فصل الخطاب

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي

فصل الخطاب

المؤلف:

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٦

المسلمين وأئمتهم.

أحدهما : خروجهم عن السُنّة ، وجعلهم ما ليس بسيّئةٍ سيّئةً ، وجعلهم ما ليس بحسَنةٍ حسَنةً.

الثاني : في الخوارج وأهل البدع ، أنّهم يكفّرون بالذنوب والسيّئات.

ويترتّب على ذلك استحلال دماء المسلمين ، وأموالهم ، وأنّ دار الإسلام دار حربٍ ، ودارهم هي دار الإيمان ، وبذلك يقول جمهور الرافضة!! وجمهور المعتزلة ، والجهميّة ، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث.

فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين ، وما يتولّد عنهما من بغض المسلمين ، وذمّهم ، ولعنهم ، واستحلال دمائهم وأموالهم.

وعامّة البدع إنّما تنشأ من هذين الأصلين.

أمّا الأوّل : فسببه التأويل الفاسد ، إمّا حديثٌ بلغه غير صحيحٍ ، أو عن غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قلّد قائله فيه ، ولم يكن ذلك القائل مصيباً ، أو تأويلٌ تأوّله من آيةٍ من كتاب الله ، ولم يكن التأويل صحيحاً ، أو قياساً فاسداً ، أو رأياً رآه اعتقده صواباً ـ وهو خطأ ـ.

إلى أن قال : قال أحمد : أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل ، والقياس.

وقال الشيخ : أهل البدع صاروا يبنون دين الإسلام على مقدّماتٍ يظنّون صحّتها ، إمّا في دلالة الألفاظ ، وإمّا في المعاني المعقولة ، ولا يتأمّلون بيان الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها تكون ضلالاً.

وقد تكلّم أحمد على من يتمسّك بما يظهر له من القرآن ، من غير استدلالٍ ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصحابة ، والتابعين.

وهذه طريقة سائر أئمّة المسلمين ، لا يعدلون عن بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن وجدوا

٦١

إلى ذلك سبيلاً.

وقال الشيخ أيضاً : إنّي دائماً ومن جالسني يعلم منّي أنّي من أعظم الناس نهياً من أن يُنسب معيّنٌ إلى تكفيرٍ ، أو إلى تفسيقٍ ، أو معصيةٍ إلّا إذا عُلم أنّه قد قامت فيه الحجّة الرساليّة التي من خالفها كان كافراً تارةً ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أُخرى.

وإنّي أُقرّر أنّ الله قد غفر لهذه الأمّة خَطأها ، وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبرية ، والمسائل العلميّة.

وما زال السلف يتنازعون في كثيرٍ من هذه المسائل ، ولم يشهد أحدٌ منهم على أحدٍ منهم معيّنٍ لأجل ذلك لا بكفرٍ ، ولا بفسقٍ ، ولا بمعصيةٍ.

كما أنكر شُريح قراءةَ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (١) وقال : إنّ الله لا يعجب.

إلى أن قال : وقد آل النزاع بين السلف إلى الاقتتال ، مع اتّفاق أهل السُنّة على أنّ الطائفتين جميعاً مؤمنتان ، وأنّ القتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم! لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأوّل! والتأويل يمنع الفسق.

وكنتُ أُبيّن لهم أنّ ما نُقل عن السلف والأئمّة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حقٌّ.

لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين.

وهذه أوّل مسألة تنازعتْ فيها الأمّة من مسائل الأصول الكبار ، وهي مسألة الوعيد ، فإنّ نصوصَ الوعيد ـ في القرآن ـ المطلقةَ عامّةٌ ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ... الآية (٢) ، وكذلك سائر ما ورد : «مَن فَعَل كذا فله كذا ، أو فهو كذا».

__________________

(١) الصافات : ١٢.

(٢) النساء : ١٠.

٦٢

فإنّ هذه النصوص مطلقة عامّة ، وهي بمنزلة من قال من السلف : مَن قال كذا فهو كافر.

إلى أن قال : والتكفير يكون من الوعيد ، فإنّه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن قد يكون الرجل حديثَ عهدٍ بالإسلام ، أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ ، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص ، أو سمعها ولم تثبت عنده ، أو عارضها عنده معارضٌ آخر أوجَبَ تأويلها ـ وإن كان مخطئاً ـ.

وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين (١) في الرجل الذي قال لأهله : إذا أنا متّ فأحرقوني ـ الحديث.

فهذا رجلٌ شكّ في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذُري ، بل اعتقد أنّه لا يُعاد ، فغفر له بذلك.

