نظرة في كتاب الوشيعة لموسى جار الله

المؤلف:

العلامة الأميني


المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩

يعزى إليهم عند القرطبي القول بالنسخ وقد عرفت حقّ القول فيه.

وقال القرطبي أيضاً في تفسيره ج ٥ ص ٣٥ في قوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) قال القائلون بأنّ الآية في المتعة هذه إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدّة المتعة في أوّل الإسلام ؛ فإنّه كان يتزوج المرأة شهراً على دينار مثلاً فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول : زيديني في الأجل أزدك في المهر ، بيّن أن ذلك كان جائزاً عند التراضي.

قال أبو الوليد محمّد بن أحمد القرطبي الشهير بابن رشد المتوفّى ٥٩٥ في بداية المجتهد ج ٢ ص ٥٨ : اشتهر عن ابن عبّاس تحليلها ـ المتعة ـ وتبع ابن عبّاس على القول بها أصحابه من أهل مكّة وأهل اليمن ورووا : انّ ابن عبّاس كان يحتج لذلك بقوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) وفي حرف عنه : إلى أجل مسمّى.

٩ ـ ذكر ابو عبد الله فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى ٦٠٦ في تفسيره الكبير ٣ ص ٢٠٠ قولين في الآية ، وقال أحدهما قول أكثر العلماء.

والقول الثاني : أنّ المراد بهذه الآية حكم المتعة ، وهي عبارةٌ أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها ، واتفقوا على أنها كانت مباحةٌ في ابتداء الإسلام ، واختلفوا في أنها هل

١٠١

نُسخت أم لا؟ فذهب السّواد الأعظم من الامة إلى أنها صارت منسوخة. وقال السواد منهم : إنّها بقيت مباحةٌ كما كانت ، وهذا القول مرويّ عن ابن عبّاس وعمران بن الحصين.

أمّا ابن عبّاس فعنه ثلاث روايات «ثمّ ذكر الرّوايات» فقال : وأمّا عمران بن الحصين فإنّه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آيةٌ تنسخها ، وأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمتعنا بها ، ومات ولم ينهنا عنه ثمّ قال رجل برأيه ما شاء.

وذكر في صحيفة ٢٠١ قراءة ابيّ وابن عبّاس كما مرّ عن الطبري.

وقال في ص ٢٠٣ : إنّ قراءة ابي وابن عبّاس بتقدير ثبوتها لا تدلّ إلّا على أنّ المتعة كانت مشروعة ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله إنّ النسخ طرأ عليه.

١٠ ـ ذكر الحافظ ابو زكريا النووي الشافعي المتوفى ٦٧٦ في شرح صحيح مسلم ج ٩ ص ١٨١ ، إنّ عبد الله بن مسعود قرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل.

١١ ـ قال القاضي ابو الخير البيضاوي الشافعي المتوفى ٦٨٥ في تفسيره ١ ص ٢٥٩ : قيل نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيّام حين فُتحت مكّة ثمّ نُسخت ، كما روي انّه عليه الصلاة والسلام أباحها ثمّ أصبح يقول : «أيّها الناس إنّي كنت أمرتكم بالاستمتاع

١٠٢

من هذه النساء إلا إنّ الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة» (١) وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمّي بها.

١٢ ـ قال علاء الدين البغدادي المتوفى ٨٤١ : في تفسيره المعروف بتفسير الخازن ج ١ ص ٣٥٧ : قال قومٌ : المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة ، وهو أن ينكح امرأة إلى مدّة معلومة بشيء معلوم فإذا انقضت تلك المدّة بانت منه بغير طلاق ، ويستبرئ رحمها ، وليس بينهما ميراث ، وكان هذا في ابتداء الإسلام ثمّ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المتعة.

ثمّ ذكر حديث سبرة المذكور في لفظ البيضاوي فقال : وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصّحابة فمن بعدهم ، أي أنّ نكاح المتعة حرامٌ والآية منسوخة ، واختلفوا في ناسخها فقيل نُسخت بالسنة وهو ما تقدّم من حديث سبرة ... وهذا على مذهب من يقول : إنّ السنة تنسخ القرآن ، ومذهب الشافعي انّ السنة لا تنسخ القرآن ، فعلى هذا يقول : إنّ ناسخ هذه الآية قوله تعالى في سورة المؤمنون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)

ثمّ ذكر روايات ابن عبّاس ومنها : انّ الآية محكمةٌ لم تنسخ.

