فصل الخطاب

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي

فصل الخطاب

المؤلف:

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٦

مائةٍ ، أو عشرةٍ ، أو واحدٍ ، فضلاً عن أن يكون إجماعاً ظاهراً كالصلاة.

فإن لم تجدوا إلّا العبارة التي في (الإقناع) منسوبة إلى الشيخ ، وهي : «من جعل بينه وبين الله وسائط ... إلى آخره».

فهذه عبارة مجملة ، ونطلب منكم تفصيلها من كلام أهل العلم ، لتزول عنّا الجهالة.

ولكن ، من أعجب العجب : أنّكم تستدلّون بها على خلاف كلام صاحبها ، وعلى خلاف كلام من أوردها ونقلها في كتبه ـ على خصوصيّات كلامهم في هذه الأشياء التي تكفّرون بها ـ.

بل ، ذكروا النذر والذبح ، وبعض الدعاء.

وبعضها عدّوه في المكروهات ، كالتبرّك والتمسّح ، وأخذ تراب القبور للتبرّك ، والطواف بها.

وقد ذكر العلماء في كتبهم ، منهم صاحب (الإقناع) (١) ـ واللفظ له ـ قال ـ : ويكره المبيت عند القبر ، وتجصيصه ، وتزويقه ، وتخليقه ، وتقبيله ، والطواف به ، وتبخيره ، وكتابة الرقاع إليه ، ودسّها في الأنقاب ، والاستشفاء بالتربة من الأسقام.

لأنّ ذلك كله من البدع ، انتهى.

وأنتم تكفّرون بهذه الامور.

فإذا قلتم : صاحب (الإقناع) وغيره من علماء الحنابلة كصاحب (الفروع) جُهّال لا يعرفون الضروريّات ، بل ، عندكم ـ على لازم مذهبكم ـ كفّار.

قلت : هؤلاء لم يحكوا من مذهب أنفسهم ، لا هُم ولا أجلّ منهم ، بل ، ينقلون

__________________

(١) الإقناع : ١ / ٩٢ ـ ١٩٣.

٨١

ويحكون مذهب أحمد بن حنبل ـ أحد أئمّة الإسلام الذي أجمعت الأمّة على إمامته ـ.

أتظنّون أنّ الجاهل يجب عليه أن يقلّدكم ، ويترك تقليد أئمّة أهل العلم؟

بل ، أجمع أئمّة أهل العلم ـ كما تقدّم ـ أنّه لا يجوز إلّا تقليد الأئمّة المجتهدين.

وكلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد [له] أن يحكي ويفتي بمذاهب أهل الاجتهاد.

وإنّما رخّصوا للمستفتي أن يستفتي مثل هؤلاء ، لأنّهم حاكين مذاهب أهل الاجتهاد والتقليد للمجتهد ، لا للحاكي.

هذا صرّح به عامّة أهل العلم ، إن طلبته من مكانه وجدته ، وقد تقدّم لك ما فيه كفاية.

وإنّما المقصود : أنّ العبارة التي تستدلّون بها على تكفير المسلمين لا تدلّ لمرادكم.

وأنّ من نقل هذه العبارة واستدلّ بها هم الذين ذكروا النذر ، والدعاء ، والذبح ، وغيره ، ذكروا ذلك كلّه في مواضعه ، ولم يجعلوه كفراً مخرجاً عن الملّة ، سوى ما ذكره الشيخ في بعض المواضع في نوعٍ من الدعاء ، كمغفرة الذنوب ، وإنزال المطر ، وإنبات النبات ، ونحو ذلك ممّا ذكر أنّ هذا وإن كان كفراً فلا يكفّر صاحبه حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها ، وتزول عنه الشبهة.

ولم يحكه عن قوله ، ـ أي التكفير بالدعاء المذكور ـ إجماعاً حتّى تستدلّون ـ أنتم ـ عليه بالعبارة.

بل ـ والله ـ لازم قولكم تكفير الشيخ بعينه ، وأحزابه ، نسأل الله العافية.

وممّا يدل على أنّ ما فهمتم من العبارة غير صوابٍ : أنّهم عدّوا الأمور المكفّرات فرداً فرداً في كتاب الردّة في كل مذهبٍ من مذاهب الأئمّة.

ولم يقولوا أو واحد منهم : من نذر لغير الله كَفَر.

٨٢

بل الشيخ نفسه ـ الذي تستدلّون بعبارته ـ ذكر : أنّ النذر للمشايخ لأجل الاستغاثة بهم ، كالحلف بالمخلوق ـ كما تقدّم كلامه ـ والحلف بالمخلوق ليس شركاً أكبر. بل قال الشيخ : فمن قال : «انذروا لي تُقضى حوائجكم».

يُستتاب ، فإن تاب وإلّا قتل لسعيه في الأرض بالفساد.