والمتأوّل من أهل الاجتهاد ، الحريص على متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا ، انتهى.

وقال الشيخ رحمه‌الله ـ وقد سُئل عن رجلين تكلّما في مسألة التكفير ، فأجاب وأطال ، وقال في آخر الجواب ـ : لو فُرض أنّ رجلاً دفع التكفير عمن يعتقد أنّه ليس بكافرٍ ، حمايةً له ونصراً لأخيه المسلم ، لكان هذا غرضاً شرعيّاً حسناً ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فيه فاخطأ فله أجر.

وقال رحمه‌الله : التكفير إنّما يكون بإنكار ما عُلم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ، انتهى.

فانظر إلى هذا الكلام وتأمّله.

وهل هذا كقولكم : هذا كافر ، ومن لم يكفّره فهو كافر؟

وهو قال : إن دفع عنه التكفير ـ وهو مخطئٌ ـ فله أجرٌ.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٧٨ ح ٦١١٦ كتاب الرقاق ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٢١ ح ٤٢٥٥ كتاب الزهد.

٦٣

وانظر وتأمّل كلامه الأوّل ، وهو أنّ القول قد يكون كفراً ، ولكنّ القائل أو الفاعل لا يكفّر ، لاحتمال أمورٍ ، منها : عدم بلوغ العلم على الوجه الذي يكفّر به ، إمّا لم يبلغه ، وإمّا بلغه ولكن ما فهمه ، أو فهمه ولكن قام عنده معارضٌ أوجب تأويله ، إلى غير ذلك ممّا ذكره.

[الفرقة الوهابيّة تخالف ذلك]

فيا عباد الله ، تنبّهوا وارجعوا إلى الحقّ ، وامشوا حيث مشى السلف الصالح ، وقِفوا حيث وقفوا ، ولا يستفزّكم الشيطان ، ويزيّن لكم تكفير أهل الإسلام ، وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم ، وميزان الإسلام موافقتكم.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، آمنّا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وعلى مراد رسوله ، أنقذنا الله وإيّاكم من متابعة الأهواء.

[كلام ابن القيّم في عدم تكفير المسلم]

قال ابن القيّم رحمه‌الله تعالى (١) ـ لمّا ذكر أنواع الكفر ـ : وكفر الجحود نوعان : كفرٌ مطلق عامّ ، وكفر مقيّد خاصّ.

فالمطلق : أن يجحد جملةَ ما أنزل الله ، ورسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والخاصّ المقيّد : أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام ، أو محرّماً من محرّماته ، أو صفةً وصف الله بها نفسه ، أو خبراً أخبر الله به محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تقديماً لقول من خالفه عالماً عمداً ، لغرض من الأغراض.

__________________

(١) مدارج السالكين : ١ / ٣٤٧.

٦٤

وأمّا ذلك جهلاً أو تأويلاً ـ يعذر فيه ـ فلا يكفر صاحبه لما في الصحيحين والسنن والمسانيد عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال رجلٌ لم يعمل خيراً قطّ لأهله ، وفي روايةٍ : أسرف رجلٌ على نفسه ، فلمّا حُضِرَ أوصى بنيه : إذا مات فحرقوه ، ثمّ ذروا نصفه في البرّ ، ونصفه في البحر ، فَوَ الله لإن قدر الله عليه ليعذّبنّه عذاباً ما عذّب به أحداً من العالمين ، فلمّا مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البرّ فجمع ما فيه ، ثمّ قال : لِمَ فعلتَ؟ قال : من خشيتك يا ربّ وأنت تعلم ، فغفر له.

فهذا منكِرٌ لقدرة الله عليه ، ومنكرٌ للبعث والمعاد ، ومع هذا غفر الله له ، وعذره بجهله ، لأنّ ذلك مَبْلَغ عمله ، لم ينكر ذلك عناداً.

وهذا فصل النزاع في بطلان قول من يقول : إنّ الله لا يعذر العباد بالجهل في سقوط العذاب إذا كان ذلك مبلغ علمه ، انتهى.

[جوابٌ لابن تيميّة عن التكفير]

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه‌الله عن التكفير الواقع في هذه الأمّة ، مَن أوّل من أحدثه وابتدعه؟

فأجاب : أوّل من أحدثه في الإسلام المعتزلة ، وعنهم تلقّاه من تلقّاه ، وكذلك الخوارج هم أوّل من أظهره ، واضطرب النّاس في ذلك ، فمن الناس من يحكي عن مالكٍ فيه قولين ، وعن الشافعيّ كذلك ، وعن أحمد روايتان ، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه ، لهم قولان.