١٣ ـ قال ابن جزي محمّد بن أحمد الغرناطي المتوفّى ٧٤١ ، في

__________________

(١) هذا يبطل غير واحد من الأقوال المذكورة في صحيفة ٢٢٥ ، ٢٢٦. (المؤلف)

١٠٣

تفسيره التسهيل ١ ص ١٣٧ : قال ابن عبّاس (١) وغيره : معناها إذا استمتعتم بالزوجة ووقع والوطء فقد وجب إعطاء الأجر وهو الصّداق كاملاً.

وقيل : إنّها في نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل من غير ميراث ، وكان جائزاً في أوّل الإسلام فنزلت هذه الآية في وجوب الصّداق فيه ثمّ حرّم عند جمهور العلماء ، فالآية على هذا منسوخةٌ بالخبر الثابت في تحريم نكاح المتعة.

وقيل : نسختها آية الفرائض لأنّ نكاح المتعة لا ميراث فيه.

وقيل : نسختها (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).

وروي عن ابن عبّاس : جواز نكاح المتعة.

وروي : أنّه رجع عنه (٢).

١٤ ـ ذكر ابو حيّان محمّد بن يوسف الاندلسي المتوفى ٧٤٥ في تفسيره ٣ ص ٢١٨ قراءة ابن عبّاس ، وابي بن كعب ، وسعيد بن جبير : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى.

وقال : قال ابن عبّاس ، ومجاهد ، والسدي ، وغيرهم : إنّ الآية في

__________________

(١) تكذب هذه النسبة الى ابن عباس قراءته الآية فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى وهي ثابتة عنه كما مر ويأتي. (المؤلف)

(٢) كيف يرجع عنه وهو يرى الآية محكمة لم تنسخ؟ وقد مرّ ويأتي ما يكذب هذا العزو اليه ، وقد قال به الى آخر نفس لفظه. (المؤلف)

١٠٤

نكاح المتعة.

وقال ابن عبّاس لابي نضرة : هكذا أنزلها الله.

١٥ ـ قال الحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي الشافعي المتوفّى ٧٧٤ في تفسيره ١ ص ٤٧٤ :

وقد استدلّ بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شكّ أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام ثمّ نسخ بعد ذلك.

ثمّ قال بعد ذكر بعض أقوال النسخ : وكان ابن عبّاس ، وابي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدي يقرءون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى.

وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة.

ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب (١).

١٦ ـ قال الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفّى ٩١١ في الدّر المنثور ٢ ص ١٤٠ : أخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عبّاس : كانت المتعة في أوّل الإسلام وكانوا يقرءون هذه الآية : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن الأنباري في

__________________

(١) عرفت بعض القول حول هذه الصحيحة. (المؤلف)

١٠٥

المصاحف ، والحاكم وصححه من طرق عن أبي نضرة قال : قرأت على ابن عبّاس. وقد مرّ.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة ، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن جبير قراءة ابيّ بن كعب : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل.

وأخرج عبد الرزاق عن عطاء قراءة ابن عبّاس.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) قال : يعني نكاح المتعة.

وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال : هذه المتعة.

وأخرج عبد الرزاق ، وابو داود في ناسخه ، وابن جرير عن الحَكم ، انّه سُئل عن هذه الآية أمنسوخةٌ؟ قال : لا.

١٧ ـ قال ابو السعود العمادي الحنفي المتوفى ٩٨٢ في تفسيره ـ هامش تفسير الرازي ـ ٣ ص ٢٥١ قيل : نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم من يوم أو أكثر سمّيت بذلك لأنّ الغرض منها مجرّد الاستمتاع بالمرأة واستمتاعها بما يُعطى ، وقد ابيحت ثلاثة أيام حين فُتحت مكّة شرّفها الله تعالى ثمّ نُسخت ، لما روي انّه عليه‌السلام أباحها ثمّ أصبح يقول : يا أيّها الناس إنّي أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا إنّ الله حرّم ذلك إلى يوم

١٠٦

القيامة (١).

وقيل : ابيح مرّتين وحُرّم مرّتين.

