز في الكلمة كما يراه المشهور وإما بنحو المجاز في الاسناد كما هو مسلك السكاكي ، ولو اخترنا أن مدلوله الأعم فيصح حمله حقيقة على المنقضي عنه المبدأ بلا حاجة للبحث في نوعية الحمل وكونه مواطاة أو اشتقاقاً ، فالبحث اللغوي في مفهوم المشتق يغني عن البحث الفلسفي في كيفية الحمل .

الثانية : إننا نلاحظ أن اختلاف الحمل من كونه حمل مواطاة أو اشتقاق متفرع على تحديد مفهوم المشتق أيضاً ، وذلك لأن مفهوم المشتق إذا كان عبارة عن عنوان انتزاعي والعنوان الانتزاعي لا وجود له بدون المبدأ المنتزع منه

٢٣٢
 &

فحينئذٍ لا محالة يكون حمله على الذات حمل مواطاة فتعتبر فيه فعلية التلبس .

وإذا كان مفهوم المشتق عبارة عن المبدأ المنتسب فهو يقوم بنفس الدور الذي تقوم به لفظة ذو فيكون حمله على الذات حينئذٍ حمل الاشتقاق الذي يكفي فيه مجرد الانتساب ولو في زمان سابق فلا تعتبر فيه فعلية التلبس ، إذن النزاع في كيفية الحمل راجع في الواقع للنزاع في مفهوم المحمول ، إذ لو كان مفهومه المبدأ المنتسب لم يصح حمله على الذات حمل المواطاة إذ لا معنى للهوهوية التي هي مناط حمل المواطاة بين المبدأ والذات ، ولو كان مفهومه العنوان الانتزاعي لم يصح حمله على الذات حمل الاشتقاق لأن العنوان الانتزاعي متحد مع الذات وجوداً فبينهما هوهوية مصداقية فكيف لا يحمل على الذات حمل المواطاة ؟ !

إذن فالبحث الفلسفي حول نوعية الحمل راجع للبحث اللغوي في مفهوم المحمول ، فلا موضوعية له مقابل البحث اللغوي .

الثالثة : إننا لو سلمنا جدلاً عدم ورود الملاحظة الأولى لعدم تقدم البحث حول مفهوم المشتق رتبة على البحث في كيفية حمله ، وسلمنا أيضاً عدم ورود الملاحظة الثانية لأن البحث في الحمل لا يتوقف على تحديد مفهوم المشتق ، فمع ذلك نرى بأن البحث حول الحمل لا يلغي البحث اللغوي حول مفهوم المشتق ولا يغني عنه .

وذلك لأننا لو اخترنا أن حمل المشتق على الذات هو حمل المواطاة لاتحادهما وجوداً وأن عنوان المشتق عنوان انتزاعي فإن هذا لا يرفع النزاع في سعة المدلول ، باعتبار أن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع ومصحح انتزاع ، فالاول ما يحمل عليه العنوان حملاً هوهوياً وهو الذات في المقام ، والثاني ما كان له مدخلية في تحقق العنوان وصياغته وهو المبدأ . ومصحح الانتزاع على قسمين :

١ ـ ما يكفي حدوثه في الانتزاع فلا يدور المنتزع مداره حدوثاً وبقاءاً

٢٣٣
 &

كعنوان الأم ، فإن مصححه إما انعقاد النطفة في الرحم وإما الولادة على الخلاف الفقهي في بحث أم الولد ، فإن عنوان الأم باق حتى بعد زوال مصححه .

٢ ـ ما يدور مداره العنوان الانتزاعي حدوثاً وبقاءاً كالممتلئ ، فإن مصححه عنوان الامتلاء ومع زواله لا بقاء للعنوان الانتزاعي .

وإذا اتضح لنا اختلاف انحاء المصحح الانتزاعي صح لنا البحث في المشتق حتى بعد زوال مبدئه في أنه وإن كان محمولاً على الذات حمل المواطاة ولكن هل يدور صدقه الحقيقي مدار مصحح انتزاعه حدوثاً وبقاءاً أم لا .

وهذا بحث لغوي حول سعة المفهوم وضيقه وإن كان محمولاً حمل المواطاة على منشأ انتزاعه وهي الذات التي لا يصح انتزاعه بدونها ، لأن علاقة العنوان الانتزاعي بمنشأ انتزاعه كعلاقة المعلول بعلته بخلاف علاقته مع مصحح الانتزاع ، فلا وجه للخلط بين منشأ الانتزاع ومصححه والقول بان العنوان الانتزاعي لا يصح اطلاقه بعد زوال مبدئه ، فإن ذلك غير تام لأن المبدأ مصحح انتزاع وليس منشأ له فلا يدور العنوان الانتزاعي مداره دائماً وجوداً وعدماً . هذا اذا اخترنا أن حمل المشتق على الذات حمل المواطاة .

