فصل الخطاب

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي

فصل الخطاب

المؤلف:

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٦

طاعتك ، فمن قال عنك برأسه فقل بالسيف على رأسه : هكذا.

يعني اقطعه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فصل

[كفر الفرق الإسلامية لا يخرج عن الملّة]

وهاهنا أصلٌ آخر ، وهو أنّ المسلم قد تجتمع فيه المادّتان : الكفر والإسلام ، والكفر والنفاق ، والشرك والإيمان ، وأنّه تجتمع فيه المادّتان ولا يكفر كفراً ينقل عن الملّة ـ كما هو مذهب أهل السُنّة والجماعة ، كما يأتي تفصيله وبيانه إن شاء الله ـ ولم يخالف في ذلك إلّا أهل البدع.

فصل

[الخوارج وسيرتهم ومذهبهم]

اعلم أنّ أوّل فرقةٍ فارقت الجماعة الخوارجُ الذين خرجوا في زمن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ، وقد ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بقتلهم وقتالهم ، وقال : يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، اينما لقيتموهم فاقتلوهم (١).

وقال فيهم : إنّهم كلابُ أهل النار (٢).

وقال : إنّهم يقتلون أهل الإسلام (٣).

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٩ ـ ٦٢ ح ١٦٧ ـ ١٧٦ في المقدمة / باب ذكر الخوارج.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٦١ ح ١٧٣ وص ٦٢ ح ١٧٦ المقدمة.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ١٢١٩ ح ٣١٦٦ كتاب الأنبياء.

٤١

وقال : شرّ قتلى تحت أديم السماء (١).

وقال : يقرءون القرآن ، يحسبونه لهم ، وهو عليهم.

إلى غير ذلك ممّا صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

وهؤلاء خرجوا في زمن عليّ بن أبي طالبٍ رضى الله عنه ، وكفّروا عليّاً وعثمان ومعاوية ، ومن معهم.

واستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم.

وجعلوا بلاد المسلمين بلاد حرب ، وبلادهم هي بلاد الإيمان.

ويزعمون أنّهم أهل القرآن ، ولا يقبلون من السُنّة إلّا ما وافق مذهبهم.

ومن خالفهم وخرج عن ديارهم فهو كافر.

ويزعمون أنّ عليّاً والصحابة رضي الله عنهم أشركوا بالله ، ولم يعملوا بما في القرآن.

بل هم ـ على زعمهم ـ الذين عملوا به.

ويستدلّون لمذهبهم بمتشابه القرآن.

وينزّلون الآيات التي نزلت في المشركين المكذّبين في أهل الإسلام.

هذا ، وأكابر الصحابة عندهم ، ويدعونهم إلى الحقّ وإلى المناظرة.

وناظرهم ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ، ورجع منهم إلى الحقّ أربعة آلاف (٢).

ومع هذه الأمور الهائلة ، والكفر الصريح الواضح ، وخروجهم عن المسلمين ، قال لهم عليّ رضى الله عنه : لا نبدؤكم بقتالٍ ، ولا نمنعكم عن مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا (٣).

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٢ ح ١٧٥.

(٢) مجمع الزوائد : ٦ / ٢٣٦.

(٣) تاريخ الطبري : ٤ / ٥٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍.

٤٢

ثمّ إنّ الخوارج اعتزلوا ، وبدءوا المسلمين ـ الإمام ومن معه ـ بالقتال ، فسار إليهم عليّ رضى الله عنه.

وجرى على المسلمين منهم أمور هائلة يطول وصفها.

ومع هذا كلّه لم يكفّرهم الصحابة ، ولا التابعون ، ولا أئمّة الإسلام ، ولا قال لهم عليّ ولا غيره من الصحابة : قامت عليكم الحجّة ، وبيّنّا لكم الحقّ.

قال الشيخ تقيّ الدين : لم يكفّرهم عليّ ولا أحدٌ من الصحابة ، ولا أحدٌ من أئمّة الإسلام ، انتهى (١).

فانظر ـ رحمك الله ـ إلى طريقة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإحجام عن تكفير من يدّعي الإسلام.

هذا ، وهم الصحابة رضي الله عنهم الذين يروون الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

قال الإمام أحمد : صحّت الاحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عشرة أوجه.

قال أهل العلم : كلّها خرّجها مسلم في (صحيحه).

فانظر إلى هدي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة المسلمين ، لعلّ الله يهديك إلى اتّباع سبيل المؤمنين ، وينبّهك من هذه البليّة التي تزعمون الآن أنّها السُنّة ، وهي ـ والله ـ طريقة القوم ، لا طريقة عليّ ومن معه ، رزقنا الله اتّباع آثارهم.

فإن قلت : عليٌّ نفسه قتل الغالية ، بل حرّقهم بالنار ـ وهم مجتهدون ـ.