١٨ ـ قال القاضي الشوكاني المتوفّى ١٢٥٠ في تفسيره ١ ص ٤١٤ : قد اختلف أهل العلم في معنى الآية فقال الحسن ومجاهد (٢) وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذّذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعيّ فآتوهنّ اجورهنّ أي مهورهنّ.

وقال الجمهور : إنّ المراد بهذه الآية : نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام.

ويؤيد ذلك قراءة ابي بن كعب ، وابن عبّاس ، وسعيد بن جبير : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى فآتوهنّ اجورهنّ. ثمّ نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صحّ ذلك من حديث عليّ قال : نهى النبي عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر (٣) ، ثمّ ذكر حديث النبي عنها يوم فتح مكّة ويوم حجة الوداع فقال : فهذا هو الناسخ ،

__________________

(١) عرفت أن هذا القول يبطل الأقوال الاخر في النسخ وهي تناقض هذا فراجع. (المؤلف)

(٢) سمعت عن الطبري ، وعبد بن حميد ، وابي حيان ، وابن كثير ، والسيوطي ، ان مجاهداً من رواة القول بنزولها في المتعة ، ومن هنا عد ممن ثبت على اباحتها ، فعزوا خلاف ما جاء عن السلف اليه من صنائع الهواء. (المؤلف)

(٣) عرفت الحال في هذا الحديث الصحيح الذي هو عمدة مستند القوم في النهي عن المتعة راجع ص ٢١١. (المؤلف)

١٠٧

وحكى عن سعيد بن جبير نسخها بآية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها (١) ، وعن عائشة والقاسم بن محمّد : نسخها بآية (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).

ثمّ قال في قوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) : أي من زيادة أو نقصان في المهر فإنّ ذلك سائغ عند التراضي ، هذا عند من قال بأنّ الآية في النكاح الشرعيّ ، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة ، فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها ، أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه.

١٩ ـ ذكر شهاب الدين ابو الثناء السّيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفّى ١٢٧٠ في تفسيره ٥ ص ٥ قراءة ابن عبّاس وعبد الله بن مسعود الآية : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى.

ثمّ قال ، ولا نزاع عندنا في انها احلّت ثمّ حرّمت ، والصواب المختار انّ التحريم والإباحة كانا مرّتين ، وكانت حلالاً قبل يوم خيبر ثمّ حرّمت يوم خيبر (٢) ، ثمّ ابيحت يوم فتح مكّة وهو يوم

__________________

(١) عزو القول بالنسخ الى سعيد يكذبه عد السلف اياه فيمن ثبت على القول باباحتها. (المؤلف)

(٢) عرفت في ص ٢٢٦ عن السهيلي ان هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الاثر. (المؤلف)

١٠٨

أوطاس لاتّصالهما ، ثمّ حُرّمت يومئذٍ بعد ثلاث (١) تحريماً مؤبّداً إلى يوم القيامة.

هلم معي :

هلمّ معي أيّها القارئ نسائل الرّجل ـ موسى جار الله ـ عن هذه الكتب أليست هي مراجع أهل السنة في علم القرآن؟ أليس هؤلاء أعلامهم وأئمتهم في التفسير؟ أليس من واجب الباحث أن يراجع تلكم الكتب ثمّ ينقض ويبرم ، ويزن ويرجّح ، أيوجّه قوارصه إلى مثل ابن عبّاس ترجمان القرآن ، وابي بن كعب أقرأ الصحابة ـ عندهم ـ وعبد الله بن مسعود ـ عالم الكتاب والسنة ـ وعمران بن حصين ، والحَكم ، وحبيب بن ابي ثابت ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومجاهد؟ أيرى كلاًّ منهم جاهلاً يدّعي ولا يعي؟ أليس هذا سبّ الصّحابة والسّلف الصالح الذي تُتم به الشيعة عند قومه؟

أم يرى رجالات قومه من الشيعة ويسلقهم بألسنة حداد؟ فإن لم تكن عنده قيمة لمثل البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، والطبري ،

__________________

(١) هذا يبطل القول بالتحريم في حجة الوداع وبعد اباحتها وحكى النووي في شرح مسلم عن أبي داود انه يراه أصح ما روى في ذلك. وهكذا كل قول من تلكم الأقوال يكذّب الآخر ويبطله ، والحق يبطل الجميع ، والحق أحق أن يتبع. (المؤلف)

