فصل الخطاب

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي

فصل الخطاب

المؤلف:

الشيخ سليمان بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*

[مقدّمة المؤلّف]

وبه ثقتي

الحمدُ لله ربّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحدهُ لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، صلّى الله عليه وعلى آله إلى يوم الدّين.

أمّا بعد :

من سليمان بن عبد الوهّاب ، إلى حسن بن عيدان.

سلامٌ على من اتّبع الهدى.

وبعد : قال الله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١) الآية.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدّين النصيحة (٢).

وأنتَ كتبت إليَّ ـ أكثر من مَرّةٍ ـ تستدعي ما عندي ، حيث نصحتك على لسان ابن أخيك.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ١٠٦ ح ٩٥ كتاب الإيمان.

٢١

فها أنا أذكر لك بعض ما علمتُ من كلام أهل العلم ، فإن قبلتَ فهو المطلوب ـ والحمدُ لله ـ.

وإن أبيت فالحمدُ لله ، إنّه سبحانه لا يُعصى قهراً ، وله في كلّ حركةٍ وسكونٍ حكمة.

[وجوب اتباع إجماع الامّة المحمّدية]

فنقول : اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكلّ شيءٍ ، فأنجز الله له ما وعده ، وأظهر دينه على جميع الأديان ، وجعل ذلك ثابتاً إلى آخر الدهر ، حين انخرام أنفس جميع المؤمنين.

وجعل أمّته خير الأمم ـ كما أخبر بذلك بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) ـ وجعلهم شهداء على الناس ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢) ، واجتباهم ـ كما قال تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) ـ الآية.

وقال : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنتم توفون سبعين أُمّة ، أنتم خيرها وأكرمها عند الله (٤).

ودلائل ما ذكرنا لا تحصى.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر هذه الأمّة مستقيماً حتّى تقوم الساعة ، رواه البخاريّ (٥).

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٣.

(٥) صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٦٧ ح ٦٨٨٢ كتاب الاعتصام.

٢٢

وجعل اقتفاء أثر هذه الأمّة واجباً على كلّ أحدٍ بقوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١).

وجعل إجماعهم حُجّةً قاطعةً لا يجوز لأحدٍ الخروج عنه ، ودلائل ما ذكرنا معلومة عند كلّ من له نوع ممارسةٍ في العلم.

اعلم : أنّ ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ الجاهل لا يستبدّ برأيه ، بل يجب عليه أن يسأل أهل العلم ، كما قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢) * ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلّا إذا لم يعلموا سألوا ، فإنّما دواء العيّ السؤال (٣). وهذا إجماع.

[إجماع الامّة على شرائط الاجتهاد]

قال في غاية السئول : قال الإمام أبو بكرٍ الهرويّ : أجمعت العلماء قاطبةً على أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يكون إماماً في الدين والمذهب المستقيم حتّى يكون جامعاً هذه الخصال ، وهي :

أن يكون حافظاً للغات العرب واختلافها ، ومعاني أشعارها وأصنافها.

واختلاف العلماء والفقهاء.

ويكون عالماً فقيهاً ، وحافظاً للإعراب وأنواعه والاختلاف.

عالماً بكتاب الله ، حافظاً له ، ولاختلاف قراءته ، واختلاف القرّاء فيها ، عالماً بتفسيره ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وقصصه.

__________________

(١) النساء : ١١٥.

(٢) الأنبياء : ٧.

(٣) سنن أبي داود : ١ / ٩٣ ح ٣٣٦ كتاب الطهارة. والنص هكذا : ... ألا سألوا ، إذْ لم يعلموا ، فإنّما شفاء العيّ السؤال.

٢٣

عالماً بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مميّزاً بين صحيحها وسقيمها ، ومتّصلها ومنقطعها ، ومراسيلها ومسانيدها ، ومشاهيرها ، وأحاديث الصحابة موقوفها ومسندها.

ثمّ يكون ورعاً ، ديّناً ، صائناً لنفسه ، صدوقاً ثقةً ، يبني مذهبه ودينه على كتاب الله وسُنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإذا جمع هذه الخصال ، فحينئذٍ يجوز أن يكون إماماً ، وجاز أن يُقلَّد ويجتهد في دينه وفتاويه.

وإذا لم يكن جامعاً لهذه الخصال ، أو أخلّ بواحدةٍ منها ، كان ناقصاً ، ولم يجز أن يكون إماماً ، وأن يُقلِّده النّاس.