والصحابة قاتلوا أهل الردّة.

قلت : هذا كلّه حقٌّ ، فأمّا الغالية : فهم مشركون زنادقة ، أظهروا الإسلام تلبيساً ، حتّى أظهروا الكفر ظهوراً جليّاً لا لبس فيه على أحدٍ.

__________________

(١) لاحظ مجموع فتاوى ابن تيمية : ٧ / ٦١٨.

٤٣

وذلك أنّ عليّاً رضى الله عنه لمّا خرج عليهم من باب كِندة سجدوا له.

فقال لهم : ما هذا؟

قالوا له : أنت الله.

فقال لهم : أنا عبدٌ من عباد الله.

قالوا : بل أنت هو الله.

فاستتابهم وعرضهم على السيف ، وأبَوا أن يتوبوا ، فأمر بخدّ الأخاديد في الأرض ، وأضرم فيها النار ، وعرضهم عليها ، وقال لهم : إنْ لم تتوبوا قذفتكم فيها ، فأبَوا أن يتوبوا ، بل يقولون له : أنت الله.

فقذفهم بالنار ، فلمّا أحسّوا بالنار تحرقهم قالوا : الآن تحقّقنا أنّك أنت الله ، لأنّه ما يعذّب بالنار إلّا الله.

فهذه قصّة الزنادقة الذين حرّقهم عليّ رضى الله عنه ، ذكرها العلماء في كتبهم.

فإن رأيتم مَن يقول لمخلوقٍ : هذا هو الله ، فحرّقوه ، وإلّا فاتّقوا الله ، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ، وتقيسوا الكافرين على المسلمين بآرائكم الفاسدة ، ومفاهيمكم الواهية.

[فصل أهل الردّة]

وأمّا قتال الصدّيق والصحابة رضي الله عنهم أهل الردّة :

فاعلم أنّه لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يبق على الإسلام إلّا أهل المدينة ، وأهل مكّة ، والطائف ، وجُواثا ـ قرية من قرى البحرين ـ.

وأخبار الردّة طويلة تحتمل مجلّداً ، ولكن نذكر بعضاً من ذلك من كلام أهل

٤٤

العلم ، ليتبيّن لكم ما أنتم عليه ، وأنّ استدلالكم بقصّة أهل الردّة كاستدلالكم الأوّل.

قال الإمام أبو سليمان الخطّابي رحمه‌الله : ممّا يجب أن يُعلم أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً :

صنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، ونبذوا الملّة ، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا عليه من عبادة الأوثان.

وصنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، وتابعوا مُسَيْلَمَة ـ وهم بنو حنيفة وقبائل غيرهم ـ صدّقوا مسيلمة ، ووافقوه على دعواه النبوّة.

وصنف ارتدّوا ووافقوا الأسود العنسيّ وما ادّعاه من النبوّة باليمن.

وصنفٌ صدّقوا طُليحة الأسديّ وما ادّعاه من النبوّة ، وهم غطفان وفَزَارة ومَن والاهم.

وصنفٌ صدّقوا سَجاح.

فهؤلاء مرتدّون ، منكرون لنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تاركون للزكاة ، والصلاة ، وسائر شرائع الإسلام ، ولم يبق مَن يسجد لله في بسيط الأرض ، إلّا مسجد المدينة ، ومكّة ، وجواثا ـ قرية في البحرين ـ.

وصنفٌ آخر ، وهم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام.

وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي ، وإنّما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غِمار أهل الردّة ، فأضيف الاسم إلى الردّة ، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمّهما.

وأرّخ قتال أهل البغي من زمن عليّ بن أبي طالبٍ رضى الله عنه ، إذ كانوا منفردين في زمانه ، لم يختلطوا بأهل الشرك.

وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ، ووقعت الشبهة لعمر رضى الله عنه حين راجع أبا بكرٍ

٤٥

وناظره ، واحتجّ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، فمن قال لا إله إلّا الله عصم ماله ونفسَه ـ.

إلى أن قال رحمه‌الله ـ : وقد بيّنّا أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً.

منهم من ارتدّ عن الملّة ، ودعا إلى نبوّة مسيلمة وغيره.

ومنهم من أنكر الشرائع كلّها.

وهؤلاء الذين سمّاهم الصحابة رضي الله عنهم كفّاراً ، وكذلك رأى أبو بكرٍ سبي ذراريهم ، وساعده على ذلك أكثر الصحابة.

ثمّ لم ينقض عصر الصحابة حتّى أجمعوا أنّ المرتدّ لا يُسبى.

فأمّا مانع الزكاة منهم ، المقيمون على أصل الدين :

فإنّهم أهل بغي ، ولم يسمّوا أهل شركٍ ، أو فهُم كفّار ـ وإن كانت الردّة أضيفت إليهم ـ لمشاركتهم للمرتدّين في بعض ما منعوه من حقّ الدِّين.