فجعل الشيخ قتله حدّاً لا كفراً.

وكذلك تقدّم عنه من كلامه في خصوص النذور ما فيه كفاية.

ولم يقولوا أيضاً : من طلب غير الله كفر.

بل يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يدلّ على أنّه ليس بكفرٍ.

ولم يقولوا : مَن ذبح لغير الله كفر.

أتظنّهم يحكون العبارة ، ولا عرفوا معناها؟!

أم هم أوهموا الناس ـ إرادةً لإغوائهم ـ!؟

أم أحالوا الناس على مفهومكم منها الذي ما فهمه منها من أوردها ، ولا من حكاها عمّن أوردها؟

أم عرفتم من كلامهم ما جهلوا هم؟

أم تركوا الكفر الصراح الذي يكفر به المسلم ، ويحلّ ماله ودمه ، وهو يعمل عندهم ليلاً ونهاراً ، جهاراً غير خفيّ ، وتركوا ذلك ما بيّنوه ، بل بيّنوا خلافه ، حتّى جئتم أنتم فاستنبطتموه من كلامهم؟

لا ، والله ، بل ما أرادوا ما أردتم ، وإنّهم في وادٍ ، وأنتم في وادٍ!

وممّا يدلّ على أنّ كلامكم وتكفيركم ليس بصوابٍ : أنّ الصلاة أعظم أركان الإسلام ـ بعد الشهادتين ـ ومع هذا ذكروا : أنّ من صلّاها رئاء الناس ردّها الله عليه ، ولم يقبلها منه ، بل يقول الله تعالى (١) : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من

__________________

(١) كنز العمّال : ٣ / ٤٧١ ح ٧٤٧٤ ، ٧٤٧٦.

٨٣

عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ، ويقول له يوم القيامة : اطلب ثوابك من الذي عملت لأجله).

فذكروا أنّ ذلك يبطل العمل.

ولم يقولوا : إنّ فاعل ذلك كافرٌ حلال المال والدم ، بل من لم يكفّره ـ كما هو مذهبكم فيما [هو] أخفّ من ذلك بكثيرٍ ـ.

وكذلك السجود ، الذي هو أعظم هيئات الصلاة ـ التي هي أعظم من النذور والدعاء وغيره ـ فرّقوا فيه وقالوا : من سجد لشمسٍ ، أو قمرٍ أو كوكبٍ ، أو صنمٍ كَفَر.

وأمّا السجود لغير ما ذكر ، فلم يكفّروا به ، بل عدّوه في كبائر المحرّمات.

ولكنّ حقيقة الأمر أنّكم ما قلّدتم أهل العلم ولا عباراتهم ، وإنّما عُمدتكم مفهومكم واستنباطكم الذي تزعمون أنّه الحقّ ، مَن أنكره أنكر الضروريات.

وأمّا استدلالاتكم بمشتبه العبارات فتلبيسٌ.

ولكنّ المقصود : أنّا نطلب منكم أن تبيّنوا لنا وللناس كلام أئمّة أهل العلم بموافقة مذهبكم هذا ، وتنقلون كلامهم ـ إزاحةً للشبهة ـ.

وإن لم يكن عندكم إلّا القذف ، والشتم ، والرمي بالفرية والكفر ، فالله المستعان.

لآخر هذه الأمّة أُسوة بأوّلها.

الذين أنزل الله عليهم ، لم يَسْلَموا من ذلك.

فصل

[الحدود تدرأ بالشبُهات]

وممّا يدلّ على عدم صوابكم في تكفير من كفّرتموه ، وأنّ الدعاء والنذر ليسا

٨٤

بكفرٍ ينقل عن الملّة.

وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر في الحديث الصحيح (١) أن تُدْرأَ الحدودُ بالشبهات.

وقد روى (٢) الحاكم في صحيحه ، وأبو عوانة ، والبزّار ـ بسندٍ صحيح ـ وابن السنّي عن ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا انفلتت دابّة أحدكم بأرض فلاةٍ فليناد : يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا ـ ثلاثاً ـ فإنّ لله حاضراً سيحبسه.

وقد روى الطبرانيّ (٣) : إن أراد عوناً فليقل : يا عباد الله أغيثوني.

ذكر هذا الحديث الأئمّة في كتبهم ، ونقلوه ـ إشاعةً وحفظاً للأمّة ـ ولم ينكروه.

منهم النوويّ في (الأذكار) وابن القيّم في كتابه (الكلم الطيّب) وابن مفلحٍ في (الآداب).