قال : قلت : وإذا ثبت أنّ هذه شرائط لصحّة الاجتهاد والإمامة ، ففرض كلّ مَن لم يكن كذلك أن يقتدي بمن هو بهذه الخصال المذكورة.

وقال : الناس في الدين على قسمين :

مقلّدٌ ومجتهدٌ : والمجتهدون مختصّون بالعلم ، وعلم الدين يتعلّق بالكتاب ، والسنّة ، واللسان العربيّ الذي وردا به.

فمن كان فهما يعلم الكتاب والسنّة ، وحكم ألفاظهما ، ومعرفة الثابت من أحكامهما ، والمنتقل من الثبوت بنسخٍ أو غيره ، والمتقدّم والمؤخّر صحّ اجتهاده ، وأن يقلّده من لم يبلغ درجته.

وفرض من ليس بمجتهدٍ أن يسأل ويقلّد ، وهذا لا اختلاف فيه ، انتهى.

أُنظر قوله : وهذا لا اختلاف فيه.

وقال ابن القيّم في (إعلام الموقّعين) (١) لا يجوز لأحدٍ أن يأخذ من الكتاب

__________________

(١) إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين : ١ / ٤٥ و ٤ / ١٩٨ ، ٢٠٥.

٢٤

والسنّة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد ، ومن جميع العلوم.

قال محمد بن عبد الله بن المنادي : سمعت رجلاً يسأل أحمد : إذا حفظ الرجل مائةَ ألفِ حديثٍ هل يكون فقيهاً؟

قال : لا.

قال : فمائتي ألف حديثٍ؟

قال : لا.

قال : فثلاث مائة ألف حديثٍ؟

قال : لا.

قال : فأربع مائة ألف؟

قال : نعم.

قال : أبو الحسين : فسألت جدّي ، كم كان يحفظ أحمد؟ قال : أجاب عن ستمائة ألف حديثٍ.

قال أبو إسحاق : لمّا جلست في جامع المنصور للفُتيا ، ذكرت هذه المسألة ، فقال لي رجلٌ : فأنت تحفظ هذا المقدار حتّى تفتي الناس؟ قلت : لا ، إنّما أفتي بقول من يحفظ هذا المقدار ، انتهى.

ولو ذهبنا نحكي من حكى الإجماع لطال ، وفي هذا لكفاية للمسترشد.

وإنّما ذكرتُ هذه المقدّمة لتكون قاعدةً يُرجع إليها فيما نذكره.

[ابتلاء الامّة بمن يدّعي الاجتهاد والتجديد]

فإنّ اليومَ ابتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ، ويستنبط من علومهما ، ولا يبالي بمن خالفه.

وإذا طلبتَ منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل.

٢٥

بل يوجب على الناس الأخذ بقوله ، وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر (١).

هذا ، وهو لم يكن فيه خصلةٌ واحدةٌ من خصال أهل الاجتهاد ، ولا ـ والله ـ عُشر واحدةٍ.

ومع ، هذا فَراجَ كلامه على كثيرٍ من الجُهّال.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الأمّة كلّها تصيح بلسانٍ واحدٍ ، ومع هذا لا يردّ لهم في كلمة ، بل كُلّهم كفّارٌ أو جُهّال ، اللهُمَّ اهدِ الضالّ وردّه إلى الحقّ.

[الدين هو الإسلام بإظهار الشهادتين]

فنقول : قال الله عزوجل : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢).

وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٣).

وقال تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (٤).

وفي الآية الأُخرى : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) (٥) *.

قال ابن عبّاس : حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.

وقال أيضاً : لا تكونوا كالخوارج ، تَأوّلوا آيات القرآن في أهل القبلة ، وإنّما أُنزلت في أهل الكتاب والمشركين ، فجهلوا علمها ، فسفكوا بها الدماء ، وانتهكوا

__________________

(١) يعني بذلك ـ والله أعلم ـ أخاه محمّد بن عبد الوهّاب ، وتكفيره لمن خالفه من المسلمين أمرٌ قد اشتهر عنه وتواتر ، وذكره غير المصنّف أيضاً ، فما يقول الوهّابيّون؟.

(٢) آل عمران : ١٩.

(٣) آل عمران : ٨٥.

(٤) التوبة : ٥.

(٥) الأحزاب : ٥.