وذلك أنّ الردّة اسم لغويّ ، وكلّ من انصرف عن أمرٍ كان مقبلاً عليه فقد ارتدّ عنه.

وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ، ومنع الحقّ ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح ، وعلق عليهم الاسم القبيح ، لمشاركتهم القوم الذين كانوا ارتدوا حقاً.

ـ إلى أن قال ـ :

فإن قيل : وهل ، إذا أنكر طائفة في زماننا فرض الزكاة ، وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟

قلنا : لا ، فإنّ من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٨٠ ح ٣٢ كتاب الإيمان.

٤٦

المسلمين على وجوب الزكاة ، فقد عرفها الخاصّ والعامّ ، واشترك فيها العالم والجاهل ، فلا يُعذر منكره.

وكذلك الأمر في كلّ من أنكر شيئاً ممّا اجتمعت عليه الأمّة من أمور الدين ـ إذا كان عِلْمه منتشراً ـ كالصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، والاغتسال من الجنابة ، وتحريم الربا والخمر ونكاح المحارم ، ونحوها من الأحكام ، إلّا أنْ يكون رجلاً حديث عهدٍ بالإسلام ، ولا يعرف حدوده ، فإنّه إنْ أنكر شيئاً منها جاهلاً به لم يكفر ، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء الاسم عليه.

فأمّا ما كان الإجماع معلوماً فيه من طريق علم الخاصّة ، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها وخالتها ، وأنّ القاتل عمداً لا يرث ، وأنّ للجدّ السدس ، وما أشبه ذلك من الأحكام ، فإنّ من أنكرها لا يكفر ، بل يُعذر فيها ، لعدم استفاضة علمها في العامّة ، انتهى كلام الخطّابي.

وقال صاحب (المفهم) : قال أبو إسحاق : لمّا قُبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدّت العرب ، إلّا أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة : ومسجد مكّة : ومسجد جواثا ، انتهى.

فهذا شيءٌ ممّا ذكره بعض أهل العلم في أخبار الردّة ، وتفاصيلها يطول.

ولكن قد تقدّم أنّ مِثْلَكم أو من هو أجلّ منكم لا يجوز له الاستنباط ، ولا القياس ، ولا يجوز لأحدٍ أن يقلّده ، بل يجب على من لم يبلغ رتبة المجتهدين أن يقلّدهم ، وذلك بالإجماع.

ولكن ليكن عندكم معلوماً أنّ من خرج عن طاعة أبي بكرٍ الصدّيق في زمانه فقد خرج عن الإجماع القطعيّ ، لأنّه ومن معه هم أهل العلم ، وأهل الإسلام ، وهم المهاجرون والانصار الذين اثنى الله عليهم في كتابه ، وإمامة أبي بكر إمامة حقّ ، جميع شروط الإمامة مجتمعة فيه!؟

٤٧

فإن كان اليوم فيكم مثل أبي بكرٍ والمهاجرين والانصار ، والأمّة مجتمعة على إمامة واحدٍ منكم ، فقيسوا أنفسكم بهم.

وإلّا ، فبالله عليكم! استحيوا من الله ، ومن خلقه ، واعرفوا قدر أنفسكم ، فرحم الله من عرف قدر نفسه ، وأنزلها منزلتها ، وكفّ شرّه عن المسلمين ، واتّبع سبيل المؤمنين.

قال الله تعالى (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١).

فصل

لما تقدم الكلام على الخوارج ـ وذكْر مذهب الصحابة وأهل السُنّة فيهم ، وأنّهم لم يكفّروهم كفراً يخرج من الإسلام ، مع ما فيهم ـ بأنّهم كلاب أهل النار ، وأنّهم يمرقون من الإسلام ، ومع هذا كلّه لم يكفّرهم الصحابة ، لأنّهم منتسبون إلى الإسلام الظاهر ـ وإن كانوا مخلّين بكثيرٍ منه لنوع تأويلٍ ـ.

وأنتم اليوم تكفّرون من ليس فيه خصلةٌ واحدةٌ ممّا في أولئك.

بل الذين تكفّرونهم اليوم وتستحلّون دماءهم وأموالهم عقائدهم عقائد أهل السُنّة والجماعة ـ الفرقة الناجية ، جعلنا الله منهم ـ.

[القدرية ومذاهبهم]

ثمّ خرجت بدعة القَدَريّة ، وذلك في آخر زمن الصحابة ، وذلك أنّ القَدَرية فرقتان :

__________________

(١) النساء : ١١٥.