أما لو اخترنا أن حمله على الذات حمل الاشتقاق الذي يعني مجرد انتساب المبدأ للذات لا الهوهوية بينهما كما في حمل المواطاة فمع ذلك لا يرتفع النزاع حول مفهوم المشتق نفسه ، فمثلاً اذا قلنا زيد ذو دار فلا ريب أن هذا الحمل حمل اشتقاق يعني مجرد انتساب الدار له ، ولكن ذلك لا يلغي البحث حول مفهوم ـ ذو ـ وأنه شامل حتى لما بعد انتقال الدار عن ملكه الى ملك غيره أم لا .

وكذلك لو غيرنا كلمة ذو إلى ما يرادفها من المشتقات فقلنا زيد مالك دار وكان الحمل حمل الاشتقاق فيصح النزاع حينئذٍ حول سعة مفهوم مالك وأنه شامل لمرحلة ما بعد انتقال الدار عنه أم لا ، ويصح اختيار عدم ذلك وأنه

٢٣٤
 &

موضوع للأخص لا للأعم .

إذن فتعيين نوع الحمل من مواطاة أو اشتقاق لا يلغي البحث اللغوي في مفهوم المشتق ومدلوله .

فالصحيح أن البحث في المشتق بحث لغوي حول سعة المفهوم وضيقه لا بحث فلسفي حول الحمل ونوعه .

وبناء على ذلك يتضح المراد من لفظ الحال وأن المراد بها حال التلبس ، لأن النظر نظر لغوي لمدلول المشتق في حد ذاته وإن لم يكن هناك أي اسناد ولا جملة ، وليس المراد بالحال حال الجري والنسبة الذي يتوقف على وجود جملة إسنادية ، فإن هذا التفسير للحال لا يتناسب الا مع كون البحث في المشتق بحثاً فلسفياً متعلقاً بمرحلة الصدق والنسبة ، مع أن البحث في المشتق في مرحلة أسبق من ذلك وهي البحث حول مفهوم المشتق نفسه .

المقدمة الخامسة : في دخول اسم الزمان في محور البحث .

إن مورد البحث في المشتق إنما هو في صورة انقضاء المبدأ المصحح لانتزاع المشتق مع بقاء الذات ، حيث يبحث في أن اطلاق المشتق علىٰ الذات بعد انقضاء المبدأ عنها إطلاق حقيقي أم لا ، وأما إذا كان انقضاء المبدأ ملازماً لزوال الذات فلا يعقل البحث المذكور حينئذٍ ، ولذلك قال بعض علماء الأصول بخروج اسم الزمان عن محل النزاع (١) ، كلفظ مقتل ـ مثلاً ـ الذي يطلق علىٰ زمن قتل الحسين (ع) وغيره ، بلحاظ أن مدلوله وهو الزمان لا يعقل فيه البقاء مع زوال المبدأ الواقع فيه .

وقد طرح عين هذا الاشكال في باب الاستصحاب في مسألة استصحاب الزمان وأنه كيف يصح استصحابه مع عدم بقائه .

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٨٩ ، الفصول الغروية : ٦٠ .

٢٣٥
 &

وقد أجاب الأعلام على هذا الاشكال بهدف إدخال اسم الزمان في محل البحث بعدة أجوبة :

الجواب الأول : ما طرحه المحقق الاصفهاني واختاره الاستاذ السيد الخوئي ( قدهما ) بأن هذا الاشكال يرد في صورة وجود صيغة خاصة باسم الزمان ، حيث يلاحظ عليها بأن مدلولها لا يعقل فيه البقاء بعد انقضاء المبدأ ، وأما إذا كان هناك صيغة مشتركة بين اسم الزمان وغيره فلا يرد الاشكال المذكور والأمر كذلك واقعاً .

فصيغة مفعل هيئة مشتركة بين إسم الزمان وإسم المكان لا على نحو الاشتراك اللفظي ، والا لعاد الاشكال مرة اخرى بالنسبة لوضعها لخصوص الزمان ، بل على نحو الاشتراك المعنوي وذلك بوضعها للجامع بينهما وهو جامع الوعائية والظرفية ، وحينئذٍ فعدم معقولية النزاع في بعض مصاديق الوعاء وهو المصداق الزماني لا يعني عدم معقولية النزاع في الجامع نفسه وهو مفهوم الوعاء ، ولو بلحاظ بعض أفراده وهو الفرد المكاني الذي يتصور فيه بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ (١) .