٢٦

الأموال ، وشهدوا على أهل السُنّة بالضلالة ، فعليكم بالعلم بما نزل فيه القرآن ، انتهى.

وكان ابن عمر يرى الخوارج شرار الخلق ، قال : إنّهم عمدوا في آياتٍ نزلت في الكفّار فجعلوها في المسلمين ـ ورواه البخاريّ عنه (١) ـ فحينئذٍ ذكر الله عزوجل : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢).

وقد قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث جبريل في الصحيحين (٣) ـ : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ... الحديث.

وفي حديث ابن عمر ـ الذي في الصحيحين (٤) ـ : بُني الإسلام على خمسٍ : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ... الحديث.

وفي حديث وفد عبد القيس : آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟

شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ... الحديث ، وهو في الصحيحين (٥).

وغير ذلك من الأحاديث وصف الإسلام بالشهادتين ، وما معهما من الأركان ، وهذا إجماع من الأمّة ، بل أجمعوا أنّ من نطق بالشهادتين أُجريت عليه أحكام الإسلام ، لحديث : أُمرت أن أقاتل النّاس ، ولحديث الجارية : أين الله؟ قالت : في السماء ، قال : مَن أنا؟ قالت : رسول الله ، قال : أعتقها ، فإنّها مؤمنة.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٥٣٩ باب ٥ في قتل الخوارج والملحدين.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ٦٤ ح ١ كتاب الايمان.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٢٩ ح ٥٣.

(٤) صحيح البخاري : ١ / ١٢ ح ٨ كتاب الإيمان ، صحيح مسلم : ١ / ٧٣ ح ٢١ كتاب الإيمان.

(٥) صحيح البخاري : ١ / ٢٩ ح ٥٣ كتاب الإيمان ، صحيح مسلم : ١ / ٧٥ ح ٢٤ كتاب الإيمان.

٢٧

وكلّ ذلك في الصحيحين (١).

ولحديث : كفّوا عن أهل لا إله إلّا الله (٢) ، وغير ذلك.

قال ابن القيّم : أجمع المسلمون على أنّ الكافر إذا قال : لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، فقد دخل في الإسلام ، انتهى.

وكذلك أجمع المسلمون أنّ المرتدّ إذا كانت رِدّته بالشرك ، فإنّ توبته بالشهادتين.

وأمّا القتال : إن كان ثَمَّ إمام قاتَل الناس حتّى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة.

وكلّ هذا مسطورٌ ، مبيَّن في كتب أهل العلم ، من طلبه وجده ، فالحمد لله على تمام الإسلام.

فصل

تكفير المسلمين

إذا فهمتم ما تقدّم.

فإنّكم الآن تكفّرون مَن شهد أن لا إله إلّا الله وحده ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحجّ البيت مؤمناً بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، ملتزماً لجميع شعائر الإسلام ، وتجعلونهم كفّاراً ، وبلادَهم بلادَ حربٍ.

فنحن نسألكم مَن إمامكم في ذلك؟ وممّن أخذتم هذا المذهب عنه؟

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٨٠ ح ٣٣ كتاب الإيمان ، و ٢ / ٢١ ح ٣٣ كتاب المساجد ، سنن الدارمي : ٢ / ٨٧ ، كتاب النذور والايمان.

(٢) كنز العمّال : ٣ / ٦٣٥ ح ٨٢٧٠.

٢٨

فإن قلتم : كفّرناهم لأنّهم مشركون بالله ، والذي منهم ما أشرك بالله لم يكفّر من أشرك بالله ، لأنّ الله سبحانه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (١) * ... الآية ، وما في معناها من الآيات ، وأنّ أهل العلم قد عدّوا في المكفّرات مَن أشرك بالله.

قلنا : حقٌّ ، الآيات حقٌّ ، وكلام أهل العلم حقٌّ.

ولكنّ أهل العلم قالوا في تفسير (أشرك بالله) : أي ادّعى أنّ لله شريكاً ، كقول المشركين : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) (٢) ، وقوله تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) (٣) ، (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٤) ، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (٥).

إلى غير ذلك ممّا ذكره الله في كتابه ، ورسوله ، وأهل العلم.

[آراء وأهواء مخالفة لإجماع الامّة]

ولكنّ هذه التفاصيل التي تفصّلون من عندكم أنّ من فعل كذا فهو مشرك ، وتخرجونه من الإسلام.