٤٨

فرقة أنكرت القَدَر رأساً ، وقالوا : إنّ الله لم يقدّر المعاصي على أهلها ، ولا هو يقدّر ذلك ، ولا يهدي الضالّ ، ولا هو يقدر على ذلك.

والمسلم عندهم هو الذي جعل نفسه مسلماً ، وهو الذي جعل نفسه مصلّياً ، وكذلك سائر الطاعات والمعاصي ، بل العبد هو الذي خلقها بنفسه ، وجعلوا العبد خالقاً مع الله ، والله سبحانه ـ عندهم ـ لا يقدر أن يهدي أحداً ، ولا يقدر [أن] يضلّ أحداً.

إلى غير ذلك من أقوالهم الكفريّة ، تعالى الله عمّا يقول أشباه المجوس علوّاً كبيراً.

الفرقة الثانية من القَدَريّة : مَن قابَل هؤلاء ، وزعم أنّ الله جبر الخلق على ما عملوا ، وأنّ الكفر والمعاصي في الخلق كالبياض والسواد في خَلْق الآدميّ ، ما للمخلوق في ذلك صُنْعٌ ، بل جميع المعاصي عندهم تضاف لله ، وإمامهم في ذلك إبليس حيث قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) (١) وكذلك المشركون الذين قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٢).

إلى غير ذلك من قبائحهم وكفريّاتهم التي ذكرها عنهم أهل العلم في كتبهم ، كالشيخ تقيّ الدين وابن القيّم.

ومع هذا الكفر العظيم والضلالة ، خرج أوائل هؤلاء في زمن الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر ، وابن عبّاس ، وأجلّاء التابعين ، وقاموا في وجوه هؤلاء ، وبيّنوا ضلالهم من الكتاب والسنّة ، وتبرّأ منهم مَن عندهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وكذلك التابعون ، وصاحوا بهم من كلّ فجٍّ.

ومع هذا الكفر العظيم الهائل لم يكفّرهم الصحابة ، ولا مَن بعدهم من أئمّة أهل

__________________

(١) الأعراف : ١٦.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

٤٩

الإسلام ، ولا أوجبوا قتلهم ، ولا أجرَوا عليهم أحكام أهل الردّة ، ولا قالوا : قد كفرتم حيث خالفتمونا ، لأنّا لا نتكلّم إلّا بالحقّ ، وقد قامت عليكم الحجّة ببياننا لكم :

كما قلتم أنتم هذا؟!

ومِن الرادّ عليهم ، والمبيّن ضلالَهم ، الصحابةُ والتابعونَ الذين لا يقولون إلّا حقّاً.

بل كبير هؤلاء من أئمّة دُعاتهم قتلوه الأُمراء.

وذكر أهل العلم أنّه قُتل حدّاً ، كدفع الصائل خوفاً من ضرره ، وبعد قتله غُسّل وصُلّي عليه ، ودُفن في مقابر المسلمين ـ كما يأتي أن شاء الله ذِكره في كلام الشيخ تقيّ الدين ـ.

فصل

[المعتزلة وآراؤهم]

الفرقة الثالثة من أهل البدع : المعتزلة الذين خرجوا في زمن التابعين ، وأَتَوا من الأقوال والأفعال الكفريّات ما هو مشهور.

منها : القول بخلق القرآن.

ومنها : القول بخلود أهل المعاصي في النار ، إلى غير ذلك من قبائحهم وفضائحهم التي نقلها أهل العلم عنهم.

ومع هذا فقد خرجوا في زمن التابعين ، ودَعوا إلى مذهبهم ، وقام في وجوههم العلماء من التابعين ومن بعدهم ، وردّوا عليهم ، وبيّنوا باطلهم من الكتاب ، والسنّة ، وإجماع علماء الأمّة ، وناظروهم أتمّ المناظرة.

٥٠

ومع هذا أصرّوا على باطلهم ودَعَوا إليه ، وفارقوا الجماعة.

فبدّعهم العلماء ، وصاحوا بهم ، ولكن ما كفّروهم ، ولا أجرَوا عليهم أحكام أهل الردّة ، بل أجرَوا عليهم ـ هم وأهل البدع قبلهم ـ أحكام الإسلام من التوارث ، والتناكح ، والصلاة عليهم ، ودفْنهم في مقابر المسلمين.

ولم يقولوا لهم أهل العلم من أهل السُنّة : قامت عليكم الحجّة ، حيث بيّنّا لكم ، لأنّا لا نقول إلّا حقّاً ، فحيث خالفتمونا كفرتم ، وحلّ مالكم ودمائكم ، وصارت بلادكم بلاد حرب.

كما هو الآن مذهبكم.

أفلا يكون لكم في هؤلاء الأئمّة عبرة؟ فترتدعون عن الباطل؟! وتفيئون إلى الحقّ!