قال في (الآداب) ـ بعد أن ذكر هذا الأثر ـ :

قال عبد الله بن الإمام أحمد : سمعت أبي يقول : حججت خمس حججٍ ، فضللت الطريق في حجّةٍ ـ وكنتُ ماشياً ـ فجعلتُ أقول : يا عباد الله دلّونا على الطريق ، فلم أزل أقول ذلك حتّى وقعتُ على الطريق ، انتهى.

أقول : حيث كفّرتم من سأل غائباً ، أو ميتاً ، بل زعمتم أنّ المشركين الكفّار الذين كذّبوا الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخفّ شركاً ممّن سأل غير الله في بَرٍّ أو بحرٍ.

واستدللتم على ذلك بمفهومكم الذي لا يجوز لكم ولا لغيركم الاعتماد عليه.

هل جعلتم هذا الحديث وعَمَلَ العلماء بمضمونه ، شبهةً لمن فعل شيئاً ممّا تزعمون أنّه شركٌ أكبر؟

__________________

(١) كنز العمّال : ٥ / ٣٠٥ ح ١٢٩٥٧.

(٢) فيض القدير للمناوي : ١ / ٣٠٧ ، كنز العمّال : ٦ / ٧٠٥ ح ١٧٤٩٦.

(٣) المعجم الكبير للطبراني : ١٧ / ١١٨ ، كنز العمّال : ٦ / ٧٠٦ ح ١٧٤٩٨.

٨٥

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

قال في (مختصر الروضة) : الصحيح أنّ من كان من أهل الشهادتين ، فإنّه لا يكفر ببدعة على الإطلاق ، ما استند فيها إلى تأويلٍ يلتبس به الأمر على مثله ، وهو الذي رجّحه شيخنا أبو العبّاس ابن تيميّة ، انتهى.

أتظنّ دعاء الغائب كفراً بالضرورة ، ولم يعرفه أئمّة الإسلام؟

أتظنّ أنّ على تقدير أنّ قولكم صوابٌ ، تقوم الحجّة على الناس بكلامكم؟

ونحن نذكر كلام الشيخ تقيّ الدين الذي استدللتم بعبارته على تكفير المسلمين بالدعاء والنذر ، وإلّا ففي ما تقدّم كفاية ، ولكنّ زيادته فائدة.

قال الشيخ رحمه‌الله تعالى في (اقتضاء الصراط المستقيم) (١) :

من قصد بقعةً يرجو الخير بقصدها ، ولم تستحبّه الشريعة ، فهو من المنكرات ، وبعضه أشد من بعضٍ ، سواء كان شجرةً ، أو عيناً ، أو قناةً ، أو جبلاً ، أو مغارة ، وأقبح أن ينذر لتلك البقعة ، ويقال : إنّها تقبل النذر ـ كما يقوله بعض الضالّين ـ فإنّ هذا النذر نذرُ معصيةٍ باتّفاق العلماء ، لا يجوز الوفاء به.

ثمّ ذكر رحمه‌الله تعالى (٢) ـ في مواضع كثيرةٍ ـ موجودٌ في أكثر البلاد في الحجاز منها مواضع كثيرة.

وقال في مواضع أُخَر من الكتاب المذكور (٣) : والسائلون قد يدعون دعاءً محرّماً يحصل منه ذلك الغرض ، ويحصل لهم ضررٌ أعظم منه.

ثمّ ذكر أنّه تكون له حسناتٌ تربو على ذلك ، فيعفو الله بها عنه.

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ص ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) المصدر السابق : ٣١٨.

(٣) المصدر السابق : ٣٤٩.

٨٦

قال (١) : وحُكي لنا أنّ بعض المجاورين بالمدينة إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتهى عليه نوعاً من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميّين إليه فقال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث لك هذا ، وقال : اخرج من عندنا ، فإنّ من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا.

قال الشيخ (٢) : وآخرون قُضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل ذلك ، لاجتهادهم ، أو تقليدهم ، أو قصورهم في العلم ، فإنّه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ، ولهذا عامّة ما يُحكى في هذا الباب إنّما هو عن قاصري المعرفة ، ولو كان هذا شرعاً أو ديناً لكان أهل المعرفة أولى به.

فَفَرْقٌ بين العفو عن الفاعل والمغفرة له ، وبين إباحة فعله.

وقد علمتُ جماعةً ممّن سأل حاجته لبعض المقبورين من الأنبياء والصالحين ، فقُضيت حاجته.

وهؤلاء يخرج ممّا ذكرته ، وليس ذلك بشرعٍ فيُتّبع.

وإنّما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله وسُنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كان عليه السابقون الأوّلون.

وما سوى هذا من الأمور المحدثة فلا تستحبّ ، وإن اشتملت أحياناً على فوائد (٣).

وقال أيضاً (٤) : صارت النذور المحرّمة في الشرع مأكل السدنة ، والمجاورين العاكفين على بعض المشاهد وغيرها ، وأولئك الناذرون يقول أحدهم : مرضت فنذرت ، ويقول الآخر : خرج عليّ المحاربون فنذرت ، ويقول الآخر : ركبت البحر

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ٣٥١.