من أين لكم هذا التفصيل؟

أاستنبطتم ذلك بمفاهيمكم؟

فقد تقدّم لكم من إجماع الأمّة أنّه لا يجوز لمثلكم الاستنباط!!

ألكم في ذلك قدوةٌ من إجماعٍ؟ أو تقليد مَن يجوز تقليده؟

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) النحل : ٨٦.

(٣) النحل : ٨٦.

(٤) الصافات : ٣٥.

(٥) النحل : ٨٦.

٢٩

مع أنّه لا يجوز للمقلّد أن يكفّر إن لم تُجمع الأمّة على قول متبوعه.

فبيّنوا لنا : من أين أخذتم مذهبكم هذا؟

ولكم علينا عهد الله وميثاقه إن بيّنتم لنا حتماً يجب المصير إليه ، لنتّبع الحقّ إن شاء الله.

فإن كان المراد مفاهيمكم.

فقد تقدّم أنّه لا يجوز لنا ولا لكم ولا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر الأخذ بها ، ولا نكفّر من معه الإسلام الذي أجمعت الأمّة على [أنّ] من أتى به فهو مسلم.

فأمّا الشرك ففيه أكبر وأصغر ، وفيه كبير وأكبر ، وفيه ما يُخرج من الإسلام ، وفيه ما لا يُخرج من الإسلام ، وهذا كلّه بإجماعٍ.

وتفاصيل ما يُخرج ممّا لا يُخرج يحتاج إلى تبيين أئمّة أهل الإسلام الذين اجتمعت فيهم شروط الاجتهاد ، فإن أجمعوا على أمرٍ لم يسع أحداً الخروج عنه ، وإن اختلفوا فالأمر واسع.

فإن كان عندكم عن أهل العلم بيانٌ واضحٌ فبيّنوا لنا ـ وسمعاً وطاعةً ـ.

وإلّا ، فالواجب علينا وعليكم الأخذ بالأصل المجمع عليه ، واتّباع سبيل المؤمنين.

وأنتم تحتجّون أيضاً بقوله عزوجل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١).

وبقوله عزوجل في حقّ الأنبياء : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

وبقوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) (٣).

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

(٢) الأنعام : ٨٨.

(٣) آل عمران : ٨٠.

٣٠

فنقول : نعم ، كلّ هذا حقّ يجب الإيمان به.

ولكن ، من أين لكم أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، إذا دعا غائباً أو ميّتاً ، أو نذر له أو ذبح لغير الله أو تمسّح بقبرٍ ، أو أخذ من ترابه أنّ هذا هو الشرك الأكبر الذي من فَعَلَه حبط عمله ، وحلّ ماله ودمه ، وأنّه الذي أراد الله سبحانه من الآية وغيرها في القرآن؟

[لا عبرة بفهم أولئك لقصورهم]

فإن قلتم : فهمنا ذلك من الكتاب والسنّة.

قلنا : لا عبرة بمفهومكم ، ولا يجوز لكم ولا لمسلمٍ الأخذ بمفهومكم.

فإنّ الأمّة مجمعةٌ ـ كما تقدّم ـ [على] أنّ الاستنباط مرتبةُ أهل الاجتهاد المطلق.

ومع هذا لو اجتمعت شروط الاجتهاد في رجلٍ لم يجب على أحدٍ الأخذ بقوله دون نظرٍ.

قال الشيخ تقيّ الدين : من أوجب تقليد الإمام بعينه دون نظرٍ إنّه يستتاب ، فإن تاب وإلّا قتل ، انتهى.

[مخالفة حتى لابن تيميّة]

وإن قلتم : أخذنا ذلك من كلام بعض أهل العلم كابن تيميّة وابن القيّم ، لأنّهم سمّوا ذلك شركاً.

قلنا : هذا حقٌّ ، ونوافقكم على تقليد الشيخين أنّ هذا شركٌ ، ولكنّهم لم يقولوا ـ كما قلتم ـ إنّ هذا شرك أكبر يُخرج من الاسلام ، وتجري على كلّ بلدٍ هذا فيها أحكام أهل الردّة ، بل من لم يكفّرهم عندكم فهو كافر تجري عليه أحكام

٣١

أهل الردّة.

ولكنّهم رحمهم‌الله ذكروا أن هذا شرك ، وشدّدوا فيه ، ونهوا عنه.