فصل

[المرجئة وأقوالهم]

ثمّ خرج بعد هؤلاء ، المرجئة الذين يقولون : الإيمان قولٌ بلا عملٍ.

فمن أقرّ عندهم بالشهادتين فهو مؤمنٌ كامل الإيمان ، وإن لم يصلّ لله ركعةً طول عمره ، ولا صام يوماً من رمضان ، ولا أدّى زكاة ماله ، ولا عمل شيئاً من أعمال الخير ، بل من أقرّ بالشهادتين فهو عندهم مؤمن ، كامل الإيمان ، إيمانه كإيمان جبريل ، وميكائيل ، والأنبياء.

إلى غير ذلك من أقوالهم القبيحة التي ابتدعوها في الإسلام.

ومع أنّه صاح بهم أئمّة أهل الإسلام ، وبدّعوهم ، وضلّلوهم ، وبيّنوا لهم الحقّ من الكتاب والسنّة وإجماع أهل العلم من أهل السُنّة من الصحابة فمن بعدهم.

٥١

وأبَوا إلّا التمادي على ضلالهم ، ومعاندتهم لأهل السُنّة متمسّكين ـ هم ومن قبلهم من أهل البدع ـ بمتشابهٍ من الكتاب والسنّة.

ومع هذه الأمور الهائلة فيهم لم يكفّروهم أهل السُنّة ، ولا سلكوا مسلككم فيمن خالفكم ، ولا شهدوا عليهم بالكفر ، ولا جعلوا بلادهم بلاد حربٍ ، بل جعلوا الأخوّة الإيمانيّة ثابتة لهم ولمن قبلهم من أهل البدع.

ولا قالوا لهم : كفرتم بالله ورسوله ، لأنّا بيّنّا لكم الحقّ ، فيجب عليكم اتّباعنا ، لأنّا بمنزلة الرسول ، مَن خَطَّأَنا فهو عدو الله ورسوله.

كما هو قولكم اليوم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فصل

[الجهميّة ودعاواهم]

ثمّ حدث بعد هؤلاء ، الجهميّة الفرعونيّة الذين يقولون : ليس على العرش إلهٌ يُعبد ، ولا لله في الأرض من كلامٍ ، ولا عُرج بمحمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربّه ، وينكرون صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه في كتابه ، وأثبتها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأجمع على القول بها الصحابة فمن بعدهم ، وينكرون رؤية الله سبحانه في الآخرة ، ومن وصف الله سبحانه بما وصف به نفسه ، ووصف به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو عندهم كافر ، إلى غير ذلك من أقوالهم وأفعالهم التي هي غاية الكفر ، حتّى أنّ أهل العلم سمّوهم الفرعونيّة ، تشبيهاً لهم بفرعون ، حيث أنكر الله سبحانه.

ومع ذا ، فردّ عليهم الأئمّة ، وبيّنوا بدعتهم ، وضلالهم ، وبدّعوهم ، وفسّقوهم ، وجعلوهم أكفر ممّن قبلهم من أهل البدع ، وأقلّ تشبّثاً بالشرعيّات ، وقالوا عنهم : إنهم قدّموا عقولهم على الشرعيّات ، وأمر أهل العلم بقتل بعض دعاتهم ، كالجعد

٥٢

ابن درهم ، وجَهْم بن صفوان.

وبعد أن قُتلوا غسّلوهم ، وصلّوا عليهم ، ودفنوهم مع المسلمين ـ كما ذكر ذلك الشيخ تقيّ الدين ـ ولم يجروا عليهم أحكام أهل الردّة ـ.

كما أجريتم أحكام أهل الردّة على من لم يقل أو يفعل عُشْر معشار ما قالوا هؤلاء ، أو فعلوا.

بل ، والله كفّرتم من قال الحقّ الصِّرف ، حيث خالف أهواءكم.

وإنّما لم أذكر فرقة الرافضة ، لأنهم معروفون عند الخاصّ والعامّ ، وقبائحهم مشهورة.

ومن هؤلاء الفرق الذين ذكرنا تشعّبت الثنتان والسبعون فرقة ـ أهل الضلالة ـ المذكورون في السُنّة في قوله عليه الصلاة والسلام : تفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة (١).

وما سوى الثنتين والسبعين ـ وهي الثالثة والسبعون ـ هم الفرقة الناجية ، أهل السُنّة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى آخر الدهر ، وهي التي لا تزال قائمة على الحقّ ، رزقنا الله اتّباعهم ـ بحوله وقوّته ـ.

وكلُّ ما ذكرت من أخبار هذه الفرق ، فإنّما أخذته من كتب أهل العلم ، وأكثر ما أنقل عن ابن تيميّة ، وابن القيّم.