(٢) المصدر السابق : ٣٥١.

(٣) المصدر السابق : ٣٥٢.

(٤) المصدر السابق : ٣٦٠.

٨٧

فنذرت ، ويقول الآخر : حُبسْت فنذرت.

وقد قام في نفوسهم من هذه النذور [أنّها] هي السبب في حصول مطلوبهم ، ودفع مرهوبهم.

وقد أخبر الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ نذر طاعة الله ـ فضلاً عن معصيته ـ ليس سبباً للخير.

بل تجد كثيراً من الناس يقول : إنّ المشهد الفلانيّ ، والمكان الفلانيّ يقبل النذر ، بمعنى أنّهم نذروا له نذوراً ـ إن قضيت حاجتهم ـ فقضيت (١).

إلى أن قال (٢) : وما يُروى أنّ رجلاً جاء إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه الجَدْب عام الرمادة ، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس.

قال : مثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعرف من هذا وقائع.

وكذلك سؤال بعضهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غيره من أمّته حاجته ، فتُقضى له.

فإنّ هذا وقع كثيراً.

ولكن عليك أن تعلم أنّ إجابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين لا يدلّ على استحباب السؤال.

وأكثر هؤلاء السائلين الملحّين ـ لمِا هم فيه من الحال ـ لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم ، كما أنّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك (٣).

وقال رحمه‌الله أيضاً (٤) : حتّى أنّ بعض القبور يجتمع عندها في اليوم من السنة ، ويُسافَر إليها من الأمصار في المحرّم ، أو في صفرٍ ، أو عاشوراء ، أو غير ذلك ، تُقصد

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ٣٦٠.

(٢) المصدر السابق : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

(٣) المصدر السابق : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

(٤) المصدر السابق : ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

٨٨

ويجتمع عندها فيه ، كما تقصد عرفة ومزدلفة في أيامٍ معلومةٍ من السنة ، وربّما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أشدّ منكراً ، حتّى أنّ بعضهم يقول : نريد الحجّ إلى قبر فلانٍ وفلانٍ.

وبالجملة : هذا الذي يُفعل عند هذه القبور هو بعينه نهى عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الذي أنكره أحمد بن حنبل رحمه‌الله ، وقال (١) : قد أفرط الناس في هذا جدّاً وأكثروا ، وذكر الإمام أحمد ما يُفعل عند قبر الحسين رضى الله عنه.

قال الشيخ (٢) : ويدخل في هذا ما يُفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها ، وما يُفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنّه قبر عليٍّ وقبر الحسين ، إلى قبورٍ كثيرةٍ في بلاد الإسلام لا يمكن حصرها ، انتهى كلام الشيخ.

[عبارة ابن تيميّة ومدلولها]

فيا عباد الله ، تأمّلوا : كم في كلام الشيخ هذا من موضعٍ يردّ مفهومكم من العبارة التي تستدلّون بها من كلامه؟ ويردّ تكفيركم للمسلمين؟

ونحن نذكر بعض ما في ذلك تتميماً للفائدة :

منها قوله ـ في قصد البقعة ، والنذر في العيون والشجر والمغارات وما ذكره ـ :

إنّه من المنكرات ، ولم يجب الوفاء به.

ولم يقل : إنّ فاعل ذلك كافر ، مرتدّ ، حلال المال والدم ـ كما قلتم ـ.

ومنها : أنّ من الناس من يأمر بالنذر ، والقصد لهذه الأشياء التي ذكرها ، وسمّاه ضالّاً.

ولم يكفّره ـ كما قلتم ـ.

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ٣٧٦.

(٢) المصدر السابق : ٣٧٧.

٨٩

ومنها : أنّ هذه المواضع ، وهذه القبور ، وهذه الأفاعيل ملأت بلاد الإسلام قديماً.

ولم يقل لا هو ولا أحدٌ من أهل العلم : إنّها بلاد كفر.

ـ كما كفّرتم أهلها ، بل كفّرتم من لم يكفّرهم ـ.

ومنها : أنّه ذكر طلب أهل القبور ، وأنّه كثر وشاع ، وغاية ذلك أنّه حرّمه.

بل رفع الخطأ عن المجتهد في ذلك ، أو المقلّد ، أو الجاهل.

وأنتم تجعلونهم بهذه الأفاعيل أكفر ممّن كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كفّار قريش!

ومنها : أنّ غاية أنْ يعلم المسلم ، أنّ هذا لم يشرّعه الله.

وأنتم تقولون : هذا يُعلم بالضرورة أنّه كفرٌ ، حتّى اليهود والنصارى يعرفون ذلك ، ومن لم يكفّر فاعله فهو كافرٌ.