١٠٩

ومحمّد بن كعب ، وعبد بن حميد ، وابي داود ، وابن جريج ، والجصّاص ، وابن الأنباري ، والبيهقي ، والحاكم ، والبغوي ، والزمخشري ، والأندلسي ، والقرطبي ، والفخر الرازي ، والنووي ، والبيضاوي ، والخازن ، وابن جزي ، وابي حيّان ، وابن كثير ، وابي السعود ، والسيوطي ، والشوكاني ، والآلوسي ، فمن قدوته واسوته في العلم والدين؟

نعم : لا يفوتنا أنّ أكاذيب الرجل وأساطيره المسطرة وعزو القول بنزول الآية إلى الشيعة فحسب كلّها تقدمة لسبّ الإمامين الطاهرين الباقر والصادق ، وهو يعلم وكلّ ذي نصفة يدري أنّ أئمة قومه الأربعة عائلة الإمامين في علمهما ، فإن يوجد عندهم شيء من العلم فمن ذلك النمير العذب ، والباقران هما الباقران ، وموسى الوشيعة هو موسى الوشيعة ، والله هو الحَكم العدل ، وإلى الله المشتكى.

وهلم نُسائل الرجل عن أدب البيان الذي شعر به هو وخفي على هؤلاء الأعلام في القرون الخالية ، وعن الاختلال الذي عرفه هو وجهله أئمة القوم على تقدير القول بنزول الآية في المتعة ما هو؟ وأين كان؟ وعمّن يؤثر؟ ومَن الذي قال به؟ وما الحجّة عليه؟ وممّن أخذه؟ ولِمَ كتمه الأوّلون والآخرون حتّى انتهت النوبة إليه؟ لا أحسب انّه يحير جواباً يشفي الغليل ، ولعلّه يعيد سبابه المقذع إلى اناس آخرين.

١١٠

حدود المتعة في الإسلام

١ : الاجرة.

٢ : الأجل.

٣ : العقد المشتمل للإيجاب والقبول.

٤ : الافتراق بانقضاء المدّة أو البذل.

٥ : العدّة أمةً وحرةً حائلاً وحاملاً.

٦ : عدم الميراث.

إن هذه الحدود ذكرها الفقهاء في مدوّناتهم الفقهية ، والمحدّثون في الصّحاح والمسانيد ، والمفسّرون في ذيل الآية الكريمة الآنفة ، فوقع إصفاقهم على أنها حدودٌ شرعيةٌ إسلاميةٌ لا محيص عنها ، سواءٌ فيها من يقول بالإباحة الدائمة أو بالإباحة الموقتة المنسوخة ، فأين يكون مقيل كلمة الرجل : إنها من الأنكحة الجاهليّة التاريخيّة ولم تكن بإذن من الشارع؟ ومتى كان في الجاهليّة نكاحٌ بهذه الحدود ، وقد ضبطوا أنكحتها وعاداتها وتقاليدها وليس فيها ما يشابه نكاح المتعة.

نعم : الرجل يتقوّل ولا يكترث لما يقول ، وقد أسلفنا جمعاً ممّن ذكر حدود نكاح المتعة في الجزء الثالث ص ٣٣١ (١).

__________________

(١) تقدّم ذلك في مقدمة هذه الرسالة.

١١١

ولما ذا يكون ابن جريج مسرفاً في إتيان الفاحشة التي نزلت في أشد المحرمات في مزعمة ـ موسى ـ ولو كان ابن جريج متهاوناً بالدّين ، فلما ذا أخرج عنه أئمة الحديث أرباب الصّحاح الستّ كلّهم ، وحشو المسانيد مرويّاته وأسانيده؟ وقد سمعوا منه اثني عشر ألف حديث يحتاج اليها الفقهاء (١) ، ولو فسد مثله أو فسدت روايته لوجب أن تُمحى صحائف جمّة من جوامع الحديث ، ولا تبقى قيمة لتلكم الصحاح عندئذ ، ولو كان كما يزعمه فلما ذا أطرته أئمّة الرّجال بكلّ ثناء جميل؟ وكيف رآه أحمد إمام الحنابلة أثبت الناس ، وكيف كانوا يُسمّون كتبه كتب الأمانة؟ (٢).