فصل

[مذهب السلف عدم تكفير الفرق]

وها أنا أذكر لك شيئاً ممّا ذكر أهل العلم من أنّ مذهب السلف عدم القول

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢١ ح ٣٩٩١ كتاب الفتن.

٥٣

بتكفير هؤلاء الفِرَق الذين تقدّم ذكرهم.

قال الشيخ تقيّ الدين في (كتاب الإيمان) : لم يكفّر الإمام أحمد الخوارج ، ولا المرجئة ، ولا القَدَريّة ، وإنّما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهميّة.

مع أنّ أحمد لم يكفّر أعيان الجهميّة ولا من قال : «أنا جهميّ» كفّره ، بل ، صلّى خلف الجهميّة الذين دَعَوا إلى قولهم ، وامتحنوا الناس ، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة ، ولم يكفّرهم أحمد وأمثاله.

بل ، كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ، ويدعو لهم ، ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم ، والحجّ والغزو معهم ، والمنع من الخروج عليهم ، بما يراه لأمثالهم من الأئمّة.

وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفرٌ عظيم ـ وإن لم يعلموا هم أنّه كفر ـ كان ينكره ، ويجاهدهم على ردّه ـ بحسب الإمكان ـ.

فيجمع بين طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إظهار السُنّة والدين ، وإنكار بدع الجهميّة والملحدين ، وبين رعاية حقوق المؤمنين ، من الأئمّة والأمّة ـ وإن كانوا جُهّالا مبتدعين ، وظلمةً فاسقين ـ انتهى كلام الشيخ.

فتأمّله تأمّلاً خالياً عن الميل والحيف.

وقال الشيخ تقيّ الدين أيضاً : مَن كان في قلبه الإيمان بالرسول ، وبما جاء به ، وقد غلط في بعض ما تأوّله من البدع ـ ولو دعا إليها ـ فهذا ليس بكافرٍ أصلاً.

والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعةً ، وقتالاً للأمّة ، وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يكفّرهم لا عليٌّ ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين ـ كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع ـ.

وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة ؛ مَن كان منهم منافقاً ، فهو كافر في الباطن ، ومن كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن ـ وإن كان أخطأ في التأويل ـ كائناً مَن كان خطؤه.

٥٤

وقد يكون في بعضهم شعبةٌ من النفاق ، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار.

ومن قال إنّ الثنتين والسبعين فرقة كل واحدٍ منهم يكفر كفراً ينقل عن الملّة فقد خالف الكتاب ، والسنّة ، وإجماع الصحابة ، بل إجماع الأئمّة الأربعة ، وغير الأربعة.

فليس فيهم من كفّر كلَّ واحدٍ من الثنتين والسبعين فرقة ، انتهى كلامه.

فتأمّله وتأمّل حكاية الإجماع من الصحابة وغيرهم من أهل السُنّة ، مع ما تقدّم لك ممّا في مذاهبهم من الكفر العظيم ، لعلّك تنتبه من هذه الهُوّة التي وقعتَ فيها أنت وأصحابك.

وقال ابن القيّم في طُرُق أهل البدع الموافقين على أصل الإسلام ، ولكنّهم مختلفون في بعض الأصول ، كالخوارج ، والمعتزلة ، والقَدَريّة ، والرافضة ، والجهميّة ، وغُلاة المرجئة ، فهؤلاء أقسام :

أحدها : الجاهل المقلِّد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفّر ، ولا يفسَّق ، ولا تردّ شهادته ، إذا لم يكن قادراً على تعلّم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.

القسم الثاني : متمكّن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحقّ ، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ، ورئاسته ، ولذّاته ، ومعاشه ، فهذا مفرِّط مستحقّ للوعيد ، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته.

فهذا إن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُنّة والهدى رُدّت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السُنّة والهُدى على ما فيه من البدعة والهوى قُبلت شهادته.

٥٥

الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبيّن له الهدى ، ويترك تعصّباً أو معاداةً لأصحابه ، فهذا أقلّ درجاته أن يكون فاسقاً ، وتكفيره محلّ اجتهاد (١) ، انتهى كلامه.

فانظره وتأمّله ، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه ، وذكر أن الأئمّة وأهل السُنّة لا يكفّرونهم.

هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر ، والكفر الأكبر ، وبيّن في غالب كتبه مخازيهم ، ولنذكر من كلامه طرفاً ، تصديقاً لما ذكرناه عنه.

وقال رحمه‌الله تعالى في (المدارج) (٢) : المثبتون للصانع نوعان :

أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيّته وإلهيّته ، كالمجوس ومن ضاهاهم من القَدَريّة ، فإنّهم يثبتون مع الله إلهاً آخر.