فيا عباد الله انتبهوا.

ومنها : أنّه قال : إجابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين الملحّين ـ لو لم يُجابوا لاضطرب إيمانهم ـ.

جَعَلهم مؤمنين ، وجعل إجابة دعائهم رحمةً من الله تعالى لهم ، لئلّا يضطرب إيمانهم.

وأنتم تقولون : مَن فعل فهو كافرٌ ، ومن لم يكفّره فهو كافر.

ومنها : أنّ هذه الأمور ـ وهي سؤال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حدثت في زمن الصحابة ، كالذي شكا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القحط ، ورآه في النوم ، فأمره أن يأتي عمر.

ولا ذكر أنّ عمر أنكر ذلك.

وأنتم تجعلون مثل هذا كافراً.

ومنها : أنّ هذه الأمور حدثت من قبْلِ زمن الإمام أحمد ـ في زمان أئمّة

٩٠

الإسلام ـ وأنكرها من أنكرها منهم ، ولا زالت حتّى ملأت بلاد الإسلام كلّها ، وفُعلت هذه الأفاعيل كلّها التي تكفّرون بها ، ولم يُرو عن أحدٍ من أئمّة المسلمين أنّهم كفّروا بذلك.

ولا قالوا : هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمّوا بلاد المسلمين بلاد شركٍ وحربٍ ـ.

ما قلتم أنتم ، بل كفّرتم من لم يكفّر بهذه الأفاعيل ، وإن لم يفعلها ـ.

أتظنّون : أنّ هذه الأمور من الوسائط التي في العبارة ـ التي يكفّر فاعلها إجماعاً ـ؟!

وتمضي قرون الأئمّة من ثمانمائة عام ، ومع هذا لم يُرو عن عالمٍ من علماء المسلمين أنّها كفرٌ؟!!

بل ، ما يظنّ هذا عاقلٌ.

بل ـ والله ـ لازم قولكم أنّ جميع الأمّة بعد زمان الإمام أحمد رحمه‌الله تعالى ـ علماؤها ، وأمراؤها ، وعامّتها ـ كلّهم كفّار ، مرتدّون!!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وا غوثاه إلى الله ، ثمّ وا غوثاه إلى الله ، ثمّ وا غوثاه!!!

أم تقولون كما يقول بعض عامّتكم : إنّ الحجّة ما قامت إلّا بكم.

وإلّا ، قبلكم لم يعرف دين الإسلام؟

يا عباد الله ، انتبهوا.

ولكن بكلام الشيخ هذا يُستدلّ عليكم ، على أنّ مفهومكم ـ أنّ هذه الأفاعيل من الشرك الأكبر ـ خطأ.

وأيضاً : وانّ مفهومكم أنّ هذه الأفاعيل داخلة في معنى عبارة «من جعل بينه وبين الله وسائط» إلى آخره.

نبّهنا الله وإيّاكم من الضلال.

٩١

فصل

[نجاة الأمّة حسب نصوص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وممّا يدلّ على بطلان قولكم هذا.

ما روى مسلم في صحيحه (١) عن ثوبان ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإنّ أمّتي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإنّي سألت ربّي لأمّتي أن لا يُهلكها بسنة عامّة ، وأن لا يسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم ، يستبيح بيضتهم ، وإنّ ربّي قال : يا محمّد ، إذا قضيت قضاءً إنّه لا يردّ ، إنّي أعطيتُك لأمّتك أن لا أُهلكهم بسنة عامّة ، وأن لا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم ، يستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ـ أو قال : من بين أقطارها ـ حتّى يكون بعضهم يُهلك بعضاً ، ويَسبي بعضُهم بعضاً ، انتهى.

وجه الدليل من هذا الحديث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّه لا يسلّط على هذه الأمّة عدوّاً من سوى أنفسهم ، بل يسلّط بعضهم على بعضٍ.

ومعلومٌ عند الخاصّ والعامّ ـ ممّن له معرفة بالأخبار ـ أنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها مَلأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة عامٍ ـ كما تقدّم ـ ولو كانت هذه عبادة الأصنام الكبرى ، وأنّها الوسائط ـ كما زعمتم ـ لكان أهلها ، كفّاراً ومن لم يكفّرهم فهو كافر ـ كما قلتم أنتم الآن ـ.

ومعلومٌ أنّ العلماء والأمراء لم يكفّروهم ، ولم يجروا عليهم أحكام الردّة ، مع أنّ

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٤٠٩ كتاب الفتن ، سنن أبي داود : ٩٧٤ ح ٤٢٥٢ كتاب الفتن والملاحم.

٩٢

هذه الأمور تُفعل في غالب بلاد الإسلام ، ظاهرة غير خفيّة.