ولكنْ ما قالوا كما قلتم ولا عُشْر معشاره.

ولكنّكم أخذتم من قولهم ما جاز لكم ، دون غيره.

بل في كلامهم رحمهم‌الله ما يدلّ على أنّ هذه الأفاعيل شركٌ أصغر.

وعلى تقدير أنّ في بعض افراده ما هو شركٌ أكبر ـ على حسب حال قائله ونيّته ـ فهم ذكروا في بعض مواضع من كلامهم :

أنّ هذا لا يكفّر ، حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفر تاركها ـ كما يأتي ـ في كلامهم إن شاء الله مفصّلاً.

ولكنّ المطلوب منكم هو الرجوع إلى كلام أهل العلم ، والوقوف عند الحدود التي حدّوا.

فإنّ أهل العلم ذكروا في كلّ مذهبٍ من المذاهب الأقوال والافعال التي يكون بها المسلم مرتدّاً.

ولم يقولوا : مَن طلب من غير الله فهو مرتدٌّ.

ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتدٌّ.

ولم يقولوا من تمسّح بالقبور وأخذ من ترابها فهو مرتدٌّ.

ـ كما قلتم أنتم ـ.

فإن كان عندكم شيءٌ فبيّنوه ، فإنّه لا يجوز كَتْم العلم.

ولكنّكم أخذتم هذا بمفاهيمكم ، وفارقتم الإجماع ، وكفّرتم أمّة محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّهم ، حيث قلتم : مَن فعل هذه الأفاعيل فهو كافر ، ومن لم يكفّره فهو كافر.

ومعلومٌ عند الخاصّ والعامّ أنّ هذه الامور ملأت بلاد المسلمين ، وعند أهل العلم منهم أنّها ملأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة عامٍ.

٣٢

وأنّ من لم يفعل هذه الأفاعيل من أهل العلم لم يكفّروا أهل هذه الأفاعيل ، ولم يجروا عليهم أحكام المرتدّين.

بل أجروا عليهم أحكام المسلمين.

بخلاف قولكم ، حيث أجريتم الكفر والردّة على أمصار المسلمين ، وغيرها من بلاد المسلمين ، وجعلتم بلادهم بلاد حربٍ ، حتّى الحرمين الشريفين اللذَين أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الاحاديث الصحيحة الصريحة أنّهما لا يزالا بلاد إسلامٍ ، وأنهما لا تعبد فيهما الأصنام ، وحتّى أنّ الدجّال في آخر الزمان يطأ البلاد كلّها إلّا الحرمين (١) ـ كما تقف على ذلك إن شاء الله في هذه الرسالة ـ.

فكلّ هذه البلاد عندكم بلاد حربٍ ، كُفّارٌ أهلها ، لأنّهم عبدوا الأصنام ـ على قولكم ـ.

وكلّهم ـ عندكم ـ مشركون شركاً مخرجاً عن الملّة.

فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

فو الله ، إنّ هذا عين المحادّة لله ولرسوله ، ولعلماء المسلمين قاطبةً.

[آراء ابن تيمية وابن القيم]

فأعظم مَن رأينا مشدّداً في هذه الامور التي تكفّرون بها الأمّة ـ النذور وما معها ـ ابن تيميّة وابن القيّم.

وهما رحمهما‌الله قد صرّحا في كلامهما تصريحاً واضحاً أنّ هذا ليس من الشرك الذي ينقل عن الملّة.

بل قد صرّحوا في كلامهم : أنّ من الشرك ما هو أكبر من هذا بكثير كثير ، وأنّ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٦٦٥ ح ١٧٨٢ فضائل المدينة.

٣٣

من هذه الأمّة مَن فَعَله وعاند فيه ، ومع هذا لم يكفّروه ـ كما يأتي كلامهم في ذلك إن شاء الله تعالى ـ.

[في النذور لغير الله]

فأمّا النذور :

فنذكر كلام الشيخ تقيّ الدين فيه ، وابن القيّم ، وهما من أعظم مَن شدّد فيه ، وسمّاه شركاً ، فنقول :

قال الشيخ تقيّ الدين : النذر للقبور ولأهل القبور ، كالنذر لإبراهيم الخليل عليه‌السلام أو الشيخ فلان نذر معصيةٍ لا يجوز الوفاء به ، وإنْ تصدّق بما نذر من ذلك على من يستحقّه من الفقراء أو الصالحين كان خيراً له عند الله وأنفع ، انتهى.

فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة ، لأنّ الصدقة لا تُقبل من الكافر ، بل يأمره بتجديد إسلامه ، ويقول له : خرجتَ من الإسلام بالنذر لغير الله.

قال الشيخ (١) أيضاً : مَن نذر إسراج بئرٍ ، أو مقبرةٍ أو جبلٍ ، أو شجرةٍ ، أو نَذَر له ، أو لسكّانه لم يجُز ، ولا يجوز الوفاء به ، ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربّه ، انتهى.

فلو كان الناذر كافراً لم يأمره بردّ نذره إليه ، بل أمر بقتله.

وقال الشيخ أيضاً : من نذر قنديل نقدٍ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صُرف لجيران النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهى.

فانظر كلامه هذا وتأمّله ، هل كفّر فاعل هذا؟ أو كفّر من لم يكفّره؟ أو عدّ هذا في المكفّرات هو أو غيره من أهل العلم؟ ـ كما قلتم أنتم وخرقتم الإجماع ـ؟

وقد ذكر ابن مفلحٍ في (الفروع) عن شيخه الشيخ تقيّ الدين ابن تيميّة : والنذر لغير الله ، كنذره لشيخٍ معيّنٍ للاستغاثة ، وقضاء الحاجة منه ، كحلفه بغيره ، وقال

__________________

(١)

٣٤

غيره : هو نذر معصية ، انتهى.

فانظر إلى هذا الشرط المذكور ـ أي نَذَر له لأجل الاستغاثة به ـ بل جَعَله الشيخ كالحلف بغير الله ، وغيره من أهل العلم جَعَله نذر معصيةٍ.

هل قالوا مثل ما قلتم : مَن فعل هذا فهو كافر؟ ومن لم يكفّره فهو كافر؟

ـ عياذاً بك اللهمّ من قول الزور ـ.

كذلك ابن القيّم ذكر النذر لغير الله في فصل الشرك الأصغر من المدارج (١).

واستدلّ له بالحديث الذي رواه أحمد (٢) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النذر حِلْفة ، وذكر غيره من جميع ما تسمّونه شركاً ، وتكفّرون به ، فعل الشرك الاصغر.

[في الذبح لغير الله]

وأمّا الذبح لغير الله :

فقد ذكره في المحرّمات ، ولم يذكره في المكفّرات ، إلّا إنْ ذبح للأصنام ، أو لما عُبد من دون الله ، كالشمس ، والكواكب.

وعدّه الشيخ تقيّ الدين في المحرّمات الملعون صاحبها ، كمن غيّر منار الأرض ، أو من ضارّ مسلماً ـ كما سيأتي في كلامه إن شاء الله تعالى ـ.

وكذلك أهل العلم ذكروا ذلك ممّا أُهِلّ به لغير الله ونهوا عن أكله ، ولم يكفّروا صاحبه.

وقال الشيخ تقيّ الدين : كما يفعله الجاهلون بمكّة ـ شرّفها الله تعالى ـ وغيرها من بلاد المسلمين ، من الذبح للجنّ ، ولذلك نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذبائح الجنّ ، انتهى.

__________________

(١) مدارج السالكين : ١ / ٣٥٣.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ١٤٦ و ١٤٧.

٣٥

ولم يقل الشيخ : مَن فعل هذا فهو كافرٌ ، بل من لم يكفّره فهو كافرٌ.

ـ كما قلتم أنتم ـ.

[في السؤال من غير الله]

وأمّا السؤال من غير الله ، فقد فصّله الشيخ تقيّ الدين رحمه‌الله : إن كان السائل يسأل من المسئول مثلَ غفران الذنوب ، وإدخال الجنّة ، والنجاة من النار ، وإنزال المطر ، وإنبات الشجر ، وأمثال ذلك مما هو من خصائص الربوبيّة ، فهذا شركٌ وضلالٌ ، يُستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلّا قُتل.

ولكنّ الشخص المعيَّن الذي فعل ذلك لا يكفر ، حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفر تاركها ـ كما يأتي بيان كلامه في ذلك إن شاء الله تعالى ـ.

فإن قلت : ذكر عنه في (الإقناع) أنّه قال : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويسألهم ، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً.

قلت : هذا حقٌّ ، ولكنّ البلاء من عدم فهم كلام أهل العلم.