والقَدَريّة المجوسيّة تثبت مع الله خالقين للأفعال ، ليست أفعالهم مخلوقةً لله ، ولا مقدورةً له ، وهي صادرةٌ بغير مشيئته تعالى وقدرته ، ولا قدرة له عليها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين ، مريدين ، شيّائين.

وحقيقة قول هؤلاء : أنّ الله ليس ربّاً خالقاً لأفعال الحيوان ، انتهى كلامه.

وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه ، وشبّههم بالمجوس الذين يقولون : إنّ للعالَم خالقَيْن.

وانظر لمّا تكلّم على التكفير هو وشيخه ، كيف حَكَوا عدم تكفيرهم عن جميع

__________________

(١) يلاحظ على هذا أنّ الحكم بالكفر ، المستوجب لأحكام مثل الارتداد الذي حدّه القتل والفراق من المسلمين ، والخروج من الأموال ، لا يمكن أن يبنى على أمرٍ ظنّي مثل الاجتهاد ، لما في الدماء والاعراض والأموال من الحرمة عند الله ، ممّا لا يمكن الخروج من عهدته إلّا بدليل قطعي. والله الموفق. انظر ما يأتي ص ٥٩ وبعدها.

(٢) مدارج السالكين : ١ / ٨٥.

٥٦

أهل السُنّة ، حتّى مع معرفة الحقّ والمعاندة ، قال : كُفْرُه محلّ اجتهاد! ـ كما تقدم كلامه قريباً ـ.

وأيضاً الجهميّة ، ذكرهم بأقبح الأوصاف ، وذكر أنّ شركهم شرك فرعون ، وأنّهم مُعَطّلة ، وأنّ المشركين أقلّ شركاً منهم ، وضرب لهم مَثَلاً في (النونيّة) وغيرها من كتبه ، كالصواعق وغيرها.

وكذلك المعتزلة ، كيف وصفهم بأكبر القبائح ، وأقسم أنّ قولهم وأحزابهم من أهل البدع لا تُبقي من الإيمان حبّة خَرْدَلٍ ، فلمّا تكلّم على تكفيرهم في (النونيّة) لم يكفّرهم ، بل فصّل في موضعٍ منها ، كما فصّل في الطرق ـ كما مرّ ـ.

وموضع آخر فيه عن أهل السُنّة ـ مخاطبةً لهؤلاء المبتدعة الذين أقسم أنّ قولهم لا يُبقي من الإيمان حبّة خَرْدَلٍ ـ يقال : واشهدوا علينا بأنّا لا نكفّركم بما معكم من الكفران ، إذ أنتم ـ أهل الجهالة ـ عندنا لستم أولي كفرٍ ولا إيمانٍ.

ويأتي إن شاء الله تعالى لهذا مزيدٌ من كلام الشيخ تقيّ الدين ، وحكاية إجماع السلف ، وأنّ التكفير هو قول أهل البدع من الخوارج ، والمعتزلة ، والرافضة!!

وقال أبو العبّاس بن تيميّة رحمه‌الله ـ في كلامٍ له ـ في (الفرقان) : ودخل أهل الكلام المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم في بعض مقالة الصابئة ، والمشركين ممّن لم يهتدِ بهدْي الله الذي أرسل به رسله من أهل الكلام والجدل ، صاروا يريدون أن يأخذوا مأخذهم ـ كما أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لتأخذنّ مأخذ من كان قبلكم ـ الحديث الصحيح.

إلى أنْ قال : إنّ هؤلاء المتكلّمين أكثر حقّاً ، وأتبع للأدلّة ، لِما تنوّرت به قلوبهم من نور القرآن والإسلام ، وإن كانوا قد ضلّوا في كثيرٍ ممّا جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوافقوا أولئك على أنّ الله لا يتكلّم ولا تكلّم ، كما وافقوهم على أنّه لا علم له ، ولا قدرة ، ولا صفةً من الصفات.

إلى أن قال : فلمّا رأو أنّ الرسل متفقةٌ على أنّ الله متكلّم ، والقرآن من إثبات

٥٧

قوله وكلامه ، صاروا تارةً يقولون : ليس بمتكلّمٍ حقيقةً ، بل مجازاً.

وهذا قولهم الأوّل لمّا كانوا في بدعتهم وكفرهم على الفطرة قبل أن يدخلوا في العناد والجحود.

إلى أن قال : وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق.

إلى أن قال : وأنكر هؤلاء أن يكون الله متكلّماً ، أو قائلاً على الوجه الذي دلّت عليه الكتب الإلهيّة ، وأفهمت الرسل لقومهم ، واتفق عليه أهل الفِطَر السليمة.

إلى أن قال :

ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة ، وبين المسلمين المؤمنين ـ أتباع الرسول ـ الخلاف ، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل ، واختلفوا في كتاب الله ، فآمنوا ببعضٍ ، واتّبع المؤمنون ما أُنزل إليهم من ربّهم ، وعلموا أنّ قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى ، حتّى كان عبد الله بن المبارك ليقول : إنّا لنحكي قول اليهود والنصارى! ولا نحكي قول الجهميّة.