ثمّ ما ذا على الرجل إن عمل بما أدّى إليه اجتهاده وهو يروي في ذلك ثمانية عشر حديثاً؟ وأمّا حديث عدوله عن رأيه فإن صدق نقل الرجل عن أبي عوانة وصدق إسناد أبي عوانة ، ولو كان لبان وظهر وتناقلته الفقهاء ، ولم ينحصر نقله بواحد عن واحد ، ولا سيّما وابن جريج هو ذلك المصرّ على رأيه عمليّاً وعلميّاً ، وإني أحسب أنّ عزو العدول إلى هذا الرجل لدة عزوه إلى حبر الامة عبد الله بن العبّاس الذي كذّبه من كذّبه كما عرفت.

وأمّا ما عزاه ـ موسى ـ إلى الحكومة الإيرانيّة في إدخال المنع

__________________

(١) مفتاح السعادة ٢ ص ١٢٠. (المؤلف).

(٢) راجع تهذيب التهذيب ٦ ص ٤٠٤. (المؤلف).

١١٢

عن المتعة في جملة إصلاحاتها ونسخها نسخاً قطعياً بتاتاً ، ومنعها منعاً بتّاً فكبقية مفتعلاته ، فما أعوزته الحجّة ، وضاقت عليه المحجّة ، وغدا محجوجاً أعيت عليه البراهين ، إلى أن محج وأفك ، واحتج بما لم تسمعه اذن الدُّنيا ، وقابل الكتاب والسنة بتاريخ مفتعل على حكومة إسلامية لم تأت بشيء جديد قطُّ في المتعة ، وعلى تقدير تحقّق فريته فأيُّ قيمة لذلك تجاه ما هتف به النبيّ الأعظم وكتابه المقدّس.

اقرا واضحك أو ابك

ذكر القوشچي المتوفّى ٨٧٩ في شرح التجريد في مبحث الإمامة أنّ عمر قال وهو على المنبر : أيّها الناس ثلاثٌ كنّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أنهى عنهنّ واحرّمهنّ واعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحي على خير العمل.

ثمّ اعتذر عنه بقوله : إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحاً فيه ؛ فإنَّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع. انتهى.

ما كنّا نقدّر أن ضليعاً في العلم يُقابل النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواحد من امته ويجعل كلّا منهما مجتهداً ، وما ينطقه الرسول الأمين هو عين ما ثبت في اللوح المحفوظ وإن هو إلّا وحي يوحى علّمه شديد القوى ، فأين هو عن الاجتهاد بردّ الفرع إلى الأصل ، واستعمال

١١٣

الظنون في طريق الاستنباط؟ وإنّ السائغ من المخالفة الاجتهادية هو ما إذا قابل المجتهد مجتهداً مثله ، لا مَن اجتهد تجاه النصّ المبين ، وارتأى أمام تصريحات الشريعة من قول الشّارع وعمله.

ثمّ أيّ مستوى يقلّ سيّد أولي الألباب وهذا الرجل في عرض واحد فهماً وإدراكاً حتّى يقابل بين رأييهما؟ وأيّ قيمة لآراء العالمين جميعاً إذا خالفت ما جاء به المشرع الأقدس؟ لكنّي أعذر القوشچي لالتزامه بدحض كلّ ما جاء به نصير الدين الطوسي لئلّا يُعزى إليه العجز والتواني في الحجاج ، فلا بدّ أن يأتي بكلّ ما دبّ ودرج ، سواءٌ كان حجّة له أو وبالاً عليه.

وقال ابن القيّم في زاد المعاد ١ ص ٤٤٤ :

فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابي بكر حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث ، وفيما ثبت عن عمر أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا نهى عنهما : متعة النساء ، ومتعة الحجّ؟

قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون (١) ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في

__________________

(١) يأتي الكلام حول هذا الحديث وهذه السنة في هذا الجزء. (المؤلف).

١١٤

تحريم المتعة عام الفتح (١) فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه ، وقد تكلّم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه ، وكونه أصلاً من اصول الإسلام ، ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به.

قالوا : ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنّهم فعلوها ويحتجّ بالآية.

وأيضاً ولو صحّ لم يقل عمر أنها كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أنهى عنها واعاقب عليها ، بل كان يقول : انّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّمها ونهى عنها.