بل ـ كما قال الشيخ ـ : صارت مأكلاً لكثيرٍ من الناس ، وأيضاً يسافرون إليها من جميع الأمصار أعظم ممّا يسافرون إلى الحجّ.

ومع هذا كلّه ، فأخبرونا برجلٍ واحدٍ من أهل العلم ، أو أهل السيف قال مقالتكم هذه!؟

بل ، أجروا عليهم أحكام أهل الإسلام.

فإذا كانوا كفّاراً ، عُبّاد أصنامٍ بهذه الأفاعيل ، والعلماء والأمراء أجروا عليهم أحكام الإسلام فهم بهذا الصنيع ـ أي العلماء والأمراء ـ كفّار ـ لأنّ من لم يكفّر أهل الشرك الذين يجعلون مع الله الهاً آخر فهو كافر ـ فحينئذٍ ليسوا من هذه الأمّة ، بل كفّار سلّطهم الله على هذه الامّة ، فاستباحوا بيضتهم.

وهذا يردّ هذا الحديث ، وهو ظاهرٌ من الحديث لمن تدبّره.

والله الموفق لا ربّ غيره.

فإن قلت : روى هذا الحديث بعينه البرقاني (١) ، وزاد فيه : إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين ، وإذا وضع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتّى يلحق حيٌّ من أمّتي بالمشركين ، وحتّى تعبد فئامٌ من أمّتي الأوثان ، وأنّه يكون في أمّتي كذّابون ثلاثون ، كلّهم يزعم أنّه نبيٌّ ، وأنا خاتم النبيّين لا نبيَّ بعدي ، ولا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ منصورة ، لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله تعالى.

قلت : وهذا أيضاً حُجّة عليكم ، يُوافق الكلام الأوّل أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين.

__________________

(١) سنن أبي داود : ٤ / ٩٧ ح ٤٢٥٢ كتاب الفتن والملاحم.

٩٣

فهذا يدلّ على أنّه ما خاف عليهم الكفر والشرك الأكبر ، وإنّما يخاف عليهم الأئمّة المضلّين ـ كما وقع ، وما هو الواقع ـ.

ولو كانوا يكفرون بعده لودّ أن يسلّط عليهم من يهلكهم.

وممّا خاف عليهم أيضاً : وضْع السيف ، وأخبر أنّه إذا وضع لا يرفع ـ وكذلك وقع ـ.

وهذا من آيات نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه وقع كما أخبر.

وقوله : لا تقوم الساعة حتّى يلحق حيٌّ من أمّتي بالمشركين ، وهذا أيضاً وقع.

وقوله : وحتّى تَعبد فئام من أمّتي الأوثان ، فهذا حقّ.

وقوله : لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ منصورة ... إلى آخره ، يدلّ على أنّ هذه الأمور التي ملأت بلاد الإسلام ليست بعبادة الأوثان.

فلو كانت هذه الأمور عبادة الأصنام لقاتلتهم الطائفة المنصورة ، ولم يعهد ولم يذكر أنّ أحداً من هذه الأمّة قاتل على ذلك ، وكفّر من فعله ، واستحلّ ماله ودمه ، قبلكم!

فإن وجدتم ذلك في قديم الدهر أو حديثه ، فبيّنوه ، وأنّى لكم بذلك!

وهذا الذي ذكرناه واضح من أوّل الحديث وآخره ، والحمد لله ربّ العالمين.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم في تكفير من كفّرتموه :

ما روى البخاريّ (١) في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٦٧ ح ٦٨٨٢ كتاب الاعتصام.

٩٤

قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مَن يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين ، وإنّما أنا قاسمٌ والله معطي ، ولا يزال أمر هذه الأمّة مستقيماً حتّى تقوم الساعة ، أو يأتي أمر الله تعالى ، انتهى.

وجه الدليل منه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّ أمر هذه الأمّة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر.

ومعلومٌ أنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها ما زالت ـ قديماً ـ ظاهرةً ، ملأت البلاد ـ كما تقدّم ـ.

فلو كانت هي الأصنام الكبرى ، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابداً للأوثان ، لم يكن أمر هذه الأمّة مستقيماً ، بل منعكساً ، بلدهم بلد كفر ، تُعبد فيها الأصنام ظاهراً ، وتجري على عَبَدة الأصنام فيها أحكام الإسلام.

فأين الاستقامة؟ وهذا واضح جليٌّ.

فإن قلت : ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث الصحيحة ما يعارض هذا.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : لتتّبعن سنن من كان من قبلكم ، وما في معناه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : تفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين ملّة ، كلّها في النار ، إلّا ملّة واحدة.

قلت : هذا حقٌّ ، ولا تعارض ـ والحمد لله ـ وقد بيّن العلماء ذلك ووضّحوه.