وحقيقة الأمر في ذلك ، أنّ القول قد يكون كفراً ، فيطلق القول بتكفير قائله ، ويُقال : من قال كذا فهو كافر ، لكنّ الشخص المعيّن الذي قاله لا يكفّر ، حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها ، من تعريف الحكم الشرعي من سلطانٍ ، أو أميرٍ مطاعٍ ، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام ، فإذا عرّفه الحكم وزالت عنه

٦٥

الجهالة ، قامت عليه الحجّة ، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنّة ، وهي كثيرة جدّاً ، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق ، من غير أن يعيّن شخصٌ من الأشخاص ، فيُقال : هذا كافر ، أو فاسق ، أو ملعون ، أو مغضوب عليه ، أو مستحقّ للنار ـ لا سيّما إن كان للشخص فضائل وحسناتٌ ـ لأنّ ما سوى الأنبياء تجوز عليهم الصغائر والكبائر ، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صدّيقاً ، أو شهيداً ، أو صالحاً ، كما قد بسط في غير هذا الموضع من أنّ موجب الذنوب تتخلّف عنه بتوبة أو باستغفارٍ ، أو حسناتٍ ماحيةٍ ، أو مصائب مكفّرة ، أو شفاعةٍ مقبولةٍ ، أو لمحض مشيئة الله ورحمته.

فإذا قلنا بموجب قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (١) ... الآية.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٢).

وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) (٣) ... الآية.

وقوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ـ إلى قوله ـ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) (٤) ... الآية.

إلى غير ذلك من آيات الوعيد.

وقلنا بموجب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله من شرب الخمر ، أو من عقّ والديه ، أو من غيّر منار الأرض ، أو من ذبح لغير الله ، أو لعن الله السارق ، أو لعن الله آكل الربا ، ومُوكله ، وشاهده ، وكاتبه ، أو لعن الله لاوي الصدقة ، والمتعدّي فيها ، ومَن أحدث

__________________

(١) النساء : ٩٣.

(٢) النساء : ١٠.

(٣) النساء : ١٤.

(٤) النساء : ٢٩ ـ ٤٠.

٦٦

في المدينة حَدَثاً ، أو آوى مُحْدِثاً ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد.

لم يجز أن نعيّن شخصاً ممّن فعل بعض هذه الأفعال ، ونقول : هذا المعيّن قد أصابه هذا الوعيد ، لإمكان التوبة ، وغيرها من مسقطات العقوبة.

إلى أن قال : فَفِعْلُ هذه الأمور ممّن يحسب أنّها مباحة ـ باجتهادٍ أو تقليدٍ ونحو ذلك ـ وغايته أنّه معذورٌ من لحوق الوعيد به لمانعٍ.

كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبةٍ ، أو حسناتٍ ماحيةٍ ، أو مصائب مكفّرةٍ ، أو غير ذلك.

وهذه السبيل هي التي يجب اتّباعها ، فإنّ ما سواها طريقان خبيثان :

أحدهما : القول بلحوق الوعيد بكلّ فردٍ من الأفراد بعينه ، ودعوى أنّه عمل بموجب النصوص.

وهذا أقبح من قول الخوارج المكفّرين بالذنوب ، والمعتزلة وغيرهم ، وفساده معلوم بالاضطرار ، وأدلّته في غير هذا الموضع ، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حقّ.

لكنّ الشخص المعيّن الذي فعله لا يُشهَد عليه بلا وعيد ، فلا يُشهَد على معيّنٍ من أهل القبلة بالنار ، لفوات شرطٍ ، أو لحصول مانعٍ.

وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها ، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحقّ ، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكّن من معرفتها وفهمهما ، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.

فمن كان مؤمناً بالله وبرسوله ، مظهراً للإسلام ، محبّاً لله ورسوله ، فإنّ الله يغفر له ، ولو قارف بعض الذنوب القوليّة ، أو العمليّة ، سواء أُطلق عليه لفظ الشرك ، أو لفظ المعاصي.

٦٧

هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجماهير أئمّة الإسلام.

لكنّ المقصود أنّ مذاهب الأئمّة مبنيّةٌ على هذا التفصيل بالفرق بين النوع والعين.

بل ، لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمّة الإسلام كمالكٍ ، وأبي حنيفة ، والشافعيّ أنّهم لا يكفّرون المرجئة الذين يقولون : «الإيمان قول بلا عمل».

ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج ، والقَدَريّة وغيرهم.