وكان قد كثر هؤلاء الذين هم فروع المشركين ، ومن اتّبعهم من الصابئة في آخر المائة الثانية في إمارة المأمون ، وظهرت علوم الصابئين والمنجّمين ونحوهم ، فظهرت هذه المقالة في أهل العلم ، وأهل السيف والإمارة ، وصار في أهلها من الخلفاء ، والأُمراء ، والوزراء ، والفقهاء ، والقضاة وغيرهم ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، انتهى كلام الشيخ رحمه‌الله.

فانظر في هذا الكلام وتدبّره ، كيف وصف هؤلاء بأعظم الكفر والشرك ، وبالإيمان ببعض الكتاب ، والكفر ببعضه ، وأنّهم خالفوا العقل ، والنقل ، والفطرة ، وأنّهم خالفوا جميع الرسل في قولهم ، وأنّهم عاندوا الحق ، وأنّ أهل العلم يقولون : قولهم هذا أخبث من قول اليهود والنصارى ، وأنّهم عذّبوا المؤمنين

٥٨

والمؤمنات على الحقّ.

وهؤلاء الذين عنى بهذا الكلام هم المعتزلة ، والقَدَريّة ، والجهميّة ، ومن سلك سبيلهم من أهل البدع وغيرهم.

والخلفاء الذين يعنيهم المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، ووزرائهم ، وقضاتهم ، وفقهاؤهم ، وهم الذين جلدوا الإمام أحمد رحمه‌الله ، وحبسوه ، وقتلوا أحمد بن نصر الخزاعيّ وغيره ، وعذّبوا المؤمنين والمؤمنات ، يدعونهم إلى الأخذ بقولهم.

وهم الذين يعني بقوله ـ فيما تقدم وما يأتي ـ : إنّ الإمام أحمد لا يكفّرهم ولا أحدٌ من السلف ، وأنّ أحمد صلّى خلفهم ، واستغفر لهم ، ورأى الائتمام بهم ، وعدم الخروج عليهم.

وأنّ الإمام أحمد يردّ قولهم الذي هو كفرٌ عظيمٌ ـ كما تقدم كلامه فراجعه ـ.

[الوهابية تخالف ذلك كلّه]

فبالله عليك ، تأمّل ، أينَ هذا؟

وأينَ قولكم فيمن خالفكم فهو كافر؟ ومن لم يكفّره فهو كافر؟؟

بالله عليكم ، انتهوا عن الجفاء ، وقول الزور.

واقتدوا بالسلف الصالح.

وتجنّبوا طريق أهل البدع.

ولا تكونوا كالذي زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً.

[تكفير المسلمين من أقبح البدع]

قال الشيخ تقيّ الدين رحمه‌الله تعالى : ومن البدع المنكَرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين ، واستحلال دمائهم ، وأموالهم ، وهذا عظيمٌ ، لوجهين :

أحدهما : أنّ تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم ممّا في

٥٩

الطائفة المكفّرة لها.

بل ، قد تكون بدعة الطائفة المكفّرة لها أعظم من بدعة الطائفة المكفَّرة ، وقد تكون نحوها ، وقد تكون دونها.

وهذا حال عامّة أهل البدع والأهواء الذين يكفّرون بعضهم بعضاً.

وهؤلاء من الذين قال الله فيهم (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١).

الثاني : أنّه لو فرض أنّ إحدى الطائفتين مختصّة بالبدعة ، والأُخرى موافقة للسنّة ، لم يكن لهذه [الموافقة ل] السُنّة أن تكفّر كلّ من قال قولاً أخطأ فيه.

فإنّ الله تعالى قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٢).

وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله تعالى قال : قد فعلت.

وقال تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (٣).

ورُوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ الله تجاوز عن أمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه.

وهو حديث حَسَن ، رواه ابن ماجة (٤) وغيره.

وقد أجمع الصحابة ، والتابعون لهم بإحسانٍ ، وسائر أئمّة المسلمين على أنّه ليس كلّ من قال قولاً أخطأ فيه أنّه يكفّر بذلك ، ولو كان قوله مخالفاً للسنّة.

ولكن للناس نزاع في مسائل التكفير ، قد بسطت في غير هذا الموضع.

وقال الشيخ رحمه‌الله أيضاً : الخوارج لهم خاصّيّتان مشهورتان ، فارقوا بها جماعة

__________________

(١) الأنعام : ١٥٩.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الأحزاب : ٥.

(٤) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٩ ح ٢٠٤٣ كتاب الطلاق.

٦٠