وأنّ قوله تفترق هذه الأمّة ـ الحديث.

فهؤلاء أهل الأهواء ـ كما تقدم ذِكرهم ـ ولم يكونوا كافرين.

بل ، كلّهم مسلمون إلّا من أسرّ تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو منافق ـ كما تقدّم في

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٨٤ ، ٨٩ ، ٥ / ٢١٨.

(٢) إتحاف السادة المتقين : ٨ / ١٤٠ ، ١٤١.

٩٥

كلام الشيخ من حكاية مذهب أهل السُنّة في ذلك ـ.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّها في النار إلّا واحدة.

فهو وعدٌ ، مثل وعيد أهل الكبائر ، مثل قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وآكل الربا وغير ذلك.

وأمّا الفرقة الناجية فهي السالمة من جميع البدع ، المتّبعة لهدْي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما بيّنه أهل العلم ـ وهذا إجماع من أهل العلم ـ كما تقدّم لك ـ.

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتتّبعن سنن من كان قبلكم ـ الحديث.

قال الشيخ رحمه‌الله : ليس هذا إخبارٌ عن جميع الأمّة ، فقد تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه لا تزال من أمّته طائفة على الحقّ حتّى تقوم الساعة ، وأخبر أنّه لا تجتمع على ضلالةٍ ، وأنّه لا يزال يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته.

فعُلم ـ بخبره الصدْق ـ : أنّه يكون في أمّته قومٌ متمسّكون بهدْيه الذي هو دين الإسلام محضاً ، وقومٌ منحرفون إلى شعبةٍ من شعب اليهود ، أو شعبةٍ من شعب النصارى.

وإن كان الرجل لا يكفّر بكلّ انحراف ، بل ، وقد لا يفسّق.

وقال رحمه‌الله : الناس في مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جاهليّة ، فأمّا بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا جاهليّة مطلقة ، فإنّه لا تزال من أمّته طائفة ظاهرين إلى قيام الساعة.

وأمّا الجاهليّة المقيّدة ، فقد تكون في بعض بلاد المسلمين ، أو في بعض الأشخاص ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربع في أمّتي من أمر الجاهليّة.

فدين الجاهليّة لا يعود إلى آخر الدهر عند اخترام أنفس جمع المؤمنين عموماً ، انتهى كلام الشيخ رحمه‌الله.

فقد تبيّن لك أنّ دين الإسلام مَلَأ بلاد الإسلام بنصّ أحاديث

٩٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما فسّر به العلماء الأعلام ، وأنّ كلّ الفرق على الإسلام.

بخلاف قولكم هذا.

فإن صحّ مذهبكم فلم يبق على الأرض مسلمٌ من ثمانمائة سنة إلّا أنتم.

والعجب كلّ العجب أنّ الفرقة الناجية وَصَفَها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوصافٍ ، وكذلك وَصَفَها أهل العلم ، وليس فيكم خصلة واحدة منها!؟

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فصل

وممّا يدلّ على عدم صحّة مذهبكم.

ما رواه البيهقيّ (١) وابن عديّ وغيرهم ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : يحمل هذا العلم من كلّ خَلَف عدو له ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

قال في (الآداب) (٢) هنا : سألت أحمد عن هذا الحديث ، قال : صحيح ، انتهى.

قال ابن القيّم : هذا حديث روي من وجوهٍ يشدّ بعضها بعضاً.

ووجه الدليل منه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف حَمَلَة علمه الذي بعثه الله به أنّهم عدولٌ ، كلّ طبقةٍ من طبقات الأمّة.

وقد تقدّم مراراً : أنّ هذه الأفاعيل التي تجعلون مَنْ فعلها كافراً موجودةٌ في الأمّة وجوداً ظاهراً من أكثر من سبعمائة عامٍ ، بل قد ذكر ابن القيّم أنّها ملأت

__________________

(١) الكامل في الرجال لابن عدي : ١ / ١٤٥ ، كنز العمّال : ١٠ / ١٧٦ ح ٢٨٩١٨.

(٢) كنز العمّال : ١٠ / ١٧٦ ح ٢٨٩١٨ وقد ذكره في ذيل الحديث.

٩٧

الأرض ، وأخبر أنّ في الشام وغيره من بلاد المسلمين ، بل في كلّ بلد منها عِدّةٌ.

وأخبر بأمورٍ عظيمةٍ هائلةٍ تعمل عندها من السجود للقبور ، والذبح لها ، وطلب تفريج الكُرُبات ، وإغاثة اللهفان من أهلها ، والنذور ، وغير ذلك.

ثمّ أقسم أنّه مقتصرٌ فيما حكى عنهم ، وأنّ فعلهم أعظم وأكثر ممّا ذكره ، وقال : لم نستقص ذكر بدعتهم ، وشرّهم.