وإنّما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهميّة ، لأنّه ابتلي بهم حتّى عرف حقيقة أمرهم ، وأنّه يدور على التعطيل.

وتكفير الجهميّة مشهور عن السلف والأئمة ، لكن ما كانوا يكفّرون أعيانهم.

فإنّ الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه ، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ، والذي يكفّر مخالفه أعظم من الذي يعاقب.

ومع هذا ، فالذين ـ من ولاة الأمور ـ يقولون بقول الجهميّة : إنّ القرآن مخلوقٌ ، وإنّ الله لا يُرى في الآخرة ، وإنّ ظاهر القرآن لا يحتجّ به في معرفة الله ، ولا الأحاديث الصحيحة ، وإنّ الدين لا يتمّ إلّا بما زخرفوه من الآراء ، والخيالات الباطلة ، والعقول الفاسدة ، وإنّ خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله ، وسُنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإجماع الصحابة والتابعين لهم باحسانٍ ، وإنّ أقوال الجهميّة والمعطِّلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله.

بسبب ذلك امتحنوا المسلمين ، وسجنوا الإمام أحمد ، وجلدوه ، وقتلوا جماعة ، وصلبوا آخرين.

ومع ذلك لا يطلقون أسيراً ، ولا يعطون من بيت المال إلّا مَن وافقهم ، ويقرّ بقولهم.

٦٨

وجرى على الإسلام منهم أمورٌ مبسوطة في غير هذا الموضع (١).

ومع هذا التعطيل الذي هو شرّ من الشرك ، فالإمام أحمد ترحّم عليهم ، واستغفر لهم ، وقال : ما علمتُ أنّهم مكذّبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا جاحدون لما جاء به ، لكنّهم تأوّلوا فأخطئوا ، وقلّدوا مَن قال ذلك.

والإمام الشافعيّ لمّا ناظر حفص الفرد ـ من أئمّة المعطِّلة ـ في مسألة القرآن ، وقال : القرآن مخلوق ، قال له الشافعيّ : كفرتَ بالله العظيم ، فكفّره ولم يحكم بردّته بمجرد ذلك ، ولو اعتقد ردّته وكفّره لسعى في قتله.

وأفتى العلماء بقتل دُعاتهم ، مثل غَيْلان القَدَريّ ، والجعد بن درهم ، وجهم بن صفوان ـ إمام الجهميّة ـ وغيرهم.

وصلّى الناس عليهم ، ودفنوهم مع المسلمين ، وصار قتلهم من باب قتل الصائل ، لكفّ ضررهم ، لا لردّتهم.

ولو كانوا كفّاراً لرآهم المسلمون كغيرهم.

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، انتهى كلام الشيخ رحمه‌الله.

وإنّما سُقته بطوله لبيان ما تقدّم مما أشرت إليه ، ولما فيه من إجماع الصحابة والسلف ، وغير ذلك ممّا فُصّل.

فإذا كان هذا كفر هؤلاء ـ وهو أعظم من الشرك ، كما تقدّم بيانه مراراً من كلام الشيخين ـ مع أنّ أهل العلم من الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم إلى زمن أحمد بن حنبل هم المناظرون والمبيّنون لهم ، وهو خلاف العقل والنقل ، مع البيان التامّ من أهل العلم!

__________________

(١) اقرأ بعضها في كتبه الداعية الوهّابيّ أبو الحسن الندوي الهنديّ (كتاب ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

٦٩

ومع هذا لم يكفّروهم ، حتّى دعاتهم الذين قتلوا ، لم يكفّرهم المسلمون.

أما في هذا عبرة لكم؟

[الفرقة الوهابيّة تخالف ذلك]

تكفّرون عوامّ المسلمين ، وتستبيحون دماءهم ، وأموالهم ، وتجعلون بلادهم بلاد حربٍ ، ولم يوجد منهم عُشْر مِعشار ما وجد من هؤلاء؟!

وإن وجد منهم شيءٌ من أنواع الشرك ـ سواء شرك أصغر أو أكبر ـ فهم جُهّال ، لم تقم عليهم الحجّة التي يكفّر تاركها!

أتظنّون أنّ أولئك السادة ـ أئمة أهل الإسلام ـ ما قامت الحجّة بكلامهم؟! وأنتم قامت الحجّة بكم!؟

بل ، واللهِ تكفّرون من لا يكفّر من كفّرتم ، وإن لم يوجد منه شيءٌ من الشرك والكفر.

الله أكبر ، (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (١).

يا عباد الله : اتّقوا الله!

خافوا ذا البطش الشديد ، لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢).