قالوا : ولو صحّ لم تفعل على عهد الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّاً.

والطائفة الثانية رأت صحّة حديث سبرة ، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث عليّ رضى الله عنه : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم متعة النساء ، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر حتّى كان زمن عمر رضى الله عنه ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر ، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها وبالله

__________________

(١) تحريم المتعة عام الفتح قول ابن عيينة وطائفة كما زاد المعاد ١ ص ٤٤٢. (المؤلف).

١١٥

التوفيق.

قال الأميني : أنّى يأتى الجمع بين أحاديث الباب المتضاربة من شتّى النواحي بصحيحه مزعومة؟ ومتى تصح؟ وكيف يتمّ عزوها المختلق إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين يدي الامة قوله الصحيح الثابت : لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ (١) ، وقد صحّ عنه عليه‌السلام مذهبه إلى تحليل المتعة ، كما أنّ أبناء بيته الرفيع ذهبوا إلى إباحتها سلفاً وخلفاً.

ومن المتسالم عليه قول ابن عبّاس : لو لا نهي عمر لما احتاج إلى الزنا إلّا شفى (٢).

ومن الذي أخبر الامّة عن نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة غير عليّ عليه‌السلام حتّى ظهر في زمن عمر واشتهر؟ ومهما كان الحظر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهوراً ، وأوّل من جاء به وباح بالنهي عنها يقول : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أنهى عنهما واعاقب.

وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما.

وقال : إنّ الله ورسوله قد أحلّا لكم متعتين وإنّي محرّمهما عليكم.

__________________

(١) راجع ما مر صفحة ٥٢ ، ٥٣ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) مر حديثه في صفحة ٥٢. (المؤلف)

١١٦

وقال : ثلاثٌ كنّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا محرّمهنّ : متعة الحجّ ، ومتعة النساء.

فهل جابهه صحابيّ بالردّ عليه في دعواه حلّية المتعة في العهدين؟ أو في نسبة تحريمهما إلى نفسه؟ وهل كان إجماع الصّحابة على حلّية المتعة على عهد أبي بكر خلاف دين الله وسنّة نبيّه؟ نعم الغريق يتشبّث بكلّ حشيش.

(لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١).

__________________

(١) سورة النحل آية ١٦.

١١٧

مصادر الإعداد

١ ـ القرآن الكريم

٢ ـ الاعلام : خير الدين الزركلي ، دار العلم للملايين ـ بيروت ، ط ٩ ، ١٩٩٠ م.

٣ ـ اعيان الشيعة : محسن الأمين ، دار التعارف ـ بيروت ، ١٤٠٦ ه

٤ ـ الجامع لأحكام القرآن : القرطبي ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

٥ ـ جامع الاصول : ابن الأثير ، دار الفكر ـ بيروت ، ١٤٠٣ ه

٦ ـ الدر المنثور : السيوطي ، اوفسيت مكتبة المرعشي ـ قم ، ١٤٠٤ ه‍.

١١٨

٧ ـ شرح التجريد : القوشچي ، نشر رضي ـ بيدار ـ عزيزي ، طبقة حجرية.

٨ ـ شعراء الغري : علي الخاقاني ، مكتبة المرعشي ـ قم ، ١٤٠٨ ، اوفسيت ط النجف.

٩ ـ صحيح البخاري : محمد بن اسماعيل البخاري ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

١٠ ـ صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج ، دار الفكر ـ بيروت ، ١٩٧٨ م.

١١ ـ الصراط المستقيم : البياضي ، المكتبة المرتضوية ـ ١٣٨٤ ه‍.

١٢ ـ غرائب القرآن : النيسابوري ، هامش الطبري ، دار المعرفة ـ بيروت.

١٣ ـ كنز العمال : المنقي الهندي ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ، ١٩٨٥ م.

١٤ ـ المبسوط : السرخسي ، دار المعرفة بيروت ، ١٩٧٨ م.

١٥ ـ المحلى : ابن حزم الاندلسي ، دار الآفاق الجديدة ـ بيروت.

١٦ ـ معجم المؤلفين : عمر رضا كحّالة ، مكتبة المثنى ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

١٧ ـ الوشيعة في نقد عقائد الشيعة : موسى جار الله ، مطبعة الكيلاني.

١١٩