ومع هذا لم يجرِ عليهم ـ ولا أحدٌ من أهل العلم من طبقته ولا الطبقات قبله ولا بعده من جميع أهل العلم الذين وصفهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعدالة ، وبحفظ الدين عن غلوّ الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين ـ لم يجرِ عليهم أحدٌ منهم الكفر الظاهر ، ولم يسمّوا بلاد المسلمين بلاد كفّار ، ولا غَزَوا البلاد والعباد وسمّوهم مشركين!!!

هذا ، وهم القائمون بنصرة الحقّ ، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.

بل ، ذكر ابن القيّم : أنّ هذه الأفاعيل ـ التي تكفّرون بها ، بل تكفّرون من لا يكفّر بها ، بل تزعمون أنّها عبادة الأصنام الكبرى ـ كثرت في بلاد الإسلام حتّى قال : فما أعزّ من تخلّص من هذا ، بل أعزّ من لا يعادي من أنكره!

فذكر ؛ أنّ غالب الأمّة تفعله ، والذي لا يفعله ينكر على من أنكره ، ويعاديه إذا أنكره.

فلو كان ما ذهبتم إليه حقّاً ، لكانت جميع الأمّة ـ والعياذ بالله ـ كلّها أشركت بالله الشرك الأكبر ، وحسّنت فعله ، وأنكرت على من أنكره من قبل زمن ابن القيّم.

فحينئذٍ يردّ قولكم هذا الحديث ، والحديث الذي قبله ، والأحاديث التي تأتي إن شاء الله تعالى.

وهذا بيّن واضحٌ لمن وُفّق ، والحمد لله.

٩٨

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما ورد في الصحيحين (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى يوم القيامة.

قال الشيخ تقيّ الدين ـ لمّا ذكر هذا الحديث ـ : كانت هذه الأمّة كما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لا تزال فيها طائفة منصورة ، ظاهرة بالعلم والسيف ، لم يصبها ما أصاب مَن قبلها من بني إسرائيل وغيرهم ، حيث كانوا مقهورين مع الأعداء.

بل ، إن غلبت في قُطرٍ من الأرض كانت في القطر الآخر أمّة ظاهرة منصورة.

ولم يسلّط على مجموعها عدوّاً من غيرهم ، ولكن يقع بينهم اختلاف وفتن.

قال : ومذهب أهل السُنّة والجماعة ظاهرون أهله إلى يوم القيامة ، وهم الذين قال فيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال طائفة من أمّتي ـ الحديث ، انتهى.

أقول : وجه الدلالة من هذا الحديث : أنّ هذه الطائفة التي ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرة ، ليست بخفيّة.

كما يزعم عندكم!

وأيضاً منصورة ليسوا بأذلّاء مختفين.

وأيضاً ما خلت بلاد الإسلام منهم يوماً.

وأيضاً ـ كما قال الشيخ ـ لم يسلّط عليهم الأعداء وتقهرهم.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٧٣ ح ١٧٤ كتاب الإمارة ، كنز العمّال : ١٢ / ١٦٥ ح ٣٤٥٠١.

٩٩

فإذا كانت هذه أوصافهم بنصّ الصادق المصدوق ، فكيف؟ وهذه الأمور التي تكفّرون بها ملأت بلاد الإسلام من أكثر من سبعمائة عامٍ؟

وأنتم تزعمون أنّ هذه عبادة غير الله.

وأنّ هذه الوسائط المذكورة في القرآن.

ومع هذا لم يذكر في زمنٍ من الأزمان أنّ أحداً قال ما قلتم ، أو عمل ما عملتم.

بل ما تجدون ما تحتجّون لشبهتكم إلّا أنّ عليّاً قتل من قال : «أنت الله» ، وأنّ الصدّيق قاتل أهل الردّة.

أو بعبارةٍ مجملة : يعرف كلّ من له ممارسة في العلم ، أنّ مفهومكم هذا منها ضحكة.

فالحمد لله على زوال الالتباس والاشتباه.

أما والله ، إنّ هذا الحديث وحده يكفي في بطلان قولكم ـ لو كان ثَمّ أذُنٌ واعية ـ.

نسأل الله أن ينقذكم من الهلكة ، إنّه جوادٌ كريم.

فصل

وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :

ما في الصحيحين (١) عن أبي هريرة رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : رأس الكفر نحو المشرق ، وفي رواية : الإيمان يمانيّ ، والفتنة من هاهنا ، حيث يطلع قَرْن الشيطان.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ١٠٤ ح ٩٠٠٨٨ ، وص ٤٢٣ ح ٤٦ ، وص ٤٢٤ ح ٤٨ كتاب الفتن.

١٠٠