والله ما لعباد الله عند الله ذنبٌ ، إلّا أنّهم لم يتّبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة بإسلامه ، وأجمع المسلمون على إسلامه.

فإن اتّبعوكم أغضبوا الله تعالى ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن عَصَوا آراءكم حكمتم

__________________

(١) مريم : ٨٩.

(٢) الأحزاب : ٥٨.

٧٠

بكفرهم وردّتهم!!

وقد رُوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لستُ أخاف على أمتي جوعاً يقتلهم ، ولا عدوّاً يجتاحهم ، ولكن أخاف على أمّتي أئمةً مضلّين ، إن أطاعوهم فتنوهم ، وإن عَصَوهم قتلوهم ، رواه الطبرانيّ (١) من حديث أبي أمامة.

وكان أبو بكرٍ الصدّيق رضى الله عنه يقول : أطيعوني ما أطعتُ الله ، وإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم (٢).

ويقول : أنا أخطئ وأصيب ، وإذا ضربه أمر جمع الصحابة واستشارهم.

وعمرُ يقول مثل ما قال أبو بكرٍ ، ويفعل مثل ما يفعل ، وكذلك عثمان ، وعليّ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

[أئمة المذاهب لا يلزمون أحداً بمذهبهم]

وأئمّة أهل العلم لا يُلزمون أحداً أن يأخذ بقولهم ، بل لمّا عزم الرشيد بحمل الناس على الأخذ بمُوَطَّإ الإمام مالكٍ رضى الله عنه ، قال له مالك : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنّ العلم انتشر عند غيري ، أو كلاماً هذا معناه.

وكذلك جميع العلماء من أهل السُنّة ، لم يُلزم أحدٌ منهم الناسَ الأخذَ بقوله.

[الوهابية تخالف ذلك]

وأنتم تكفّرون من لا يقول بقولكم ، ويرى رأيكم!!

سألتكَ بالله ؛ أنتم معصومون ، فيجب الأخذ بقولكم؟

فإن قلت : لا ، فلِمَ توجبون على الأمّة الأخذ بقولكم؟

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني : ٨ / ١٤٩ ح ٧٦٥٣.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ٣٤ ، تاريخ الطبريّ : ٢ / ٤٥٠ حوادث سنة ١١ ه‍.

٧١

أم تزعمون أنّكم أئمّة تجب طاعتكم؟

فأنا أسألكم بالله ، أهل اجتمع في رجلٍ منكم شروط الإمامة التي ذكرها أهل العلم ، أو حتّى خصلة واحدة من شروط الإمامة؟

بالله عليكم انتهوا ، واتركوا التعصيب.

هبنا عذرنا العامّيّ الجاهل الذي لم يمارس شيئاً من كلام أهل العلم ، فأنت ما عذرك عند الله إذا لقيته؟

بالله عليك تنبّه ، واحذر عقوبة جبّار السماوات والأرض.

فقد نقلنا لك كلام أهل العلم ، وإجماع أهل السُنّة والجماعة ـ الفرقة الناجية ـ وسيأتيك إن شاء الله ما يصير سبباً لهداية من أراد الله هدايته.

فصل

[اتفاق أهل السنة! على عدم التكفير المطلق للمسلمين]

قال ابن القيّم في (شرح المنازل) (١) :

أهل السُنّة متّفقون على أنّ الشخص الواحد تكون فيه ولاية الله وعداوة من وجهين مختلفين ، ويكون محبوباً لله مبغوضاً من وجهين ، بل يكون فيه إيمانٌ ونفاقٌ ، وإيمانٌ وكفرٌ ، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر ، فيكون إلى أهله.

كما قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) (٢).

وقال : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٣).

__________________

(١) شرح منازل السائرين.

(٢) آل عمران : ١٦٧.

(٣) يوسف : ١٠٦.

٧٢

فأثبت لهم تبارك وتعالى الإيمان مع مقارنة الشرك.

فإن كان مع هذا الشرك تكذيبٌ لرُسُله ، لم ينفعهم ما معهم من الإيمان.

وإن كان تصديقٌ برُسُله ـ وهم يرتكبون الأنواع من الشرك ، لا يخرجهم عن الإيمان بالرُسُل ، واليوم الآخر ـ فهم مستحقّون للوعيد ، أعظم من استحقاق أهل الكبائر.

وبهذا الأصل أثبت أهل السُنّة دخول أهل الكبائر النار ، ثمّ خروجهم منها ، ودخولهم الجنّة ، لِما قام بهم من السببين.

قال : وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١).

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة إذا فعله فهو به كَفَر ، وليس كمن كفر بالله ، واليوم الآخر.