لو تأمّلتم العبارة تأمّلاً تامّاً لعرفتم أنكم تأوّلتم العبارة على غير تأويلها.

ولكنّ هذا من العجب.

تتركون كلامه الواضح.

وتذهبون إلى عبارةٍ مجملةٍ ، تستنبطون منها ضدّ كلام أهل العلم ، وتزعمون أنّ كلامكم ومفهومكم إجماعٌ!!!

هل سبقكم إلى مفهومكم من هذه العبارة أحدٌ؟

يا سبحان الله ، ما تخشون الله؟!

ولكن انظر إلى لفظ العبارة وهو قوله : «يدعوهم ، ويتوكّل عليهم ، ويسألهم» ، كيف جاء بواو العطف ، وقرن بين الدعاء والتوكل والسؤال؟

٣٦

فإنّ الدعاء ـ في لغة العرب ـ هو العبادة المطلقة ، والتوكل عمل القلب ، والسؤال هو الطلب الذي تسمّونه ـ الآن ـ الدعاء.

وهو في هذه العبارة لم يقل : أو سألهم ، بل جمع بين الدعاء والتوكّل والسؤال.

والآن أنتم تكفّرون بالسؤال وحده ، فأين أنتم ومفهومكم من هذه العبارة؟!

مع أنّه رحمه‌الله بيّن هذه العبارة وأصلها في مواضع من كلامه ، وكذلك ابن القيّم بيّن أصلها.

قال الشيخ : من الصابئة المشركين مَن يظهر الإسلام ويعظّم الكواكب ، ويزعم أنّه يخاطبها بحوائجه ، ويسجد لها ، وينحر ، ويدعو.

وقد صنّف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والمشركين البراهمة كتاباً في عبادة الكواكب ، وهي من السحر الذي عليه الكنعانيّون ، الذين ملوكهم النماردة ، الذين بعث الله الخليل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالحنيفيّة ـ ملّة إبراهيم ـ وإخلاص الدين لله إلى هؤلاء.

وقال ابن القيّم في مثل هؤلاء : يُقرّون للعالمَ صانعاً ، فاضلاً ، حكيماً ، مقدّساً عن العيوب والنقائص ، ولكن لا سبيل لنا إلى الوجهة إلى جلاله إلّا بالوسائط ، فالواجب علينا أن نتقرّب بهم إليه ، فهم أربابنا ، وآلهتنا ، وشفعاؤنا عند ربّ الأرباب ، وإله الآلهة ، فما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فحينئذٍ نسأل حاجاتنا منهم ، ونعرض أحوالنا عليهم ، ونَصْبو في جميع أمورنا إليهم ، فيشفعون إلى إلهنا وإليهم ، وذلك لا يحصل إلّا من جهة الاستمداد بالروحانيّات ، وذلك بالتضرّع والابتهال من الصلوات ، والزكاة ، والذبائح والقرابين ، والبخورات!!!

وهؤلاء كفروا بالأصلين اللذَين جاءت بهما جميع الرسل.

أحدهما : عبادة الله وحده لا شريك له ، والكفر بما يُعْبَد من دونه من إله.

والثاني : الإيمان برسله ، وبما جاءوا به من عند الله ، تصديقاً وإقراراً وانقياداً ،

٣٧

انتهى كلام ابن القيّم.

فانظر إلى الوسائط المذكورة في العبارة ، كيف تحملونها على غير محملها؟.

ولكن ليس هذا بأعجب من حملكم كلام الله ، وكلام رسوله ، وكلام أئمّة الإسلام على غير المحمل الصحيح ـ مع خرقكم الإجماع ـ!؟

وأعجب من هذا ، أنّكم تستدلّون بهذه العبارة على خلاف كلام من ذكرها ، ومن نقلها ، ترون بها صريح كلامهم في عين المسألة.

وهل عملكم هذا إلّا اتّباع المتشابه ، وترك المحكم؟

أنقذنا الله وإيّاكم من متابعة الأهواء.

[التبرّك بالقبور]

وأمّا التبرّك والتمسّح بالقبور ، وأخذ التراب منها ، والطواف بها :

فقد ذكره أهل العلم ، فبعضهم عدّه في المكروهات ، وبعضهم عدّه في المحرّمات.

ولم ينطق واحدٌ منهم بأنّ فاعل ذلك مرتدٌّ ـ كما قلتم أنتم ، بل تكفّرون من لم يكفّر فاعل ذلك ـ.