وقد سجل بعض الأعاظم على هذا الجواب ملاحظتين :

الأولىٰ : هي الملاحظة التي سجلها بعض الأعاظم ( قده ) ، وملخصها : إن الثابت في الفلسفة أن علاقة الزمان بالفعل وعلاقة المكان بالفعل أيضاً علاقة المقارنة لا علاقة الوعائية والاحتواء ، فالعمل والزمان والمكان موجودات ممتدة في أوعيتها ولا يوجد احتواء ولا اشتمال من الزمان والمكان على العمل ، وحينئذٍ فلا وجه لفرض جامع الوعائية والظرفية بين الفردين الزماني والمكاني حتى توضع له هيئة مفعل ويكون النزاع في المدلول

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، نهاية الدراية ١ : ٧١ .

٢٣٦
 &

العام لهذه الهيئة ، إذ لا وعائية في الزمان (١) .

ولكننا لا نوافق على هذه الملاحظة المذكورة في تهذيب الأصول ، والسبب في ذلك أن النظرة الفلسفية للزمان والمكان في اعتبارهما مقارنين للعمل لا وعائين له لا دليل على واقعيتها في مقابل الرؤية العقلائية العامة للزمان والمكان ، وهي رؤية الوعائية والظرفية كما تدل عليه اللغات البشرية المعروفة في تعبيرها عن الزمان والمكان بأدوات الاحتواء والاشتمال .

وعلى فرض صحة النظرية الفلسفية فإن الألفاظ في مقام وضعها لم تلاحظ مداليلها الفلسفية وإنما وضعت للمفاهيم العرفية العقلائية .

ولا ريب أن العقلاء يرون علاقة المكان والعمل هي علاقة الوعائية والاشتمال ، وبما أن المكان وعاء فالزمان وعاء أيضاً ، وذلك لأن المجتمع العقلائي إنما تصور الزمان وقام برسمه وانتزاعه من خلال زاوية المكان ، فإنه لما أحس بطلوع نور الشمس على الأرض رسم مفهوم النهار وعندما حل الظلام على الأرض رسم مفهوم الليل ، وعندما نظر لمسيرة القمر وتأمل فيها انتزع مفهوم الشهر ، كما أننا نرى العرف يقولون الآن ليل باعتبار الظلمة المكانية بينما هذا الآن نفسه في النصف الآخر للكرة الأرضية هو نهار .

فهذه شواهد على اندماج الزمان في المكان وارتباطه به ، ولذلك عبر بعض الفلاسفة المعاصرين عن هذه الرؤية بـ ( زمكان ) مشيراً لعلاقة الاندماج بين الزمان والمكان بحيث أن المجتمع البشري لم ينطلق لتصور الزمان الا من نافذة المكان ، وبما أن المكان يستبطن الوعائية والظرفية فكذلك الزمان المنتزع منه ، وحينئذٍ فيصح جعل هيئة مفعل ـ مثلاً ـ للجامع الوعائي بين الزمان

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٠٤ .

٢٣٧
 &

والمكان ، ويتم النزاع في مفهومها (١) .

الملاحظة الثانية : وهي التي سجلها شيخنا الشيخ الحلي ( قده ) ، وخلاصتها أمران :

أ ـ إنه لا جامع بين الزمان والمكان ، باعتبار أن الزمان يعني مقولة المتى والمكان يعني مقولة الأين كما في المنظومة (٢) :

هيئة كون الشيء في المكان

أينٌ متى الهيئة في الزمان

والمقولات أجناس عالية متباينة بتمام الذات فلا يوجد لها جامع حتى يكون اللفظ موضوعاً بإزائه .

ب ـ على فرض وجود الجامع بين المقولتين فهو جامع انتزاعي لا وجود له في مقام الاستعمال أصلاً ، فإن هيئة مفعل لا تستعمل الا في خصوص الزمان أو خصوص المكان ولم نجد من استعملها في الجامع بينهما ، فإذا كان الجامع غير ملحوظ للمستعمل ولا متبادراً في مقام التخاطب فوضع اللفظ له لغو . وعلى هذا فلا يبعد كون الهيئة مشتركاً لفظياً يحتاج للقرينة المعينة كبقية المشتركات .

وجوابنا على هذه الملاحظة من وجوه :

أولاً : إن كون مقولة المتى ومقولة الأين مقولتين مستقلتين لا جامع ذاتي بينهما وإن كان هو المشهور ولكنه غير مسلم ، وذلك لذهاب بعض الفلاسفة إلى كون جميع الأعراض النسبية عرضاً واحداً وهو العرض النسبي ، ولكن ينتزع منه عناوين متعددة بلحاظ تفنن الذهن في ابداع انحاء النسبة وألوانها والمعنون الخارجي واحد وهو العرض النسبي .

بل ذهب بعضهم إلى كون جميع الأعراض النسبية وغيرها ألواناً للتطور

__________________

(١) شرح المنظومة ٢ : ٤٩٠ .