وكذلك قال طاوس وعطاء (٢) ، انتهى كلامه.

وقال الشيخ تقيّ الدين (٣) : كان الصحابة والسلف يقولون : إنّه يكون في العبد إيمانٌ ونفاقٌ.

وهذا يدلّ عليه قوله عزوجل : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ).

وهذا كثيرٌ في كلام السلف ، يبيّنون أنّ القلب يكون فيه إيمانٌ ونفاقٌ ، والكتاب والسنّة يدلّ على ذلك.

ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذَرّةٍ من إيمانٍ.

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) مدارج السالكين : ١ / ٣٤٥.

(٣)

(٤) إتحاف السادة المتّقين للزبيدي : ٨ / ٥٦٢.

٧٣

فعُلم أنّه من كان معه من الإيمان أقلّ قليلٍ لم يخلّد في النار ، وإن كان معه كثيرٌ من النفاق ، فهذا يعذّب في النار على قدر ما معه ، ثمّ يخرج.

إلى أنْ قال : وتمام هذا أنّ الإنسان قد يكون فيه شعبةٌ من شعب الإيمان ، وشعبةٌ من شعب الكفر ، وشعبةٌ من شعب النفاق.

وقد يكون مسلماً وفيه كفرٌ دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلّيّة ، كما قال الصحابة ـ ابن عبّاس وغيره ـ : كفرٌ دون كفرٍ ، وهذا عامّة قول السلف ، انتهى.

فتأمّل هذا الفصل ، وانظر حكايتهم الإجماع من السلف ، ولا تظنّ أنّ هذا في المخطئ ، فإنّ ذلك مرفوعٌ عنه اثمُ خطئه ـ كما تقدّم مراراً عديدةً ـ.

[الوهابية تخالف ذلك]

فأنتم الآن تكفّرون بأقلّ القليل من الكفر ، بل تكفّرون بما تظنّون ـ أنتم ـ أنّه كفر ، بل تكفّرون بصريح الإسلام ، فإنّ عندكم أنّ من توقّف عن تكفير من كفّرتموه خائفاً من الله تعالى في تكفير من رأى عليه علامات الإسلام ، فهو عندكم كافر.

نسأل الله العظيم أن يخرجكم من الظلمات إلى النور ، وأن يهدينا وإيّاكم الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيّين ، والصدّيقين ، والشهداء ، والصالحين.

فصل

[الإيمان الظاهر]

قال الشيخ تقيّ الدين في (كتاب الإيمان) (١) :

__________________

(١) كتاب الايمان ، المطبوع في مجموع فتاوى ابن تيمية ٧ / ٢١٠ ـ ٢١٣.

٧٤

الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن ، وإنّ المنافقين الذين قالوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (١) هم في الظاهر مؤمنون ، يصلّون مع المسلمين ، ويناكحونهم ، ويوارثونهم ـ كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم يحكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم بحكم الكفّار المظهرين الكفر ، لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ، ولا نحو ذلك.

بل ، لمّا مات عبد الله بن أُبيٍّ ـ وهو من أشهر الناس في النفاق ـ ورثه عبد الله ابنه ـ وهو من خيار المؤمنين ـ وكذلك سائر من يموت منهم ، يرثه ورثته المؤمنون ، واذا مات لهم وارثٌ ورثوه مع المسلمين ، وإن عُلم أنّه منافقٌ في الباطن.

وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين ، وكانوا يغزون مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومنهم مَن هَمَّ بقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تَبوك ، ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الايمان.

إلى أنْ قال : ودماؤهم وأموالهم معصومةٌ ، لا يُستحلّ منهم ما يُستحلّ من الكفّار ، والذين يظهرون أنّهم مؤمنون ، بل يظهرون الكفر دون الإيمان.

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله ، فإذا قالوها عصموا منّي دمائهم ، وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله.

ولمّا قال لأُسامة : اقتله ـ بعد أن قال : «لا إله إلّا الله» ـ قال : فقلت : إنّما قالها تعوّذاً.

قال : هل شققتَ عن قلبه؟

__________________

(١) البقرة : ٨.

٧٥

وقال : إنّي لم أُومر أن أنقّب عن قلوب الناس ، ولا أشقّ بطونهم.

وكان إذا استؤذن في رجلٍ يقول : أليس يصلّي؟ أليس يشهد؟ فإذا قيل له : إنّه منافق ، قال ذلك.

فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ، ولا يستحلّ منها شيئاً ، مع أنّه يعلم نفاق كثيرٍ منهم ، انتهى كلام الشيخ.