فالمسألة مذكورة في كتاب الجنائز في فصل الدفن وزيارة الميّت ، فان أردت الوقوف على ما ذكرت لك فطالع (الفروع) و (الإقناع) وغيرهما من كتب الفقه.

[القدح في المؤلّفين لكتب الفقه]

فإن قدحتم فيمن صنّف هذه الكتب ، فليس ذلك منكم بكثيرٍ ، ولكن ليكن معلوماً عندكم أنّ هؤلاء لم يحكوا مذهب أنفسهم ، وإنّما حكوا مذهب أحمد بن حنبل وأضرابه من أئمّة أهل الهدى ، الذين أجمعت الأمّة على هدايتهم ودرايتهم.

٣٨

فإن أبيتم إلّا العناد ، وادّعيتم المراتب العليّة ، والأخذ من الادلّة من غير تقليد أئمة الهدى ، فقد تقدّم أنّ هذا خرقٌ للإجماع.

فصل

[الجاهل معذور]

وعلى تقدير هذه الأمور التي تزعمون أنّها كفرٌ ـ أعني النذر وما معه ـ فهنا أصلٌ آخر من أصول أهل السُنّة ، مجمعون عليه ـ كما ذكره الشيخ تقيّ الدين ، وابن القيّم عنهم ـ وهو :

أنّ الجاهل والمخطىء من هذه الأمّة ـ ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً ـ أنّه يعذر بالجهل والخطأ ، حتّى تتبيّن له الحجّة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله ، أو ينكر ما هو معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام ، ممّا أجمعوا عليه إجماعاً جليّاً قطعيّاً يعرفه كلٌّ من المسلمين ، من غير نظرٍ وتأمّلٍ ـ كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ـ ولم يخالف في ذلك إلّا أهل البدع.

فإن قلت : قال الله عزوجل : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) (١) ... الآية ، نزلت في المسلمين ، تكلّموا بالكفر مكرَهين عليه.

قلت : هذا حقٌّ ، وهي حجّةٌ عليكم لا لكم ، فإنّ الذي تكلّموا به هو سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتبرّي من دينه ، وهذا كفرٌ إجماعاً ، يعرفه كلّ مسلم.

ومع هذا إنّ الله عزوجل عذر من تكلّم بهذا الكفر مكرَهاً ، ولم يؤاخذه.

ولكنّ الله سبحانه وتعالى كفّر من شرح بهذا الكفر صدراً ، وهو مَن عرفه

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

٣٩

ورضيه واختاره على الإيمان ، غير جاهلٍ به ، وهذا الكفر في الآية ممّا أجمع عليه المسلمون ، ونقلوه في كتبهم ، وكلّ من عدّ المكفّرات ذكره.

وأمّا هذه الأمور التي تكفّرون بها المسلمين ، فلم يسبقكم إلى التكفير بها أحدٌ من أهل العلم ، ولا عدّوها في المكفّرات ، بل ذكرها من ذكرها منهم في أنواع الشرك ، وبعضهم ذكرها في المحرّمات ، ولم يقل أحد منهم أنّ من فعله فهو كافرٌ مرتدٌّ ، ولا احتجّ عليه بهذه الآية ـ كما احتججتم ـ ولكن ليس هذا بأعجب من استدلالكم بآياتٍ نزلت في الذين (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (١) والذين يقال لهم : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) (٢) والذين يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٣) والذين يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (٤).

ومع هذا ، تستدلّون بهذه الآيات ، وتنزّلونها على الذين يشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، ويقولون : ما لله من شريك ، ويقولون : ما أحدٌ يستحقّ أن يُعبد مع الله.

فالذي يستدلّ بهذه الآيات على من شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجمع المسلمون على إسلامه ، ما هو بعجيبٍ لو استدلّ بالآية على مذهبه!

فإن كنتم صادقين ، فاذكروا لنا من استدلّ بهذه الآية على كفر من كفّرتموه بخصوص الأفعال والأقوال التي تقولون إنّها كفر؟!

ولكن ـ والله ـ ما لكم مثل إلّا عبد الملك بن مروان لمّا قال لابنه : ادع الناس إلى

__________________

(١) الصافّات : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الصافّات : ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) الصافّات : ٣٥ ـ ٣٦.

(٤) ص : ٥.

٤٠