٢٣٨
 &

الوجودي الجوهري بدون وجود محمولي بإزائها في الخارج ، فعلى هذين المسلكين لا ترد ملاحظة الشيخ الحلي ( قده ) وهي عدم وجود جامع ذاتي بين المقولات العرضية .

وثانياً : ما ذكر في الاعتراض من لغوية وضع هيئة مفعل ـ مثلاً ـ للجامع الوعائي مع عدم استعمالها فيه ولا تبادره عن التخاطب والمحاورة مدفوع بأنه يمكن أن يقال : بأن المستعمل فيه دائماً هو الجامع الوعائي واستفادة خصوصية الزمان أو المكان من القرينة من باب تعدد الدال والمدلول لا من باب اشارة القرينة للمراد الاستعمالي من اللفظ ، فمثلاً إذا قلنا : ( اليوم العاشر مقتل الحسين (ع) ) فالمستعمل فيه لفظ المقتل هو مطلق الوعاء وخصوصية الوعاء الزماني مستفادة من دال لفظي آخر ، فكلمة اليوم العاشر دالة على خصوصية الوعاء الزماني لا أنها مشيرة لمدلول كلمة مقتل وأن المراد به هو الوعاء الزماني كما يدعى ذلك في قرينة المشترك اللفظي .

والحاصل أن قولنا : ( اليوم مقتل الحسين (ع) ) يحتمل فيه وجهان :

١ ـ كون لفظة مقتل مشتركاً لفظياً يتعين المراد منه بالقرينة ، وهي كلمة اليوم العاشر التي يكون دورها الاشارة للمدلول اللفظي لكلمة مقتل ، وهذا هو مدعى الشيخ الحلي ( قده ) .

٢ ـ كون اللفظة مشتركاً معنوياً مستعملاً في الجامع الوعائي ، وكلمة اليوم دال آخر على مدلول آخر وهو خصوصية الوعاء الزماني .

والاحتمال الثاني أقرب ، لأننا نرى استعمال اللفظ في الجامع عرفاً بدون عناية ولا تجوز كما إذا كتب المؤلف على صفحة غلاف كتابه ـ مقتل الحسين (ع) ـ فإن مراده مطلق الوعاء كما هو ظاهر ، وكما لو قال لك شخص اشرح لي مقتل ، الحسين (ع) فإن مراده هو الجامع الوعائي مع خصوصياته الزمانية والمكانية وغيرها .

٢٣٩
 &

وهنا سؤالان قد يردان على هذا التقرير :

أ ـ لعل الكاتب عندما يكتب على غلاف كتابه ـ مقتل الحسين (ع) ـ يريد به استعمال اللفظ المشترك في معانيه المتعددة وكذلك قول من يقول ـ اشرح لي مقتل الحسين (ع) ـ يريد به استعمال اللفظ في عدة معاني ، وهو أمر جائز وواقع كما سبق بيانه ، لا أن المستعمل فيه في الموردين هو الجامع الوعائي حتى يستشهد بذلك على وقوع استعمال اللفظ في الجامع .

والجواب عن ذلك : إن استعمال اللفظ في عدة معاني وان كان جائزاً وواقعاً ولكن يحتاج لقرينة مفقودة ، ولذلك ذكرنا سابقاً أن المتبادر في مقام الاستعمال هو قيد الوحدة والتعدد خلاف المتفاهم العرفي فيحتاج للقرينة اللفظية أو المقامية .

ب ـ لو استقر بنا استعمال اللفظ في الجامع الوعائي ووقوعه في المحاورات العرفية لكن لا دليل على كونه استعمالاً حقيقياً فلعله استعمال مجازي مصححه علاقة الكل والجزء ، باعتبار أنه موضوع لخصوص الوعاء الزماني أو المكاني فاستعماله في مطلق الوعاء مجاز منوط بعلاقة الكل والجزء .

والجواب أولاً : إن علاقة الوعاء الزماني والمكاني بمطلق الوعاء علاقة الجزئي بالكلي لا علاقة الجزء بالكل حتى تكون هذه العلاقة مصححة للاستعمال المجازي .

وثانياً : ان المجاز إما في الاسناد وإما في الكلمة ، فإن كان التجوز في الاسناد كما هو مسلكنا فالمجاز الاسنادي هو اعطاء حد شيء لشيء آخر لداعي نقل التأثير الاحساسي من الأصل للفرع وأي تأثير احساسي في المقام للجزء حتى يكون نقله للكل مصححاً للتجوز الاسنادي .

وإن كان التجوز في الكلمة فاما ان تلاحظ علاقة الجزء والكل بين احدى الخصوصيتين الزمانية والمكانية بعينها وبين مطلق الوعاء وهذا ترجيح بلا

٢٤٠