قال ابن القيّم في (إعلام الموقّعين) (١) :

قال الإمام الشافعيّ : فرض الله سبحانه طاعته على خلقه ، ولم يجعل لهم من الأمر شيئاً ، وأنْ لا يتعاطوا حكماً على عيب أحدٍ بدلالةٍ ولا ظنٍّ ، لقصور علمهم عن علم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عمّا ورد عليهم حتّى يأتيهم أمره ، فإنّه سبحانه ظاهَرَ عليهم الحُجج ، فما جعل عليهم الحكم في الدنيا إلّا بما ظهر [من] المحكوم عليه.

ففرض على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يقاتل أهل الأوثان حتّى يسلموا ، فيحقن دمائهم إذا أظهروا الإسلام.

واعلم أنّه لا يعلم صدقهم بالإسلام إلّا الله تبارك وتعالى ، ثمّ أطلع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومٍ يظهرون الإسلام ويسرّون غيره ، ولم يجعل له أنْ يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا.

فقال تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢) يعني أسلمنا بالقول مخافة القتل والسبا.

ثمّ أخبر أنّه يجزيهم إن أطاعوا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعني : إن أحدثوا

__________________

(١) أعلام الموقّعين عن ربّ العالمين.

(٢) الحجرات : ١٤.

٧٦

طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال في المنافقين وهم صنفٌ ثانٍ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) (١) يعني جُنّةً من القتل.

وقال : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) (٢) ... الآية ، فأمَر بقبول ما أظهروا ، ولم يجعل سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإيمان ، وقد أعلم الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم في الدرك الأسفل من النار.

فجعل حكمه سبحانه على سرائرهم ، وحكم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا على علانيّتهم.

إلى أن قال : وقد كذّبهم في قولهم في كل ذلك ، وبذلك أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله سبحانه بما أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عطاء ابن يزيد ، عن عبيد الله بن يزيد بن عديّ بن الخَيار ، أنّ رجلاً سارّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يُدْرَ ما سارّه؟ حتّى جهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا هو يسارّه في قتل رجلٍ من المنافقين.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أليس يشهد أن لا إله إلّا الله؟ قال : بلى ، ولا صلاة له.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولئك : الذين نهاني الله عن قتلهم.

ثمّ ذكر حديث : أُمرت أن أقاتل الناس ـ حتّى قال ـ : فحسابهم بصدقهم وكذبهم وسرائرهم على الله العالم بسرائرهم ، المتولّي الحكم عليهم ، دون أنبيائه وحُكّام خلقه.

وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بين العباد من الحدود ، وجميع

__________________

(١) المنافقون : ١ ـ ٢.

(٢) التوبة : ٥٦.

٧٧

الحقوق ، أعلمَهم أنّ جميع أحكامه على ما يُظهرون ، والله يدين بالسرائر.

فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم ـ استدلالاً على ما أظهروا خلافَ ما أبطنوا بدلالةٍ منهم ، أو غير دلالةٍ ـ لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنّة.

إلى أن قال : ومَن أظهر كلمة الإسلام ، بأن شهد «أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قُبل ذلك منه ، ولم يُسأل عن كشف حاله ، أو عن باطنه ، وعن معنى ما لفَظَ به ، وباطنه وسريرته إلى الله ، لا إلى غيره من نبيٍّ أو غيره.

فهذا حكم الله ودينه الذي أجمع عليه علماء الأمّة ، انتهى كلام الشافعيّ رحمه‌الله.

قال ابن القيّم ـ بعد ما حكى كلام الشافعيّ ـ : وهذه الأحكام جاريةٌ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ هي التي مشى عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسانٍ ، والأئمة ، وسائر المتّبعين له من علماء أمّته إلى يوم القيامة ، انتهى.

فصل

[شروط المجتهد الذي يجوز تقليده في علوم الدين]

قد تقدّم لك من كلام أهل العلم وإجماعهم أنّه لا يجوز أن يقلَّد ويؤتمَّ به في الدين إلّا من جَمَع شروط الاجتهاد إجماعاً.

وتقدّم أن من لم يجمع شروط الاجتهاد أنّه يجب عليه التقليد ، وأنّ هذا لا خلاف فيه :

وتقدّم أيضاً إجماع أهل السُنّة : أنّ من كان مقرّاً بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملتزماً له ، أنّه ـ وإن كان فيه خصلةٌ من الكفر الأكبر ، أو الشرك ـ أن لا يكفّر حتّى تقام عليه الحجّة التي يكفّر تاركها ، وأنّ الحجّة لا تقوم إلّا بالإجماع القطعيّ لا الظنّيّ ، وأنّ الذي يقيم الحجّة الإمام ، أو نائبه ، وأنّ الكفر لا يكون إلّا بإنكار

٧٨

الضروريّات من دين الإسلام ، كالوجود ، والوحدانيّة ، والرسالة ، أو بإنكار الأمور الظاهرة ، كوجوب الصلاة.

وأنّ المسلم المقرّ بالرسول إذا استند إلى نوعِ شبهةٍ تخفى على مثله لا يكفّر.

وأنّ مذهب أهل السُنّة والجماعة التحاشي عن تكفير مَن انتسب إلى الإسلام ، حتّى أنّهم يقفون عن تكفير أئمّة أهل البدع ، مع الأمر بقتلهم دفعاً لضررهم لا لكفرهم.

وأنّ الشخص الواحد يجتمع فيه الكفر والإيمان ، والنفاق والشرك ، ولا يكفر كلّ الكفر.

وأنّ مَن أقرّ بالإسلام قُبل منه ، سواءٌ كان صادقاً أو كاذباً ـ ولو ظهرت منه بعض علامات النفاق ـ.

وأنّ المكفِّرين هم أهل الأهواء والبدع ، وأنّ الجهل عذرٌ عن الكفر ، وكذلك الشبهة ـ ولو كانت ضعيفةً ـ.

وغير ذلك مما تقدّم.

فإن وفّقت ففي هذا كفاية للزجر عن بدعتكم هذه التي فارقتم بها جماعة المسلمين وأئمّتهم ، ونحن لم نستنبط ، ولكن حكينا كلام العلماء ونقلهم عن أهل الاجتهاد الكامل.

[أدلّة الدعاة على مسلكهم باطلة]

فلنرجع إلى ذكر وجوهٍ تدلّ على عدم صحّة ما ذهبتم إليه من تكفير المسلم ، وإخراجه من الإسلام إذا دعا غير الله ، أو نذر لغير الله ، أو ذبح لغير الله ، أو تبرك بقبرٍ ، أو تمسّح به ، إلى غير ذلك ممّا تكفّرون به المسلم ، بل تكفّرون من لا يكفّر مَن فعل ذلك ، حتّى جعلتم بلاد الإسلام كفراً وحرباً.

٧٩

[ليسوا أهلاً للاستنباط]

فنقول : عُمدتكم في ذلك ما استنبطتم من القرآن!

فقد تقدّم الإجماع على أنّه لا يجوز لمثلكم الاستنباط ، ولا يحلّ لكم أن تعتمدوا على ما فهمتم من غير الاقتداء بأهل العلم.

ولا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يقلّدكم فيما فهمتم من غير اقتداء بأئمّة الإسلام.

فإنْ قلتم : مقتدون ببعض أهل العلم في أنّ هذه الأفعال شرك.

قلنا : نعم ، ونحن نوافقكم على أنّ مِن هذه الأفعال ما يكون شركاً.

ولكن ، من أين أخذتم من كلام أهل العلم : أنّ هذا هو الشرك الاكبر ، الذي ذكر الله سبحانه في القرآن؟ والذي يحلّ مال صاحبه ودمه؟ وتجري عليه أحكام المرتدين؟

وأنّ من شكّ في كفره فهو كافر؟ بيّنوا لنا : مَنْ قال ذلك من أئمّة المسلمين؟

وانقلوا لنا كلامهم ، واذكروا مواضعه ، هل أجمعوا عليه أم اختلفوا فيه؟

فنحن طالعنا بعض كلام أهل العلم ، ولم نجد كلامكم هذا.

بل ، وجدنا ما يدلّ على خلافه ، وأنّ الكفر بإنكار الضروريّات كالوجود ، والوحدانيّة ، والرسالة ، وما أشبه ذلك ، أو بإنكار الأحكام المجمع عليها إجماعاً ظاهراً قطعيّاً ، كوجوب أركان الإسلام الخمسة وما أشبهها.

مع أنّ من أنكر ذلك جاهلاً لم يكفر ، حتّى يُعرّف تعريفاً تزول معه الجهالة ، وحينئذٍ يكون مكذّباً بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذه الأمور التي تكفّرون بها ليست ضروريّات.

وإن قلتم : مجمعٌ عليها إجماعاً ظاهراً يعرفه الخاصّ والعامّ!

قلنا لكم : بيّنوا لنا كلام العلماء في ذلك ، وإلّا ، فبيّنوا كلام ألفٍ منهم ، وحتّى

٨٠